الدعاء المعاني والصيغ والأنواع

مؤلف: الدكتور محمد محمود عبّود زوين
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 137
مؤلف: الدكتور محمد محمود عبّود زوين
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 137
كلمة المركز
الحمد لله حمداً كثيراً يليق بجلاله ، وصلّي الله نبيّنا محمد وخير البرية آله وبعد.
قد يتوهّم البعض ـ نتيجة التأثّر بالحضارة المادية المعاصرة والأفكار الدخيلة الداعية في ظلّ تلك الحضارة إلي التجديد في فهم القضايا الإسلامية ولو بتأويل ثوابتها بهدف محاولة إبراز توافقها وانسجامها مع المفاهيم الحضارية التي فرضتها المدينة المعاصرة ـ أن مسألة الدعاء خاضعة للحالات النفسية التي يسيطر عليها الخوف من المستقبل ويصاحبها القلق والاضطراب نظير ما كان عليه الناس في عصور العجز المادي عن دفع الكثير من الآفات المختلفة من العوارض الطبيعية أو الأمراض الوبائية ممّا كان ذلك يشكّل البعد الأوسع في قلق الناس وتعلّقهم بالحالة الغيبية والإيمان المطلق بقدرتها علي حلّ تلك المعضلات ومنها حالة الدعاء والتوسّل بالله عزّوجّل بأنبيائه وأوصيائهم لصرف مثل تلك الأخطار المتوهّمة ومنها حالات المرض والفقر وغير ذلك مما يصيب الناس يومذاك ويعجزوا أمامها عن فعل شيء.
وأساس هذا التوهّم يقوم علي أمور عدّة لعلّ من أهمّها : حسن النية بدعوات التجديد مطلقاً! مع الانبهار والتأثّر الأعمي بالحضارة المادية والتقنية المعاصرة من دون إدراك لما أظهرته تلك الحضارة المادية الإلحادية من ردود فعل حادّة تجاه الانحراف الفكري والعقدي للكنيسة وتطبيق هذا علي المفاهيم الإسلامية هراء لا معني له أصلاً إلاّ الجهل أو التعصّب وعدم الموضوعية وإلاّ أين موقع الفكر الكنسي المنحرف من دين الإسلام المتكامل الذي أتقن الله سبحانه فيه كلّ شيء ووضع القوانين المحكمة والأسس المتينة لصنع الإنسان المؤمن القويّ كي يسهم مع غيره من المؤمنين في بناء المجتمع الصالح القائم علي أساس العدل والمساوات والقضاء علي كل مظاهر الانحراف والفساد الأخلاقي والدعاء لايلغي دور الداعي في بناء أسرته ومجتمعه بناءً إسلامياً فاضلاً وتوسّل المخلوق الفقير العاجز بالخالق القويّ القادر يسقط ما أوجبه الخالق عليه من الجدّ
والاجتهاد والعمل الدؤوب للوصول إلي أهدافه وتحقيق طموحاتهو لايتيح له التواكل والانزواء والتعلّق المطلق بالغيب وإهمال كلّ سبب ولايقول بغير هذا مسلم قط إلاّ تافه أو سفيه.
نعم الدعاء له قيمة عظيمة بل هو أفضل العبادة لأنّه تجسيد للصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق ومنهج الدعاء وموضوعيته تكمن في استقراء القواعد الإيمانية التي ينطلق من خلالها الدعاء وأما الحكم من خلال المظاهر السلبية المنسوبة إليه قسراً نتيجة القياس الخاطئ بجملة الأطروحات الغريبة التي جاءت بها الكنيسة وأتباعها ممن خرجوا بالديانة المسيحية عن مرتكزاتها السليمة جرياً وراء نزواتهم وغرائزهم الحيوانية النهمة فهو من الإجحاف والظلم بمكان.
ونحن لاننكر أهمية هذا التحوّل الهائل في إدراك الكثير من الأمور التي كانت خافية قبل ظهور تلك الحضارة المادية والتقنيةالعالية حتّي تبدّد إثرها الكثير من المخاوف التي كانت سائدة قبل ذلك إلاّ أن هذا لايلزم ما ذكر من تأويل منحرف للدعاء سيما وأن العلم الحديث نفسه جاء ليؤكّد بقوّة أن هنالك قوّة قادرة مدبّرة مبدعة تتحكّم بكلّ مقدرات الكون والإنسان لايملك أمامها إلاّ الإقرار بعجزه وضعفه رغم ما بلغه من درجات عالية من الرقي والتحضّر.
