شرح زيارة آل ياسين

شرح زيارة آل ياسين42%

شرح زيارة آل ياسين مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 136

شرح زيارة آل ياسين
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60424 / تحميل: 5290
الحجم الحجم الحجم
شرح زيارة آل ياسين

شرح زيارة آل ياسين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فالميثاق هو العهد الذي يعطيه الطرف ويثق به صاحب الحق ، وصاحب الحق الأكبر هو الله تعالى ، وقد أخذ الميثاق على بني آدم قبل أن يخلقهم في الأرض ، وجعله أمانة عند ملك من ملائكته ، ثم حول هذا الملك الى جوهرة وجعلها في ركن الكعبة ، فلمسها الناس فاسودَّت!

روى أحمد « ١ / ٣٠٧ » : « أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضاً من الثلج ، حتى سودته خطايا أهل الشرك ».

وروينا في الكافي « ٤ / ١٨٤ » : « إن الله عز وجل حيث أخذ ميثاق بني آدم دعا الحجر من الجنة ، فأمره فالتقم الميثاق ، فهو يشهد لمن وافاه بالموافاة.

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود ، وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدمعليه‌السلام فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق ، وذلك أنه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان تراءى لهم ، ومن ذلك المكان يهبط الطير على القائمعليه‌السلام فأول من يبايعه ذلك الطائر وهو والله جبرئيلعليه‌السلام ، وإلى ذلك المقام يسند القائم ظهره. وهو الحجة والدليل على القائم ، وهو الشاهد لمن وافاه في ذلك المكان ، والشاهد على من أدى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل على

٨١

العباد. وأما القُبلة والإستلام فلعلة العهد ألا ترى أنك تقول : أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته ، لتشهد لي بالموافاة ».

كل ما نفعله هنا اخترناه في عالم الذر والميثاق

في الكافي « ١ / ٤٢٨ » عن الإمام الصاق عليه‌السلام : « في قول الله عز وجل :لايَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ، يعني في الميثاق. أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ، قال : الإقرار بالأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام وأمير المؤمنين خاصة ، قال : لاينفع إيمانهالأنها سُلبته ».

ومعنى ذلك : أن الأصل في الأعمال والجزاء ، امتحاننا في عالم الذر والميثاق ، وحتى لو آمن الإنسان في الدنيا وأقر بالأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ولم يكن آمن بهم في عالم الذر ، فلا ينفعه ذلك ، لأنه يُسلب منه قبل موته!

كل مقادير الإنسان اختارها في عالم الميثاق

في الكافي « ٥ / ٥٠٤ » : « عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : كان علي بن الحسينعليه‌السلام لا يرى بالعزل بأساً ، فقرأ هذه الآية :وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . فكل شئ أخذ الله منه الميثاق فهو خارج ، وإن كان على صخرة صماء ».

٨٢

وفي الكافي « ٦ / ١٢ » : « عن سلام بن المستنير قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عز وجل :مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، فقال : المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدمعليه‌السلام أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأما قوله : وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، فهم كل نسمة لم يخلقهم الله في صلب آدمعليه‌السلام حين خلق الذر وأخذ عليهم الميثاق. وهم النطف من العزل ، والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء ».

أول من أجاب من المخلوقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

في الكافي « ١ / ٤٤١ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إن بعض قريش قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال : إني كنت أول من آمن بربي ، وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فكنت أنا أول نبي قال بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله ».

٨٣

وأول من أجاب من الملائكة مَلك الميثاقعليه‌السلام

كما ورد أن أول من أجاب من الملائكة كان الملك الذي حوله الله الى الحجر الأسود ، ففي الكافي « ١ / ١٨٥ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « كان ملكاً من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق ، كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك ، فاتخذه الله أميناً على جميع خلقه ، فألقمه الميثاق وأودعه عنده ، واستعبد الخلق أن يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل عليهم ».

أخذ الله ميثاق النبيين على الإقرار بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله

ذكر القرآن أنواعاً من المواثيق التي أخذها الله على عباده.

منها على الأنبياء بالطاعة :وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَامَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . « آل عمران : ٨١ ».

وروت أحاديثنا كيف أخذ الله ميثاق الأنبياء عليهم‌السلام لسيد الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله . ففي الكافي « ٨ / ١٢١ » أن نافعاً القسيس كان مع الخليفة هشام بن عبد الملك في مكة فسأل الإمام الباقر عن المدة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عيسى عليه‌السلام فقال له :

٨٤

« بقولكم ست مئة سنة ، وبقولنا خمس مئة. فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه :وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال : فتلا أبو جعفرعليه‌السلام هذه الآية :سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلينعليهم‌السلام ، ثم أمر جبرئيلعليه‌السلام فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه حي على خير العمل ، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم : على مَ تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله ، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، فقال نافع : صدقت يا أبا جعفر ».

وأخذ الله ميثاق النبيين على نصرة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرجعة

ومن أعجب المواثيق أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياءعليهم‌السلام على نصرة النبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرجعة ، التي ستكون في المستقبل!

٨٥

روى في مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان / ١٦٨ ، بسنده عن الإمامين الباقر والصادق عليه‌السلام في قوله تعالى :وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ : قال : ما بعث الله نبياً من لدن آدم فهلم جراً ، إلا ويرجع إلى الدنيا فيقاتل وينصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام ».

فالله يعلم كيف ستكون تلك الرجعة وكيف يكون مجتمعها ، ولكن أحاديثها العديدة تدل على أن أمرها يحتاج الى إحياء الأنبياء كلهمعليهم‌السلام ورجوعهم الى الدنيا ، وجهاد أعدائهم من جديد ، ويكون الرسول نبينا محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحامل رايته عليعليه‌السلام !

وفي مختصر بصائر الدرجات / ٣٢ ، عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من حديث :

قد نصرت محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وجاهدت بين يديه وقتلت عدوه ، ووفيت لله بما أخذ عليَّ من الميثاق والعهد والنصرة لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لي الكرة بعد الكرة والرجعة بعد الرجعة ، وأنا صاحب الرجعات والكرات ، وصاحب الصولات والنقمات ، والدولات العجيبات ، وأنا قرن من حديد ، وأنا عبد الله وأخو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

٨٦

وأخذ الله ميثاق المؤمنين على البلايا والتحمل والصمت

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع ، أيسرها عليه مؤمنٌ يقول بقوله يحسده ، أو منافقٌ يقفو أثره ، أو شيطانٌ يغويه أو كافرٌ يرى جهاده ، فما بقاء المؤمن بعد هذا » « الكافي « ٢ / ٢٤٩ ».

