• البداية
  • السابق
  • 137 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 9476 / تحميل: 4808
الحجم الحجم الحجم
الدعاء المعاني والصيغ والأنواع

الدعاء المعاني والصيغ والأنواع

مؤلف:
العربية

بالمستقبل : فهو يوجب تجدّد النعم في الزمان المستقبل »(1) لقوله تعالى: ( ... لئن شكرتم لأزيدنّكم ) (2) .

ولم تكن فاتحة الكتاب السورة الوحيدة التي بدأت بالحمد ، بل إن هناك سوراً أربعاً بدأت بالحمد كذلك(3) . ومن عظيم الإعجاز بأن تمثل كل آية من الآيات الأربع قسماً من أقسام فاتحة الكتاب ذهب إلي ذلك الرازي وبييّن أن المذكور في السور الأخرى ما هو إلاّجزء مما ذكر من فاتحة الكتاب(4) .

ومثلما بدأت بعض السور بدعاء الحمد كان ختام بعضها بالحمد أيضاً في أربع سور(5) . وفي هذا تعليم منه تعالى في كيفية حمده في كل الأمور في بدئها وختامها(6) .

أما الشكر فلم يفرقه بعضهم عن الحمد كما جاء في اللسان « الحمد : الشكر »(7) على حين أن « الحمد أعم من الشكر »(8) والفرق بينهما أن « الشكر

__________________

(1) مفاتيح الغيب 224 : 1.

(2) سورة إبراهيم : 14 / 7.

(3) ظ : ( سورة الأنعام : 6 / 1 ، سورة الكهف : 18 / 1 ، سورة سبأ : 34 / 1 ، سورة فاطر : 35 / 1).

(4) مفاتيح الغيب 186 : 1.

(5) ظ : ( سورة الأنعام : 6 / 1 ، سورة الكهف : 18 / 1 ، سورة سبأ : 34 / 1 ، سورة فاطر : 35 / 1).

(6) ظ : جامع البيان 143 : 7 ، مجمع البيان 65 : 3 مفاتيح الغيب 146 : 12.

(7) لسان العرب : مادة ( حمد ).

(8) مفاتيح الغيب 142 : 12.

٤١

لا يكون إلاّ عن يد والحمد يكون عن يد وعن غير يد »(1) بمعني آخر أن « الشكر لا يقال إلاّ في مقابل نعمة فكل شكر حمد وليس كل حمد شكر »(2) .

فضلاً عن ذلك فإن الحمد يقال على الأمر « المجبوب والمكروه ، ولا يكون الشكر إلاّ علي المجبوب »(3) .

وفي الاستعمال القرآني جاء الشكر ـ كما الحمد ـ منسوباً غالباً لله عزّوجلّ مصدر النعمة ومفيضها على الوجود قال تعالى :( يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) (4) .(5)

وفي موضع واحد عقب بعد الأمر بالشكر له سبحانه بشكر الوالدين لعظم منزلتهما وجلالهما عنده تعالى ولأثرهما الكبير في نشأة الابن وتربية حتى كبره فقد أمر بشكرهما وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ينسب الشكر فيه للمخلوق كنايةً عن الخالق قال جلّ وعلا :( ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمّه وهنًا على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) (6) .

ومن خلال ما سلف تظهر دلالة الدعاء في لفظي الحمد والشكر ونسبتهما في القرآن لله تعالى وسنواليهما بلفظين آخرين يحملان معنى الدعاء ذاته

__________________

(1) لسان العرب : مادة ( شكر ) ، ظ : مجمع البيان 44 : 1.

(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن : 130 ، ظ : كشاف الفنون 747 : 3.

(3) بيان إعجاز القرآن / الخطابي ( ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ) : 30.

(4) سورة البقرة : 2 / 172.

(5) ظ : الآيات في السياق نفسه ( سورة النحل : 16 / 14 ، سورة لقمان : 31 / 12 ).

(6) سورة لقمان : 31 / 14.

٤٢

وهما التسبيح والذكر.

التسبيح والذكر :

أصل التسبيح من السبح وهو العوم بالنهر(1) .

والتسبيح ، التنزيه ، وسبحان الله معناه « تنزيه الله عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف »(2) بمعنى أن كل من نزّة صفاة تعالى فقد وصفه بالكمال ومن وصفه بالكمال فقد دعاه ، لتعلّق حاجة المفتقر إلي الكامل.

وجاء في الإتقان : « سبح إذا رفع صوته بالدعاء والذكر وأنشد :

قبح الإله وجوه تغلب كلما

سبح الحجيج وكبروا إهلالا »(3)

وفي القرآن جاء التسبيح على ثلاثين وجهاً(4) تناولت أغلبها معاني « الدعاء والصلاة وأعمال العبادة كلها »(5) ، فلا غرابة ألاّ يبتعد التسبيح عن معناه اللغوي ـ في العموم ـ إذ إن التسبيح عوم كذلك في صفات الله ورحمته ، وتفكّر بعظمته وجلاله ، وينتهي العائم إلي الإقرار بو حدانيه وتنزيهه تعالى « عن نقائض الإمكان ، وأمارات الحدوث وعن عيوب الذات والصفات »(6) فالتسبيح عوم نهره الرحمة ، وقاربه القلب ومحركه اللسان وغايته ضفاف الإجابة. قال تعالى على لسان أهل العقول الباصرة :( الّذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السّماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاّ

__________________

(1) ظ : لسان العرب : مادة ( سبح ).