وإذا انضاف إلي ذلك بأنّ الله عزّوجّل قد أمر عباده بدعائه وضمن لهم الاستجابة علمنا أن الدعاء طريق إلي القبول وبلوغ المأمول.
لقد وضعت الشريعة السمحاء آداباً معينة للدعاء وشروطاً تستكمل بها صورته كما بينت لنا أسفاراً نادرة من الأدعية لمختلف الشؤون وقد صدر عن مركز الرسالة كتاب (الدعاء حقيقة وآدابه وآثاره) للأستاذ علي موسي الكعبي غير أن بحث الدعاء هنا جاء علي منهج آخر تقيّد بحدود الكتاب العزيز فقط ليجلو لنا بدراسة قرآنية بكر عن معانيه ومعالمه وصيغه في القرآن الكريم.
والله الهادي إلي سواء السبيل.
مركز الرسالة
المقدّمة
الحمد لله الذي أعزّ عباده بدعائه وضمن لهم الكرامة بإجابته والصلاة علي خير خلقه من الأولين والآخرين أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد الصادق الأمين وعلي آله الغرّ الميامين الذين طابت أرومتهم وطهرت نفوسهم فدعواالله مخلصين له الدين وبعد.
فقد استظللت ـ علي فقر مني ـ بفيء الدعاء القرآني العجيب فأسرتني قوّة بيانه وسحرني جمال اسلوبه وأطربني معناه الرشيق فكان أصفي من كلّ نبع وأعذب من ماء الفرات من ظمئ من نهل منه ولااستلذّ من ارتوي بغيره وصاحبت آياته البينات بصادق الأحاسيس وخالص المشاعر فوجدتها خير ما يجسّد فطرة الإنسان في علاقته بالله تبارك وتعالي ورأيتها مهذّبة للطباع منظمة للسلوك مصقلة للنفوس من ربقة الشهوات وأسر الماديات داعية إلي سبيل الهداية مبشرة أهلها بالارتقاء في مدارج الكمال والقرب من مواطن الرضا ورحمة الجليل المتعال.
وقرأت بإمعان كتاب الرسالة الخاتمة والدين الكامل والنعمة التامّة والنور المبين وتزوّدت من أدعية المعبّرة عن مدلولات لغوية وبلاغية فريدة تتفاعل بقوّة مع واقع الناس علي أمل تقديمها في هذه الدراسة ضمن منهج علمي يعتمد علي ما يدركه من منطق القرآن الكريم في تحليلاته واستنتاجاته بعيداًعن المنهج القائم علي أساس مفهوم الدعاء في الإسلام وما
يتّصل بذلك من الأحديث والآثار وأقوال العلماء كظاهرة بيانية لها طريقها في الخطاب القرآني وبنائه الفنّي المعجز ناظراً في ألفاظها وسياقها ونظمها المتناسق بعين أهل البيان من المفسّرين والنحويين والبلاغين.
وبناء علي ذلك التمست بعض مظاهر ودلالات الدعاء في ثلاث فصول :
اختصّ الأول بالكشف عن معاني الدعاء في القرآن الكريم.
وتناول الثاني صيغ الدعاء وصوره في القرآن الكريم.
وجاء الفصل الثالث ليكشف عن معالم الدعاء وأنواعه في القرآن الكريم.
وعلي الرغم من اكتمال البحث عن مظاهر الإعجاز البياني المختصّة لآيات الدعاء في القرآن الكريم من المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية بفصل رابع وكذلك الكتمال بحث المعاني النحوية والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية في أدعية القرآن المجيد في فصل خامس إلاّ أني آثرت تقديم الفصول الثلاثة الأولي في هذه الدراسة فحسب تلبية لرغبة الناشر وطموحنا في تطوير الفصلين المذكورين ونشرهمافي كتاب آخر.