وفي رسائل الشهيد الثاني / ٣٣١ ، عن علي عليه‌السلام : « أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يصدق في مقالته ولا ينتصف له من عدوه ، وعلى أن لا يَشفى غيظَه إلا بفضيحة نفسه ، لأن كل مؤمن ملجم ، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة ».

وميثاق المؤمنين على محبة بعضهم

في علل الشرائع « ١ / ٨٤ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد ، فما تعارف من الأرواح ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ».

وميثاق المؤمنين على محبة عليعليه‌السلام

في كتاب الغارات للثقفي « ٢ / ٥٢٠ » : « عن حبة العرني عن عليعليه‌السلام قال : إن الله أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي ، وأخذ ميثاق كل منافق على بغضي ، فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني ، ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني ».

٨٧

وميثاق الخلق على الإقرار بنبينا وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي الكافي « ٢ / ٨ » عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام قال : « إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذباً وماء مالحاً أجاجاً ، فامتزج الماءان ، فأخذ طيناً من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً ، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون : إلى الجنة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أبالي ، ثم قال :أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . ثم أخذ الميثاق على النبيين ، فقال : ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي ، وأن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا : بلى. فثبتت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رسولي ، وعلي أمير المؤمنين ، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي ، وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي ، وأُعبد به طوعاً وكرهاً؟ قالوا : أقررنا يا رب وشهدنا ».فالإيمان بالمهدي عليه‌السلام من ميثاق الله تعالى.

٨٨

أما ميثاق المواثيق فهو : ولاية أهل البيتعليهم‌السلام

كل ميثاق أخذه الله فهو ميثاق الله وله حرمته ، لكن ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام ميثاق المواثيق ، لأنها مفتاح الإقرار بالتوحيد والنبوة والمعاد ، ومفتاح العبادة الصحيحة التي يريدها الله تعالى ، فهي الميثاق الأهم عملياً ، ولذلك استحقت أن تكون ميثاق الله على الإطلاق ، وصح أن نقول للإمام المهديعليه‌السلام : السلام عليك يا ميثاقَ الله.

قال الإمام الباقر عليه‌السلام كما في الكافي « ٢ / ١٨ » : « بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، قال زرارة : فقلت وأي شئ من ذلك أفضل؟ فقال : الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. قلت : ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟

فقال : الصلاة ، إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصلاة عمود دينكم.

قال قلت : ثم الذي يليها في الفضل؟ قال : الزكاة ، لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الزكاة تذهب الذنوب.

قلت : والذي يليها في الفضل؟ قال : الحج ، قال الله عز وجل :وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لحَجَةَّ ٌمقبولة خير من عشرين صلاة

٨٩

نافلة ، ومن طاف بهذا البيت طوافاً أحصى فيه أسبوعه وأحسن ركعتيه غفر الله له. وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال.

قلت : فماذا يتبعه؟ قال : الصوم. قلت : وما بال الصوم صار آخر ذلك أجمع؟ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الصوم جنة من النار.

قال ثم قال : إن أفضل الأشياء ما إذا فاتك لم تكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤديه بعينه ، إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس يقع شئ مكانها دون أدائها ، وإن الصوم إذا فاتك أو قصرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياماً غيرها ، وجزيت ذلك الذنب بصدقة ولا قضاء عليك ، وليس من تلك الأربعة شئ يجزيك مكانه غيره.

قال ثم قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه ، وباب الأشياء ورضا الرحمن : الطاعة للإمام بعد معرفته ، إن الله عز وجل يقول :مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً . أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله عز وجل حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان. ثم قال : أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضل رحمته ».

٩٠

المواثيق العامة والمواثيق المؤكدة

الميثاق بنفسه عهد مؤكد ، والميثاق المؤكد هو المشدد ، وقد ذكر القرآن نوعين منه ، أحدهما في حقوق الزوجة فعقد الزواج ميثاق غليظ ، قال تعالى : وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظاً .

ووصف العهد الذي أخذه الله على الأنبياء لنصرة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ اقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . « آل عمران : ٨١ ».

قال في الفروق اللغوية / ٥٢٥ : « قال بعضهم : العهد يكون حالاً من المتعاهدين ، والميثاق يكون من أحدهما ».

معنى : السلام عليك يا ميثاق الله

معناه : أنت ياسيدي الحلقة الأخيرة والحاسمة في الميثاق الذي أخذه الله لجدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على الأنبياء والعباد ، وأكد عليهم العمل به.

وهو ميثاق ثقيل يوجب على الجميع الإقرار والطاعة.

وهذا الميثاق ياسيدي متجسد فيك ، فأنت ميثاق الله تعالى.

وأنا يا سيدي وفيٌّ لميثاقي في الإقرار بكم ، ونفسي وأهلي ومالي فداءٌ لكم ، ونصرتي لكم معدة ، وأنا رهن أمرك.

٩١

« ٩ » السلام عليك يا وعدَ الله الذي ضَمِنَه

الوعد الإلهي بدولة العدل

في القرآن الكريم بضع آيات تؤكد على الوعد بدولة العدل الإلهي في الأرض ، كقوله تعالى :هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً .

وقال تعالى :وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ . « الأنبياء : ١٠٥ » وهي مطلقة ، تشمل الوراثة في الدنيا والآخرة.

وقال تعالى :وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . « البقرة : ٣٠ ».

فلم ينفِ الله عز وجل إفساد بني آدم في الأرض وسفكهم الدماء ، لكنه قال للملائكة إني أعلم ما لاتعلمون ، أي أن ذلك سيكون الى وقت معين ، ثم أنهيه وأقيم دولة العدل في الأرض!

وقال تعالى : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى

٩٢

لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. « النور : ٥٥ ».

وهو وعدٌ للمؤمنين من أمة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ينصرهم بعد خوفهم ، ويمكِّن لهم دولة العدل ، فلا يكفر بعدها إلا قلة شاذة.

وقال تعالى :مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الآنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا . « الفتح : ٢٨ ـ ٢٩ ».

فالذين معه هم لا بد أن يكونوا منظومة الأئمة من عترته ، وهم غير الصحابة الذين آمنوا معه ، وهم شطأ شجرته أي أولادها ، وهم الرحماء بينهم ، والصحابة أشداء بينهم.

