المزار الكبير

المزار الكبير8%

المزار الكبير مؤلف:
المحقق: جواد القيّومي الإصفهاني
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-92002-0-7
الصفحات: 702

المزار الكبير
  • البداية
  • السابق
  • 702 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187455 / تحميل: 6370
الحجم الحجم الحجم
المزار الكبير

المزار الكبير

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٢٠٠٢-٠-٧
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

العلماء بشرعك الزهاد ، ومصابيح الظلم ، وينابيع الحكم ، وأولياءالنعم ، وعصم الأمم ، قرناء التنزيل وآياته ، وامناء التأويل وولاته ،وتراجمة الوحي ودلالاته ، أئمة الهدى ، ومنار الدجى ، وأعلام التقى ،وكهوف الورى ، وحفظة الاسلام ، وحججك على جميع الأنام.

الحسن والحسين ، سيدي شباب أهل الجنة ، وسبطي نبي الرحمةوعلي بن الحسين السجاد زين العابدين ، ومحمد بن علي باقر علمالدين ، وجعفر بن محمد الصادق الأمين ، وموسى بن جعفر الكاظمالحليم ، وعلي بن موسى الرضا الوفي ، ومحمد بن علي البر التقي ،وعلي بن محمد المنتجب الرضي ، والحسن بن علي الهادي الزكي(١) ،والحجة بن الحسن صاحب العصر والزمان ، وصي الأوصياء وبقيةالأنبياء ، المستتر عن خلقك ، والمؤمل لاظهار حقك ، المهدي المنتظر ،والقائم الذي به ينتصر.

اللهم صل عليهم أجمعين ، صلاة باقية في العالمين ، تبلغهم بهاأفضل محل المكرمين ، اللهم ألحقهم في الاكرام بجدهم وأبيهم ، وخذلهم الحق من ظالميهم.

اشهد يا موالي أنكم المطيعون لله ، القوامون بأمره ، العاملونبإرادته ، الفائزون بكرامته ، اصطفاكم بعلمه ، واجتباكم لغيبه ، واختاركملسره ، وأعزكم بهداه ، وخصكم ببراهينه ، وأيدكم بروحه ، ورضيكم

__________________

(١) الزكي ، الرضي ( خ ل ).

٥٦١

خلفاء في ارضه ، ودعاة إلى حقه ، وشهداء على خلقه ، وأنصارا لدينهوحججا على بريته ، وتراجمة لوحيه ، وخزنة لعلمه ، ومستودعالحكمته ، عصمكم الله من الذنوب ، وبرأكم من العيوب ، وائتمنكمعلى الغيوب.

زرتكم يا موالي عارفا بحقكم ، مستبصرا بشأنكم ، مهتديا بهداكم ،مقتفيا لأثركم ، متبعا لسنتكم ، متمسكا بولايتكم ، معتصما بحبلكم ،مطيعا لأمركم ، مواليا لأوليائكم ، معاديا لأعدائكم ، عالما بأن الحق فيكمومعكم ، متوسلا إلى الله بكم ، مستشفعا إليه بجاهكم ، وحق عليه أنلا يخيب سائله ، والراجي ما عنده لزواركم ، والمطيعين لأمركم.

اللهم فكما وفقتني للايمان بنبيك ، والتصديق لدعوته ، ومننتعلي بطاعته واتباع ملته ، وهديتني إلى معرفته ، ومعرفة الأئمة منذريته ، وأكملت بمعرفتهم الايمان ، وقبلت بولايتهم وطاعتهم الأعمال ،واستعبدت بالصلاة عليهم عبادك ، وجعلتهم مفتاحا للدعاء ، وسبباللإجابة ، فصل عليهم أجمعين ، واجعلني بهم عندك وجيها في الدنياوالآخرة ومن المقربين.

