المزار الكبير

المزار الكبير8%

المزار الكبير مؤلف:
المحقق: جواد القيّومي الإصفهاني
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-92002-0-7
الصفحات: 702

المزار الكبير
  • البداية
  • السابق
  • 702 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187481 / تحميل: 6373
الحجم الحجم الحجم
المزار الكبير

المزار الكبير

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٢٠٠٢-٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الباب (١١)

ذكر العمل بالمسجد الجامع بالكوفة

فإذا اتيته فقف على الباب المعروف بباب الفيل ، فإنه روي عنمولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه أنه قال : ادخل إلى جامعالكوفة من الباب الأعظم فإنه روضة من رياض الجنة(١) .

فإذا أردت الدخول فقف على الباب وقل :

السلام على رسول الله ، السلام على أمير المؤمنين ورحمة اللهوبركاته ، ومنتهى مشاهده ، وموضع مجلسه ، ومقام حكمته ، وآثارآبائه ، آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل ، وتبيان تبيانه(٢) .

السلام على الإمام الحكيم(٣) ، الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم ،القائم بالقسط ، الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، والشرك والتوحيد ،والكفر والايمان ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

اشهد يا أمير المؤمنين وخاصة المنتجبين وزين الصديقينوصابر الممتحنين ، انك حكم الله في ارضه وقاضي امره ، وبابحكمته ، وعاقد عهده ، وكهف النجاة ، ومنهاج التقى ، والدرجة العليا ،

__________________

(١) عنه البحار ١٠٠ : ٤٠٩ ، رواه الشهيد في مزاره : ٢٢٩.

(٢) في بعض المصادر : بنيان بيناته ، وفي البحار : بنيان بنيانه اي الأبنية التي بنيت فيمواضع ظهرت فيها معجزاته ، كبيت الطست.

(٣) الحليم ( خ ل ).

١٦١

ومهيمن القاضي الاعلى ، يا أمير المؤمنين بك أتقرب إلى الله تعالىزلفى ، وأنت وليي وسيدي ووسيلتي في الدنيا والآخرة.

ثم تدخل المسجد وتقول :

الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، هذا مقام العائذ بالله وبمحمد ،وبولاية أمير المؤمنين والأئمة المهديين الصادقين ، الناطقينالراشدين ، الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، رضيت بهمأئمة وهداة وموالي ، سلمت لأمر الله لا أشرك به شيئا ، ولا اتخذ مع اللهوليا ، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا ، حسبي الله وأولياء الله.

اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبدهورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان عليا وليه ، والأئمة المهديين منذريتهعليهم‌السلام أوليائي ، وحجة الله على خلقه(١) .

ثم تصير إلى السابعة مما يلي الأنماط الرابعة ، تصير إلى الأسطوانةبمقدار سبعة أذرع أقل أو أكثر.

فقد روي عن مولانا الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام انه جاء في أيامالسفاح حتى دخل من باب الفيل فتياسر قليلا ثم دخل فصلى عندالأسطوانة الرابعة ، وهي بحذاء الخامسة ، فقيل له في ذلك فقال : تلكأسطوانة إبراهيمعليه‌السلام (٢) .

__________________

(١) رواه السيد في مصباح الزائر : ٣٩ ، والشهيد في مزاره : ٢٣١ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤٠٩.

(٢) رواه في الكافي ٣ : ٤٩٣ ، التهذيب ٣ : ٢٥١ ، عنهما الوسائل ٥ : ٢٦٤ ، البحار ١٠٠ : ٤٠١.

ذكره الشهيد في مزاره : ٢٣٢ ، والسيد في مصباح الزائر : ٣٩ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٠.

١٦٢

الصلاة والدعاء عندها ، تصلي أربع ركعات وتقول

السلام على عباد الله الصالحين الراشدين ، الذين اذهب الله عنهمالرجس وجعلهم أنبياء المرسلين ، وحجة على الخلق أجمعين ، وسلامعلى المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، ذلك تقدير العزيز العليم.

وتقول :

نحن على وصيتك يا ولي المؤمنين التي أوصيت بها ذريتك منالمرسلين والصديقين ، نحن من شيعتك وشيعة نبيك نبينا محمد عليهالسلام وعليك وعلى جميع المرسلين والأنبياء والصديقين ، وملةإبراهيم ، ودين محمد النبي الأمي والأئمة المهديين ، وولاية عليأمير المؤمنين.

السلام على البشير النذير ، وصلوات الله ورحمته ورضوانهوبركاته على وصيه وخليفته وحجته ، الشاهد لله على خلقه ، عليأمير المؤمنين ، الصديق الأكبر ، والفاروق المبين ، الذي اخذت بيعتهعلى العالمين ، ورضيت بهم أوليائي وموالي وحكاما ، في نفسيوولدي ، وأهلي ومالي ، وقسمي وحلي واحرامي ، واسلامي وديني ،ودنياي وآخرتي ، ومحياي ومماتي.

أنتم الحكمة في الكتاب ، وفصل المقام ، وفصل الخطاب ، واعينالحي الذي لا ينام ، وأنتم حكماء(١) الله ، وبكم حكم الله ، وبكم عرف

__________________

(١) حكم ( خ ل ).

١٦٣

حق الله ، لا إله إلا الله ، وأنتم نور الله من بين أيدينا ومن خلفنا

أنتم سنة الله يسبق بها القضاء يا أمير المؤمنين ، انا لك مسلمتسليما ، وعليك مهيمنا سلما ، لا أشرك بالله ربا ولا اتخذ وليا ، الحمدلله الذي هداني بكم وما كنت لأهتدي لولا أن هدانا الله ، الله أكبر اللهأكبر ، الحمد لله على ما هدانا(١) .