وقد وعد الله تعالى أن يغيظ بهم الكفار ، وهو الى الآن لم يحصل.

وقال تعالى :وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . « هود : ٨ ».

٩٣

والآية تدل على أن هذا العذاب حتمي على فجار هذه الأمة ، وأنه لم يرفع ولكنه أُخر الى وقته ، وسيكون على يد أمة معدودة من الناس.

وقد ورد تفسير الأمة المعدودة بأنهم أصحاب المهديعليه‌السلام .

وفسر بعضهم الأمة بالمدة ، ولا يصح لأنها لم ترد بمعنى المدة.

الى غير ذلك من آيات الوعد الإلهي بدولة العدل ، والتي لم يَدَّعِ أحد أنها تكون إلا على يد المهدي عليه‌السلام ، وأيدت ذلك الأحاديث المفسرة لها.

تأكيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام على حتمية الوعد الإلهي

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سيكون من بعدي خلفاء ومن بعد الخلفاء أمراء ومن بعد الأمراء ملوك ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ». « الكبير للطبراني : ٢٢ / ٣٧٥ ».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ويحُ هذه الأمة من ملوك جبابرة ، كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم ، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفر منهم بقلبه. فإذا أراد الله عز وجل أن يعيد الإسلام عزيزاً ، قصم كل جبار ، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمةً بعد فسادها.

٩٤

فقالعليه‌السلام : يا حذيفة لو لم يبق من الدنيا إلايوم واحد لطوَّلَ الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي ، تجري الملاحم على يديه ويظهر الإسلام ، لايخلف وعده وهو سريع الحساب ». « مسند أحمد : ١ / ٩٩ ».

وفي مسند البزار « ٢ / ١٣٤ » : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً ».

وبشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام فقال لها : « نبينا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عم أبيك حمزة ، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء ، وهو ابن عم أبيك جعفر ، ومنَّا سبطا هذه الأمة الحسن والحسين ، وهما إبناك ، ومنا المهدي ». « الطبراني الصغير : ١ / ٣٧ ».

وفي أمالي الطوسي : ١ / ٣٦١ ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من حديث جاء فيه : « معاشر المؤمنين أبشروا بالفرج ، فإن وعد الله لا يخلف ، وقضاءه لا يرد ، وهو الحكيم الخبير ، فإن فتح الله قريب. اللهم إنهم أهلي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. اللهم أكلأهم وارعهم وكن لهم ، وانصرهم وأعنهم وأعزهم ولا تذلهم ، واخلفني فيهم. إنك على كل شئ قدير ».

هذا ، وقد عقدنا فصلاً في معجم أحاديث الإمام المهديعليه‌السلام / ١٧٥ ، لبشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام ، بالمهدي عليه‌السلام .

٩٥

الوعد الإلهي فوق المحتوم

في غيبة النعماني / ٣١٥ ، عن الإمام الجواد عليه‌السلام قال : « قلنا له : فنخاف أن يبدو لله في القائم. فقال : إن القائم من الميعاد ، والله لايخلف الميعاد ».

وقد تسأل عن وصف الوعد بالمضمون مع أن كل وعد إلهي مضمون.

والجواب : أن وصفه بالمضمون ليس لوجود وعد غير مضمون ، بل لبيان أن ضمان الوعد بدولة العدل أمر كبير معقد ، لكنه على الله تعالى هَيِّنٌ ، فهو سبحانه يملك كل الأوراق ، وسيدير حياة الإنسان ومجتمعه حتى تخضع لدوله المهديعليه‌السلام وينهي الظلم ويقيم دولة العدل.

* *

٩٦

« ١٠ » السلام عليك أيُّهَا العَلَمُ المَنْصُوب

والعِلْمُ المَصْبُوب ، والغَوْثُ والرحمةُ الواسعة ، وعداً غيرَ مكذوب

معنى العَلَمُ المنصوب

العَلَم المنصوب : الإمام الذي نصبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأمته عَلَماً ، تهتدي به في طريقها ، فهو وصيه وخليفته في أمته ، تتلقى منه معالم دينها وتطيعه.

قال حذيفة في حديثه : « فخرجنا إلى مكة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : أنصب علياً عَلَماً للناس ، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اخضلت لحيته ، وقال : يا جبرئيل إن قومي حديثوا عهد بالجاهلية ، ضربتهم على الدين طوعاً وكرهاً حتى انقادوا لي ، فكيف إذا حملت على رقابهم غيري ، قال : فصعد جبرئيل الى آخر الحديث ». « إقبال الأعمال : ٢ / ٢٤٠ ».

وفي الحديث القدسي في المعراج : « فانصب علياً علماً لعبادي ، يهديهم إلى ديني ». « الجواهر السنية / ٥٨٧ ».

٩٧

والإمام المهديعليه‌السلام منصوب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إماماً نصباً مباشراً بنصه عليه ، ونصباً غير مباشر لأنه منصوب من أبيه وأجداده حتى يصل الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . فالمعنى :السلام عليك يا من نصبه رسول الله إماماً وَعَلَماً .

معنى : العِلْمُ المَصْبُوب

قال الله تعالى :فَلْيَنظُرِ الاِْنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقًّا. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا . « عبس : ٢٤ ـ ٢٨ ».

وقد فسر اللغويون صب الماء بالسكب ليكون مهيأً للشرب أو الإستفادة ، فيكون معنى أن الإمامعليه‌السلام هو العِلْمُ المصبوب : أنه صاحب عِلْمٍ رباني وافر متنوع ، مسكوب للناس ومهيأ لاستفادتهم ، في المكان المناسب ، والقدر اللازم لحاجتهم.

فالتعبير بالصب يشير الى أن مصدر العلم هو الله تعالى ، ويشير الى الحكمة في تيسيره. والتعبير بأن الإمام هو العلم يشير الى كثرة علمه ودوامه كما تقول : زيدٌ عدلٌ ، أي شديد العدالة دائمها.

كما أن العلم المصبوب يقابل العلم المخزون أوالمكتوم ، ويدل على أن المهدي يتميز عن المعصومين الذين أمروا أن يكتموا بعض علمهم.

٩٨

الإمام المهدي غوث الأمة والعالم

عرَّفوا الغوث بأنه : نصرة المضطر عند الشدة. « مقاييس اللغة : ٤ / ٤٠٠ ». ومعناه أن الله تعالى يُغيث العباد بالإمام المهديعليه‌السلام ، فيخلصهم من شدائدهم التي تورطوا فيها.