(2) لسان العرب : مادة ( سبح ).

(3) الإتقان 199 : 2 ، ظ : تاج العروس مادة ( سبح ).

(4) ظ : بصائر ذوي التمييز 285 : 2.

(5) التطور الدلالي : 113.

(6) كشاف الفنون 637 : 3.

٤٣

سبحانك فقنا عذاب النّار ) (1) وقال سبحانه على لسان أهل الجنة :( دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين ) (2) .

وقال جلّ شأنه على لسان يونس :( ... فنادى في الظّلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين ) (3) .

ولابّد من القول إن هذه الألفاظ ـ الصلاة والحمد والتسبيح وغيرها ـ متداخلة الدلالات والمعاني ، فكل لفظ منها يحمل معنى الآخر ، وفي نهاية الأمر تدخل كلها ضمن حيز الدعاء والطلب وعليه فقد اقترن التسبيح ضمن بعض سياقاته في القرآن الآمر بحمد الله عزّوجلّ لأنّ « التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمّن فإن التسبيح يدل على كونه مبرأً في ذاته وصفاته عن النقائض والتحميد يدل مع حصول تلك الصة كونه محسناً إلي الخلق منعماً عليهم رحيماً بهم فالتسبيح إشاة إلى كونه تعالى تامّاً والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام »(4) فلنستمع لقوله تعالى :( فسبّح بحمد ربّك وكن من السّاجدين ) (5) وقوله عزّ ذكره :( فاصبر إنّ وعد الله حقّ واستغفر لذنبك وسبّح بحمد ربّك بالعشيّ والإبكار ) (6) .(7)

__________________

(1) سورة آل عمران : 3 / 191.

(2) سورة يونس : 10 / 10.

(3) سورة الأنبياء : 21 / 87.

(4) مفاتيح الغيب 288 : 1.

(5) سورة الحجر : 15 / 98.

(6) سورة غافر : 40 / 55.

(7) ظ : الآيات التالية في السياق نفسه : ( سورة السجدة : 32 / 15 سورة غافر :

٤٤

أما الذكر : فله معانٍ عذّة منها : الذكر الحفظ للشيء وجري الشيء على لسانك(1) بمعنى أن تردّد الألفاظ وتكررها ويفضي تكرارها وجريانها على اللسان إلى هجر نسيانها وبذلك يترابط معنى الذكر في الحفظ للشيء وجريانه علي اللسان.

والذكر متضمن معنى الدعاء من خلال تكرار ألفاظ التسبيحو التحميد والتوحيد وترديدها يعني ترك الغفلة والتفكّر بالحق تعالى ولأنّ « الغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكرالله عزّوجل إلاّ عند إلمام حاجة وإرهاف ملمّة فإن الإنسان إذا مسّه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يردّ القلب إلى الله عزّوجل بالتضرّع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات »(2) .

والذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان(3) وقد جاء كلاهما بالقرآن قال تعالى :( ... فاذكرو الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً ) (4) .

وفي القرآن الكريم جاء الذكر في ستة عشر وجهاً(5) منها ما جاء بمعنى « الصلاة لله والدعاء إليه والثناء عليه وكل اتصال بين الإنسان وخالقه هو ذكر الله »(6) يظهر من خلال هذا المعنى.قال تعالى :( والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو

__________________

40 / 7 سورة الرعد : 13 / 17 سورة الإسراء : 17 / 44 سورة الفرقان : 25 / 58 سورة ق : 50 / 39 سورة الطور : 52 / 48 سورة النصر : 110 / 3).

(1) لسان العرب : مادة (ذكر).

(2) إحياء علوم الدين / الغزالي 339 : 1.

(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن : 181.

(4) سورة البقرة : 2 / 200.

(5) التصاريف : 158.

(6) التطور الدلالي : 203.

٤٥

ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلاّ الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعملون ) (1) .

وقال تعالى :( واذكر ربّك في نفسك تضرّعًا وخفيةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلين ) (2) .

قال أبو جعفر النحاس : « ولم يختلف في معنى (واذكر ربّك في نفسك ) أنه في الدعاء »(3) ولعل ما يؤيد هذا القول آية أخرى في السورة نفسها تبين معني الذكر هنا وهي قوله تعالى :( ادعوا ربّكم تضرّعًا وخفيةً ) (4) .