اللهم اجعل ذنوبنا بهم مغفورة ، وعيوبنا مستورة ، وفرائضنامشكورة ، ونوافلنا مبرورة ، وقلوبنا بذكرك معمورة ، وأنفسنا بطاعتكمسرورة ، وجوارحنا على خدمتك مقهورة ، وأسمائنا في خواصكمشهورة ، وأرزاقنا من لدنك مدرورة ، وحوائجنا لديك ميسورة ،

٥٦٢

برحمتك يا ارحم الراحمين

اللهم أنجز لهم وعدهم(١) ، وطهر بسيف قائمهم أرضك ، وأقم بهحدودك المعطلة ، وأحكامك المهملة والمبدلة ، وأحيي به القلوبالميتة ، واجمع به الأهواء المتفرقة ، وأجل به صداء الجور عن طريقتك ،حتى يظهر الحق على يديه في أحسن صورته ، ويهلك الباطل وأهلهبنور دولته ، ولا يستخفي بشئ من الحق مخافة أحد من الخلق.

اللهم عجل فرجهم ، وأظهر فلجهم ، واسلك بنا منهجهم ، وأمتناعلى ولايتهم ، واحشرنا في زمرتهم ، وتحت لوائهم ، وأوردنا حوضهم ،واسقنا بكأسهم ، ولا تفرق بيننا وبينهم ، ولا تحرمنا شفاعتهم ، حتى نظفربعفوك وغفرانك ، ونصير إلى رحمتك ورضوانك ، إله الحق ربالعالمين.

يا قريب الرحمة من المؤمنين ، ونحن أولئك ، حقا لا ارتيابا ، يا منإذا أوحشنا التعرض لغضبه آنسنا حسن الظن به ، فنحن واثقون بين رغبةورهبة ارتقابا ، قد أقبلنا لعفوك ومغفرتك طلابا ، وأذللنا لقدرتكوعزتك رقابا ، فصل على محمد وآله الطاهرين ، واجعل دعاءنا بهممستجابا ، وولاءنا لهم من النار حجابا.

اللهم بصرنا قصد السبيل لنعتمده ، ومورد الرشد لنرده ، وبدلخطايانا صوابا ، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ،

__________________

(١) وعدك ( خ ل ).

٥٦٣

يا من تسمى من جوده وكرمه وهابا ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرةحسنة ، وقنا عذاب النار ، إن حقت علينا اكتسابا ، برحمتك يا أرحمالراحمين ، وأنت حسبنا ونعم الوكيل(١) .

باب الوداع لسائر الأئمةعليهم‌السلام ، تقول :

السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ، سلام مودع ،لا سئم ولا قال ورحمة الله وبركاته انه حميد مجيد ، سلام ولي غيرراغب عنكم ، ولا مستبدل بكم ، ولا مؤثر عليكم ، ولا زاهد في قربكم ،لا جعله الله اخر العهد من زيارة قبوركم واتيان مشاهدكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وحشرني الله في زمرتكم ،وأوردني حوضكم ، وجعلني من حزبكم ، وأرضاكم عني ، ومكنني فيدولتكم ، وأحياني في رجعتكم ، وملكني في أيامكم ، وشكر سعييبكم ، وغفر ذنبي بشفاعتكم ، وأقال عثرتي بمحبتكم ، واعلى كعبيبموالاتكم ، وشرفني بطاعتكم ، واعزني بهداكم ، وجعلني ممن ينقلبمفلحا منجحا غانما ، معافا غنيا ، فائزا برضوان الله وفضله وكفايته ،بأفضل ما ينقلب به أحد من زواركم ومواليكم ، ومحبيكم وشيعتكم ،ورزقني الله العود ثم العود ابدا ما أبقاني ، بنية صادقة ، وايمان وتقوىواخبات ، ورزق واسع حلال طيب.

__________________

(١) رواه السيد في مصباح الزائر : ٢٤٦ ، عنه البحار ١٠٢ : ١٧٨.

٥٦٤

اللهم لا تجعله اخر العهد من زيارتهم وذكرهم والصلاة عليهموأوجب لي المغفرة والرحمة ، والخير والبركة ، والفوز والايمانوحسن الإجابة ، كما أوجبت لأوليائك العارفين بحقهم ، الموجبينطاعتهم ، والراغبين في زيارتهم ، المقربين إليك واليهم.

بابي أنتم وأمي ونفسي وأهلي اجعلوني في همكم ، وصيرونيفي حزبكم ، وأدخلوني في شفاعتكم ، واذكروني عند ربكم ، اللهم صلعلى محمد وال محمد وأبلغ أرواحهم وأجسادهم مني السلام ،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(١) .

