مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكتاب والسنّة

مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكتاب والسنّة18%

مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكتاب والسنّة مؤلف:
المحقق: السيد محمد علي الحلو
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 210

مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكتاب والسنّة
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41949 / تحميل: 6160
الحجم الحجم الحجم
مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكتاب والسنّة

مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكتاب والسنّة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وحججه، لقوله تعالى( آمَنَ الرَّ‌سُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّ‌بِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُ‌سُلِهِ لَا نُفَرِّ‌قُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّ‌سُلِهِ ) (١) ، أي: إنّ مريم عليها السلام من الحجج الإلهية، كما سيأتي بيان الآيات الأخرى المفسرة لمعنى كونها آية.

كما أنها مقتضٍ لنبوّة عيسى عليه السلام لكونها قد حضيت بتكليم الله تعالى فضلاً عن تحديث الملائكة لها وتلقّيها البشارة، كما أنّ تبتّلها ومقامها وفضلها كان إحدى مرتكزات بني اسرائيل كما يشير إلى ذلك قوله تعالى( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْ‌يَمَ ) (٢) وقوله( وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِ‌يَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِ‌يَّا الْمِحْرَ‌ابَ وَجَدَ عِندَهَا رِ‌زْقًا ) (٣) مما أكّد على مصداقيتها لديهم. فكان قبول معجزة عيسى ونبوّته بعد ذلك إحدى موجبات حجّيتها لديهم، لذا فإنّ أخيارهم وعقلائهم قبلوا المعجزة وسلّموا لها، وبقي جُهّالهم وطغاتهم يخوضون في بهتانها وايذاءها وهو شأنهم.

فأمرُ الله تعالى لها بتحمّل مسؤولية الإنجاب بطريقة المعجزة من دون

____________________

١. البقرة /٢٨٥.

٢. آل عمران / ٤٤.

٣. آل عمران / ٣٧.

٦١

زوج، إحدى مقتضيات نبوّة عيسى وشريعته المباركة. فحجّيتها عليها السلام هي من حيث أنها المبلّغ الأول لبعثة النبيّ عيسى وشريعته المسيحية، حيث أنها أمرتْ من قبل الله تعالى بتحمل مسؤلية الإنجاب بطريقة المعجزة من دون فحل ليمهّد الطريق لبيان المعجزة لنبوّة عيسى وشريعته، ثم أمرت من قبله تعالى بحمله والمجيء به إلى بني اسرائيل وأن لا تكلّمهم وأن تشير إليه ليستنطقوه فيتكلّم في المهد، فهي قد قامت بكلّ هذه المسؤوليات الموظفة من قبله تعالى لها لتبليغ واظهار المعجزة الأولى على نبوّة عيسى عليه السلام.

وكان ذلك عن اعتقاد منها بنبوة عيسى بتوسط ما أوحِيَ لها من دون وساطة النبيّ زكريا أو غيره من الأنبياء في زمانه، فهي ابتدأت بإبلاغ شريعة جديدة من دون أخذ هذا الأمر الإلهي ذي الشأن العظيم الخطير من نبيّ ولا رسول ولا بوساطة النبيّ عيسى أيضاً، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) .

فلولا حجّية مريم وحجّية ما يوحي إليها لكان بإمكانها إبطال المعجزة الإلهية وهي ولادة عيسيى من دون أب، بأن تدّعي- والعياذ بالله- أنّه لقيط وجدتْه في الطريق أو أنها ولدتْه عن زوج غائب أو ما شابه ذلك، فانظر إلى مقام كمال حجّيتها ودورها في إبلاغ الرسالة في قوله تعالى( فَأَشَارَ‌تْ إِلَيْهِ

٦٢

قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) (١) .

فهذا النمط من المجاهدة والمخاطرة بالعرض بأمر من الله تعالى وتعيين منه، فهو حكمة بالغة من الله تعالى في اختيار هذا النمط من الجهاد، بحيث لا يتأدّى إقامة الدين إلّا بذلك من دون تدنّس وابتذال في العِرضْ ولا زوال لطهارته وعصمة مناعته، وإنّما هي مخاطرة ظاهرية بالسمعة.

وهذا نظير ما وقع لعترة النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد واقعة كربلاء المفجعة، حيث كان فَضْحُ بني أمية وزَيْغُهم عن الدين وعِداؤهُم لصاحب الرسالة لا يتمّ إلّا بالمخاطرة بعيالات النبوة وتعريضهم للسبي من قبل بني أمية، ووقوف عقيلة بني هاشم وخفِرة الطالبيين في مجلس الطاغية ابن زياد ومجلس يزيد وإلقاء خطبها لبيان حقانية سيد الشهداء عليه السلام وبطلان بني أمية وحزبهم.

إذَنْ فما جرى للسيّدة مريم عليها السلام من المخاطرة بحرمتها وقدسيّتها قد جرى على حرمة وقدسيّة فاطمة عليها السلام؛ إذ خاطرت بحرمتها وقدسها في الذب عن إمامة علي عليه السلام وذلك بالتصدي للمهاجمين على بيته عليه السلام، فكان في ذلك فَضْحٌ لكلّ سِتار يتخفى من ورائه أصحاب السقيفة لغصب الخلافة وتحريف مسيرتها في الأمّة، ومن ثَم أحسّ الخليفة

____________________

١. مريم / ٢٩.

٦٣

الأول بانتصار قضية علي عليه السلام في الإمامة، وإدحاض دعواه وصحبه فلم يمسك غيضه حتّى تكلّم بهجين الكلام وهو على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله كما نقل ذلك ابن أبي الحديد(١) .

فبلوغ مريم إلى مراتب الحجّية كان سبباً في تأسيس الشريعة العيسوية واكتمالها.

كما أنّ حمل المولود المعجزة والمجيء به إلى قومها تُعدّ إحدى أخطر مهامّها وأصعبها تحمّلاً فهي مجاهدة ومخاطرة بالعِرض وهو أشدّ للغيارى من قتل النفس؛ اذ لم يكن من اليسير أن تتحمل أقدس عفيفة في زمانها مسؤولية التهمة والبهتان ومحاولة تحدّي أمّة لم تصل إلى مستوى الرشد، بل لازالت في حضيض الجهل والسوء فكانت معاناتها النفسية مما هي فيه من الإستحياء ومخافة اللوم ما ادّى بها الى تمني الموت( قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) .(٢)

قال أبو عبداللّه الصادق عليه السلام: «لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء»(٣) مما يكشف شدة معاناتها ووطأة المهمّة الملقاة على

____________________

١. شرح نهج البلاغة ١٦/٢١٥.

٢. مريم / ٢٣.

٣. كنز الدقائق ٨/٢١٠.

٦٤

عاتقها، إلّا أنّ ذلك لم يفتَّ في عضدها، ولم يحبط همّتها، ولم يزعزع تسليمها وانصياعها وطاعتها لله تعالى ولأمره شعرة، بل ذهبت مع ما فيها من آلام التوجسات والخواطر، تحمل ولدها المعجزة لتثبت بكلّ تسليم واقتدار تحمّل المسؤولية المباركة.

ويكشف في الوقت نفسه ما وصلت إليه من الإكتمال في التسليم والإنصياع وتحمل المسؤولية من حين تحديثها الملائكة وقبولها لذلك، ولم يصدر منها أدنى تردد أو اعتذار لقبول المهمة، مما يعني بكل تأكيد كونها طرفاً مهماً في بلوغ الرسالة العيسوية هذا المبلغ من الإقتدار على تحدي طغام بني اسرائيل ولئامهم وزحفها مخترقة كلّ حواجز اليهودية المتربصة لرسالات السماء.