ثم تصلي في صحن المسجد أربع ركعات للحوائج ، ركعتينبالحمد و( قل هو الله أحد ) ، وركعتين بالحمد و( انا أنزلناه ) ، فإذافرغت فسبح تسبيح الزهراءعليها‌السلام .

فقد روي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال لبعض أصحابه : يا فلان اماتغدو في الحاجة ، اما تمر في المسجد الأعظم عندكم بالكوفة؟ قال : بلى ،قال : فصل فيه أربع ركعات وقل :

الهي ان كنت عصيتك فاني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك ،لم اتخذ لك ولدا ولم ادع لك شريكا ، وقد عصيتك في أشياء كثيرة علىغير وجه المكابرة لك ، ولا الاستكبار عن عبادتك ، ولا الجحودلربوبيتك ، ولا الخروج عن العبودية لك ، ولكن اتبعت هواي ، وأزلنيالشيطان بعد الحجة والبيان ، فان تعذبني فبذنوبي غير ظالم أنت لي ،وان تعف عني وترحمني فبجودك وكرمك يا كريم.

وتقول أيضا :

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٣٢ ، والسيد في مصباح الزائر : ٣٩ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٠.

١٦٤

غدوت بحول الله وقوته ، غدوت بغير حول مني ولا قوة ، ولكنبحول الله وقوته ، يا رب أسألك بركة هذا البيت وبركة أهله ، وأسألك انترزقني رزقا حلالا طيبا ، تسوقه إلي بحولك وقوتك ، وانا خافض فيعافيتك(١) .

الصلاة والدعاء عند الثالثة مما يلي باب كندة لزين العابدين علي بنالحسينعليهما‌السلام بعد ثلاث أساطين من باب كندة.

ثم صر في آخرها مما يلي القبلة ، ثم تصلي ركعتين وقل :

بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم ان ذنوبي قد كثرت ولم يبق الارجاء عفوك ، وقد قدمت آلة الحرمان ، وأسألك ما لا استوجبه عليك ،اللهم ان تعذبني فبذنوبي لم تظلمني شيئا وان تغفر لي فخير راحم أنتيا سيدي.

اللهم أنت أنت وانا انا ، أنت العواد بالمغفرة وانا العواد بالذنوب ،وأنت المتفضل بالحكم وانا العواد بالجهل.

اللهم فاني أسألك يا كنز الضعفاء ، ويا عظيم الرجاء ، ويا منقذالغرقى ، يا منجي الهلكى ، يا مميت الاحياء ، يا محيى الموتى ، أنت اللهلا إله إلا أنت ، سجد لك شعاع الشمس(٢) ، ودوي الماء ، ونور القمر ،

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٣٤ ، عنه وعن المزار ، البحار ١٠٠ : ٤١٤ ، المستدرك ٦ : ٣١٣.

(٢) السجود هنا مستعمل في معناه اللغوي ، اي تذلل وانقاد وجرى بأمرك وتدبيرك فيه.

١٦٥

وظلمة الليل ، وضوء النهار ، وخفقان الطير(١)

فأسألك اللهم يا عظيم بحقك على محمد وآل محمد الصادقين ،وبحق محمد وآل محمد الصادقين عليك ، وبحقك على علي وبحقعلي عليك ، وبحقك على فاطمة وبحق فاطمة عليك ، وبحقك علىالحسن وبحق الحسن عليك ، وبحقك على الحسين وبحق الحسينعليك ، فان حقوقهم من أفضل انعامك عليهم ، وبالشأن الذي لكعندهم ، وبالشأن الذي لهم عندك.

صل يا رب عليهم صلاة دائمة منتهى رضاك ، واغفر لي الذنوبالتي بيني وبينك ، وأتمم نعمتك علي كما أتممتها على آبائي من قبل ،ولا تجعل لاحد من المخلوقين علي فيها امتنانا ، وامنن علي كما مننتعلى آبائي من قبلي ، يا كهيعص ، اللهم صل على محمد وآل محمدواستجب لي دعائي فيما سألتك.

ثم ضع خدك الأيمن علي الأرض وقل :

يا سيدي يا سيدي صل على محمد وآل محمد واغفر ليواغفر لي.

وأكثر من قولك ذلك مهما أمكنك ، واخشع وابك ، وكذلك تقولفي الخد الأيسر والسجود الأخير(٢) .

__________________

(١) دوي الماء : صوته عند الجري والتحرك ، وخفقان الطائر طيرانه وضربه بجناحيه.

(٢) رواه الشهيد في مزاره : ٢٣٦ ، والسيد في مصباح الزائر : ٤٢ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٦.

١٦٦

الصلاة والدعاء عند الأسطوانة الخامسة

روي عن مولانا أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنه قال لبعض أصحابه : يافلان إذا دخلت المسجد من الباب الثاني عن ميمنة المسجد ، فعد خمسةأساطين ، اثنتان منها في الظلال وثلاث منها في صحن الحائط ، فصلهناك ، فعند الثالثة مصلى إبراهيم ، وهي الخامسة من المسجد ركعتين ،وقل :

السلام على أبينا ادم وامنا حواء ، السلام على هابيل المقتول ظلماوعدوانا على مواهب الله(١) ورضوانه ، السلام على شيث صفوة اللهالمختار الأمين ، وعلى الصفوة الصادقين من ذريته الطيبين ، أولهمواخرهم.

السلام على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وعلى ذريتهمالمختارين ، السلام على موسى كليم الله ، السلام على عيسى روح الله.

السلام على محمد حبيب الله ، السلام على المصطفين علىالعالمين ، السلام على أمير المؤمنين وذريته الطيبين الطاهرين ورحمةالله وبركاته ، السلام عليك في الأولين.