وهنا لابدّ من أن أقرّ علي نفسي بالقصور والتقصير في محاولتي الوقوف علي ظاهرة الدعاء في كتاب الله جلّ جلاله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعذري في ذلك أن أرتشف هداه وأن أبصر بنوره فإن وفّقفت وأحسنت فهذا ما لا يسعني شكره إلاّ بنعمةٍ ترقي بي لشكره وحمده تعالي ، وإن كان غير ذلك فهذا ما لا يطاق حمله ولا الصبر عليه إلاّ بدعاءٍ مخلص مقرّ بالذنب مستغفر منه راجٍ الهداية لما فيه سلامة اليوم وفوز الغد إن شاءالله تعالي وهو حسبي ومجيبي وله الحمد أولاً وآخراً علي ما أنعم وأكرم.
الفصل الأوّل
معاني الدعاء في القرآن الكريم
المبحث الأوّل
الدعاء في اللغة والاصطلاح
أوّلاً ـ الدعاء لغة :
اشتقاقه :
« دَعَا » لفظ عربي أصله «دَعَا ولأنّه من دعوت إلاّ أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت»(١) لذا « فالدال والعين والحرف المعتل أصل »(٢) و مصدر دَعَا الثلاثي دعوةً ودعاءً(٣) فتقول : دَعَا يدعو دعاءً كما تقول : دعا يدعو دعوةً « والمفعول مدعوّا ادعو دعاءً »(٤) وجمع اسم الفاعل منه « دعاة وداعون كقضاة وقاضون »(٥) ، والدّعوي : اسم لما تدّعيه والدعوة تصلح أن تكون في معني الدعاء لو قلت : اللهمّ أشركنا في صالح دعاء المسلمينو دعوي المسلمين
__________________
(١) الصحاح / الجوهري مادة ( دَعَوَ ).
(٢) مقاييس اللغة / ابن فارس ، باب العين والدال وما يثلثهما ( دَعَوَ ).
(٣) ظ : تهذيب اللغة / الأزهري : باب العين والدال ( دَعَوَ ).
(٤) جهرة اللغة / ابن دريد / مادة ( دَعَوَ ).
(٥) تاج العروس / الزبيدي : مادة ( دَعَوَ ).
جاز وحكي ذلك سيبويه وأنشد :
« قالت ودعواهاكثير صخبه »(١) (٢) .
ويطلق الدّعّاء كصيغة مبالغة « علي الشخص كثير الدعاء »(٣) .
دلالة المادة :
وتلغب علي مادة دعا في أصولها واشتقاقها معني الطلب ودلالة فالدعاء في جوهره « طلب الطالب للفعل من غيره»(٤) وهذا ما حمل الزمخشري علي أن يجعل الدعاء بمعني النداء « فدعوت فلاناً وبفلانٍ : ناديته وصحت به »(٥) بوصف النداء أسلوباً من أساليب الطلب إلاّ أن في الدعاء معني النداء وأكثر من ذلك إذ إن النداء أحد معاني الدعاء ـ وأظن ـ أن ماجوز أن يكون الدعاء بمعني النداء هو تصدّر أغلب الدعاء بأداة النداء ظاهرة أو مقدّرة فضلاً عما يشترك به معني الدعاء والنداء في « أن تميل الشيءَ إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك »(٦) وهذا ما جعل النداء بمعني الدعاء والعكس صحيح.
استعمال مادة « دعا » :
نلتمس من استعمال العرب لهذا اللفظ ـ حقيقة ومجازاً ـ أصالة الكلمة وانتماءهاإلي فصيح كلامهم واستخدامها في أكثر نشاطهم اللغوي ومن ذلك قولهم الادّعاء : ويكون في الحرب بمعني الاعتزاء أي أن تقول : أنا ابن
__________________
(١) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).
(٢) لبشر بن النكث ، ظ : الكتاب٤ / ٤١.
(٣) تاج العروس : مادة (دعو).
(٤) المخصص / ابن سيده ٨٨ : ١٣.
(٥) أساس البلاغة / الزمخشري : ٢٧٢.
(٦) مقاييس اللغة : باب الدال والعينوما يثلثهما (دعو).