وفي حديث عقد الددر للسلمي / ٩٠ ، عن عليعليه‌السلام قال : « فيأمر الله عز وجل جبريلعليه‌السلام فيصيح على سور مسجد دمشق : ألا قد جاءكم الغوث يا أمة محمد ، قد جاءكم الغوث يا أمة محمد ، قد جاءكم الفرج ، وهو المهدي ، خارجٌ من مكة فأجيبوه ».

وقد وردت الإستغاثة به بعد زيارتهعليه‌السلام : « يا مولاي يا صاحب الزمان ، الغوثَ الغوثَ الغوث ، أدركني أدركني أدركني ». « مزار المشهدي / ٥٩١ ».

وفي نسخة : الأَمَانَ الأَمَانَ الأَمَانَ. السَّاعَةَ السَّاعَةَ السَّاعَةَ ، الْعَجَلَ الْعَجَلَ الْعَجَلَ.

أما المتصوفة فقد صادروا لقب الغوث ، وسموا به رئيسهم!

ففي تهذيب ابن عساكر « ١ / ٦٢ » : « النقباء ثلاث مائة والنجباء سبعون ، والبدلاء أربعون ، والأخيار سبعة ، والعمد أربعة ، والغوث واحد ، فمسكن النقباء المغرب ، ومسكن النجباء مصر ، ومسكن الأبدال الشام ، والأخيار سياحون في الأرض ، والعُمُد في زوايا الأرض. ومسكن الغوث

٩٩

مكة ، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبدال ثم الأخيار ، ثم العُمُد ، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث ، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته ».

أقول : هذه المناصب افتراضية منهم ، وكذلك ما زعموه للغوث ، وقد يسمونه القطب ، وقولهم إنه لا ترد له دعوة تعني أنه معصوم!

الإمام المهدي : الرحمة الواسعة

قد يقال كيف يوصف الإمام المهديعليه‌السلام بأنه الرحمة الواسعة ، وهو النقمة الإلهية من الظالمين والعصاة؟

ففي الكافي « ٨ / ٢٣٣ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إذا تمنى أحدكم القائم فليتمنه في عافية ، فإن الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ويبعث القائم نقمة ».

وفي البحار « ٦٠ / ٢١٣ » عن تاريخ قم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « ثم يظهر القائم ويصير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد ، لأن الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارهم حجة »

فهو الغضب الرباني والنقمة ، فكيف يكون الرحمة الواسعة؟

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

من نتائج التطبيق:

إيجابيّات

استنساخ أعداد كبيرة من العباقرة والموهوبين وراثيّاً.

سلبيات:

١ - فتح باب الإنجاب بلا زواج.

٢ - ليست المواهب ولا الفضائل نتيجة الوراثة فحسب.

٣ - احتمال الكوارث المرضيّة الجامعة في هؤلاء المتشابهين وراثيّاً، فالمعروف أنّ التغاير والتشاكل في الوراثة من أسباب حماية الجنس البشري وارتقائه(١) .

ويقول طبيب آخر في هذا الموضوع:

أمّا موضوع التكاثر اللاّتزاوجي الذي أُطلق عليه( الاستنساخ ) فأُحب أنْ أضع فيه بعض النقاط على الحروف، فطريقة الاستنساخ ليست وسيلة تكاثر، أعني ليس أنّ شخصاً أنتج شخصاً آخر بوسيلة لا تزاوجيّة، أي بغير تزاوج، ولكنّ المهمّ هنا أنّ هذا الوليد تكون فيه جميع الخصائص الوراثيّة لهذا الكائن، وهذا لا يحدث إطلاقاً في أيّ تكاثر بطريقة التزاوج ؛ لأنّ كلّ مولود نصفه من الأُمّ ونصفه من الأب، أمّا هذا المولود فكلّه من الأب، أو كلّه من الأُمّ، إذا حصل يجب أن يكون كلّه من الأب ؛ لأجل أن يرث جميع الخصائص الممتازة.

___________________

(١) ص١٣١ وص١٣٢، الإنجاب في ضوء الإسلام.

١٢١

هذا الخيال صار حقيقةً مؤكّدةً، وأنتج ٢٠ ضفدعةً واحدة في عمليّة واحدة، فكلّها معبَّر عنها بأنّها توائم الأب ؛ لأنّها نسخة طبق الأصل من هذا الأب ولكنّها أصغر منه سنّاً ؛ لأنّها اُنتجت بعد عشرين سنة أو أربعين سنة، ولكنّها صورة دقيقة للغاية، كأنّها التوأم المتشابه(١) .

وعرّف الاستنساخ أو النسخ طبيب ثالث بقوله: إنّه يريد به المختصّون محاولة تقديم كائن، أو خليّة، أو جزيء يمكنه التكاثر عن غير طريق التلقيح ومن غير نقص أو إضافة للمحتوى الوراثي(٢) .

أقول في المقام مطالب:

١ - إذا حصل العلم من مذاق الشرع(٣) بعدم رضاه بتحقّق إنسان من رجل وامرأة بهذا النحو(٤) لا نكاح بينهما حتّى إذا لم يستلزم الزنا وحراماً آخر فيقيّد جواز العمليّة من الوجهة الدينيّة بأخذ الخليّتين المذكورتين من الزوجين فإنّها إنجاب بلا جماع لا بلا طرفين كما لا يخفى، وإلاّ فلا.

٢ - الظاهر جواز العمليّة المذكورة خارج الرحم لأصالة البراءة، نعم في صحّة نسبه إلى رجل أُخذت الخليّة من جسده، وإلى امرأة صاحبة البويضة غير واضح ؛ فإنّه لم يخلق من مائه:( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) (٥) ، وأمّا صاحبة البويضة فإنّها غير حامل وغير والدة ،

___________________

(١) ص١٧٥ نفس المصدر.

(٢) ص١٥٥ نفس المصدر.

(٣) هذا ما يُسمّى بالدليل اللُبّي في مقابل الدليل اللّفظي، والدليل اللّفظي غير متوفّر بنظري في المقام.

(٤) أي من منيّ امرأة وخليّة جسديّة من رجل.

(٥) الطارق آية ٦.

١٢٢

( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (١) ، فلاحظ.