٢ ـ زيارة أخرى مختصرة جامعة ، ويجزيك في جميع المشاهدعلى ساكنها السلام ، ان تقول :

السلام على أولياء الله وأصفيائه ، السلام على أمناء الله وأحبائه ،السلام على أنصار الله وخلفائه ، السلام على محال معرفة الله ، السلامعلى معادن حكمة الله ، السلام على مساكن ذكر الله ، السلام على عبادالله المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

السلام على مظاهري أمر الله ونهيه ، السلام على الادلاء على الله ،السلام على المستقرين في مرضات الله ، السلام على الممحصين فيطاعة الله.

__________________

(١) رواه الصدوق في العيون ٢ : ٢٧٢ ، عنه البحار ١٠٢ : ١٣٣.

٥٦٥

السلام على الذين من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادالله ، ومن عرفهم فقد عرف الله ، ومن جهلهم فقد جهل الله ، ومناعتصم بهم فقد اعتصم بالله ، ومن تخلى منهم فقد تخلى من الله.

اشهد الله اني سلم لمن سالمكم ، وحرب لمن حاربكم ، مؤمن بماامنتم به ، كافر بما كفرتم به ، محقق لما حققتم ، مبطل لما أبطلتم ، مؤمنبسركم وعلانيتكم ، مفوض في ذلك كله إليكم ، لعن الله عدوكم منالجن والإنس ، وضاعف عليه العذاب الأليم(١) .

الباب (٩)

زيارة مولانا الخلف الصالح صاحب الزمان عليه وعلى آبائه السلام

حدثنا الشيخ الأجل الفقيه العالم أبو محمد عربي بن مسافر العباديرضي‌الله‌عنه قراءة عليه بداره بالحلة السيفية في شهر ربيع الأول سنة

__________________

(١) رواه الكليني في الكافي ٤ : ٥٧٨ ، باسناده عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ،عن هارون بن مسلم ، عن علي بن حسان ، عن الرضا ، عن أبيهعليهما‌السلام ، عنه الشيخ في التهذيب٦ : ١٠٢.

ذكره ابن قولويه في الكامل : ٥٢٢ ، باسناده عن محمد بن الحسين بن مت الجوهري ، عنمحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران ، عن هارون بن مسلم ، عن علي بن حسان ، عن الرضا عليه‌السلام ،عنه البحار ١٠ : ٤٣١ ، ١٠٢ : ١٢٦ ، المستدرك ١٠ : ٣٥٤.

أخرجه الصدوق في العيون ٢ : ٢٧١ ، باسناده عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، عنمحمد بن الحسن الصفار ، عن علي بن حسان ، عن الرضا عليه‌السلام ، عنه البحار ١٠٢ : ١٢٦.

أورده في الفقيه ٢ : ٦٠٨ عن علي بن حسان ، عن الرضا عليه‌السلام .

٥٦٦

ثلاث وسبعين وخمسمائة ، وحدثني الشيخ العفيف أبو البقاء هبة الله بننماء بن علي بن حمدونرحمه‌الله قراءة عليه أيضا بالحلة السيفية ، قالاجميعا : حدثنا الشيخ الأمين أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بنعلي بن طحال المقداديرحمه‌الله بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بنأبي طالب صلوات الله عليه في الطرز الكبير الذي عند رأس الإمامعليه‌السلام في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، قال :حدثنا الشيخ الأجل السيد المفيد أبو علي الحسن بن محمد الطوسيرضي‌الله‌عنه بالمشهد المذكور في العشر الأواخر من ذي العقدة سنةتسع وخمسمائة ، قال : حدثنا السيد السعيد الوالد أبو جعفر محمد بنالحسن الطوسيرضي‌الله‌عنه ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بناشناس البزاز ، قال : أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيى القمي ،قال : حدثنا محمد بن علي بن زنجويه القمي ، قال : حدثنا أبو جعفرمحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، قال :

قال أبو علي الحسن بن اشناس ، وأخبرنا أبو المفضل محمد بنعبد الله الشيباني ان أبا جعفر محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري اخبرهوأجاز له جميع ما رواه ، انه خرج إليه من الناحية ، حرسها الله ، بعدالمسائل والصلاة والتوجه ، أوله :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لا لأمر الله تعقلون ، ولا من أوليائه تقبلون ،حكمة بالغة عن قوم لا يؤمنون ، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

٥٦٧

فإذا أردتم التوجه بنا إلى الله تعالى والينا ، فقولوا كما قال اللهتعالى :( سلام على ال يس ) (١) ، ذلك هو الفضل المبين ، والله ذو الفضلالعظيم ، لمن يهديه صراطه المستقيم.