فلان(١) قال الشاعر(٢) :
ونجرّ في الهيجا الرماح وندّعي
وقولهم : تداعوا عليه تجمّعوا(٣) فكأنما طلب أحدهما من الآخر ذلك ودعابعضهم بعضاً والدعاء للإنسان يمكن أن يكون في بابين : له وعليه فدعا «له : طلب له الخير وعليه : طلب له الشر»(٤) وهذا ما سار عليه القدماء الذين صنّفعوا في الألفاظ واختيارها فجمعوا أدعية كثيرة مما أثر عن العرب في جاهليتهم وإسلامهم وأول ما نجد ذلك في كتاب «تهذيب الألفاظ» حيث وضع ابن السكيت (ت / ٢٤٤ه) باباً في الدعاء علي الإنسان بالشر وآخر في الدعاء له بالخير(٥) وسار علي نهجه من ألّف في هذا المجال حتي كادوا أن يستوعبوا ما قالته العرب في ذلك(٦) وفي العصر الإسلامي سمي الرسول الكريم بـ « داعي الله أي إلي توحيده وما يقرب منه ويطلق الداعي علي المؤذن لأنّه من الله »(٧) .
وتفيض معاجم العربية باستعمال لفظ الدعاء مجازاً ومن ذلك قول العرب :
__________________
(١) البيت للحادرة الذبياني : وصدرة : ـ ونقي بأمن ما لنا أحسابنا ـ ظ : المفضليات : ٩.
(٢) القاموس المحيط / الفيروزآبادي : مادة (دعو)
(٣) معجم متن اللغة / أحمد رضا : مادة (دعو)
(٤) كنز الحفاظ في كتاب تهذيب الأخلاق / أبو يوسف بن إسحاق السكيت : ٥٧٠ ـ ٥٨٠ وانظر كذلك كتابه : إصلاح المنطق : ٤٠٥.
(٥) ممن صنّفوا في هذا الباب : ظ : الهمذاني في الألفاظ الكتابية : ١٧٠ ـ ١٧١ ، ظ : قدامةبن جعفر (ت / ٣٣٧ه) في جواهر الألفاظ : ٣١٦ ، ٣٧٨ ، ٣٨٩ ، ٣٩١ ، ٤٢٥ ، ظ : ابن سيده في المخصص ٨٨ : ١٢.
(٦) تاج العروس : مادة (دعو).
(٧) لسان العرب : مادة (دعو).
« لصريخ الخيل في الحرب الداعية »(١) فكأنها بصوتها تدعوهم وتستنصرهم وكذلك قولهم : « داعية اللبن : وهو ما يترك في الضرع ليدعو ما بعده »(٢) . ومنه كذلك « تداعت الحيطان إذ سقط واحد وآخر بعده فكأن الأول دعا الثاني »(٣) وقالت العرب : « دعاه الله بما يكره : أنزله به »(٤) ويقال أيضاً : دعا فلاناً مكان كذا إذا قصد ذلك المكان كأن المكان دعاه وهذا من فصيح كلامهم(٥) .
قال ذو الرمة(٦) :
دعت ميّة الأعداد واستبدلت بها |
خناطيل آجال من العين خذّل |
ومما تقدّم تبدو أصول الكلمة العربية ويتبيّن اشتقاق جذورها الأولي وتقلّبها في الاستعمال بين الحقيقة والمجاز.
الدعاء في الاصطلاح :
يصعب علي الباحث أن يضع تعريفاً جامعاً للدعاء لأننا إن فعلنا ذلك فسوف نصدر عن نظر ضيق وأساسٍ واهٍ في تحديد ظاهرة حيّة متجدّدة بتجدّد أحوال الإنسان تجاه خالقه في حاجاته ومشاعرة إلاّ أنّه يمكننا أن
__________________
(١) لسان العرب : مادة (دعو)
(٢) نهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو) ، ظ : النهاية في غريب الحديث والأثر : قوله لضرار بن الأزور : (دع داعي اللبن لا تجهده ) أي ابق في الضرع قليلاً من اللبن ١٢٠ : ٢٠.
(٣) مقاييس اللغة : باب الدال والعين وماثلثهما (دعو).
(٤) أساس البلاغة : ٢٧٢ ، ظ : معجم العين والدال (دعو).
(٥) مقاييس اللغة : باب العين والدال وما يثلثهما (دعو).
(٦) ديوان ذي الرمة : ٥٨٧ ، ظ : اللسان ( خنظل ، عدد ) ، دعتها الأعداد : أي ارتحلت إلى حيث الأعداد ، وهي المياه التي لاتنقطع واحدها ( عد ) ، استبدلت بها : أي استبدلت الدار بمية تلك الوحوش.