وعلى كلٍّ، لا مانع من فرض إنسان أُمّ له شرعاً ( أو لا والد له ) فلا تحرم العمليّة المذكورة مادامت إرادة هذا المولود حرّةً، واختياره غير مسلوب فلاحظ، ومادامت الصفات المورثة ممّا لم تكن مبغوضة للشرع.

٣ - إذا ثبت في علم الطب - ولمّا يثبت لعدم وقوع الفرض حتّى تناله التجربة - أنّ الكوارث المرضيّة الجامعة في هؤلاء المتشابهين وراثياً ذات مخاطر فتحرم العمليّة لأجلها، فكما يحرم الإضرار بالغير الموجود يحرم التوسط في إيجاد موجود محفوف بالضرر والنقص.

٤ - لا سلبيّات للعمليّة سوى احتمال تلك الكوارث، تعتمد عليها في منع العمليّة شرعاً، وما قيل، من سلبيات أُخر، ضعيف أيضاً(٢) .

٥ - إذا حملته صاحبة البويضة وولدته فإنّها أُمّه جزماً، وإنْ شككنا أو نفينا نسبه عن الرجل، فإنّ مريم أمّ عيسىعليها‌السلام بلا شكّ، ولا والد لهعليه‌السلام .

___________________

(١) المجادلة آية ٢.

(٢) الإنجاب في ضوء الإسلام ص١٥٦.

١٢٣

المسألة الخامسة عشرة

المستقبل البيوتكنولوجي للإنسان ومعطيات النظام الاجتماعي

توصّل علماء الطبّ والبيولوجيا والكيمياء إلى اكتشاف بعض خبايا ميكانيكيّة الخليّة الحيّة، وصاغوا بعض القوانين العلميّة التي تحكم الشِّفْرة الوراثيّة للخليّة، ثمّ شرعوا بعد ذلك، في هندسة المستقبل الوراثيّة للأنواع الحيّة، إمّا عن طريق تجزئة الخلايا( الهندسة الوراثيّة ) وإمّا عن طريق اتّحاد الخلايا( الهندسة المشيجيّة ) .

واستعمل العلماء هذه الطرق، في التحكّم في التكوين الخلقي للخليّة، وفي تطويرها، فهناك ما يُسمّى بالتكاثر بالخلايا الجسديّة، حيث يراود العلماء الأمل، في تحويل الخليّة الجسديّة إلى خليّة جنينيّة يمكن لها أن تتكاثر، مثلها في ذلك مثل أصلها وهو البويضة الملقّحة، وذلك بعد تخليصها من القفل الكيميائي الذي يمنعها من محاكاة أصلها.

ومن بين الاستخدامات المتصوَّرة لتكنيك التكاثر بالخلايا الجسديّة بعث الذات البيولوجية للإنسان، وقوام هذا الاستخدام، هو نسخ نسخة طبق الأصل من الإنسان الذي أُخذت من جسده الخليّة الجسديّة. ويقال: إنّه من الممكن تحقيق نفس الغرض حتّى إذا أُخذت الخليّة من جثّة الإنسان، مادام أنّ هذه الخليّة ذاتها لم تمت. وبذلك يمكن ضمان بقاء العباقرة على قيد الحياة لتستفيد البشريّة من علمهم.

ولا بأس من أن أذكر تطبيقاً آخر للإمكانيّات البيولوجية الحديثة التي

١٢٤

ترتّب عليها كسر الحدود الفاصلة بين الأنواع المختلفة للكائنات.

فمما تفتّقت عنه قريحة العلماء: فكرة خلط خلايا بشريّة بخلايا نباتيّة أو حيوانيّة، لنصل بذلك إلى الإنسان الخضري ( الكلورفيلي ) أو الإنسان المجتر. ويستهدف العلماء من أبحاثهم هذه إنتاج سلالة بشريّة جديدة، يدخل في تكوينها بعض الصفات النباتيّة أو الحيوانيّة المرغوبة، كجعل الإنسان ذاتي التغذية، يعتمد على ذاته في غذائه كالنبات ( التمثيل الضوئي ).

ويفكّر العلماء - أيضاً - في إنتاج طراز جديد من الجنس البشري، عن طريق استخدام طريقة التكاثر الجسدي في تنمية الخلايا المختلطة، وبعد التأكّد من نجاح إنتاج هذا الطراز الجديد، فيمكن تعميمه بالطريق الطبيعي أي التكاثر الجنسي.

ولم يقف التلاعب بالحياة على المستوى العضوي، بل إنّ الفكر العلمي الحديث يتّجه إلى ابتداع طرق التحكّم في إرادة الإنسان بأجهزة الكترونية، وهذا هو الإنسان الالكتروني، الذي يمكنه إشباع رغباته وحاجاته عن طريق أزرار مركّبة على جسده.

ورغم ما يُقال عن تكنولوجيا التكاثر من أنّها ما زالت في طور الخيال، وأنّها لا تعدو أن تكون حاليّاً مجرّد أضغاث أحلام، إلاّ أنّ استخدامها الناجح على مستوى الحيوان والنبات، شجّع العلماء على التفكير في تطبيق قوانينها العلميّة على الجنس البشري، وما زراعة الأجنّة، أو طفل الأُنبوب، إلاّ تجسيد حيّ لطموح الإنسان في التحكّم في خلقته وصفاته، ولعلّ جهود العلماء في هذا المضمار، تجسّد رغبة الإنسان في التوصّل إلى إكسير الحياة ؛ ليكرّس بذلك خلوده وانتصاره على الموت، الذي هو مع ذلك سنّة الله في خلقه، ونذكر هنا أنّ أحد المليونيرات الأجانب طلب إنتاج نسخة من ذاته

١٢٥

وأبدى استعداده لتمويل أبحاث التكاثر الجسدي. ومثل هذا التفكير يحمل في طيّاته معاني كثيرة يفهمها كلّ لبيب(١) .

وقال بعضٌ آخر من الأطبّاء: موضوع الهندسة الوراثيّة في غاية الأهمّيّة، لسبب أنْ تقرّر أنّ كلّ القرارات الإلهيّة الموجودة داخل الخليّة يبدأ البحث فيها بمنتهى الدقّة، وهي تمثّل ٣٠٠ مليون جزئيّة. العالم بدأ في دراستها علميّاً واعتمد لها ١٥ مليار دولار، فتولّت ثلاث دول هذه العمليّة: أمريكا واليابان وألمانيا الغربيّة.

ومن المنتظر أنْ يتمّ الكشف عن هذه الجينوم، أو هذه الوثيقة بعد ١٥ عاماً...(٢) .