فتلخّص:

أولاً: إنّ الذي بدأ بإبلاغ بعثة النبيّ عيسى هي مريم عليها السلام وهو نمط فريد في بعثة الرسالات الإلهية أن يكون الحامل الأول للبعثة هي إمرأة.

ثانياً: إنّه يدلّل على كمال ايمان مريم بما أوحى لها من الأوامر الإلهيّة من دون توسط نبيّ فيما بينها وبين الله تعالى.

ثالثاً: إنّه يدلّ على حجّية الوحي للمرأة المصطفاة المطهَّرة، ولو قدّر-

٦٥

العياذ بالله - أنّ مريم لم تؤمن بما أوحي إليها ولم تمتثل ما أمرت به مباشرة لكان في ذلك إخفاق للمعجزة الإلهيّة على نبوّة عيسى وبعثته بديانة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام، أي ولادته من غير أب.

فمن ثم كانت عصمةُ مريم وأنّها من الصفوة المنتجبة للحجّية على العباد آيةٌ إلهيةٌ مع إبنها على حقانية بعثة ونبوّة وشريعة النبيّ عيسى عليه السلام في زمانه. فمن ثَم جُعلت من أصول الديانة والشريعة العيسوية كما قال تعالى( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) بل هذه الآية الإلهيّة واجبة الإعتقاد في الشريعة الإسلامية؛ لوجوب الإعتقاد بكلّ آيات الله وكلماته وكتبه ورسله.

وسيأتي نظير هذا المقام للزهراء عليها السلام حيث احتجّ الله تعالى بها على حقانية نبوّة سيّد المرسلين وبعثته وشريعته كما في آية المباهلة، وأعطاها الله تعالى مقام ودور صاحب الدعوة للدين من قبله تعالى، وأنّ الخمسة أصحابَ الكساء صادقون فيما يبلّغونه عن الله تعالى من شريعة الإسلام ونبوّة سيّد الرسل.

كما أنّ حجّية مريم عليها السلام أصل من أصول الديانة المسيحية، إذ كونها هي وابنها آيةً، أي حجّةً، يجب على معتنقي المسيحية التسليم لها وقبولها والإعتقاد بها فهي المتمم لحجّية عيسى ورسالته.

فنرى أنّ القرآن الكريم في السور العديدة لا يدحض اعتقاد المسيحيين

٦٦

والنصارى في جعلهم مريم وعيسى كليهما من أصول الإعتقاد والديانة بل يدحض تأليههم لهما، فلا يخطّئهم في كونهما من أصول الدين بل غاية الأمر أنه يحدّد غلوهم الذي هو في تأليههم في مريم وعيسى، فيؤكّد القرآن على بشريتهما مع تصريحه بكونهما معاً آية وحجّة.

قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ ) (١) وقوله تعالى:( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ إِلَّا رَ‌سُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّ‌سُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ) (٢) .

مراحل الإعداد والإصطفاء

ولم تزل مريم ابنة عمران تحضى برعاية الربّ ورضوانه طالما نذرتْ نفسها لطاعته وعبادته وانقطاعها إليه، فيغدقها بالرحمة ويحبوها بالكرامة ومن ثم يصطفيها لحجّيته ويطهّرها ويفضّلها على نساء العالمين.

ولم يكن الإصطفاء إلّا بعد مراحل تتدرج فيها مريم بنت عمران ثمّ الله يتقبّلها قبولاً حسناً ويُنْبِها إنباتاً حسناً. فهي تحت قيمومة النبوّة ورعاية الرسالة، أمر موجب لخصائص الإصطفاء والتطهير لتلك المرأة التي سلّمت إرادتها للمرأة الصالحة - امرأة عمران أمّها التقيّة - حين نَذَرتْ ما

____________________

١. المائدة /١١٦.

٢. المائدة /٧٥.

٦٧

في بطنها محرراً لله تعالى، وبالفعل تستجيب تلك الطاهرة لإرادة الله فتنقاد مسلّمة لطاعته وعبادته، وهي أول مرحلة تظهر فيها مريم قابليتها الإصطفاء وقدرتها على تلقّي إرادات الله تعالى، وإلّا فمن غير اليسير أن تستجيب فتاة في الإنقطاع عن الدنيا وملذّاتها لتبتّلها للوفاء بنذر أمّها حتّى كانت تحت إرادتها طيّعة بارّة مطمئنة بقضاء الله تعالى عابدة متبتّلة بكلّ ايمان وشوق وانقياد مما يكشف عن مكنون الايمان الذي أودع في مطاوي تلك النفس الكريمة واستحقاقها بكلّ جدارة تحمّل المسؤولية الإلهية في الحجّية والإصطفاء.

قال تعالى:( إِذْ قَالَتِ امْرَ‌أَتُ عِمْرَ‌انَ رَ‌بِّ إِنِّي نَذَرْ‌تُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّ‌رً‌ا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٣٥﴾ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَ‌بِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ‌ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْ‌يَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّ‌يَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّ‌جِيمِ ﴿٣٦﴾ فَتَقَبَّلَهَا رَ‌بُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِ‌يَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِ‌يَّا الْمِحْرَ‌ابَ وَجَدَ عِندَهَا رِ‌زْقًا قَالَ يَا مَرْ‌يَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْ‌زُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ‌ حِسَابٍ ) (١) .

فالإعداد لتكون مريم صالحةً للحجّية يجري تحت رعاية الله تعالى وبقيمومة زكريا نبيّ الله الذي أوكل بتلك المهمّة.

____________________

١. آل عمران/ ٣٥ - ٣٧.

٦٨

ومن هنا فالإعداد لفاطمة الزهراء عليها السلام تشمل مرحلتين:

الأولي: إعداد النبيّ صلّى الله عليه وآله لتلقّي هذه الكرامة وقبولها.

و الثانية: إعدادها عليها السلام تحت رعاية الرسالة وقيمومة النبوّة، وقد قال تعالى في مناقب مريم( وَكَفَّلَهَا زَكَرِ‌يَّا ) ، وفاطمة عليها السلام قد كفّلها سيّد الأنبياء فضلاً عن سيّد الأوصياء، فتلك المنقبة لها بنحو أرفع وأعظم.

إذن فبعدما بلغت مريم مراتب الكمال لقابلية الإصطفاء نادتْها الملائكة ببشارة الإصطفاء( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْ‌يَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَ‌كِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (١) والآية معطوفة على قوله تعالى( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَ‌اهِيمَ وَآلَ عِمْرَ‌انَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٢) مما يعني أنّ اصطفاء مريم كان بمستوى إصطفاء الأنبياء من آدم ونوح وآل إبراهيم، أي إصطفاءً نبوياً تختلف ماهيته بحسب حيثيات النبوّة والإمامة التي لا تكون إلّا في سنخ الرجال بخصوصيات ليس هنا محلّ بحثها.

فاصطفاؤها الأول هو قبولها لعبادة الله ومن ثم تطهيرها بعصمة الله وبالتالي اصطفاؤها لحجّيته، فمراحل الإصطفاء تتدرج من نشأتها وتترقّى بتطهيرها وتكتمل بحجّيتها.