وكذلك قوله تعالى : (فاذكروني أذكركم ) ( 5) يمكن حملها على معنى قوله تعالى :( .. ادعوني أستجب لكم ) (6) والله أعلم(7) .

ولتقارب معاني الألفاظ المتضمنة لمعنى الدعاء والدالة على أن طريق الاتصال بالله سبحانه واحد فقد ورد لفظ الذكر مقترناً بالتسبيح كما في قوله تعالى :( ... واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشيّ والإبكار ) (8) وبهذا يتضح أن معنى التسبيح والذكر مقارب لمعنى الدعاء ومتداخل معه.

التعوّذ :

وهذا لفظ آخر له دلالته الكبيرة على الدعاء وسيتضح ذلك من خلال

__________________

(1) سورة آل عمران : 3 / 135.

(2) سورة الأعراف : 7 / 205.

(3) الجامع لأحكام القرآن 355 : 1.

(4) سورة الأعراف : 7 / 55.

(5) سورة البقرة : 2 / 152.

(6) سورة غافر : 40 / 60.

(7) الدعاء في القرآن : 89.

(8) سورة آل عمران : 3 / 41.

٤٦

معناه اللغوي واستعماله المجازي واستخدامه القرآني :

تأتي مادة عوذ لمعنيين الأول أصل والثاني يلحق به وقد بيّنهما ابن فارس في قوله : « العوذ : الالتجاء إلي الشيء ـ وهذا أولاً ـ ويحمل عليه كل شيء لصق بشيء أو لازمه »(1) ثانياً وجاءت الاستعاذة في كلام العرب بمعنى « الاستجارة والتحيّز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه »(2) .

والعوذ كذلك اللوذ والاعتصام ويقال « عاذ به أي لاذ به ولجأ إليه واعتصم »(3) و من المجاز في استخدام اللفظ « طير عياذ وعوذ عائذة بجبل وغيره مما يمنعها »(4) .

هذا مجمل معنى اللفظ في كلام العرب أما عن استعمال القرآن فإننا نرى تشابهاً كبيراً في أركان الاستعاذة والدعاء فالاستعاذة لا تصدر إلاّ عن طرف أدنى إلى من هو أعلى رتبة وبهذا يتحقق معنى الدعاء.

وقد بيّن الرازي أركان الاستعاذة وقسمها على خمسة أقسام هي « الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ به والمستعاذ منه والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة »(5) وسنحدد مظاهر هذا التقسيم على مستوى النص القرآني :

أما الاستعاذة : فهي باب الاعتصام بالله والركون إلى رعايته وهجر أوهام الفكر المتعلقة بغيره من قوى واهنة وقدرات زائفة فإنه جلّ وعلا سبب

__________________

(1) مقاييس اللغة : باب العين والواو وما يثلثهما (عوذ) ظ : المفردات : 365.

(2) الجامع لأحكام القرآن 89 : 1.

(3) لسان العرب : مادة (عوذ).

(4) لسان العرب : مادة (عوذ).

(5) مفاتيح الغيب 80 : 1.

٤٧

الأسبابب ومصدر القوى وفي هذا بعض من مفهوم الدعاء.

وجاءت الاستعاذة في القرآن على نحو سبع عشرة مرة في ستة تصاريف(1) حملت معنى الاعتصام واللجوء إليه تعالى وكما توسّط الدعاء بين الحثّ والاستجابة نرى في الاستعاذة حثّاً واستجابة قال تعالى :( وإمّا ينزعنّك من الشّيطان نزع فاستعذ بالله إنّه سميع عليم ) (2) وقال عزّ من قائل :( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّطان الرّجيم ) (3) أما مجيء الاستعاذة متعلقه بإجابتها ففي قوله سبحانه على لسان يوسف :( ... قال معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي إنّه لا يفلح الظّالمون ) (4) و إجابته أن « أعطاه الله تعالى خلعتين : صرف السوء والفحشاء حيث قال تعال :( ... لنصرف عنه السّوء والفحشاء ) (5) »(6) .

أما المستعيذ : فلقد تعددت أشخاصه وجاءت الاستعاذة غالباً على لسان أنبيائه تعالى قال عزّوجلّ على لسان موسى :( قال أعوذ بالله أن أكون من

__________________

(1) ظ : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : مادة ( عوذ ). وقد غفل الأستاذ عبد الرزاق نوفل في كتابه الإعجاز العددي للقرآن الكريم عن العدد الدقيق الذي وردت فيه الاستعذة في القرآن حيث ذهب إلى إنها تكررت في إحدى عشرة مرة كما تكرر ورود إبليس بالعدد نفسه والصحيح أنها وردت في سبع عشرة مرة.ظ : الإعجاز العددي القرآن الكريم : 97.

(2) سورة الأعراف : 7 / 200.

(3) سورة النحل : 16 / 98.

(4) سورة يوسف : 12 / 23.

(5) سورة يوسف : 12 / 24.

(6) مفاتيح الغيب 72 : 1.