وقيل: إنّ بداية الإنسان ما هو إلاّ خليّة واحدة فيها نواة، إذا درسنا هذه النواة نجد أنّ فيها الحقيبة الوراثية، عبارة عن ٤٦ صبغ موجودين بين ٢٣ من الأب و٢٣ من الأُمّ، هذه الصبغيّات تحمل مورِّثات، هذه المورِّثات سواءٌ كانت تتحكّم في الصفات الطبيعيّة، أم الصفات المرضيّة، عددها كبير جدّاً يُقدّر بحوالي ٢ مليون مورِّث لغاية الآن، نحن الآن لم نعرف تقريباً أكثر من (٤٣٤٠) مورِّث بعضها يقيني وبعضها ليس بيقيني... ربّما يكون الأب سليماً من مرض، ثمّ يُبتلى ابنه به لوجود الصفات الوراثيّة في نواة الخليّة، انتهى كلامه بتغيير(٣) .

أقول : هذا البحث - من ناحيةٍ علميّةٍ - طويل عريض عميق جداً، ويُقال: إنّ العلم قادر على إيجاد لونٍ خاصٍّ لشعر المولود، وكيفيّة وجهه إلى

___________________

(١) الإنجاب في ضوء الإسلام ص ١٣٨ وما بعدها.

(٢) ص ٦٣٦ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

(٣) ص ٤٩١ وص ٤٩٢ نفس المصدر، ولم أفهم وجه التفاوت بين الرقمين ( ٣٠٠ مليون ) و ( حوالي مليونين ).

١٢٦

غير ذلك من الإنجازات المحيِّرة للعقول العامّيّة، وتحقيق هذه المسائل وأحكامها الفقهيّة ربّما يحتاج إلى تأليفٍ مستقلٍّ، وكلّ ميسّر لما خلق لأجله.

وحيث لا سبيل لي إلى جزئيّات هذه المسألة وإلى عشرين أعشارها ؛ نقتصر على ذكر بعض الأحكام الشرعيّة، حسب ما أدّى إليه نظري، والله العاصم والهادي:

التغيير في جنين الإنسان أو نطفته ربّما يكون على نحو نعلم بعدم رضا هذا الإنسان بعد ولادته وإدراكه وبلوغه بل يتنفّر منه ويتأذّى، بل يكون له ضرريّاً، وهذا غير مباح حتّى إذا طلبه الزوجان، إذ لا ولاية لهما على أولادهما بهذه السعة والإطلاق، وقد لا نعلم بذلك أو نعلم رضاه به، وهو على أقسام:

القسم الأوّل: إن التغيير قد ينجرّ إلى ما يستلزم إفراطه في الشهوة الجنسيّة، أكثر ممّا هو عليه الآن، أو تمايله الشديد في القتل والتعدّي.

وبالجملة: يصل الإنسان بوسيلة العمليّة الطبّيّة والبيولوجية والكيمياوية إلى حدٍّ تقوى غرائزه الحيوانيّة، بحيث تضعف به قواه العقلانية، ويختلّ به النظام الاجتماعي، والسلوك الأخلاقي، والاقتضاء الروحاني، وهذا حرام غير جائز بلا شبهة، ومخالف لهدف خِلقة الإنسان، وقد لا يستلزم ذلك بل إلى حدٍّ ما من الشرور، وفي جوازه نظر وبحث.

القسم الثاني: قد ينجرّ إلى ما يرغِّبه في الطاعات والخيرات، بحيث يسلب إرادته للشرور والمعاصي، والظاهر عدم جوازه ؛ لأنّ الطاعة المقبولة المطلوبة من الإنسان ما صدر عنه باختياره:( وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاکُمْ

١٢٧

أَجْمَعِينَ‌ ) (١) .

ومنه يظهر حرمة ما يرغبه في المعاصي بحيث يسلب عنه إرادة الصالحات، بطريق أولى.

القسم الثالث: وقد يرغِّبه الى الأفعال الصالحة والأخلاق الحميدة من غير سلب اختياره، وعندي أنّه جائزٌ بل حسن، يظهر وجهه ممّا ورد في حق الأُمّ المرضِعة وغير ذلك.

القسم الرابع: وقد ينجرّ إلى سلب إرادة الإنسان وجعله تابعاً في أفعاله - سواء كانت مباحة أو غير مباحة - إلى إرادة الغير، صالحاً كان أو شريراً، فهذا - أيضاً - غير جائز، فإنّه مضادٌّ لغرض الخِلقة، فإنّ الله سبحانه خلق الإنسان للتكامل الحاصل من العبوديّة، وإطاعة الربّ في جميع شئون الحياة، وهذا التكامل لا يحصل إلاّ بكونه مريداً مختاراً لا مجبوراً مضطرّاً.

القسم الخامس: وقد ينجرّ إلى تغييرات جسمانيّة بداع التجمّل والتحسّن، وهذا لا بأس به في حدّ نفسه، حتّى إذا سبّب طول قامته أو قصرها أو هزاله أو سمنه، فضلاً عن بياض وجهه، وشباهة عينه بعين الظبي، واصفرار لون شعره ونحو ذلك.

وقد تقدّم حكم بعض مانقلناه في أوّل الكلام هنا في المسائل المتقدّمة، والله الموفِّق.

___________________

(١) النحل آية ٩.

١٢٨

المسألة السادسة عشرة

التحكّم في معطيات الوراثة

عرّفت الوراثة بانتقال الصفات من الأُصول إلى الفروع، أو من السَّلف إلى الخَلَف، وهي تشمل إلى جانب الخصائص، الأمراض القابلة للتوريث(١) .

قيل: إنّ الصور المطروحة على بساط البحث لا تعدو ثلاثة أنواع، هي:

١ - النسخ ( الاستنساخ )، وهو الحصول على نسخ من الكائن دون التزاوج.

٢ - المزج بين صفات وخصائص معيّنة في المخلوق بالتصرّف في مورِّثاته.

٣ - استصفاء جنس معيّن باستبقاء عنصره في الطّور الأوّل للجنين(٢) .

أقول : أمّا الأوّل، فقد مرّ توضيحه وحكمه.

وأمّا الثاني، فقد سمّاه بعض الأطبّاء بالاستبدال، وهو كما عرّفه المختصّون: التمويل على ما للحامض النووي ( النوويك ) من خصائص ولاسيّما خاصّة الالتحام عند قصّه بحيث يمكن التحكّم في إبدال المورِّثات من خلال عمليّات معقّدة يعود تحقّق نتائجها إلى تلك الخصائص في الحامض المذكور.