____________________

١. آل عمران / ٤٢.

٢. آل عمران / ٣٣.

٦٩

التشريك في النعمة تشريك في الحجّية

وإذا خصّ الله عيسى برسالته وهو نبيّه، فإنّ مريم بنت عمران اشتركت في نعم الله السابغة مع نبيّه، أي تكون الإشتراك في النعمة دالّة على القرب إلى الله ورفيع المنزلة والكرامة لديه، مما يعني وجود اشتراك في سنخية المهمة بين عيسى ومريم بنت عمران، قال تعالى( إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ اذْكُرْ‌ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُ‌وحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَ‌اةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ‌ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرً‌ا بِإِذْنِي وَتُبْرِ‌ئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَ‌صَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِ‌جُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ‌ مُّبِينٌ ) (١) .

وهذه النعمة نعمة لدنيّة إلهية خاصة بالمصطفين من أوليائه، نظير قول سليمان( رَ‌بِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ‌ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ) (٢) وهي النعمة التي أشار إليها تعالى عندما أدرج مريم في مصاف الأنبياء والرسل في سورة مريم حيث قال تعالى( ذِكْرُ‌ رَ‌حْمَتِ رَ‌بِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِ‌يَّا ) (٣) وقال:

____________________

١. المائدة / ١١٠.

٢. النمل / ١٩.

٣. مريم / ٢.

٧٠

( وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ مَرْ‌يَمَ ) (١) بعد ذكر يحيى ثم ذكر عيسى فقال:( وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِبْرَ‌اهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) (٢) ثم ذكر اسحاق ويعقوب ثم قال:( وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَ‌سُولًا نَّبِيًّا ) (٣) ثم قال:( وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَ‌سُولًا نَّبِيًّا ) (٤) ثم قال:( وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِدْرِ‌يسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) (٥) .

وكان قد ذكر لكلّ واحد منهم ما وهب الله له، فوهب لزكريا يحيى ووهب لمريم عيسى، ووهب لإبراهيم اسحاق ويعقوب، ووهب لهم من رحمته وجعل لهم لسان صدق ووهب لموسى أخاه هارون نبياً، ثم قال تعالى في نهاية المطاف:( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّ‌يَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّ‌يَّةِ إِبْرَ‌اهِيمَ وَإِسْرَ‌ائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّ‌حْمَـٰنِ خَرُّ‌وا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (٦) فأدرج مريم في من هدى واجتبى في مصاف الأنبياء، وأنّ نعمة الإجتباء والإصطفاء في مضاهاة نعمة النبوّة

____________________

١. مريم / ١٦.

٢. مريم /٤١.

٣. مريم / ٥١.

٤. مريم / ٥٤.

٥. مريم / ٥٦.

٦. مريم / ٥٨.

٧١

لكونهما من النعم اللدنّية من نعم الله تعالى.

فتماثل النعمة دالّ عليه الذكر المشترك الذي عنى بهما القرآن لقوله تعالى:( إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ اذْكُرْ‌ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ ) فعدم اختصاصه بالنعمة واشتراك والدته بالذكر دليل على النعم المشتركة التي فضل الله بهما حجّية عيسى ومريم، فالإمتنان الإلهي على كلا المذكورين يستوجب اشتراكهما بجميع ما أوردته الآية الكريمة.

الإعتقاد بحجّية مريم ومقامها من خصوصيات الدين الإسلامي

على أننا نؤكّد في الوقت نفسه أنّ هذا الإعتقاد بحجّية مريم ومقامها إحدى خصوصيات دين الإسلام الحنيف، الذي تؤكّد تعظيم مقام المرأة وامكانها بلوغ الكمال والرشد، وذلك بفضل الطاعة لله تعالى والتقوى والعفّة، ولا يكتفي الإسلام بالشعارات التافهة التي ترفعها الحضارة الغربية والتي لم ترَ أدنى قابلية الرشد والكمال للمرأة كما تراه الإسلام في نماذجه الطاهرة العفيفة، كمريم بنت عمران وفاطمة الزهراء عليهما السلام.

إذ دعوى الحضارة الغربية بالدفاع عن حقوق المرأة وتكريمها تتكاذب مع ممارساتها اللاإنسانية في إضعاف مقام المرأة وتسقيطه إلى مستوى العبث والمتعة، فضلاً عن إلغاء اعتقادها بمقام مريم وعظمتها وشرف مسؤوليتها

٧٢

في انبثاق الديانة المسيحية لكمال حجّيتها التي من المفترض أن تكون من دواعي الديانة المسيحية، إلّا أن الحضارة الغربية المطالبة بحقوق المرأة تغفل عما حظيت به المرأة من المقام السامي والشأن الكريم لدى الدين الإسلامي.

فالعقيدة الإسلامية بمقام السيّدة مريم وجهدها في نشوء الرسالة العيسوية وحجّيتها الإلهية، فضلاً عن المسؤولية العظمى والحجّية الكبرى التي تختص بها فاطمة الزهراء عليها السلام إحدى دواعي الإعتزاز بهذين المقامين الشامخين اللذين كرّمهما الله تعالى بحجّيته.

فالمطالبة بحقوق المرأة تكمن حقيقته في تحديد رسالتها السامية بتربيتها للأمة تربية صالحة، وباستطاعتها كذلك هدايتها للأمّة هداية تتناسب وتوجهات سعادتها وكمالها كما هو الحال في شأن مريم بنت عمران عليها السلام وهدايتها للأمّة من خلال حجّيتها التي منحها الله تعالى تكريماً لها، وكما في سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام التي أثبتت لياقتها التامّة في تحمّلها مسؤولية تشخيص الإنحرافات العقائدية والسياسية بُعيد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله مستخدمة حجّيتها التي منحها الله تعالى، وهذا مالم تجده في أية حضارة أخرى تدّعي المطالبة بحقوق المرأة حتّى تجعلها وسيلة لَهْوِ ومتعة تتداعى من خلالها كلّ شعارات الحرّية الوضعية البعيدة

٧٣

عن النهج الرسالي القويم.

الوسط الاسلامي والتطرف المسيحي

ولم تهتدِ المسيحية لابتعادها عن الحق في تشخصيص مقام مريم وابنها المسيح، فتطرّفتْ في ذلك حتّى جعلت المسيح ثالث ثلاثة، وألّهتْ المسيح وأمّه، وقد عالج الإسلام هذه المشكلة الفكرية التي وقعت بها المسيحية لابتعادها عن حقيقة تعاليمها السماوية، وأبطل أول الأمر الألوهية لهذين العبدين القانتين لله تعالى، وأكّد خضوع المسيح وعبوديته لله سبحانه( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَ‌بِّي وَرَ‌بَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِ‌كْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّ‌مَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ‌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‌ ) (١) إذ حدّد مهمّة عيسى أولاً وهي العبودية المحضة والطاعة الخالصة لله الواحد الأحد، ودون ذلك شرك وظلم يستحقّ معتقده النار.

ثم أشار إلى بشرية عيسى وأمّه وأكّد أنهما بشران وأنهما نالا مقام الحجّية لله تعالى بطاعتهما وعبادتهما له، فأشار لأحدهما بالرسالة وللآخر بالحجّية بقوله:( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ إِلَّا رَ‌سُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّ‌سُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ‌ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ‌ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٢) .

____________________

١. المائدة / ٧٢.

٢. المائدة / ٧٥.