السلام عليك في الآخرين ، السلام على فاطمة الزهراء ، السلامعلى الرقيب الشاهد لله على الأمم لله رب العالمين.

__________________

(١) اي المقتول لأجل مواهب الله ، أو كائنا عليها.

١٦٧

اللهم صل على محمد واله واكتبني عندك من المقبولينواجعلني من الفائزين المطمئنين الذين لا خوف عليهم ولا هميحزنون(١) .

الصلاة عند السابعة والدعاء :

وبالاسناد مرفوعا إلى أبي حمزة الثمالي رحمة الله عليه قال : بيناانا قاعد يوما في المسجد عند السابعة ، إذا برجل مما يلي أبواب كندة قددخل ، فنظرت إلى أحسن الناس وجها ، وأطيبهم ريحا ، وأنظفهم ثوبا ،معمم بلا طيلسان ولا ازار ، عليه قميص ودراعة وعمامة ، وفي رجليهنعلان عربيان ، فخلع نعليه ، ثم قام عند السابعة ورفع مسبحتيه حتى بلغتاشحمتي اذنيه ، ثم أرسلهما بالتكبير ، فلم يبق في بدني شعرة الا قامت ،ثم صلى أربع ركعات أحسن ركوعهن وسجودهن ، وقال :

الهي ان كنت قد عصيتك فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك ،الايمان بك ، منا منك به علي لا منا مني به عليك ، لم اتخذ لك ولداولم ادع لك شريكا.

وقد عصيتك على غير وجه المكابرة(٢) ، ولا الخروج عنعبوديتك ، ولا الجحود لربوبيتك ، ولكن اتبعت هواي ، وأزلني الشيطان

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٣٨ ، عنه البحار ١٠٠ : ٣٨٨.

(٢) المكابرة : المعاندة.

١٦٨

بعد الحجة علي والبيان ، فان تعذبني فبذنوبي غير ظالم لي ، وان تعفعني فبجودك وكرمك ، يا كريم.

ثم خر ساجدا يقولها حتى انقطع نفسه ، وقال أيضا في سجوده :

يا من يقدر على قضاء حوائج السائلين ، يا من يعلم ضميرالصامتين ، يا من لا يحتاج إلى التفسير ، يا من يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور ، يا من انزل العذاب على قوم يونس وهو يريد ان يعذبهمفدعوه وتضرعوا إليه فكشف عنهم العذاب ، ومتعهم إلى حين.

قد ترى مكاني ، وتسمع كلامي ، وتعلم حاجتي ، فاكفني ما أهمنيمن أمر ديني ودنياي واخرتي ، يا سيدي يا سيدي ـ سبعين مرة.

ثم رفع رأسه ، فتأملته فإذا هو مولاي زين العابدين علي بن الحسينعليهما‌السلام ، فانكببت علي يديه أقبلهما ، فنزع يده مني وأومأ إلي بالسكوت ،فقلت : يا مولاي انا من قد عرفته في ولائكم فما الذي أقدمك إلى هاهنا ،فقال : هو لما رأيت(١) .

الصلاة والدعاء عند باب أمير المؤمنين عليه‌السلام للحاجة :

تصلي ركعتين وتقول :

اللهم إني حللت بساحتك لعلمي بوحدانيتك وصمدانيتك ، وانهلا قادر على قضاء حاجتي غيرك ، وقد علمت يا رب انه كل ما شاهدت

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٣٩ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٣٨٨.

١٦٩

نعمتك علي اشتدت فاقتي إليك ، وقد طرقني يا رب من مهم أمري ما قدعرفته قبل معرفتي ، لأنك عالم غير معلم.

فاسالك بالاسم الذي وضعته على السماوات فانشقت ، وعلىالأرضين فانبسطت ، وعلى النجوم فانتثرت ، وعلى الجبال فاستقرت ،واسالك بالاسم الذي جعلته عند محمد ، وعند علي ، وعند الحسنوالحسين ، وعند الأئمة كلهم صلوات الله عليهم أجمعين ، ان تصليعلى محمد وال محمد وان تقضي لي يا رب حاجتي ، وتيسر ليعسيرها ، وتكفيني مهمها ، وتفتح لي قفلها ، فان فعلت فلك الحمد ، وانلم تفعل فلك الحمد ، غير جائر في حكمك ، ولا حائف(١) في عدلك.

ثم تبسط خدك الأيمن على الأرض ، وتقول :

اللهم ان يونس بن متي عبدك ونبيك دعاك في بطن الحوتفاستجبت له ، وانا أدعوك فاستجب لي فبحق محمد وال محمد عليك.

وتدعو بما تحب ، وتقلب خدك الأيسر وتقول :

اللهم أمرت بالدعاء وتكفلت بالإجابة ، وانا أدعوك كما امرتنيفصل على محمد وآل محمد واستجب لي كما وعدتني يا كريم.

ثم تعود إلى السجود وتقول :

يا عز كل ذليل ، يا مذل كل عزيز ، تعلم كربتي فصل على محمد

__________________

(١) حاف عليه : جار عليه وظلمه.

١٧٠

وال محمد وفرج عني يا كريم(١)

صلاة أخرى للحاجة :

تصلي عند باب أمير المؤمنينعليه‌السلام أربع ركعات وتقول :

اللهم إني أسألك يا من لا تراه العيون ، ولا تحيط به الظنون ،ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيره الحوادث ، ولا تفنيه الدهور ، يعلممثاقيل الجبال ، ومكائيل البحار ، وورق الأشجار ، ورمل القفار ، وماأضاءت به الشمس والقمر ، واظلم عليه الليل ووضح به النهار ،لا تواري منك سماء سماء ، ولا ارض أرضا ، ولا جبل ما في أصله ،ولا بحر ما في قعره ، أسألك ان تصلي على محمد وآل محمد وانتجعل خير أمري آخره ، وخير أعمالي خواتيمها ، وخير أيامي يوم ألقاك ،انك على كل شئ قدير.