التوجه :

قد اتاكم الله يا ال يس خلافته وعلم مجاري امره ، فيما قضاهودبره ، واراده في ملكوته ، وكشف لكم الغطاء ، وأنتم خزنته وشهداؤه ،وعلماؤه وامناؤه ، وساسة العباد وأركان البلاد ، وقضاة الاحكام ،وأبواب الايمان.

ومن تقديره منائح العطاء بكم انفاذه محتوما مقرونا ، فما شئ منهالا وأنتم له السبب واليه السبيل ، خياره لوليكم نعمة ، وانتقامه منعدوكم سخطة ، فلا نجاة ولا مفزع الا أنتم ، ولا مذهب عنكم ، يا أعينالله الناظرة ، وحملة معرفته ، ومساكن توحيده في ارضه وسمائه.

وأنت يا حجة الله وبقيته ، كمال نعمته ، ووارث أنبيائه وخلفائه مابلغناه من دهرنا ، وصاحب الرجعة لوعد ربنا التي فيها دولة الحقوفرجنا ، ونصر الله لنا وعزنا.

السلام عليك أيها العلم المنصوب ، والعلم المصبوب ، والغوثوالرحمة الواسعة ، وعدا غير مكذوب ، السلام عليك يا صاحب المرأى

__________________

(١) الصافات : ١٣٠.

٥٦٨

والمسمع(١) الذي بعين الله مواثيقه ، وبيد الله عهوده ، وبقدرة اللهسلطانه.

أنت الحكيم الذي لا تعجله العصبية ، والكريم الذي لا تبخلهالحفيظة(٢) ، والعالم الذي لا تجهله الحمية ، مجاهدتك في الله ذات مشيةالله ، ومقارعتك في الله ذات انتقام الله ، وصبرك في الله ذو أناة الله ،وشكرك لله ذو مزيد الله ورحمته.

السلام عليك يا محفوظا بالله ، الله نور امامه وورائه ، ويمينهوشماله ، وفوقه وتحته ، السلام عليك يا مخزونا(٣) في قدرة الله ، الله نورسمعه وبصره ، السلام عليك يا وعد الله الذي ضمنه ، ويا ميثاق اللهالذي اخذه ووكده ، السلام عليك يا داعي الله ورباني آياته ، السلامعليك يا باب الله وديان دينه.

السلام عليك يا خليفة الله وناصر حقه ، السلام عليك يا حجة اللهودليل ارادته ، السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه ، السلام عليكفي اناء ليلك ونهارك ، السلام عليك يا بقية الله في ارضه.

السلام عليك حين تقوم ، السلام عليك حين تقعد ، السلام عليكحين تقرأ وتبين ، السلام عليك حين تصلي وتقنت ، السلام عليك حين

__________________

(١) اي الذي يرى الخلائق ويسمع كلامهم من غير أن يروه.

(٢) الحفيظة : الحمية والغضب والذب عن المحارم.

(٣) محروزا ( خ ل ).

٥٦٩

تركع وتسجد ، السلام عليك حين تعوذ وتسبح ، السلام عليك حينتهلل وتكبر.

السلام عليك حين تحمد وتستغفر ، السلام عليك حين تمجدوتمدح ، السلام عليك حين تمسي وتصبح ، السلام عليك في الليل إذايغشى والنهار إذا تجلى ، السلام عليك في الآخرة والأولى.

السلام عليكم يا حجج الله ورعاتنا ، وقادتنا وأئمتنا ، وسادتناوموالينا ، السلام عليكم أنتم نورنا ، وأنتم جاهنا أوقات صلواتنا ،وعصمتنا لدعائنا وصلاتنا ، وصيامنا واستغفارنا ، وسائر أعمالنا.