٧٤

فالإسلام أكّد حدود بشريتهما أولاً، ثم أشار إلى حجّيتهما ثانياً بطاعتهما وعبوديتهما لله تعالى، ومع ذلك كلّه لم ما وُجِدَ من الكافرين غير التكذيب والإفك؛ إمّا معاداة أو علواً على الله تعالى بادعائهم ألوهيتهما، فلذا يصرّح القرآن بكلّ شدة على كفر من قال إنّ المسيح هو الله،( لَقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ ) (١) ولم يكتفوا هؤلاء بِغَيِّهم وكفرهم حتّى جعلوا الله ثالث ثلاثة وأشار إلى كفرهم( لَّقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ) (٢) .

فقد دأب القرآن الكريم إلى كشف هذه الإعتقادات المزيّفة وفضحها لغرض تقنين المعتقد وعدم تسيّب الفكر بسبب الدوافع العاطفية والتي تؤول إلى فوضى فكرية حقيقية، فحدّد القرآن معالم هذا المعتقد وأطّره ضمن مبادىء ومسلّمات عقائدية والخروج عن هذه الدائرة الفكرية سيؤول إلى الغلو والضلال( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ رَ‌سُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْ‌يَمَ وَرُ‌وحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُ‌سُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرً‌ا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ

____________________

١. المائدة / ٧٢.

٢. المائدة / ٧٣.

٧٥

سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ وَكِيلًا ) (١) .

فالقرآن كما استنكر على النصارى غلوهم في المسيح وأمّه، كذلك استنكر على اليهود تقصيرهم في الإقرار بمقامهما والعداء لهما والخصومة، فهو كما ينفي الغلو ينفي التقصير في التسليم لهما في الحجّية، فلا تستدعي حجّيتُهما الألوهيةَ ولا تستدعي بشريتهما عدمَ الحجّية.

وهذا ما يركّز عليه القرآن الكريم في كثير من الأنبياء والرسل كما في قوله تعالى تعليماً لنبيّه صلّى الله عليه وآله( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ‌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (٢) فالوحي لا ينفي البشرية ولا البشرية تنفي تميزه واختصاصه بالوحي، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَ‌اطًا سَوِيًّا ) (٣) . وكذا بقية الأنبياء حسبما يذكره القرآن الكريم مع أقوامهم، فإنهم في الغالب يقعون في أحد الطرفين؛ إمّا التقصير وظنّ أنّ البشرية تنفي الحجّية والإرتباط بالغيب، أو الغلو وأنّ الإرتباط بالغيب ينفي البشرية، كما حصل لليهود في عُزير.

فالطريقة الوسطى والمحجّة الواضحة نفي كلّ منهما، والتسليم بالحجّية

____________________

١. النساء / ١٧١.

٢. الكهف / ١١٠.

٣. مريم / ٤٣.

٧٦

وأنهم بشر، هذا المسلك ينفي الإفراط والتفريط، كما ينفي المعاداة لأولياء الله. فالوظيفة اتجاه حجج الله هي أن لا يكون الفرد من الغالين المفوّضين، ولا من الناصبين المعاديين ولا من المقصرّين المرتابين، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة:«فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصّر في حقّكم زاهق» .

فبعد أن حدّد ماهية المسيح البشرية وأشار إلى رسالته، نهي الخروج عن دائرة هذا التشخيص والقول بخلاف هذه الحدود البشرية لرسول الله المسيح وأمّه الصدّيقة.

أما ما يشهد للتشريك بالحجّية، فضلاً عن اشتراكهما في ذكر النعم والمنن عليهما من قبل الله تعالى فلقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (١) و«الآية» هي الحجّة كما هو معلوم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّوجلّ:( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) قال: «أي حجّة»(١) ، فاقترانهما في ذكر كونهما آية دليل على تقارب حجّيتهما واشتراكهما كذلك.

____________________

١. المؤمنون / ٥٠.

٢. البرهان ٣/١١٣.

٧٧

التشابه بين مقامي مريم وفاطمة عليهما السلام

وغرضنا من الإسهاب في مقام مريم عليها السلام سيتضح إذا ما عرفنا أنّ وحدة المناط بين مقامي مريم وفاطمة عليهما السلام سيكون بالأولوية القطعية المسلّمة لدى الفريقين.

فإذا كانت مريم سيّدة نساء زمانها قد حازت على تلك المقامات السامية التي شهد بها القرآن الكريم من الإصطفاء والعصمة، فإنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين(١) ستكون لها تلك المقامات التي تثبت حجّيتها كذلك، بل إنّ تصريح القرآن بمقامات فاطمة الزهراء عليها السلام

____________________

١. البخاري ٤/ ٢٤٨، وفي مناقب فاطمة عليها السلام نفس الحديث وكذلك في مجلد ٨/ ٧٩ * وصحيح مسلم ٤/١٩٠٤، حديث ٩٧، والحديث بلفظ سيدة نساء أهل الجنة ومعلوم أن ذلك يؤول إلى أنّها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين * وجامع الأـصول ٩/ ١٢٩-١٣١، حديث ٦٦٧٧ وطبعة دار احياء التراث ح ٦٦٦٥ * والترمذي ٥/ ٧٠١، حديث ٣٨٧٢- ٣٨٧٨ * وسنن أبي داود ٤/ ٣٥٥، حديث ٩٨ و ٩٩.

٧٨

يضاهي ويعظم عمّا صرّح به في مقامات مريم فيغنينا في الإستدلال عن الأولوية وإن كانت هي حقيقة ثابتة في روايات الفريقين فليس بدعاً إذَنْ أن تعتقد الإمامية ما تعتقده في فاطمة الزهراء عليها السلام.

فإنّ صريح القرآن يثبت حجّية مريم بما لها من المقامات الإلهية الثابتة وهي حجّة لإحدى الشرائع السماوية فكيف بفاطمة الزهراء عليها السلام وقد أثبت لها صريح القرآن دخولها تحت عنوان أهل البيت الذي شمل نبيّ الشريعة الخاتمة! مما يعني أنّ هناك مقاماتٍ يشترك بها أهل البيت تخصصها بعد ذلك رتبهم الإلهية.

قال تعالى:( إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا ) (١) .

اتفق الفريقان على نزولها في أهل البيت، محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

أخرج السيوطي عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أمّ سلمة رضي الله عنها زوج النبيّ صلّى الله عليه وآله:

«إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان ببيتها على منامة له، عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله:

____________________

١. الأحزاب/ ٣٣.

٧٩

أُدْعي زوجَكِ وابنيكِ حسناً وحسيناً. فدعَتْهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله( إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا ) فأخذ النبي صلّى الله عليه وآله بفضلة إزاره فغشّاهم إيّاها، ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالها ثلاث مرّات.

قالت أمّ سلمة رضي الله عنها: فأدخلتُ رأسي في الستر، فقلت: يا رسول الله، وأنا معكم؟ فقال: إنكِ إلى خير، مرّتين.»(١)

هذا ما أخرجه أهل السنّة في شأن نزولها ولعلّ طرقها بلغت العشرات لتصل إلى حدّ التواتر دون أدنى ريب.

وما رواه الإمامية من طرقهم كثير إلّا أننا سنختصر على ما أورده صاحب البرهان في تفسيره من رواية عن أبي عبدالله عليه السلام عن أبي بصير قال:

«سألت أبا عبدالله عن قول الله عزّوجلّ:( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ ) (٢)

قال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام.