٤٨

الجاهلين ) (1) وقال على لسان نوح :( قال ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم . ) (2) وقال آمراً رسوله الكريم :( وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين ٭وأعوذ بك ربّ أن يحضرون ) (3) .

أما المستعاذ به فهو الله جلّت قدرته ولم تأت الاستعاذة في القرآن والاعتصام إلاّ به تعالى سوى موضع واحد نقل القرآن فيه استعاذة الإنس بالجن فلم يزدهم اعتصامهم واستعاذتهم بالجن فلم يزدهم اعتصامهم واستعاذتهم بالجن إلاّ مشقّة قال تعالى :( وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً ) (4) وفي الاستعاذة بالله تعالى إشارة إلي أمرين :

أولهما : إقرار بوحدانيه تعالى من جهة وبكمال صفاته وقدراته من جهة أخرى إذ لو كان غيره قادراً على « تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات »(5) لاستعاذ به الإنسان ودعاه وطلب منه ذلك إلاّ أنه عزّ ذكره تفرّد بالوحدانية والقدرة على كل شيء.

وثانيهما : إنّ الداعي أو المستعيذ مقرّ باستعاذته على نفسه باضعف والقصور ولخالقه بالغنى والتكرّم والمقتصر دائماً بمنظر « شاهده لكمال عجز والقصور ولخالقه بالغني والتكرّم والمقتصر دائماً بمنظر « شاهده لكمال عجز النفس وغاية قصورها »(6) و بموضع طلب دعاءه والغني أبداً في حال أجابه ـ وما في ذلك ريب ـ وقد دعاهم إلي الاعتصام به واللجوء إليه تعالى فكيف

__________________

(1) سورة البقرة : 2 / 67.

(2) سورة هود : 11 / 47.

(3) سورة المؤمنون : 23 / 97 و 98.

(4) سورة الجن : 72 / 6

(5) مفاتيح الغيب 97 : 1.

(6) المصدر نفسه 81 : 1.

٤٩

يحرمهم مما دعاهم إليه؟

والمستعاذ منه : جاء في أغلب الآيات من شياطين الجن ـ العدو الأبدي للإنسان ـ وشياطين الإنس الطاغين والمتكبّرين في الأرض قال تعالى :( وإمّا ينزعنّك من الشّيطان نزع فاستعذ بالله إنّه هو السّميع العليم ) (1) .

وقال تعالى :( وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إنّي أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ٭وقال موسى إنّي عذت بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب ) (2) .

وجاء التعوّذ من الظلم كذلك من الفاحشة قال تعالى :( ... قال معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي إنّه لا يفلح لظالمون ) (3) .

والتعوّذ من الظم كذلك :( قال الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذا لظالممون ) (4) .

أما المستعاذ لأجله : فلا بدّ من القول إن علة استعاذة الإنسان أصلاً هي رغبته في كسب الخيرات ودفع المكروهات وما زال ذلك في الإنسان فطرة في السكون إلى الخير الاستنفار من الشر فهو في طلب استعاذة متواصلة وأدام ـ يقيناً ـ في الإنسان أن لا منبع للخير ولا صارف للشر إلاّ الحق تعالى فهو في حصن دائم ينهل مما يأمل فيه ويأمن مما يخاف منه.

ويتجلّي من خلال استعراض أركان الاستعاذة في القرآن أنها مظهر من مظاهر الأعلى وبهذا يتحقّق أصل الدعاء.

__________________

(1) سورة فصلت : 41 / 36.

(2) سورة غافر : 40 / 26 و 27.

(3) سورة يوسف : 12 / 23.

(4) سورة يوسف : 12 / 79.

٥٠

الفصل الثاني

صيغ الدعاء وصوره في القرآن الكريم

تعدّد الأقوال في أقسام الكلام لدى العلماء فمنهم من أجمل في تحديدها وتقييدها ومنهم من أفرط في تقسيمها فالذي حدّدها جعل للكلام قسمين : خبر وإنشاء وهو اختيار حذّاق النحاة وأهل البيان نصّ على ذلك السيوطي وقال : « اعلم أن الحذّاق من النحاة وغيرهم وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما ـ يعني الخبر والإنشاء ـ وإنّه ليس له قسم ثالث »(1) .

أما من جعل للكلام أقساماً فقد زاد فيها تصاعداً إلى ثلاثة(2) أقسام وأربعة وخمسة وسبعة وتسعة وحتى أوصلها بعضهم إلى عشرة أقسام كما « عند بعض أهل العلم خبر واستخبار وأمر ونهي ودعاء وطلب وعرض وتحضيض وتمنّي وتعجّب »(3) والمتأمل فيها يلحظ أنّ من أنقصها أسقط أقساماً وضمّها إلى غيرها ومن زادها رأى في الكلام مصاديق لا تتم إلاّ بتفريعها وما أوجد هذا التباين في تقسيم الكلام تداخل أقسام الكلام

__________________

(1) الإتقان 256 : 3.