السلام عليك أيها الامام المأمول ، السلام عليك بجوامع السلام ،أشهدك يا مولاي اني اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداعبده ورسوله ، لا حبيب الا هو وأهله ، وان أمير المؤمنينحجته ، وان الحسن حجته ، وان الحسين حجته ، وان علي بن الحسينحجته ، وان محمد بن علي حجته ، وان جعفر بن محمد حجته ، وانموسى بن جعفر حجته ، وان علي بن موسى حجته ، وان محمد بن عليحجته ، وان علي بن محمد حجته ، وان الحسن بن علي حجته ، وأنتحجته ، وان الأنبياء دعاة وهداة رشدكم.

أنتم الأول والاخر وخاتمته ، وان رجعتكم حق لا شك فيها ، يوملا ينفع نفسا ايمانها لم تكن امنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا ،وان الموت حق ، وان منكرا ونكيرا حق ، وان النشر حق ، والبعث حق ،

٥٧٠

وان الصراط حق والمرصاد حق ، وان الميزان حق ، والحساب حق ، وانالجنة والنار حق ، والجزاء بهما للوعد والوعيد حق ، وانكم للشفاعةحق ، لا تردون ، ولا تسبقون بمشية الله ، وبامره تعملون.

ولله الرحمة والكلمة العليا ، وبيده الحسنى ، وحجة اللهالنعمى ، خلق الجن والإنس لعبادته ، أراد من عباده عبادته ، فشقيوسعيد ، قد شقي من خالفكم ، وسعد من أطاعكم.

وأنت يا مولاي فاشهد بما أشهدتك عليه ، تخزنه وتحفظه ليعندك ، أموت عليه وانشر عليه ، واقف به وليا لك ، بريئا من عدوك ، ماقتالمن أبغضكم ، وادا لمن أحبكم ، فالحق ما رضيتموه ، والباطل ماأسخطتموه ، والمعروف ما أمرتم به ، والمنكر ما نهيتم عنه ، والقضاءالمثبت ما استأثرت به مشيتكم ، والمحو ما لا استأثرت به سنتكم.

فلا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ومحمد عبده ورسوله ، عليأمير المؤمنين حجته ، الحسن حجته ، الحسين حجته ، علي حجته ، محمدحجته ، جعفر حجته ، موسى حجته ، علي حجته ، محمد حجته ، عليحجته ، الحسن حجته ، وأنت حجته ، وأنتم حججه وبراهينه.

انا يا مولاي مستبشر بالبيعة التي اخذ الله علي ، شرطه قتالا فيسبيله ، اشترى به أنفس المؤمنين ، فنفسي مؤمنة بالله وبكم يا مولاي ،أولكم وآخركم ، ونصرتي لكم معدة ، ومودتي خالصة لكم ، وبراءتي من

٥٧١

أعدائكم ، أهل الحردة(١) والجدال ثابتة لثاركم ، آنا ولي وحيد(٢) والله الهالحق يجعلني كذلك ، امين امين ، من لي الا أنت فيما دنت ، واعتصمتبك فيه ، تحرسني فيما تقربت به إليك ، يا وقاية الله وستره وبركته ،أغثني أدركني ، صلني بك ولا تقطعني.

اللهم إليك بهم توسلي وتقربي ، اللهم صل على محمد والهوصلني بهم ولا تقطعني ، اللهم بحجتك اعصمني ، وسلامك على اليس مولاي ، أنت الجاه عند الله ربك وربي.

الدعاء بعقب القول :

اللهم إني أسألك باسمك الذي خلقته من كلك ، فاستقر فيكفلا يخرج منك إلى شئ ابدا ، ايا كينون ايا مكون ، ايا متعال ايا متقدس ،ايا مترحم ايا مترائف ، ايا متحنن.

أسألك كما خلقته غضا ان تصلي على محمد نبي رحمتك ،وكلمة نورك ، ووالد هداة رحمتك ، واملأ قلبي نور اليقين ، وصدرينور الايمان ، وفكري نور الثبات ، وعزمي نور التوفيق ، وذكائي نورالعلم ، وقوتي نور العمل ، ولساني نور الصدق ، وديني نور البصائر منعندك ، وبصري نور الضياء ، وسمعي نور وعي الحكمة ، ومودتي نور

__________________

(١) حرد عليه : غضب.