فقلت له: إنّ الناس يقولون فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته عليهم السلام في كتاب

____________________

١. الدر المنثور ٦/ ٥٣١ - ٥٣٢ (ذيل آية ٣٣ من سورة الأحزاب)

٢. النساء/ ٥٩.

٨٠

الله عزّوجلّ؟

قال: قولوا لهم إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتّى كان رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم.

ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهماً حتّى كان رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم.

ونزل الحجّ فلم يقل لهم طوفوا سبعاً وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الذي فسّر ذلك لهم.

ونزلت( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ ) ونزلت في علي والحسن والحسين عليهم السلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله في علي: من كنت مولاه فعليّ مولاه.

وقال عليه السلام: أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عزّوجلّ أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما على الحوض، فأعطاني ذلك.

وقال: لا تعلّموهم، فهم أعلم منكم.

وقال: ثم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة.

فلو سكت رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم يبيّن من أهل بيته لادّعاها آل فلان وآل فلان ولكن الله عزّوجلّ نزل في كتابه تصديقاً لنبيّه صلّى الله عليه وآله( إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا ) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام فأدخلهم رسول الله صلّى الله عليه وآله تحت الكساء

٨١

في بيت أمّ سلمة، ثم قال: اللهمّ إنّ لكل نبيّ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي.

فقالت أمّ سلمة: ألستُ من أهلك؟

فقال: إنّكِ إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي.

فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله كان عليّ أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وأقامه للناس وأخذ بيده، فلما مضى عليّ لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي والعباس بن علي ولا أحداً من ولده إذاً لقال الحسن والحسين: إنّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله كما بلّغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك»(1)

والذي يعنينا من هذه الرواية على طولها:

إنّ هناك اشتراكاً في حيثيات الحجّية لأهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير وخصصتهم الروايات المتواترة من قبل الفريقين بأنهم: رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

وعليه فإنّ قول الإمام عليه السلام «إذاً لقال الحسن والحسين: إنّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله كما بلّغ فيك واذهب عنّا الرجس كما أذهبه عنك ...» مما يعني أنّ

____________________

1. البرهان 3/ 309.

٨٢

إذهاب الرجس عنهم، له خصوصية في اثبات الحجّية، فكما سيحتجّ الحَسَنان لإثبات حجّيتهما بآية التطهير فإنّ لفاطمة الحجّية كذلك منتزعة من آية التطهير ولإذهاب الرجس عنها عليها السلام.

وتلخّص من ذلك: أنه كما أُثبتت حجّية السيّدة مريم عليها السلام باصطفائها وتطهيرها لقوله تعالى( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْ‌يَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَ‌كِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (1) أمكن اثبات حجّية السيّدة فاطمة عليها السلام باصطفائها و تطهيرها للأولوية.

ووجه الأولوية: أنّ فاطمة عليها السلام قد تمّ إصطفاؤها وتطهيرها بآية التطهير مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وعليّ والحسنين عليهم السلام الذين ثبتت حجّيتهم القطعية؛ لكون الآية مشيرة إلى اشتراك الحكم بين أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا تحت الكساء ومنهم فاطمة عليها السلام.

وخصوص المطهّر في الأمّة الإسلامية في شريعة هذا الدين قد أثبت له القرآن وصفاً آخر وهو مسّ الكتاب المكنون الذي فيه حقيقة القرآن وذلك في قوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75﴾ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76﴾ إِنَّهُ لَقُرْ‌آنٌ كَرِ‌يمٌ ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴿78﴾ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُ‌ونَ ﴿79﴾ تَنزِيلٌ مِّن رَّ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾

____________________

1. آل عمران / 42.

٨٣

أَفَبِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ﴿81﴾ وَتَجْعَلُونَ رِ‌زْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) (1) .

ففي الآية قد عظّم الله تعالى القَسَم فيها بوجوه عديدة لا تخفى على المتأمل في تركيب ألفاظ الآية التي قد تربو على سبعة وجوه، كلّ ذلك لتأكيد القضية التي أراد القَسَم عليها. ثم أكّد القضية بوجهين آخرين أيضاً مما يدلّ على أنّ القضية خبرية وليست إنشائية، والمخبر به هو كون القرآن ذو حقيقة تكوينية مكنونة عِلْوية، وأنّ المصحف المنقوش بين الدفتين تنزيل لتلك الحقيقة من دون تجافي تلك الحقيقة التكوينية المحفوظة في كِنّ القرآن عن موقعها العِلْوي، وأنّ تلك الحقيقة لا يصل إليها ولا يدركها إلّا المطهّر في شرع الإسلام.

والكتاب المكنون هذا الذي فيه حقيقة القرآن قد وصف في سورة الأنعام بأنه الذي يُستطر فيه كلّ رطب ويابس، وفيه ما من غائبة كما في قوله تعالى:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ‌ وَالْبَحْرِ‌ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَ‌قَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْ‌ضِ وَلَا رَ‌طْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (2) .

____________________

1. الواقعة/ 79 - 81.

2. الأنعام/ 59.

٨٤

وقوله تعالى:( يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1) وقوله تعالى( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْ‌ضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (2) .

وقوله تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَ‌حْمَةً ) (3) .

وقوله تعالى:( عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّ‌ةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْ‌ضِ وَلَا أَصْغَرُ‌ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ‌ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (4) .

وقوله تعالى:( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ‌ مِن مُّعَمَّرٍ‌ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِ‌هِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ‌ ) (5) .

فقد وصف الكتاب بأوصاف جامعة محيطة بكلّ مغيبات الخلقة المستقبلية، ما هو كائن وما يكون وما هو خفي في النشآت العِلْوية، ومن ثم كان مصحف فاطمة عليها السلام مشتملاً على الإخبار بالأمور المستقبلية بما كان وما هو كائن، الدال على أنّ إحاطتها عليها السلام بذلك لإحاطتها بحقيقة القرآن العِلْوية في الكتاب المكنون بعد دلالة آية التطهير كونها مطهّرة من كلّ رجس ودلالة سورة الواقعة على أنّ كلّ مطهّر في هذه

____________________

1. الرعد/ 39.

2. النمل/ 75.

3. النحل/ 89.

4. سبأ/ 3.

5. فاطر/ 11.

٨٥

الشريعة يمسّ الكتاب المكنون، وهذا مقام لم تصل إليه مريم، بل هو خاص كما ذكرنا بالمطهّرين في شرع الإسلام دون الشرائع السابقة.

فاطمة عليها السلام فوق مقام الأبرار

قال تعالى:( إِنَّ الْأَبْرَ‌ارَ‌ يَشْرَ‌بُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورً‌ا ﴿5﴾ عَيْنًا يَشْرَ‌بُ بِهَا عِبَادُ اللَّـهِ يُفَجِّرُ‌ونَهَا تَفْجِيرً‌ا ﴿6﴾ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ‌ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّ‌هُ مُسْتَطِيرً‌ا ﴿7﴾ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرً‌ا ﴿8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِ‌يدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورً‌ا ) (1) .

وصفٌ لحال الأبرار الذين نعموا برضوان الله تعالى وكرامته وبيان لمقامهم، وأظهر مصاديق هذا المقام الكريم أنّهم يشربون كأساً ممزوجةً بكافور.