(2) الأساليب الإنشائية في النحو العربي / عبد السلام هارون : 18.

(3) الصاحبي في فقه اللغة / ابن فارس : 179.

٥١

مع بعضها وخروجها من معانيها الرئيسة إلى معان أخر فالخبر ـ مثلاً ـ يقع موقع الإنشاء كما يقع الإنشاء موقع الخبر.

والتداخل في أقسام الكلام العربي يخدم المعاني والأغراض التي هي مراد المتكلم فضلاً عما يزيده تنوع أشكاله قوة في دلالة من دون خلل أو زلل يؤذي المعنى ويبعد القصد بل العكس هو ما يكون دائماً.

وأساليب الطلب ذاتها تتداخل فيما بينها وتتقارب في دلالتها وما أعنيه منها ـ هاهنا ـ أسلوبا الأمر والنهي اللذان يولّدان أسلوب الدعاء ويخرجانه ـ بقيد الرتبة والاستعلاء ـ عنهما مجازاً وبمعنى آخر أقول : إن النهي النفي من الإيجاب »(1) فإذا كان الأمر كما يعرفه بعضهم : « طلب الفعل بصيغة مخصوصة »(2) فالنهي طالب منع الفعل وكفه وعليه فإن قولنا : ( لاتضرب ) كف ونهي لقولنا : ( اضرب )(3) و نزول النهي من الأمر منزلته هذه مقبول وشائع صرّح به ابن الشجري في أماليه إذ قلت : ( نهيته عن كذا ) فقد أمر ته بغيره فإذا قلت : لا ترحل فكأنك قلت : أقم وإذا قلت : لا تصم فكأنك قلت : أفطر وكذا إذا أمرته بشيء فكأنك قلت : لاتقم وإذا قلت : صم فكأنك قلت : لاتفطر »(4) .

__________________

(1) الأشباه والنظائر / السيوطي 304 : 2.

(2) شرح المفصل / ابن يعيش 58 : 7.

(3) ظ : الكتاب / سيبويه 136 : 1.

(4) الأمالي الشجرية / ابن الشجري 278 : 1 ظ : الأصول في النحو / ابن السراج 188 : 2.

٥٢

و مظاهر اشتراك الأمر والنهي واضحة(1) وليس عدها وإحصاؤها من اهتمامنا إلاّ أنّ ما يخصنا منها قيد الرتبة والاستعلاء اللذين يظهران المعنى الحقيقي لصيغتي الأمر والنهي ويخرجان عنهما مجازاً الالتماس والدعاء بمعنى أن الأمر والنهي لا يصدران إلاّ من العالي إلى الداني ويكاد أجلّة العلماء من الذين تعرّضوا لدراسة الأمر والنهي يتفقون على ذلك وأعني منهم الأصوليين والبلاغيين والنحاة. أما الأصوليون فقد تحدّثوا عن الأوامر والنواهي بقدر تعلّقها بالأحكام الفقهية وكيفية استنباطها من كتاب الله تعالى وهم يجمعون علةى الاحتراز في تعريفهم للأمر من خروجه إلى معانٍ أخرى لذا فكلمة الأمر « يجب ألاّ تطلق إلاّ إذا كان الآمر أعلى مرتبة من المأمور فإما إذا كان دون رتبته أو كان مساوياً له فإنه لا يقال أمره والنهي جارٍ مجرى الأمر في هذه القضية »(2) وعلّة الاحتراز بهذا القيد ـ الرتبة والاستعلاء ـ هو خروج الأمر إلى الدعاء أو الالتماس « لأن الأمر يتعلق بالمأمور فإن كان المخاطب ممن يجوز أن يكون مأمور المخاطب كان آمراً وإن كان ممن لا يجوز أن يكون مأموره ولا يكون آمراً كقول الداعي : اللهّم اغفر لي وارحمني يكون سؤالاً ودعاءً لا أمراً »(3) أما الباغيون فقد كانت الرتبة والاستعلاء محط نظرهم ومدار كلامهم

__________________

(1) ظ : معجم المصطلحات البلاغية وتطورها / أحمد مطلوب 244 : 3 صيغ الأمر والنهي في القرآن الكريم / محمد علي تقي الطحان : رسالة ماجستير (على الآلة الطابعة) : 187.

(2) الذريعة إلى أصول الشريعة / اسيد الشريف المرتضي 35 : 1 ظ : أصول السرخسي 11 : 1 أصول المظفر / محمد رضا المظفر 38 : 1.

(3) أصول السرخسي / السرخسي 11 : 1 ظ : الإحكام في أصول الأحكام / الآ / دي 204 : 2 ولابدّ من القول إنّ الأصوليين دروسوا الأوامر والنواهي ضمن مباحثهم اللفظية وقد قسموا الأمر على قسمين : واجب ومندوب.