نلتمس مفهوماً يشرف بنا علي حدود الدعاء.
ومن هذا السبيل عرف الدعاء بأنّه « الرغبة إلي الله تعالي فيما عنده من الخير والابتهال إليه بالسؤال »(١) فالرغبة بالسؤال بمعني التوجّه والطلب وهوكذلك « صلة روحية بين العبد وبارئه »(٢) .
وصلة كهذه لا تحدها المسافة ولا يقيّدها زمن فهي حاضرة في كل وقت حاضرة في نفس الإنسان وبين جنبيه فأيّ صلة تكون أقرب لنا من حبل الوريد قال تعالي :( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (٣) .
ولكن النفس تأبي إلاّ أن تترجم هذه المشاعر فتكون «رجوات قلب وهمسات فؤاد ونبضات وجدان وترنيمات عابد»٤) .
وما دام الدعاء حالة إنسانية تجسّد واقعاً نفسيّاً بين العبد وخالقه تتعلّق بعواطف الإنسان وحاجاته فقد الختلف الدراسون ـ وهم كثر ـ في تصوره وتعريفه إلاّ أن تصوراتهم جرت في تيار واحد مثّلث استجابة الإنسان بفطرته لنداء ربّه فهو «شعور القلب بالحاجةإلي عناية الله تعالي فيما يطلب وصدق التوجّه فيما يرغب»(٥) ويعرّف بعضهم الدعاء بأنّه « ترنيمة المؤمن وغذاؤه الروحي الذي يربطه بالحياة في كل آن بل إن الدعاء هو فريضة المؤمن الممزوجة بكلّ ألوان
__________________
(١) تاج العروس : مادة (دعو) ظ : القاموس : مادة (دعو).
(٢) الأمثال في القرآن / محمود بن الشريف : ٩٥.
(٢) سورة ق : ٥٠ / ١٦.
(٤) الدعاء في القرآن / محمود بن شريف : ٧.
(٥) تفسير المنار / محمد رشيد رضا١٤ : ٢.
الطاعات »(١) والدعاء ـ كماأري ـ توجّه الإنسان روحاً وجسداً إلي خالقه معبّراً أشرف مصاديق ذلك التوجّه في ألفاظ وتعابير تشرق في النفس ملبّية نداءً إلهيّاً ومجلية حاجة فطرية في الطمئنان والسكون إلي قوةٍ لا تقهر وأنس لايوحش ورعاية لاتنتهي.
فحقيقة الدعاء إذاً « هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة والارتباط بعالم لا مبدأ له ولانهاية ولا حد ولاغاية لسعة رحمته وقدرته وإحاطته بجميع ما سواه فوق ما نعقل من معني السعة والاحاطة والقدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الداعي جميع وسائل نجح طلباته »(٢) .
ولهذا فالإنسان يكون داعياً في كل لحظاته في حركته وسكونه في يقظته وغفلته في كلامه وصمته في همساته وإشاراته وليس في ذلك غلوّ ولا مبالغة لأن الداعي إلي الدعاء أصلاً هو الافتقار والحاجة وافتقار الإنسان يغمره فطرةً وطبعاً ـ في كل أجزائه ـ إلي من يغلق عليه أبواب حاجته ويفيض عليه من فضل رحمته لذلك فإن « حقيقة الدعاء يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة »(٣) والفقر لرحمة تعالي وعليه فالفطرة أساس الدعاء وحيثما وجد الافتقار ـ مرآة الفطرة ـ كان الدعاء توجّهاً صادقا من الأدني إلي الأعلي وهو ما تعارف عليه من أنّه « طلب الفعل مع التسفّل والخضوع »(٤) .
وصار واضحاً التوافق التام بين المعني اللغوي والاصطلاحي لمادة الدعاء من حيث دلالتها علي الطلب وما يميز هذا الطلب من بقية أقسامه المتعددة
__________________
(١) الدعاء والإجابة / فؤاد رضا : ٢٠.
(٢) مواهب الرحمن في تفسير القرآن / عبد الأعلي الموسوي ٧٠ : ٣.
(٣) الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي ٣٣ : ١.
(٤) كشاف الفنون / التهانوي ٥٠٤ : ٢.
كالالتماس وغيره.