اللهم من أرادني بسوء فارده ، ومن كادني فكده ، ومن بغاني بهلكةفأهلكه ، واكفني ما أهمني ممن ادخل همه علي ، اللهم أدخلني فيدرعك الحصينة ، واسترني بسترك الواقي.

يا من يكفي كل شئ ولا يكفي منه شئ ، اكفني من أمر الدنياوالآخرة ، وصدق قولي وفعالي ، يا شفيق يا رفيق فرج عني المضيقولا تحملني ما لا أطيق.

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٤٢ ، والسيد في مصباح الزائر : ٤٤ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٧.

١٧١

اللهم احرسني بعينك التي لا تنام ، وارحمني بقدرتك علي ياارحم الراحمين ، يا علي يا عظيم أنت عالم بحاجتي وعلى قضائها قدير ،وهي لديك يسيرة ، وانا إليك فقير ، فمن بها علي يا كريم ، انك على كلشئ قدير.

ثم تسجد وتقول :

الهي قد علمت حوائجي فصل على محمد وآله واقضها ، وقدأحصيت ذنوبي فصل على محمد وآله واغفرها لي يا كريم.

ثم تقلب خدك الأيمن وتقول :

ان كنت بئس العبد فأنت نعم الرب ، افعل بي ما أنت أهله ولا تفعلبي ما انا أهله يا ارحم الراحمين.

ثم تقلب خدك الأيسر وتقول :

الهي ان عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك.

وتعود إلى السجود وتقول :

ارحم من أساء واقترف ، واستكان واعترف(١) .

الصلاة والدعاء في مصلى أمير المؤمنينعليه‌السلام :

تصلي ركعتين وتقول :

يا من أظهر الجميل وستر القبيح ، يا من لا يؤاخذ بالجريرة

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٤٤ ، والسيد في مصباح الزائر : ٤٥ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٧.

١٧٢

ولم يهتك الستر والسريرة ، يا عظيم العفو ، يا حسن التجاوز ، يا واسعالمغفرة ، يا باسط اليدين بالرحمة ، يا صاحب كل نجوى ، يا منتهى كلشكوى ، يا كريم الصفح ، يا عظيم الرجاء ، يا سيدي صل على محمد وآلمحمد وافعل بي ما أنت أهله يا كريم(١) .

وتقول أيضا :

الهي قد مد إليك الخاطئ المذنب يديه لحسن ظنه بك ، الهي قدجلس المسئ بين يديك فلا تخيبه برحمتك من فضلك ، الهي قد جثاالعائد إلي المعاصي بين يديك ، الهي جاءك العبد الخاطئ فزعا مشفقا ،ورفع إليك طرفه حذرا راجيا ، وفاضت عبرته مستغفرا نادما ، الهيفصل على محمد وآل محمد واغفر لي برحمتك يا خير الغافرين(٢) .

مناجاة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام :

اللهم إني أسألك الأمان يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى اللهبقلب سليم ، وأسألك الأمان يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنياتخذت مع الرسول سبيلا.

واسالك الأمان يوم يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصيوالاقدام ، وأسألك الأمان يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٤٦ ، والسيد في مصباح الزائر : ٤٥ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٨.

(٢) رواه الشهيد في مزاره : ٢٤٦ ، والسيد في مصباح الزائر : ٤٥ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١٨.

١٧٣

عن والده شئ ، ان وعد الله حق ، واسالك الأمان يوم لا ينفع الظالمينمعذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ، وأسألك الأمان يوم لا تملكنفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله.

وأسألك الأمان يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبتهوبنيه ، لكل امرئ منهم يؤمئذ شأن يغنيه ، وأسألك الأمان يوم يودالمجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلتهالتي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ، كلا انها لظى ، نزاعةللشوى.

مولاي يا مولاي أنت المولى وانا العبد ، وهل يرحم العبد الاالمولى ، مولاي يا مولاي أنت المالك وانا المملوك ، وهل يرحمالمملوك الا المالك ، مولاي يا مولاي أنت العزيز وانا الذليل ، وهل يرحمالذليل الا العزيز.

مولاي يا مولاي أنت الخالق وانا المخلوق ، وهل يرحم المخلوقالا الخالق ، مولاي يا مولاي أنت العظيم وانا الحقير ، وهل يرحم الحقيرالا العظيم ، مولاي يا مولاي أنت القوي وانا الضعيف ، وهل يرحمالضعيف الا القوي.

مولاي يا مولاي أنت الغني وانا الفقير ، وهل يرحم الفقير الاالغني ، مولاي يا مولاي أنت المعطي وانا السائل ، وهل يرحم السائل الاالمعطي.

١٧٤

مولاي يا مولاي أنت الحي وانا الميت وهل يرحم الميت الاالحي ، مولاي يا مولاي أنت الباقي وانا الفاني ، وهل يرحم الفاني الاالباقي ، مولاي يا مولاي أنت الدائم وانا الزائل ، وهل يرحم الزائل الاالدائم.

مولاي يا مولاي أنت الرازق وانا المرزوق ، وهل يرحم المرزوقالا الرازق ، مولاي يا مولاي أنت الجواد وانا البخيل ، وهل يرحم البخيلالا الجواد ، مولاي يا مولاي أنت المعافي وانا المبتلى ، وهل يرحمالمبتلى الا المعافي.

مولاي يا مولاي أنت الكبير وانا الصغير ، وهل يرحم الصغير الاالكبير ، مولاي يا مولاي أنت الهادي وانا الضال ، وهل يرحم الضال الاالهادي ، مولاي يا مولاي أنت الرحمن(١) وانا المرحوم ، وهل يرحمالمرحوم الا الرحمن ، مولاي يا مولاي أنت السلطان وانا الممتحن ، وهليرحم الممتحن الا السلطان.