ثم تنتقل الآية إلى وصف العين التي منها شراب المقرّبين، وهي عين يتولّى أمرها عباد الله إذ يفجّرونها تفجيراً، فَمَن هم هؤلاء الذين يتولّون تفجير هذه العين وأمرَها، ومن ثَمّ يسقون منها الأبرار؟

إنّ الآية تكفّلت لبيان هؤلاء المتولّين لأمر تلك العين وهم عباد الله الذين صفاتهم:

1- يوفون بالنذر.

____________________

1. الدهر/ 5 - 9.

٨٦

2- يخافون يوم القيامة الذي يكون شرّه مستطيراً مهولاً.

3- يُطعمون المسكين واليتيم والأسير لله تعالى عطاءً خالصاً لا يرجون من غيره جزاءً ولا شكوراً.

فَمَن هؤلاء إذن؟

اتّفق الفريقان أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فقد أورد الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل(1) بأربع وعشرين طريقاً أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

وخلاصة القصة: أنّهم عليهم السلام السلام نذروا إنْ عوفي الحسنان أن يصوموا لله تعالى ثلاثاً، فلمّا عوفيا، وفوا بنذرهم فجاءهم في اليوم الأول مسكين فأعطوه طعامهم وسألهم في اليوم الثاني يتيم فأعطوه طعامهم ووقف ببابهم أسير فأعطوه طعامهم، فباتوا ثلاثاً طاوئين. فأنزل الله فيهم هذه الآيات، فثبتت صفة عباد الله الذين يفجّرون تلك العين لهم عليهم السلام.

فإذَنْ هم الذين يفجّرون عين الكافور ويُفيضون منها على الأبرار ليمتزج شرابهم بقليل من العين، أي إنّهم واسطة فيض على الأبرار ولهم القيمومة التامّة على ذلك، وهذا يطابق قيمومتهم على الأبرار وأنّهم المقرّبون في قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَ‌ارِ‌ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا

____________________

1. شواهد التنزيل 2/303.

٨٧

عِلِّيُّونَ ﴿19﴾ كِتَابٌ مَّرْ‌قُومٌ ﴿20﴾ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّ‌بُونَ ) (1) .

فشهادة كتاب الأبرار من قبل المقرّبين دليل على قيمومة المقرّبين على الأبرار وشهادتهم عليهم. فالمقرّبون هم الشهداء على كتاب الأبرار، أي أعمالهم، ولذلك ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة «أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دارالبقاء.. » وفي موضع آخر من الزيارة «شهداء على خلقه وأعلاماً لعباده » هذه هي شهادة المقرّبون وهيمنتهم على الأبرار، والمقرّبون هؤلاء هم السابقون الذين وصفَتْهم الآية بقوله تعالى:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿10﴾ أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّ‌بُونَ ) (2) مع أن سورة الدهر لم تزل في سياقات وصف المقرّبين وهم الذين يوفون بالنذر( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ‌ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّ‌هُ مُسْتَطِيرً‌ا ﴿7﴾ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرً‌ا ﴿8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِ‌يدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورً‌ا ﴿9﴾ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّ‌بِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِ‌يرً‌ا ﴿10﴾ فَوَقَاهُمُ اللَّـهُ شَرَّ‌ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَ‌ةً وَسُرُ‌ورً‌ا ﴿11﴾ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُ‌وا جَنَّةً وَحَرِ‌يرً‌ا ﴿12﴾ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَ‌ائِكِ لَا يَرَ‌وْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِ‌يرً‌ا ﴿13﴾ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴿14﴾ وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِ‌يرَ‌ا ﴿15﴾ قَوَارِ‌يرَ‌ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُ‌وهَا تَقْدِيرً‌ا ﴿16﴾ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا

____________________

1. المطففين/ 18 - 21.

2. الواقعة/ 10 - 11.

٨٨

زَنجَبِيلًا ﴿17﴾ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ) .(1)

هذا حال المقرّبين، ويطابق هذا الوصف لعباد الله وارتفاع مقامهم عن الأبرار ما في سورة المطففين من قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَ‌ارِ‌ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴿19﴾ كِتَابٌ مَّرْ‌قُومٌ ﴿20﴾ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّ‌بُونَ ﴿21﴾ إِنَّ الْأَبْرَ‌ارَ‌ لَفِي نَعِيمٍ ﴿22﴾ عَلَى الْأَرَ‌ائِكِ يَنظُرُ‌ونَ ﴿23﴾ تَعْرِ‌فُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَ‌ةَ النَّعِيمِ ﴿24﴾ يُسْقَوْنَ مِن رَّ‌حِيقٍ مَّخْتُومٍ ﴿25﴾ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿26﴾ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴿27﴾ عَيْنًا يَشْرَ‌بُ بِهَا الْمُقَرَّ‌بُونَ ) .(2)

فهذه الآيات تشير أيضاً إلى أنّ المقرّبين واسطة فيض للأبرار وهم الذين يمزجون شراب الأبرار بشيء من التسنيم، ولأنهم وسطاء فيض فهم يشهدون أعمال الأبرار.

وهذا يتطابق مع ما تقدّم من أنّ المطهّرين في هذا الشرع المقدس، المعصومين يمسّون الكتاب في اللوح المحفوظ المكنون الذي يستطر فيه كلّ غائبة، ومنها أعمال العباد.

فالمطهّر هوالمقرّب، وهم عباد الله الذين يسقون الأبرار من عين يفجّرونها تفجيرا، وتلك العين هي عين الكافور، وهي عين فوق مقام

____________________

1. الدهر/ 7 - 17.

2. المطففين/ 18 - 28.

٨٩

الأبرار. والسلسبيلُ الذي هو مصدر المقرّبين والعين التي يسقون منها هو رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ إذ هو القيّم على المقرّبين الذين هم أهل البيت عليهم السلام وهو مصدرهم.

فتلّخص إذن: أنّ الأبرار يُسقون كأساً ممزوجة بالكافور، والمقرّبون هم مصدرالأبرار، والسلسبيل مصدر المقرّبين التي يسقون ويُسقوْنَ منها، على أنّ السقاية من العين وتفجيرها، تعني أنّ المقرّبين هم واسطة إفاضة على الأبرار، الذين يفيضون النور والعلم والحكمة والهداية على الأبرار.

وهؤلاء المقرّبين - وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام - يُفاض عليهم من عين السلسبيل بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وآله. فعلومهم وراثة من رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله كما في الروايات الواردة عنهم، مما يعني أنّ المقرّبين هم في مقام الحجّية والقيمومة المهيمنة على الخلق؛ إذ قيمومتهم تصدر من رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي ينص على حجّيتهم وإمامتهم بأمر الله تعالى.

وبذلك يتّضح مقام فاطمة عليها السلام وكونها إحدى وسائط الإفاضة على الخلق النابعة من مصدرٍ إلهي يمثّله رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وظهر أنّها شاهدة للّه على الخلق، وأنّها هادية لهم، وأنّها من الراسخين في العلم الذين يمسّون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ، فهي من الذين أوتوا العلم

٩٠

وأثبت في صدورهم وأنها ممّن يُعرض عليها أعمال العباد.

فاطمة عليها السلام من المطهّرين الذين يمسّون الكتاب

وإذا ثبت أنّ المطهّرين هم محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بحكم آية التطهير( إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا ) فإنّ من خصوصيات المطهَّرين أنهم هم الذين يمسّون كتاب الله تعالى:( إِنَّهُ لَقُرْ‌آنٌ كَرِ‌يمٌ ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴿78﴾ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُ‌ونَ ) (1) أي: لا يعلمه إلّا المطهَّرون.