___________________

(١) ص ١٤٩ الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص ١٥١ نفس المصدر.

١٢٩

فإن اتّجه هذا التصرّف إلى العلاج من علّة، سواءٌ كانت مرضاً وراثيّاً قائماً بالجسم، أم انحرافاً في الطبيعة الأصليّة، أم تقاصراً عن القدر المألوف فيها ؛ فإنّه ممّا يندرج في التصرّفات المشروعة شرعاً، وإمّا إن اتّجه إلى سلب الإرادة حتّى في جانب الخير، أو إلى الانحراف بالسجايا إلى الميول الشرّيرة، فلا يجوز، كما لا يجوز كلّ ما يُؤثر على الفطرة الأصليّة، سواء كان بأسباب مادّيّة منضبطة: كالإسكار والتخدير، والإكراه الملجئ أو بأسباب أُخرى خاصّة، كالذي يتعاطاه السحرة النافثون في العُقَد، أو الحسدة هواة الإصابة بالعين، أو المرجفون، وما إلى ذلك من المؤثِّرات المعنويّة، أو النفسيّة السلبيّة أو المفسدة.

فلا يقلّ عن هذه التصرّفات في الخطورة، ما يصل إليه الإنسان من نتائج بالوسائل المادّيّة المختبريّة والإجراءات الطبيّة، فكلّ مِن هذا وذاك استجابة لأمر الشيطان، ومطاوعة لنزغاته بالقيام بالتصرّف المُعْتَبر سبباً تنشأ عنه مسبِّبات منسجمة مع ذلك التغيير، فإنّ الله ربط الأسباب بالمسبِّبات، والحكم كما يتعلّق بالمباشر، يتعلّق بالتسبّب إذا ما توفّرت صلته السببيّة كما ذكره بعضهم(١) ولا يخلو عن متانةٍ وصحّةٍ.

وأمّا الثالث، وهو التحكّم في جنس الجنين بعد تشخيصه(٢) فهو - أيضاً - في حدّ نفسه جائز، وقد مرّ تفصيله.

___________________

(١) ص١٥٨ نفس المصدر.

(٢) وفسّر الاستصفاء بعضهم بالاصطفاء لأحد الجنسين على الآخر.

١٣٠

المسألة السابعة عشرة

حكم البييضات الفائضة

تبقى من البييضات المخصبة في أُنبوبة المختبر، إذ يمكن تلقيح عشرين بويضة ولا يحتاج إلاّ إلى اثنين أو ثلاثة، فما هو حكم البقيّة الفائضة ؟

الأسئلة الشرعيّة المتعلِّقة بالمقام أُمور:

١ - هل يجوز إهدارها والإزهاق بها أو يحرم ؟

٢ - هل تجب الديّة بإهدارها ؟

٣ - هل يُعزل لها من الإرث سهمها ؟

٤ - ما هو الحكم بالنسبة إلى عدّة صاحبتها ؟

٥ - هل يُعطّل الحدّ الشرعي بالنسبة إلى صاحبتها ؟

٦ - مَن يملك التصرّف فيها ؟

٧ - هل يجوز نقلها في رحم صاحبتها بعد وفاة زوجها، أو بعد طلاقها ؟

وإليك أجوبة هذه الأسئلة مستعيناً بالله تعالى:

أمّا السؤال الأوّل فجوابه: أنّه لا مصرف للبييضات الفائضة إلاّ رحم صاحبتها أيّام حياة زوجها، فإن أمكن وجب إبقائها على الأحوط، حتّى تُنقل إليها، وإن لم يمكن - ولو بانصراف صاحبتها عنها - فلا بُدّ من إتلافها ؛ حذراً من استعمالها على نحو الحرام شرعاً.

نعم، إذا كانت البييضات في الأُنبوبة في مسير حياتها الإنسانيّة، وأمكن ذلك طبّيّاً، ولم يستلزم المؤنات الكثيرة ؛ فالأحوط لزوماً إبقاءها، بل إذا تعلّق

١٣١

بها الروح وجب حفظها، مهما أمكن ؛ فإنّها نفسٌ محترمةٌ يحرم إتلافها، بلا فرق بين كونها في رحم، أو في أُنبوبة، أو في محلٍّ آخر.

وجواب السؤال الثاني: أنّه إذا وجب إهدارها لا ديّة لها، وإذا تعلّق بها الروح، وأمكن حفظها، وجبت الديّة جزماً على مَن أتلفها، وإذا لم تتعلّق بها الروح، وكان في مسيرها إلى الحياة الإنسانيّة فالأحوط لزوماً وجوب الديّة بالشرطين المذكورين، ( أيّ إمكان حياتها إلى ولادتها في الأُنبوبة طبّاً، ووجود مَن يقوم بمؤنتها ).

وعلى كلٍّ، الأحوط للطبيب أنْ لا يخصب البيضات أكثر من حاجة صاحبتها.

وجواب الثالث: أنّها إذا تعلّق بها الروح، وخرجت من الأُنبوبة إنسانا حيّاً يرث أباه، وقد مرّ الإشكال في نسبه إلى صاحبة البويضة، فإنّ الحكم بأُمومتها مع قوله تعالى:( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (١) مشكل، وإذا علموا بعدم خروجها حيّةً فلا يعزل له سهم، وأمّا إذا شكّ فالأحوط عزل السهم له، وكذا إذا علم بخروجه حيّاً من الأُنبوبة.

ويمكن أن يُقال بعدم وجوب عزل سهمٍ له، لأنّ موضوعه الحمل، ولا يصدق على ما في الأُنبوبة حمل بوجه، فإذا خرج حيّاً وقد قسّم الورثة الإرث بينهم، عليهم أن يردّ كلُّ واحدٍ من سهمهم ما يبلغ حقّ الحيّ المذكور.

وأمّا جواب الرابع: فهو منفيٌّ جزماً، فإنّ وجود البييضة في الأُنبوبة لا تجعلها حاملاً، وهذا واضح.

___________________

(١) المجادلة آية ٢.

١٣٢

وجواب الخامس: أنّه لا يُعطّل الحدّ عليها، نعم إذا فرضنا الجنين في معرض الخروج عن الأُنبوبة حيّاً، ولا توجد له حاضنة ومربّية سواها، ففي جريان الحدّ عليها تردّد، وتحقيقه في محلّه.