٥٣

لذا فقد اشترطوهما في صدور الأمر والنهي الحقيقيين وخروج الدعاء عنهما مجازاً لكون كل من « صيغة الأمر والدعاء واحدة لأنّ كل واحد منهما طلب وإنّما يتفاوتان في الرتبة »(1) فمعنى تفاوتهما بالرتبة أن الدعاء يصدر بصيغة الخضوع ة التذلّل بعكس الأمر ـ والنهي ـ الحقيقي الذي يصدر بصورة القوة وبدلالة الوجوب في الائتمار. أما في كونهما دالّين على الطلب ـ فيخيل إليّ ـ أنّ ما يجري على الأمر يجري على الدعاء من حيث الصيغة والإعراب فضلاً عن ذلك أنّهما يجابان بجواب مجزوم على الطلب.

ويؤكّد البلاغيون على القرائن الدالّة في إطلاق صيغة الدعاء على الفعل الخارج عن الأمر لأنّ صيغة الأمر في حقيقتها « موضوعة لطلب الفعل استعلاء لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة »(2) و القرينة التي نقصدها هي ما تؤيد بقاء المعنى على حقيقة أو خروجه عنها وتوليد معنى آخر يأخذ من الصيغة ـ الأولى الحقيقة ـ دلالتها العامة فضلاً عن دلالته الخاصة فصيغة الدعاء هي عينها صيغة الأمر تضمّنت مع دلالتها العمة ـ الطلب عموماً ـ دلالة خاصة هي الطلب على سبيل التضرّع والتلطّف إلى حد التذلّل. وبذلك يظهر أن صيغة الأمر تولد حسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام فإذا استعملت على سبيل التضرّع كقولنا : « ( اللهّم اغفر وارحم ) ولّدت الدعاء »(3) و ما يقال عن الأمر يقال عن النهي لأن « النهي محذو به حذو الأمر في أن أصل استعمال ( لاتفعل ) أن يكون على سبيل الاستعلاء وإن استعمل على سبيل

__________________

(1) الكشاف 15 : 1 وأكد هذا المعنى الطبرسي عند تعريفه الدعاء بقوله « الدعاء طلب الفعل من المعو ونظيره الأمر والفرق بينهما يظهر بالرتبة » مجمع البيان 76 : 1.

(2) الإيضاح / القزويني 241 : 1.

(3) مفتاح العلوم / السكاكي : 453.

٥٤

التضرّع سمي دعاء »(1)

و ذهب باحث معاصر(2) إلي أن البلاغيين قد تابعوا الأصوليين في اشتراط الاستعلاء للأمرفي تعريفاتهم ولما كان الأصوليون مختلفين في اشتراطه فلم يقطع البلاغيون برأي ثابت بل قالوا : الظاهر في صيغ الأمر والنهي الاستعلاء ولا يري الباحث ذلك حكماً دقيقاً.

فليس بخافٍ على أهل البلاغة أن ثمة فرقاً بين الرتبة والاستعلاء فالتمايز بالرتبة ـ لا شك في أنّه ـ يتضمّن التعالي عموماً في حين أن الاستعلاء قد يكون ضمن الرتبة الواحدة عندما يقع الآمر أو الناهي في حال من الأحوال مستعلياً على المأمور وهم من رتبة واحدة. وهو ما حدا بالأصوليين على القول بالأمر الواجب والمندوب(3) أي أنّ الأمر والنهي عندما يصدر فإما أن يكون واجباً للطاعة أو مندوباً وهذا ما تعرّض له البلاغيون وفرّقوا بين صدور الأمر من العالي رتبة أو المستعلي ضمن الرتبة الواحدة فإن صدر الأمر من عالي الرتبة يستلزم وجوب تنفيذ الفعل أما في صدوره من المستعلي ضمن الرتبة الواحدة فيتطلب إيجاد الفعل دون الوجوب كما في الطلب الأول جاء في المفتاح : « ولا شبهة في أنّ طلب المتصور على سبيل الاستعلاء يورث إيجاد الإتيان به على المطلوب منه ثم إذ كان الاستعلاء ممن هو أعلى رتبة من المأمور استتبع إيجابه وجوب الفعل بحسب جهات مختلفة وإلاّ لم يستتبعه فإذا صادفت هذه أصل

__________________

(1) مفتاح العلوم : 545 الإيضاح 244 : 1.

(2) ظ : أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين / قيس الأوسي : 87 ـ 88.

(3) أصل تقسيم الأمر على : واجب ومندوب يستند إلي الأحكام الفقهية فما كان منها تكليفيّاً كان واجباً وما لم يكن كذلك كان مندوباً ولهذا التقسيم صور أخرى : ظ : الذريعة إلي أصول الشريعة / المرتضي 51 : 1 وما بعدها.