مولاي يا مولاي أنت الدليل وانا المتحير ، وهل يرحم المتحير الاالدليل ، مولاي يا مولاي أنت الغفور وانا المذنب ، وهل يرحم المذنبالا الغفور ، مولاي يا مولاي أنت الغالب وانا المغلوب ، وهل يرحمالمغلوب الا الغالب ، مولاي يا مولاي أنت الرب وانا المربوب وهليرحم المربوب الا الرب.

__________________

(١) في بعض المصادر في الموضعين : الراحم.

١٧٥

مولاي يا مولاي أنت المتكبر وانا الخاشع ، وهل يرحم الخاشع الاالمتكبر ، مولاي يا مولاي ارحمني برحمتك ، وارض عني بجودكوكرمك ، يا ذا الجود والاحسان ، والطول والامتنان ، برحمتك يا ارحمالراحمين(١) .

الصلاة والدعاء على دكة الصادق عليه‌السلام :

تصلي ركعتين وتقول بعدهما :

يا صانع كل مصنوع ، ويا جابر كل كسير ، يا حاضر كل ملا ، ياشاهد كل نجوى ، يا عالم كل خفية ، يا شاهدا غير غائب ، ويا غالبا غيرمغلوب ، ويا قريبا غير بعيد ، ويا مؤنس كل وحيد ، ويا حي حين لا حيغيره ، يا محيي الموتى ومميت الاحياء ، القائم على كل نفس بما كسبت ،صل على محمد وآل محمد.

وادع بما أحببت(٢) .

الصلاة على دكة القضاء :

تصلي ركعتين وتقول :

__________________

(١) عنه وعن مزار الشهيد : ٢٤٨ ، البحار ١٠٠ : ٤١٩.

أورده الكفعمي في البلد الأمين : ٣١٩ ، عنه البحار ٩٤ : ١٠٩.

(٢) رواه الشهيد في مزاره : ٢٥١ ، والسيد في مصباح الزائر : ٥١ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤٢٤.

١٧٦

يا مالكي ومملكي ومعتمدي بالنعم الجسام بغير استحقاقوجهي خاضع لما تعلوه الاقدام(١) لجلال وجهك الكريم ، لا تجعل هذهالضغطة الشديدة ، ولا هذه المحنة متصلة باستيصال الشافة(٢) ، وامنحنيمن فضلك ما لم تمنح به أحدا من غير مسألة.

انك القديم الأول الذي لم يزل ولا يزال ، وصل على محمد وآلمحمد وافعل بي ما أنت أهله(٣) .

زيارة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه :

تقف على بابه وتقول :

سلام الله وسلام ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين وعبادهالصالحين وجميع الشهداء والصديقين ، والزاكيات الطيبات فيماتغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل.

اشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ،والوصي المبلغ ، والمظلوم المهتضم.

__________________

(١) اي اسجد بوجهي الذي هو أشرف أعضائي على التراب الذي هو أذل الأشياء ، ويوطأعليه بالاقدام ، خضوعا لجلال وجهك الكريم.

(٢) الشافة : قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوي فتذهب وإذا قطعت مات صاحبها ،استأصل الله شافته اي أذهبه كا تذهب تلك القرحة ، أو معناه ازاله من أصله.

(٣) رواه الشهيد في مزاره : ٢٥٢ ، والسيد في مصباح الزائر : ٤٠ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤١١.

١٧٧

فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين وعن الحسن والحسينأفضل الجزاء ، بما صبرت واحتسبت وأعنت ، فنعم عقبى الدار ، لعنالله من خذلك وغشك.

اشهد انك قتلت مظلوما وان الله منجز لكم ما وعدكم ، جئتك ياعبد الله وافدا إليكم ، وقلبي لكم مسلم وانا لكم تابع ، ونصرتي لكمعدة ، حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين ، فمعكم معكم لا مععدوكم ، اني بكم وبآبائكم من المؤمنين ، وبمن خالفكم وقتلكم منالكافرين ، قتل الله أمة قتلكم بالأيدي والألسن.

ثم ادخل وانكب على القبر وقل :

السلام عليك أيها العبد الصالح ، المطيع لله ولرسولهولأمير المؤمنين وللحسن والحسين صلى الله عليهم وسلم ، السلامعليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته ، وعلى روحك وبدنك.

اشهد واشهد الله انك مضيت على ما مضى به البدريونوالمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون في جهاد أعدائه ، المبالغونفي نصرة أوليائه ، الذابون عن أحبائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء ، وأوفرجزاء أحد ممن وفى ببيعته ، واستجاب له دعوته ، وأطاع ولاة امره.

اشهد انك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود ،فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك منجنانه أفسحها منزلا ، وأفضلها غرفا ، ورفع ذكرك في العليين ، وحشرك

١٧٨

مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

اشهد انك لم تهن ولم تنكل ، وانك مضيت على بصيرة من امرك ،مقتديا بالصالحين ، ومتبعا للنبيين ، فجمع الله بيننا وبينك وبين رسولهوأوليائه في منازل المخبتين ، فإنه ارحم الراحمين.

ثم انحرف إلى عند الرأس ، فصل ركعتين وصل بعدها ما بدا لك ،وسبح وادع بما أحببت ، وقل :

اللهم صل على محمد وآل محمد ولا تدع لي ذنبا الا غفرته ،ولاهما الا فرجته ، ولا مرضا الا شفيته ، ولا عيبا الا سترته ، ولا شملا الاجمعته ، ولا غائبا الا حفظته وأديته ، ولا عريا الا كسوته ، ولا رزقا الابسطته ، ولا خوفا الا آمنته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيهارضى ولي فيها صلاح الا قضيتها ، يا ارحم الراحمين.