(٢) وجيه ( خ ل ).

٥٧٢

الموالاة لمحمد والهعليهم‌السلام ، ونفسي(١) نور قوة البراءة من أعداءال محمد.

حتى ألقاك وقد وفيت بعهدك وميثاقك ، فلتسعني رحمتك يا ولييا حميد ، بمرآك ومسمعك يا حجة الله دعائي ، فوفني منجزات إجابتي ،اعتصم بك ، معك معك سمعي ورضاي(٢) .

٢ ـ الدعاء للندبة :

قال محمد بن أبي قرة : نقلت من كتاب أبي جعفر محمد بن الحسينابن سفيان البزوفريرضي‌الله‌عنه هذا الدعاء ، وذكر فيه انه الدعاءلصاحب الزمان صلوات الله عليه وعجل فرجه وفرجنا به ، ويستحب انيدعى به في الأعياد الأربعة :

__________________

(١) يقيني ( خ ل ).

(٢) عنه البحار ٥٣ : ١٧٣ ، ١٠٢ : ٩٦.

رواه الطبرسي في الاحتجاج ٢ : ٤٩٢ ، باسناده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ،عنه البحار ٥٣ : ١٧١ ، ٩٤ : ٢ ، ١٠٢ : ٨١.

أورده مع اختلاف السيد في مصباح الزائر ٢٢٣ ، عنه البحار ١٠٢ : ٩٢.

أخرجه في البحار ٩٤ : ٣٦ مع اختلاف عن خط الشيخ الجبعي ، نقلا عن خط الشيخ الأجلعلي بن السكون ، عن أبي محمد عربي بن مسافر العبادي ، عن أبي عبد الله الحسين بن أحمد بنطحال المقدادي ، عن أبي علي الطوسي ، عن والده ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بنحسين البزار ، عن محمد بن أحمد بن يحيى القمي ، عن محمد بن علي بن زنجويه القمي ، عنالحميري.

٥٧٣

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه والهوسلم تسليما.

اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك ، الذيناستخلصتهم لنفسك ودينك ، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم(١) المقيم ، الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، بعد أن شرطت عليهم الزهد فيزخارف هذه الدنيا الدنية وزبرجها(٢) ، فشرطوا لك ذلك ، وعلمت منهمالوفاء به.

فقبلتهم وقربتهم ، وقدمت(٣) لهم الذكر العلي والثناء الجلي ،وأهبطت عليهم ملائكتك ، وكرمتهم بوحيك ، ورفدتهم بعلمك ،وجعلتهم الذرايع(٤) إليك ، والوسيلة إلى رضوانك.

فبعض أسكنته جنتك إلى أن أخرجته منها ، وبعض حملته فيفلكك ونجيته ومن آمن معه من الهلكة برحمتك ، وبعض اتخذتهخليلا ، وسألك لسان صدق في الآخرين فأجبته ، وجعلت ذلك عليا.

__________________

(١) النعم ( خ ل ).

(٢) في مصباح الزائر : درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها.

أقول : زخرف الدنيا زينتها واصله الذهب ثم اطلق على كل مزين ، الزبرج ـ بالكسر ـ الزينةمن وشى أو جوهر والذهب.

(٣) قدرت ( خ ل ).

(٤) الذريعة : الوسيلة.

٥٧٤

وبعض كلمته من شجرة تكليما ، وجعلت له من أخيه ردءا(١) ووزيرا ، وبعض أولدته من غير أب ، وآتيته البينات وأيدتهبروح القدس.

وكلا شرعت له شريعة ، ونهجت منهاجا ، وتخيرت له أوصياء ،مستحفظا بعد مستحفظ ، من مدة إلى مدة ، إقامة لدينك ، وحجة علىعبادك ، ولئلا يزول الحق عن مقره ، ويغلب الباطل على أهله ، ولا يقولأحد لولا أرسلت إلينا رسولا منذرا ، فنتبع آياتك من قبل ان نذل ونخزى.

إلى أن انتهيت بالامر إلى حبيبك ونجيبك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان كما انتجبته سيد من خلقته ، وصفوة من اصطفيته ، وأفضلمن اجتبيته ، وأكرم من اعتمدته.