٥٥

الاستعمال بالشرط المذكور أفادت الوجوب وإلاّلم تفد غير الطلب »(1) ويظهر لي أنّ السكاكي قد فرّق بين إيجاد الفعل من جهة وبين وجوب إيجاده كل منهما يولد ويخرج الدعاء منه سواء في ذلك أكان الطلب من العالي رتبة أم من المستعلي ضمن الرتبة الواحدة فكل منهما يستدعي ويولد الدعاء وما الاختلاف بينهما ـ فيما يبدو لي ـ إلاّ لأن إيجاد الفعل على سبيل الوجوب يحمل دلالة التأكيد في الإتيان بالفعل أكثر وأقوى من دلالة إيجاد الفعل وتنفيذه بصورة عامة وكلاهما طلب صريح لتنفيذ الفعل أحدهما أوكد من الآخر.

وخلاصة القول : إنّ الدعاء عند البلاغيين يخرج ويولّد مجازاً من صيغتي الأمر والنهي وهم يشترطون في صدور الدعاء أن يكون الداعي أقل رتبة من المدعو أو أن يكون المدعو مستعلياً عليه وليس من أحد في ما اطلعت قال غير هذا وإن قيل غير ذلك فقد نظر القائل بعين أهل الأصول في مباحث الأمر وتقسيماتهم فيه.

أما النحاة فلم يشذّوا عن القاعدة في صدور الدعاء لذلك فقد اشترطوا الاستعلاء في صدور الأمر وجعلوا الدعاء خارجاص عنه لاستعظام أن يقال عن الدعاء إنّه أمر ونهي جاء في الكتاب « الدعاء : بمنزلة الأمر والنهي وإنما قيل دعاء لأنه استعظم أن يقال أمرو نهي »(2) والنحاة وإن قالوا بالرتبة والاستعلاء في صدور الأمر الحقيقي فقد بقيت تسميتهم لصيغة الدعاء ـ الخارجة عن الأمر

__________________

(1) مفتاح العلوم : 543.

(2) الكتاب 142 : 1 ظ : المقتضب / المبرد 44 : 2 الأصول 177 : 2 شرح المفصل / ابن يعيش 58 : 7.

٥٦

و النهي ـ أمراً ونهياً من باب الكل على الجزء وتعليل ذلك كما جاء في شرح الكافية إنّما سمى النحاة جميع ذلك أمراً لأنّ استعمال هذه الصيغة في طلب الفعل على وجه الاستعلاء ـ وهو في حقيقة الأمر ـ أغلب وأكثر وذلك كما سمّوا نحو « المائق » و « الضائق » اسم فعل لأن استعمال هذه الصيغة فيما هو فاعل حيقيقة ك « الضارب » و « القاتل » أكثر وكذا في النهي فإن قولك : « لا تؤاخذني » في نحو « اللهّم لا تؤاخذني بما فعلت نهي في اصطلاح النحاة وإن كان دعاء في الحقيقة »(1) .

ولعلّ للنحويين عذرهم في إطلاق تسمية الأمر أو النهي على الدعاء لأنهم أول ما يعنون بأمر الصيغة وما يلحقها من علامات الإعراب وما دامت صيغ الدعاء تسمية الأمر والنهي ـ لتولدها منهما ـ صحّ لديهم أن يطلقوا على الدعاء تسمية الأمر أو النهي وهذا ـ في رأي الباحث ـ تجاهل لدلالة الدعاء ومعناه الحقيقي فمن غير الممكن أن نطلق تسمية واحدة لفعل تختلف دلالة من صيغة إلى أخرى فدلالة الأفعال في الأوامر والنواهي الإلهية كما في القرآن الكريم حتماً تتباين وتفترق عن دلالات الأفعال الدعائية في القرآن فدلالة الأفعال ـ على الأمر والنهي ـ في قوله تعلى :( يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم ولا تجسّسوا لا يغتب بعضكم بعضاً ) (2) . تختلف عن دلالة الأفعال في قوله جلّ وعلا على لسان المؤمنين :( ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد ) (3) .

__________________

(1) شرح الكافية في النحو 267 : 2 ظ : الطراز / العلوي 281 : 3.

(2) سورة الحجرات : 49 / 12.

(3) سورة آل عمران : 3 / 194.