فإذا أردت وداعهرضي‌الله‌عنه تقف عليه كوقوفك الأول وقل :

استودعك الله واسترعيك(١) واقرأ عليك السلام ، آمنا باللهوبرسوله وبكتابه وبما جاء به من عند الله ، اللهم اكتبنا مع الشاهدين ،اللهم لا تجعله آخر العهد من زيارتي قبر ابن عم نبيكصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وارزقني زيارته ما أبقيتني ، واحشرني معه ومع آبائه في الجنان ،وعرف بيني وبينه وبين رسولك وأوليائك.

اللهم صل على محمد وآل محمد وتوفني على الايمان بك ،

__________________

(١) استرعاه إياه : استحفظه ذكره.

١٧٩

والتصديق برسولك والولاية لعلي بن أبي طالب والأئمةعليهم‌السلام .

وادع لنفسك ولوالديك وللمؤمنين والمؤمنات ، وأكثر من الدعاءما شئت ، واخرج في دعة الله(١) .

زيارة هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه

تقف على قبره ، وتسلم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول :

سلام الله العظيم وصلواته عليك يا هاني بن عروة ، السلام عليكأيها العبد الصالح ، الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين وللحسنوالحسين ، اشهد انك قتلت مظلوما ، فلعن الله من قتلك واستحلدمك ، وحشى الله قبورهم نارا.

اشهد انك لقيت الله وهو عنك راض بما فعلت ، ونصحت للهولرسوله ، وبلغت درجة الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداءبما نصحت لله ولرسوله مجتهدا ، وبذلت نفسك في ذات اللهومرضاته ، فرحمك الله ورضي عنك ، وحشرك مع محمد وآلهالطاهرين ، وجمعنا وإياك معهم في دار النعيم ، والسلام عليك ورحمةالله وبركاته.

ثم صل عنده ما بدا لك ، وادع لنفسك بما شئت ، وقبله وانصرف(٢) .

__________________

(١) رواه الشهيد في مزاره : ٢٧٨ ، والسيد في مصباح الزائر : ٥١ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤٢٨.

(٢) رواه الشهيد في مزاره : ٢٨٢ ، والسيد في مصباح الزائر : ٥٤ ، عنهما البحار ١٠٠ : ٤٢٩.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

بكاءً، كما في سورة الدخان(1) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام)، مثل: ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام)، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار وفوق الحيطان وغير ذلك.

أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها

نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات وإشكالات ونتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً، فهناك عدّة نظريات وآراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.

الوجه الأوّل: أنّ أدلة وروايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل، مثل:(إنّ مَن بكى ودَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات - بتعبيرهم - مضمونها إسرائيلي، شبيه لمـَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة، فهي - بزعم هؤلاء - إغراء بالذنوب وإغراء للمعاصي، فلا يمكن العمل بهذه الروايات؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها، وهو مضمون دخيل كما عبّروا، وهذا الوجه - في الحقيقة - يتألّف من أمرين:

____________________

(1) الدخان: 29.

٣٠١

الأول: ضعفُ سند هذه الروايات.

الثاني: ضعفُ المضمون؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.

الجواب: أمّا ضعفُ السند، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام)، ويحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء، وهذه الروايات الخمسون، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل وغير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى، فكيف نردّ هذه الروايات؟ وبأيّ ميزان دِرائيّ ورجالي نُشكّك بها؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً، منها: الصحيح، والموثّق، والمُعتبر، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا المضمون، فقد طعنَ عليه غير واحد، حيث قالوا: إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام)، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء، ويستشهدون على ذلك: بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة ويخدمون ويحضرون المجالس ويبكون، واتّكالاً على هذه المشاركة وتذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.

الجواب عن هذا الإشكال: إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة، وهي موارد مسلّمة، مثلاً:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

٣٠٢

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) ، فهل هذا إغراء بالصغائر، أو:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!

يُضاف إلى ذلك، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله، منها:

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر) (3) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته، حرّم الله ديباجة وجهه على النار) (4) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب؟! وكذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم وغيرها من الثواب العظيم، وغفران الذنوب، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:

أوّلاً: الترغيب في نفس العمل، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.

ثانياً: فتح باب التوبة وعدم اليأس.

ثالثاً: إنّ البكاء من خشية الله؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب، وليس من باب العلّة التامّة، أي أنّ هناك أموراً وشرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي، من قبيل: عدم الإصرار على الصغائر، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية وغير ذلك، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات

____________________

(1) النساء: 31.

(2) النساء: 48.

(3) روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): 452.

(4) المصدر السابق.

٣٠٣

وتوفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة، لذلك نقول: إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة.

ورابعاً: في آية( إِنْ تَجْتَنِبُوا... ) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل، والذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران، وهذا نظير ما وردَ في باب الحج: أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل(1)، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه، ويُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب، بل المقصود: أنّ هذه مقتضيات، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.

وقد ورد في مضمون بعض الروايات: مَن مات على الولاية، يَشفع ويُشفّع(2)، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.

إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة وأعظم حبل للنجاة، وهو العقيدة، ويؤدّي إلى ضياع الإيمان، حيث قال تعإلى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ

____________________

(1) بحار الأنوار 99: 315 / 6؛ وكذلك في تفسير القمّي 1: 70؛ واللفظ للأخير: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة، ومُحيَ عنه سيّئة، ورُفع له بها درجة، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه، فقال له: استأنِف العمل..) .

(2) ورد في بحار الأنوار 8: 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار) .