قدمته على أنبيائك ، وبعثته إلى الثقلين من عبادك ، وأوطأتهمشارقك ومغاربك ، وسخرت له البراق ، وعرجت به إلى سمائك ،وأودعته علم ما يكون إلى انقضاء خلقك.

ثم نصرته بالرعب ، وحففته بجبرئيل وميكائيل والمسومين منملائكتك ، ووعدته ان تظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون.

وذلك بعد أن بوأته(٢) مبوء صدق من أهله ، وجعلت له ولهم أولبيت وضع للناس ، للذي ببكة مباركا ، وهدى للعالمين ، فيه آيات بينات ،

__________________

(١) الردء : الناصر ، العون.

(٢) بوأه هيأ له وانزله فيه.

٥٧٥

مقام إبراهيم ، ومن دخله كان امنا ، وقلت( إنما يريد الله ليذهب عنكمالرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (١) .

ثم جعلت اجر محمد صلواتك عليه واله مودتهم في كتابك ،فقلت :( قل ما أسألكم عليه من اجر الا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا ) (٢) ،فكانوا هم السبيل إليك ، والمسلك إلى رضوانك.

فلما انقضت أيامه أقام وليه علي بن أبي طالب صلواتك عليهماوالهما هاديا ، إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد ، فقال والملاء امامه : منكنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر مننصره ، واخذل من خذله ، وقال : من كنت انا وليه فعلي اميره ، وقال : اناوعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من أشجار شتى.

وأحله محل هارون من موسى ، فقال : أنت مني بمنزلة هارون منموسى الا انه لا نبي بعدي ، وزوجه ابنته سيدة نساء العالمين ، وأحل لهمن مسجده ماحل له ، وسد الأبواب الا بابه.

ثم أودعه علمه وحكمته ، فقال : انا مدينة العلم وعلي بابها ، فمنأراد الحكمة فليأتها من بابها ، ثم قال له :

أنت أخي ووصيي ووارثي ، لحمك من لحمي ، ودمك من دمي ،وسلمك سلمي ، وحربك حربي ، والايمان مخالط لحمك ودمك ، كما

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) الفرقان : ٥٧.

٥٧٦

خالط لحمي ودمي ، وأنت غدا على الحوض معي ، وأنت خليفتي ،وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي ، وشيعتك على منابر من نور مبيضةوجوههم حولي في الجنة وهم جيراني ، ولولا أنت يا علي لم يعرفالمؤمنون بعدي.

فكان بعده هدى من الضلالة ، ونورا من العمى ، وحبل الله المتينوصراطه المستقيم ، لا يسبق بقرابة في رحم ، ولا بسابقة في دين ،ولا يلحق في منقبة من مناقبه ، يحذو(١) حذو الرسول صلى الله عليهماوالهما ، ويقاتل على التأويل ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

قد وتر(٢) فيه صناديد(٣) العرب ، وقتل ابطالهم ، وناهش(٤) ذؤبانهم(٥) ،وأودع(٦) قلوبهم أحقادا بدرية وخيبرية وحنينية وغيرهن ، فاضبت(٧) على عداوته ، واكبت على منابذته(٨) ، حتى قتل الناكثين والقاسطينوالمارقين.

__________________

(١) حذا حذوا : قطعها على مثال.

(٢) وتر : الانتقام أو الظلم فيه.

(٣) الصنديد : السيد الشجاع.

(٤) ناوش ( خ ل ) ، أقول : نهشه عضه أو اخذه بأضراسه ، ناوشوهم في القتال : نازلوهم.

(٥) الذؤبان جمع الذئب ، وذؤبان العرب صعاليكهم ولصوصهم.

(٦) فاودع ( خ ل ).

(٧) الضب : الحقد الخفي.

(٨) نابذه الحرب : جاهره بها.

٥٧٧

ولما قضى نحبه(١) وقتله اشقى الآخرين ، يتبع اشقى الأولينلم يمتثل أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الهادين بعد الهادين ،والأمة مصرة على مقته ، مجمعة على قطيعة رحمه واقصاء ولده ، الاالقليل ممن وفى لرعاية الحق فيهم.