ولا يعني «المسّ» هنا مسّ نفس الوجود الخطي والكتبي للقرآن الكريم، إذ لا معنى لذلك بل الآية في مقام الإشارة إلى مكنونية هذا الكتاب بمثل هذا القَسَم المغلّظ الذي يتعلّق بالأمر الخبري لا الإنشائي. فلفظ «لا» في الآية نافية لا ناهية، بل يقصد الإخبار.

كما أنّه قد وصف الكتاب المكنون بأنّه الذي تنزل منه القرآن المصحف الذي بين الدفتين. فالقرآن في الكتاب المكنون له حقيقة عِلْوية لا يتناولها إلّا المطهّر المعصوم، وتلك الحقيقة بعيدة عن أفهام الناس إلّا بواسطة المطهَّرين. والمطهَّرون هم أهل بيانه وتفسيره ومعرفته، وهم العالمون ببطونه وعلومه

____________________

1. الواقعة/ 77 - 79.

٩١

( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1) ولا يعلم تأويل الكتاب إلّا الراسخون في العلم( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّ‌اسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) .(2) قال أبو عبدالله عليه السلام: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله ».

وإذا ثبت أنّ المطهَّرين هم المقرّبون - كما تقدّم ذكره من أنّ المقرّبين هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام - فإنّ الكتاب المكنون لا يمسّه إلّا المطهَّرون.

أخرج السيوطي عن ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله في قوله تعالى:( إِنَّهُ لَقُرْ‌آنٌ كَرِ‌يمٌ ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) قال: عند الله في صحف مطهَّرة( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُ‌ونَ ) قال: المقرّبون(3) .

وإذا كان المطهَّرون هم المقرّبون الذين يمسّون الكتاب ويعلمون تأويل بواطنه فإنّ لهم الحجّية من الله تعالى على الخلق، إذ الحجّة هو الموصل لمعرفة الطريق إلى الله.

ومن هنا نعلم أنّ إحاطتهم عليهم السلام بكلّ شيء دليل حجّيتهم، إذ علمهم بالكتاب يعمّ علمهم بكلّ شيء، فالكتاب محفوظ فيه علم كلّ شيء

____________________

1. الزخرف/ 4.

2. آل عمران/ 7.

3. الدر المنثور 8/ 26 (ذيل آية 77 من سورة الواقعة).

٩٢

لقوله تعالى:( وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْ‌ضِ وَلَا رَ‌طْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (1) .

فالحجّية تعني ولايتهم على الخلق بقِسْمَيْها؛ ولايتهم التشريعية المنبعثة من مقام علمهم بالكتاب الذي يضمّ علم كلّ شيء، إذ الولاية التشريعية لا تتمّ إلّا بمعرفة أحكام كلّ شيء فهي من لوازم العلم. وبحكم علمهم بكتاب الله فإنّ لهم الولاية التكوينية على الخلق، إذ هذا القرآن - بحقيقته المكنونة التكوينية الملكوتية الذي لا يعلمه إلّا المطهَّرون - موصوف بقابلياته الإلهيّة المودعة فيه:( وَلَوْ أَنَّ قُرْ‌آنًا سُيِّرَ‌تْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْ‌ضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ) (2) وقوله تعالى:( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْ‌تَدَّ إِلَيْكَ طَرْ‌فُكَ ) (3) فالحجّية هي المقام الإلهي المنبعثة منها ولايتهم عليهم السلام بقِسْمَيْها.

وبهذا سيتمّ لنا معرفة مقام فاطمة عليها السلام من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها التشريعية والتكوينية معاً.

وقد رُوِيَتْ في عرض ولايتها على الخلق كباقي ولاية أصحاب الكساء

____________________

1. الأنعام/ 59.

2. الرعد/ 31.

3. النمل/ 40.

٩٣

والأئمة المعصومين عليهم السلام روايات عديدة فلاحظ(1) .

فاطمة عليها السلام وحجّيتها لدين الإسلام

وفيه جهتان:

الجهة الأولي:

تُعدّ آية المباهلة من أهمّ الآيات التي أثبتت حجّية فاطمة عليها السلام؛ إذ هذه الآية كانت مقام الفصل بين حقانية الدين الإسلامي ونسخ غيره من الأديان.

فالنصارى الذين احتجّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله بكلّ حجّة لم يذعنوا في الظاهر، وتمادوا في تشكيكهم وتكذيبهم لدعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله ولم يملكوا إلّا الإذعان لما دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله للتباهل إلى الله تعالى ليلعن الكاذب، ولم يجد النصارى بُدّاً من القبول بذلك، حتّى إذا أراد

____________________

1. بحار الأنوار 11/172، الحديث 19 (كتاب النبوة، أبواب قصص آدم وحواء وأولادهما، الباب 3: إرتكاب ترك الأولى ومعناه ...) وكذلك 27/199 و200، الحديث 66 و67 (كتاب الإمامة، أبواب ولايتهم وحبّهم وبغضهم، الباب 7: باب أنّه لا تقبل الأعمال إلّا بالولاية) وكذلك 16/361، الحديث 61 (تاريخ نبيّنا، الباب 11: فضائله وخصائصه وما امتنّ الله به على عباده) وكذلك 36/261، الحديث 82 (تاريخ أمير المؤمنين، الباب 41: في نصوص الرسول على الأئمّة) وكذلك 37/62 و63، الحديث 30 و31 (تاريخ أمير المؤمنين، الباب 50: في مناقب أصحاب الكساء) * وفي معاني الأخبار/ 38 - 39.

٩٤

النبيّ صلّى الله عليه وآله مباهلتهم علموا صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله بالخروج بالمباهلة بنفسه وأهل بيته، مما دعى النصارى إلى التسليم لصدق دعوته وإذعانهم إليه، قال تعالى:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن جابر قال: «قدم على النبي صلّى الله عليه وآله العاقب والسيّد فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد. قال: كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام. قالا: فهات.

قال: حُبُّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير.

قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه إلى الغد، فغدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له. فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً.

قال جابر: فيهم نزلت( تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) الآية قال جابر:( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليّ، و( أَبْنَاءَنَا ) الحسن والحسين،( وَنِسَاءَنَا ) فاطمة»(2) .

وروى ذلك السيوطي بعدّة طرق، وأخرج الحاكم النيسابوري في شواهد

____________________

1. آل عمران/ 61.

2. الدرّ المنثور 2/219. (ذيل آية 61 من سورة آل عمران).

٩٥

التنزيل القصة في تسع طرق.(1) وروى ذلك ابن كثير في تفسيره عن جابر.(2)

فمباهلة النبيّ صلّى الله عليه وآله بعليّ وفاطمة والحسن والحسين يعني احتجاجه على النصارى بهؤلاء الذين هم الحجّة على صدق دعوة النبيّ وبعثته. كما أنّ المباهلة تعني بحسب ماهيّتها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله جعل هؤلاء المتباهل بهم شركاء في دعوته، مما يعني أنّ مسؤولية الدعوة تقع على عاتقهم كذلك بحجّيتهم ومقامهم، مشيرة إلى وجود تعاضد وتقاسم بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وآله.