٣٠٤

أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى، وإذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة - والعياذ بالله - فليس فيها جانب إغراء، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة، وهي: أنّها تُخلّص الإنسان وتنقذه من حضيض المعاصي والرذائل، وتعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.

فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة، وينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.

وليس مفاد الروايات: أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح، ليس مفادها ذلك؛ إنّما مفاد الروايات: مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه، مثل أثر فريضة الحجّ، وغفران الذنوب مشروط - كما يقال - بالموافاة، والموافاة: اصطلاح كلامي وروائي، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة، وإلاّ فمعَ سوء العاقبة - والعياذ بالله - ترجع عليه السيئات وتُحبط الحسنات ولا تُكتب له.

____________________

(1) الروم: 10.

٣٠٥

فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر وأنواع الظلم والعدوان، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.

وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات، فمنطق الآية:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى، أولئك يقولون: نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟

مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً، بل فيه نوع من إدانة المذنبين، إضافةً إلى فتح باب الأمل وعدم القنوط وعدم اليأس، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات، ولا يقع في طريق المعاصي ويتخبّط في الذنوب.

الوجهُ الثاني: سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً ومتناً ومضموناً، لكن مضمونها غير أبدي، وليس بدائم، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام)، وهي فترة وحقبة التقيّة، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم وإبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء، أمّا في يومنا هذا، فالشيعة - ولله الحمد - يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة، فليست هذه الوسيلة صحيحة.

كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو: حصول غرض معيّن، وهو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام)، أو التولّي لأهل البيت، وإظهار الاستنكار

٣٠٦

والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة، كانت الأفواه مكمّمة، وكانت النفوس في معرض الخطر من الظالم، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك، أمّا في أيّامنا هذه - وقد زال الخوف - فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.

أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.

الجواب: فنقول: أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام، لكن ليس هو تمام غاية البكاء، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة، هذا أوّلاً، وثانياً: ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين، وإلاّ لو حاولت - إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة - بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح وغير نافع، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة، وأنجح علاجاً لهداية الآخرين، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن: نَظري إدراكي، وعَملي انفعالي.

والغاية ليست منحصرة في ذلك، بل هناك عِلل كثيرة - كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء - وحصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.

اعتراض: أمّا ما يقال: بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب، وخَمش الوجوه، ونهاهنّ عن البكاء، فهذا النهي في الواقع مُغيّى

٣٠٧

ومُعلّل، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب، لطمَت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين (عليه السلام):(مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا) (1) .

حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام)، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام)، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام)، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم، وأنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) وخطبها، وخُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(2) .

والسرّ واضح؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان، ومحاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس): 55؛ بحار الأنوار 44: 391 / 2.

(2) وهناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:

سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي منكِ البكاء إذا الحِمام دَهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعك حسرةً مادام مني الروح في جثماني

وإذا قُتلتُ فأنتِ أولى بالذي تأتينهُ يا خيرة النِسوان

مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3: 257.

٣٠٨

الجواب: ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.

وأصلاً؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة، وبين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن، بل البكاء - كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي - هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة، وشدّة التأثّر بها، وشدّة الإذعان والمتابعة لها، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.

ومن غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس وكفعل نفساني، من دون أن يكون هناك إدراك ما، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم، وشدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة، ومن ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة وينفعل بدرجة عالية، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.

وهذا التفاعل: إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم؛ وإنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.

فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام)، والبراءة من أعدائه ومناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).

٣٠٩

وهذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً، وهو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل، والنفرة والارتداع عن الرذائل، وهل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا؟ وهل الغاية في نشر الدين وتبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.

هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول، ولا الحياديّة السلبيّة.

فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً، فيظلّ مرتاباً متردّداً، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف:( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (1) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه، لا هو ينجذب للفضائل، ولا يتأثّر بالرذائل، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص، وهذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق وعلم السير والسلوك؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل ودركات، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.

فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان، وبالتالي التبعيّة.

بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة، وشتّان بين الحالتين!

أضف إلى ذلك: أنّ في البكاء نوعاً من التولّي، حيث إنّ البكاء يدلّ على

____________________

(1) الحديد: 14.

٣١٠

فإذاً، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط وتدبير وحزم، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف، وهو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام)، ولابدّ من لمّ الشَمل وجمع الشِتات للأرامل واليتامى، وإنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.

خلاصة القول: في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة: أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما: أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي، وأن يكون لغاية حقيقيّة وهادفة إيجابيّة، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب، وهو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة، وخَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ إعطاء السامع، أو القارئ، أو المُشاهد، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده، وإنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة، أو ما يعبّر عنه: بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.

فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة.

ويُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي وإيمانه واختياره لمسيرة تلك العِبرة.

الوجهُ الثالث: الذي يُذكر للنقض على البكاء: أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي، أو راتب شهري، أو

٣١١

أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة وانطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون، وإنّهم يحملون العُقد، واستمرارهم بالبكاء واجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة، وكبت نفسي دَفين، فبدل أن يَقدموا على أعمال وبرامج ومراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع، وهذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع)، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي؛ وإنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل، بل نحن عديمو الأمل، لدينا حالة كبت، وهذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.

فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة، فمن اللازم الابتعاد عنها ونبذها جانباً.

فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث: هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة، وهو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب وأبناء الطائفة.

الجواب: فنقول: على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس

٣١٢

والاجتماع والفلسفة: بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة، إذ فيها جناح واحد فقط وهو جناح الإدراك، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.