فقتل من قتل ، وسبي من سبي ، واقصي من اقصي ، وجرى القضاءلهم بما يرجى له حسن المثوبة ، إذ كانت الأرض لله يورثها من يشاء منعباده الصالحين والعاقبة للمتقين ، وسبحان ربنا إن كان وعد ربنالمفعولا ، ولن يخلف الله وعده ، وهو العزيز الحكيم.

فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهماوالهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتدر(٢) الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضج الضاجون ، ويعج(٣) العاجون.

أين الحسن أين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ،وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أينالشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين اعلامالدين وقواعد العلم.

أين بقية الله التي لا تخلو من العترة الهادية ، أين المعد لقطع دابر

__________________

(١) النحب : الموت ، الاجل.

(٢) فلتذرف ( خ ل ) ، أقول : الدر : السيلان ، ذرفت العين : دمعها.

(٣) عج : صاح ورفعه صوته.

٥٧٨

الظلمة ، أين المنتظر لإقامة الأمت(١) والعوج ، أين المرتجى لإزالة الجوروالعدوان ، أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن ، أين المتخير لإعادةالملة والشريعة ، أين المؤمل لاحياء الكتاب وحدوده ، أين محيي معالمالدين وأهله ، أين قاصم شوكة المعتدين ، أين هادم أبنية الشرك والنفاق.

أين مبيد أهل الفسق والعصيان ، أين حاصد فروع الغي والشقاق ،أين طامس(٢) اثار الزيغ والأهواء ، أين قاطع حبائل الكذب والافتراء ، أينمبيد أهل العناد والمردة ، أين معز الأولياء ومذل الأعداء ، أين جامعالكلمة على التقوى ، أين باب الله الذي منه يؤتي.

أين وجه الله الذي إليه تتوجه الأولياء ، أين السبب المتصل بينالأرض والسماء ، أين صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى ، أين مؤلفشمل الصلاح والرضا ، أين الطالب بذحول(٣) الأنبياء وأبناء الأنبياء ، أينالطالب بدم المقتول بكربلاء.

أين المنصور على من اعتدى عليه وافترى ، أين المضطر الذييجاب إذا دعى ، أين صدر الخلائف ذو البر والتقوي ، أين ابن النبيالمصطفى ، وابن علي المرتضى ، وابن خديجة الغراء ، وابن فاطمةالكبرى.

__________________

(١) الأمت : الضعف.

(٢) طمس : درس وانمحى.

(٣) الذحل : الثأر.

٥٧٩

بابي أنت وأمي ونفسي لك الوقاء والحمى ، يا بن السادة المقربينيا بن النجباء الأكرمين ، يا بن الهداة المهديين ، يا بن الخيرة المهذبين ، يا بنالغطارفة(١) الأنجبين.

يا بن الأطائب المطهرين ، يا بن الخضارمة(٢) المنتجبين ، يا بنالقماقمة(٣) الأكرمين ، يا بن البدور المنيرة ، يا بن السرج المضيئة ، يا بنالشهب الثاقبة ، يا بن الأنجم الزاهرة ، يا بن السبل الواضحة ، يا بن الاعلاماللائحة ، يا بن العلوم الكاملة ، يا بن السنن المشهورة.

يا بن المعالم المأثورة ، يا بن المعجزات الموجودة ، يا بن الدلائلالمشهورة ، يا بن الصراط المستقيم ، يا بن النبأ العظيم ، يا بن من هو في أمالكتاب لدى الله علي حكيم ، يا بن الآيات البينات ، يا بن الدلائلالظاهرات ، يا بن البراهين الباهرات.

يا بن الحجج البالغات ، يا بن النعم السابغات ، يا بن طهوالمحكمات ، يا بن يس والذاريات ، يا بن الطور والعاديات ، يا بن من دنافتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، دنوا واقترابا من العلي الاعلى.

ليت شعري ، أين استقرت بك النوى ، بل اي ارض تقلك(٤) أو ثرى(٥) ،

__________________

(١) الغطريف : السخي ، السيد.

(٢) الخضرم : الكثير العطاء.

(٣) القمقام : السيد الكثير العطاء.

(٤) قلا الشئ : حمله.

(٥) الثرى : التراب الندي.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702