كما يفيد ذلك حديث المنزلة الذي رواه الفريقان، عن سعد بن أبي وقاص: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيّ بعدي »(3) فمنزلته عليه السلام بمنزلة هارون، وصفٌ لحجّيته ومشاركته في دعوته كما شارك هارون موسي في دعوته. فهذه المقاسمة والمشاركة في المنزلة دليل حجّيته عليه السلام كما أنّ مشاركة عليّ

____________________

1. شواهد التنزيل 1/ 183 - 198.

2. تفسير ابن كثير 1/ 484.

3. ذخائر العقبى 1/ 287 (في ذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، باب ذكر أنّه من رسول الله بمنزلة هارون من موسى) و387 (الفصل السابق، باب ذكر أنّ جمعاً من الصحابة لما سُئلوا أحالوا في السؤال عليه). وأخرجه البخاري (في فضائل الصحابة، باب مناقب عليّ بن أبي طالب وفي المغازي، باب غزوة تبوك) ومسلم (باب الفضائل).

٩٦

وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في المباهلة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله دليل حجّيتهم ومشاركتهم معه عليهم السلام في تبليغ صدق بعثته صلّى الله عليه وآله هذا ما تُبَيِّنُه آية المباهلة من مقام فاطمة عليها السلام وحجّيتها كذلك.

فهذه مقامات يمكن متابعتها في اصطلاحات القرآن تفسّر مقام الزهراء عليها السلام وأنها بنص القرآن حجّة من حجج الله تعالى في مصاف الأنبياء والرسل.

وما روي عن أبي جعفر عليه السلام في حجّية فاطمة عليه السلام قوله: «ولقد كانت فاطمة عليها السلام طاعتها مفروضة على جميع من خلق الله من الجنّ والإنس والطير والوحش، والأنبياء والملائكة »(1) .

فتحصّل: أنّ مؤدّى آية المباهلة هو نصب الله تعالى فاطمة عليها السلام حجّة على حقانية الإسلام ونبوّة نبيّه وشريعته؛ لاحتجاجه تعالى بها على النصارى وأهل الكتاب، فلم يحصر تعالى الحجّية على الدين بالنبيّ صلّى الله عليه وآله، بل جعل الخمسة كلّهم حجّة على دينه.

ومقتضي هذا الإحتجاج منه تعالى أنّ متابعة عليّ وفاطمة والحسنين عليهم

____________________

1. عوالم العلوم 1/ 172 (أبواب فضائلها ومناقبها، الباب 13: باب أنّها مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله تعالى). * وفي دلائل الإمامة، باب «فاطمة الزهراء»، خبر مصحفها، الرقم المسلسل للحديث 34، ص 106.

٩٧

السلام للنبيّ صلّى الله عليه وآله وتصديقهم به هو بنفسه دليل على صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله ورسالته، نظير قوله تعالى:( كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (1) حيث جعل شهادة «مَنْ عنده علم الكتاب» دليلاً على صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله، من سنخ شهادة معجزة القرآن التي هي شهادة الله لنبيّه والآية من سورة الرعد المكّية نزولاً النازلة في عليّ، حيث لم يسلم من أهل الكتاب في مكّة أحد، بل لا يخفى على اللبيب الفطن أنّ «مَن عنده علم الكتاب» شامل للمطهَّرين في شريعة الإسلام وهم أصحاب آية التطهير، لأنّهم هم الذين يمسّون الكتاب المكنون كما أشارت إليه سورة الواقعة وتقدّم مفصلاً.

فمنه يعلم أنّ قوله تعالى( كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا ) مفادها هو مفاد آية المباهلة في كونها حجّة على بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله، وهذا المعنى هو الذي يشير إليه ما رواه الواقدي أنّ علياً عليه السلام كان من معجزات النبيّ صلّى الله عليه وآله كالعصا لموسى وإحياء الموتى لعيسى.(2)

ففي مقام الإحتجاج على أهل الأديان لم يأمر الله تعالى نبيّه بدعوة زوجاته أمهات المؤمنين ولا أحدٍ من الصحابة ولا سائر بني هاشم، ولا

____________________

1. الرعد/ 43.

2. الفهرست لابن النديم، الفن الأول من المقالة الثالثة/ 111.

٩٨

يخفى أنّ تعيين الخمسة عليهم السلام للمباهلة لم يكن موكولاً للنبيّ صلّى الله عليه وآله، بل بأمر من الله وتعيين وتنصيص من الله في قرآنه النازل، وإن كان النبيّ صلّى الله عليه وآله مأموراً بدعوتهم للمباهلة.

وبمعني آخر: إنّ المباهلة في اللغة تعني الملاعنة ودعاء كلّ طرف على الآخر، وهي إنّما يتوسّل بها في مقام الإحتجاج وإقامة الحجّة من كلّ طرف على مدّعاه في قبال الآخر - كما يشير إلى ذلك صدر الآية( فَمَنْ حَاجَّكَ ) - وعند عدم استجابة أحد الطرفين لحجّة الطرف الآخر، فتكون المباهلة نوعاً من حكم الله بين الطرفين وكأنّه استعجال لحكم الله وقضائه الأخروي إلى هذه النشأة الدنيوية.

ولا ريب أنّ أهمية وخطورة المباهلة تتبع مورد المباهلة، فكلّما ازداد خطورةً اختلفت أهمية حكم الله وفصل قضائه وبالتالي اختلفت نوعية حكمه تعالى، كما أنّ مقتضى ماهية المباهلة كون طرفي المباهلة هما المتداعيان، أي: كلٌّ منهما صاحب دعوة في قبال الآخر، فكلٌ منهما هو صاحب دعوى المتحمل لتلك الدعوى، كما هو الحال في بقية النزاعات والخصومات أن يكون كلّ منهما على تقدير صدق دعواه وثبوتها هو صاحب الحق ومن له صلة بالحق، كما لا معنى للنيابة في الخصومة في مقام الحلف وما هو من قبيله كالمباهلة.

٩٩

وإذ تبيّنتْ ماهية المباهلة حكماً وموضوعاً ومتعلّقاً، يتبيّن أنّ الخمسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم، هم أصحاب الدعوة للدين بالأصالة، وأنّ كلاً منهم ذو صلة وشأن في حقانية الدين وصدق البعثة النبويّة، ومعني صدقهم في دعواهم أنّ كلاً منهم يخبر عن علمه بصدق الرسالة ونزول الوحي على النبيّ صلّى الله عليه وآله وانبعاثه بدين الإسلام.

ومن ثَمّ لابدّ أن تكون علومهم لدنّيه تؤهّلهم للتصدّي لهذه الدعوة، إذ بالعلم اللدنيّ وحده يمكن الإطّلاع على نزول الوحي، وبالتالي فإنّ مسؤولية حفظ الدين وحمايته تقع على الخمسة بنحو المشاركة، مما يدلل على وحدة سنخ المقام والمنصب الشرعي- عدا النبوّة - فضلاً عن ولايتهم الشرعية على الدين.

الجهة الثانية:

ما ورد في الحديث القدسي: «لولاك ما خلقت الأفلاك ولولا عليّ لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما جميعاً ».

ولتفسير الحديث ثلاثة أوجه:

الأول: الوجه الكلامي:

قد يتوهّم في باديء النظر أنّ معناه هو أفضلية عليّ أو فاطمة عليهما السلام بالنسبة إلى الرسول صلي الله عليه وآله، وليس كذلك فإنّ الرسول صلّى

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210