فعلى عكس زعم المُعترض، تكون هذه حالة صحيحة وسليمة وليست حالة مرضيّة، ولا حالة عُقد، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال، يعني أنّ الذي لا ينفعل، والذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه والذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد وتناقضات، وإلى أن تنفجر يوماً ما، وربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل: سوء الظن بالآخرين، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.

والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة - بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم - نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة، ولا تظهر أشكالها عليه، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد وأكوام من العُقد، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ ومتولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.

فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.

لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن

٣١٣

يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.

فإذاً، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.

الوجهُ الرابع: أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل، كما في سورة البقرة( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل ومُناقض للاستعانة بالله سبحانه.

الجواب: أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 156 ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) .

فنقول: كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه، هل هذا خلاف الصبر؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.

فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر؟ كلاّ.

وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام):(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام)؛ فإنّه فيه مأجور) (3) ، هذا ليس استثناءً

____________________

(1) البقرة: 156 - 157.

(2) البقرة: 156 - 157.

(3) بحار الأنوار 44: 291 / 32. راجع روايات الجزع ص: 312 من هذا الكتاب.

٣١٤

متّصلاً، بل هو استثناء منقطع؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله ويُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره، بل هو - بالعكس - نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).

فقد يقال: أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر وقول:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فلا موضع للبكاء، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك، ونرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي: نبيّ الله يعقوب، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام).

ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل؛ وذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله وقدره، ومآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ وغير إيجابي؛ لأنّه من الضعف وعدم الصمود والطيش، وعدم رباطة الجأش، وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه وتعإلى وقدره، أو مردّه إلى الاعتراض على الله - والعياذ بالله - أو كراهة ما قضى الله سبحانه، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً، مثلاً: صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ وحفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة ومع

٣١٥

توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (1) .

فالصبر ثمّة ليس في محلّه، ومثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:(رَوّوا السيوف من الدماء، تَرووا من الماء) (2) ، و(ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا) (3) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى: مذموم، ومحمود.

ومثلُ ما في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي (عليه السلام):(أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك، فكيف صبرك إذاً، فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر..) (4) .

أي هذا موضع إبراز الشكر لله، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر، نعم، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً، أمّا في مقابل تقدير الله، ليس عليك فقط أن تصبر، بل عليك الشكر والرضا بقضائه وقدره.

فالصبر درجة، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه وقدره فهو أرقى وأسمى.

الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه

____________________

(1) البقرة: 193.

(2) نهج البلاغة 3: 244.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) شرح نهج البلاغة 9: 305.

٣١٦

وبحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى، فتكون مورداً للرضا وللشكر، وهذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران وفقدان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصيبة عُظمى، وتعبيرهم (عليهم السلام):(لم يُصب أحد فيما يُصاب، كما يُصاب بفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة، فهي أعظم مصيبة) .

إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه وقدره، فهذا صحيح وفي محلّه، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس، وعدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.

وفي مصحّحة معاوية بن وهب:(كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)) (1) .

وفي رواية علي بن أبي حمزة:(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور) (2) .

وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام):(وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 505 أبواب المزار - باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).

(2) وسائل الشيعة 14: 507 أبواب المزار باب 66، ح13.

٣١٧

القلوب التي جَزعت واحترَقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا) (1) .

الجَزع: بمعنى الانكسار، ولكنّه هنا ليس انكساراً، وليس بجزع بحقيقته، نعم، جزع من ظلم الأعداء وجزع من رذائل الأداء، وهذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام)، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة، قالت: لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جَرت دموعه على لحيته، فقيل: يا رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟!

فقال:(ليس هذا بكاء؛ وإنّما هذه رحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحم) (2) .

والسرّ في ذلك: هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي، أو بالآداب الإلهيّة، أو بكلمات الله، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام)، فعدم التفاعل الشديد معها ومع هذا الخلق ومع تلك الآداب، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم، وهذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود وحسن، ليس هو من الجزع المذموم، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين ونبذ للرذيلة وأصحابها، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد، وتوجّه إليها وقال: كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ وبأهل بيتكِ، قالت: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(3) .

في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة، وقد أحاطتها هالة من

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 412 أبواب المزار باب 37، ح7.

(2) وسائل الشيعة 3: 282 أبواب الدفن باب 88، ح 8.

(3) بحار الأنوار: 45: 116.

٣١٨

الحُزن والأسى.

الوجهُ الخامس: أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام)، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة، بل هي حالة هيجان واضطراب نفسي، وهذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو: الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام)، والاقتباس من أنوار سيرته، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر ورَويّة.

فإذاً، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة، والحال أنّ المطلوب من الشعائر: هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة، وأخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!

وربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر، وإن اختلفت عناوينها.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض وغايات الشعائر الحسينيّة، وإنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها وتفريغها عن مضمونها.

فالبكاء: صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة، أو من دون إدراك أغراض وغايات وأهداف النهضة الحسينيّة.

٣١٩

الحبّ، وهل التولّي إلاّ الحبّ؟ وهل هناك مصداق للحبّ أوضح وأصدق من البكاء على مصابهم؟ والحُزن لحزنهم؟ والنفرة من أعدائهم؟ وبعبارةٍ أخرى: لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى، فهو نوع من المحافظة على جذور وأسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه وأعدائهم.

نعم، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك، مثل: لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء، كذلك هناك ورايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم:(... ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه...) (1) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.

ومع ذلك، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل - سواء في نثر، أو شعر، أو خطابة - لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.

الوجهُ السادس: البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي، بينما هذه الشحنة التي امتلأ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16: 205.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702