وجواب السادس: أنْ حق الأولويّة لصاحب الحيوان المنوي وصاحبة البويضة، وإذا مات أحدهما سقط حقّ الاستفادة عن البويضة المخصَّبة نهائيّاً كما ظهر ممّا سبق.

وأمّا جواب الأخير فقد اتّضح ممّا سبق، وأنّ النقل المذكور غير جائز.

بقي في المسألة أُمورٌ ينبغي ذكرها:

١ - إذا أُخصبت البييضة بحيوانٍ منويٍّ من غير الزوج، ثمّ تزوّج بصاحبتها، فهل يجوز نقلها إلى رحمها بعد الزواج ؟ فيه وجهان: أقربهما الجواز لعدم المانع، وهذا غير مَن حملت من أجنبي ثمّ زُوّجته، فإنّ الولد ولد زنا، ولا يرث من الرجل، ولا يخرج الولد بالعقد اللاحق عمّا انعقد عليه من الزنا بلا شبهة. نعم هو ولده لغةً وطبّاً، ولكنّه ليس بولده بحيث يرث منه ويورِث، كما مرّ.

٢ - إنّ زراعة خلايا بشريّة جنينيّة من خلال ثقب صغير بالجمجمة بمقدار ستّة مليمترات مكعّبة، بالأُسلوب الجراحي المجسّم، قد تمّت في تشيكوسلوفاكيا في أغسطس ١٩٨٩(١) ، فإذا أمكنت زراعة البييضات الفائضة في ذلك فلا بأس به شرعاً، كما أنّ زراعة خلايا بشريّة من جنينٍ ساقطٍ - أيضاً - لا مانع منه، لكنّ جواز الأوّل في فرض كون البييضات الفائضة

___________________

(١) ص٦٥ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٣٣

من صاحبة الجنين لا غير، كما عرفت سابقاً، نعم الخلايا غير المنويّة من أحد لا بأس بزراعتها في بدن جنينٍ آخر.

٣ - قيل: يمكن الاحتفاظ باللقيحة الى خمسين سنة، يعني حتّى إلى ما بعد المعدّل الأقصى لعمر الأبوين، إذ المعتاد أنْ لا يباشر الأطبّاء عملية التلقيح المُجرى إلاّ ما بعد الثلاثين سنة من عمر الأبوين(١) .

٤ - قيل: إنّه يمكن استخراج خمسين بويضة من امرأةٍ واحدةٍ، وإنّ أحد مراكز أطفال الأنابيب كان لديه ١٢٠٨ جنيناً فائضاً، أُودعت الثلاّجات وجمدت من ٤٣٢ امرأة أُجريت لهنّ عمليّة طفل الأُنبوب(٢) .

أقول : للحكومة منع إنشاء الأجنّة الفائضة عن مقدار الحاجة بتاتاً ؛ سدّاً لذرائع الفساد والحرام، لأجل حصول الثروة - كما منعت ألمانيا الغربية على ما نُقل - بل الأحسن منع استخراج البييضات الفائضة عن حاجة الزوجين مطلقاً.

___________________

(١) ص١١١ وص١١٢ نفس المصدر.

(٢) ص١٧٤ نفس المصدر.

١٣٤

المسألة الثامنة عشرة

في دفع الموت في الجملة

من الممكن قدرة الطبّ - في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيدٍ - على حفظ الصحّة العامّة للبدن وحفظ خلاياه عن الفتور والفساد، فلا يُستبدل الشباب بالهرم والشيخوخة، فيدفع الموت ويطيل عمر الإنسان، بل تأثير الطبّ في دفع الأمراض المُهْلِكة، وتكثير النسل الإنساني، وطول العمر في الجملة، واقعٌ بالفعل ومن زمنٍ ولا مجال لإنكاره.

وقد يُتوهم حرمة دفع الموت شرعاً لجريان سنّة الله، على أنّ كلّ نفس ذائقة الموت، قال الله سبحانه وتعالى:

( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ... ) (١) ، وقال تعالى:( وَ اللَّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاکُمْ ) (٢) ، وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيکُمْ ) (٣) .

أقول : إنْ أراد هذا القائل أنّ الله تعالى أراد موت كلِّ إنسانٍ حين أجله، استناداً إلى هذه الآيات وأمثالها، فلا يجوز دفعه ؛ لأنّه تعجيز له تعالى ! فهو هذيان، والقائل به جاهل بالله وقدرته، وربّما لا يكون مؤمناً، قال الله تعالى:

( وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ کُنْ فَيَکُونُ‌ ) (٤) ، وقال تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) ، وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي

___________________

(١) النساء آية ٧٨.

(٢) النحل آية ٧٠.

(٣) الجمعة آية ٨.

(٤) البقرة آية ١١٧.

١٣٥

السموات ولا في الأرض ) (١) وقال تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) (٢) .

وبالجملة: بطلان هذا التخيّل على ضوء العقل والدين غير خفي، وقد ثبت في محلّه أنّ الكائنات تفتقر إليه تعالى في وجودها وصفاتها وأفعالها، حدوثاً وبقاءً.

على أنّ تأثير الأسباب في المسبَّبات، ووصول الإنسان الساعي إلى الأسباب - أيضاً - من سنّة الله ومشيئته، وقال سبحانه:( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ ) (٣) ، وقال سبحانه:

( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ ) (٤) .

وهل علم الإنسان وقدرته إلاّ قطرة مفاضة من علمه وقدرته اللذين لا يت-ناهيان.

ولبّ الكلام: أنّ البحث في إرادته التشريعيّة التي هي بمعنى طلبه تعالى شيئاً أو تركاً من المكلَّف، من طريق إرادته واختياره، فقد يمتثله المكلَّف وقد يعصيه. لا في إرادته التكوينيّة التي يستحيل تخلّف المراد عنها، بناءً على وحدة واجب الوجود واستحالة الشرك. وهذا، فليكن ببال القرّاء في جميع مطالب هذا الكتاب وغيره.

وإن أراد القائل المذكور أنّ دفع الموت حرام على المكلَّفين، فهذا شيءٌ ممكنٌ عقلاً، لكنّه باطلٌ ؛ لعدم دليل في الكتاب والسنّة يدلّ على

___________________

(١) فاطر آية ٤٤.

(٢) الأنفال آية ٥٩.

(٣) البقرة آية ٢٥٥.

(٤) الرحمن آية ٣٣.

١٣٦