٥٧

فصيغ الأفعال في الآية الأولي صيغ أمر ونهي محض وصريح لا دلالة فيهما على غير هذا قطعاً وليس الأمر كذلك في الآية الثالثة فدلالة الأمر والنهي في قوله : (آتنا ) (ولا تحزنا ) لانحمل منهما إلاّ ما يلحق الأوامر من الحركات أما دلالتها الحقيقة فهي الدعاء الصادر بتلطّف وخضوع ورغبة تملأ الوجدان بفيض من طلب النجاة والخلاص في ذلك اليوم إذا فليس في الآية الأخيرة أي معنى من معاني الأمر أو دلالة من دلالاته وعلى ذلك ومن الأقل ـ فيما يتعلق بكتاب الله العزيز يجريعليها ما يجري على فعل الأمر والفعل المضارع من الحالات والأحكام الإعرابية فهذا أبلغ لمراد المتكلم وأمكن لفهم السامع وأنسب لأدب الخطاب ومقاصده وكيفية تولّد دلالاته من مصدر واحد ولم أجد ـ فيما اطلعت عليه ـ إشارة إلى ذلك عند البلاغيين وكأنّهم قد تجاهلوا ذلك وتناسوه وهومن جواهر كنوزهم الدلالية التي ما فتئوا يجلونها ويظهرونها ولم يتعرّض غير البلاغيين إلى ذلك اللهّم إلاّ الزركشي إذ يؤكد على أنّ الفعل في قوله تعالى :( ... اغفر لنا . ) (1) و قوله تعالى :( ... اهدنا ) (2) « فعلا دعاء أو سؤال ولا تقول فعلي أمر تأدّباً من جهة أن والأمر يستلزم العو والاستعلاء »(3) وما ذهبنا إليه لا يعني إغفال أصل الدعاء وتولّده من الأمر والنهي فقد أشرنا إلي ذلك مسبقاً ولكن ما نريد أن نوضحه هو إنّ الفعل (اغفر) فعل دعاء والدعاء يصدر من الأمر والنهي لا أن نقول فعل أمر أفاد معنى الدعاء والفرق بين القولين لا يمكن إخاؤه لدلالة الواضحة.

__________________

(1) سورة الحشر : 59 / 10.

(2) سورة الفاتحة : 1 / 6.

(3) البرهان / الزركشي 306 : 1.

٥٨

و خلاصة القول إنّ الدعاء أسلوب إنشائي يقع ضمن أساليب الطلب الإنشائي يخرج عن الأمر والنهي مجازاً ولابد في صدوره من التذلّل والخضوع وقد تناوله الدارسون من الأصوليين في مباحثهم اللفظية والبلاغيين في خروج الأمر والنهي إلى معانٍ مجازية والنحاة كصيغ من صيغ الأمر من النهي(1) .

صور الدعاء في القرآن الكريم :

ليس من اختلاف كبير وتباين بين صيغ الدعاء في العربية وصورها في القرآن(2) ونستطيع أن نحدد صور الدعاء في القرآن الكريم بما يلي :

الصورة الأولي : الدعاء الخارج عن الأمر مجازاً.

الصورة الثانية : الدعاء الخارج عن النهي مجازاً.

الصورة الثالثة : الدعاء بلفظ الخبر(3) .

وسيحاول البحث التعرّض لهذه الصور بشكل مفصّل.

الصورة الأولي ـ الدعاء الخارج عن الأمر مجازاً :

يتمثل الأمر في العربية بعدّة صيغ هي :

أ ـ صيغة فعل الأمر ( صيغة إفعل ).

ب ـ صيغة إسم فعل الأمر.

__________________

(1) ظ : شرح الكافية / الرضي الأسترابادي 244 : 2.

(2) ترد صيغة أخرى للدعاء في العربية وهي ( لا ) النافية والفعل الماضي إلاّ أنّه لم يرد لها شاهد في القرآن الكريم والله أعلم بالصواب.

(3) ظ : الأساليب الإنشائية ف النحو العربي / عبد السلام هارون : 11 ـ 12.

٥٩

جـ ـ صيغة لام الأمر ( اللاّم الجازمة ) والفعل المضارع ( ليفعل ).

د ـ صيغة المصدر النائب عن فعل الأمر.

والأمر بكل صيغه وأنواعه جاء في القرآن الكريم وتوزّعت معاني هذه الصيغ ودلالاتها في ثلاثة وعشرين معنى(1) من بينها الدعاء الذي تمثّل وخرج عن صيغ الأمر الآتية :

الصيغة الأولى ـ صيغة فعل الأمر (فعل الدعاء) :

أكثر الدعاء الوارد في القرآن الكريم جاء على هذه الصيغة قال تعالى :( وقل ربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ) (2) حيث ورد الدعاء بصيغة الأمر المجازي بفعل صريح مرّة وبفعل محذوف مرّة أخرى في حدود مائة وأربعين موضعاً ( 140 )(3) و حذف في حدود ثلاثة عشر موضعاً كما في قوله تعالى :( ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي موّمنًا وللمرمنين والمؤمنات ) (4)

و سبقت الإشارة إلى ما اخترناه من إطلاق تسمية فعل الدعاء على هذه الصيغ بدلاً من فعل الأمر كي تتناسب دلالة الفعل مع تسميتها تناسباً كليّاً وما تناولناه هنا لا يخرج عما نذهب إليه بل بيان لتولّد الدعاء من صيغ الأمر.

__________________

(1) ظ : دقائق التصريف / ابن المؤدب : 118 ـ 120.

(2) سورة الإسراء : 17 / 80.

(3) وهم أحد الباحثين حين ظنّ أن التعبير بلفظ الدعاء وبهذه الصيغة جاء صريحاً في القرآن الكريم : رسالة دكتوراه (على الآلة الطابعة) الجبوري : 524.

(4) سورة نوح : 71 / 28.

٦٠