ثانياً : وجوه معاني الدعاء في القرآن الكريم :
مما لا شك فيه أن ثراء اللغة العربية وغناها متعلق بكتاب الله العزيز فقد وثّق أصول الألفاظ العربية وأفاض في استعمال اشتقاقها وتطوير دلالتها لذلك نجد فرقاً واضحاً لبن دلالات الألفاظ في الجاهلية وبين استخدامها القرآني حيث «تجرّد كثير من الألفاظ من معانيها العامة القديمة وأصبحت تدل علي معانٍ خاصةتتصل بالعبادات والشعائر أو شؤون السياسة والإدارة والحرب أو مصطلحات العلوم والفنون»(١) ولذا يمكننا القول بكل ثقة واطمئنان أن سرّ بقاء العربية وخلودها يرجع إلي القرآن العزيم كتاب العربية الأكبر.
وفيما يتصل بمادة « دعا » واستعمالها القرآني فقد استوعب القرآن الكريم تصاريف اللفظ ودلالاته حيث جاء علي نحو مائة وتسعين مرّة ضمن اثنين وسبعين(٢) اشتقاقاً تنوّعت معانيها بتنوّع سياقها التي وردت فيه ولهذا فقد كانت معاني الدعاء موضع نظر المفسرين والمهتمين بالوجوه والنظائر وأول من يشار إليه في ذلك مقاتل بن سليمان البلخي ( ت / ١٥٠ هـ ) حيث جعل للدعاء وجوهاً ستّة(٣) سار علي أثره بعض من جاء بعده وخالفه آخرون في بعض معاني الدعاء ووجوهه إلاّ أنّهم نهلوا منه واعتمدوا عليه وهذا واضح من طريقة عرض المادة والستشهاد بالآيات القرآنية نفسها.
وأبرز وجوه معاني الدعاء التي وردت في القرآن الكريم ما يلي :
__________________
(١) فقه اللغة / د. علي عبد الواحد وافي : ١١٥.
(٢) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / محمد فؤاد عبد الباقي : مادة (دعو).
(٣) ظ : الأشباه والنظائر / مقاتل بن سليمان البلخي ٢٨٥ : ٢.
الوجه الأوّل ـ الدعاء بمعني العبادة :
وهذا أوّل معاني الدعاء وأوسعها استعمالاً في القرآن الكريم فقد جاء الدعاء بمنزلة العبادة كثيراً في الاستعمال القرآني قال تعالي :( وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين ) (١) .
وإذا علمنا أنّ العبادة مفهوم واسع يتّسع لعدّة طقوس وفعاليات تؤدّي بطرق مختلفه تكوّن بمجموعها العبادة علمنا أهمية الدعاء ومكانه بالنسبة للعبادة حيث يثمل جوهر العبادة وروحها ولهذا ساوي جلّ وعلا بين العبادة والدعاء وتواتر هذا المعني في أحاديث الرسول الكريم حيث قال : «الدعاء هو العبادة »(٢) .
ومما جاء بهذا المعني قوله تعالي :( قل ما يعبأ بكم ربّي لولا دعاوّكم ) (٣) « يقول : لولا عبادتك »(٤) .
وقال تعالي :( قل أندعوا من دون الله ) (٥) « يعني : أنعبد من دون الله »(٦)
__________________
(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.
(٢) سنن المصطفي / محمدبن يزيد ابن ماجة ٤٢٨ : ٢.
(٣) سورة الفرقان : ٧٧ / ٢٥.
(٤) الأشباه والنظائر٢٨٦ : ٢ ظ : الوجوه والنظائر / هارون بن موسي : ٣١٣.
التصاريف / يحيي بن سلام : ٣٢٦ ، نزهة الأعين النواظر / ابن الجوزي : ٢٩٣.
مجمع البحرين / فخرالدين الطريحي ١٣٩ : ١.
(٥) سورة الأنعام : ٦ / ٧١.
(٦) قاموس القرآن / الدامغاني : ١٧٣ ظ : بصائر ذوي التمييز ٦٠١ : ٢ الإتقان / السيوطي ١٣١ : ٢.
( مالا ينفعنا ولايضرّنا ) (١) .
وقال تعالي :( أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين ) (٢) « أيّ أتعبدون ربًّا سوي الله »(٣) (٤) .
ومن المفيد أن تذكر أن تقارب معني اللفظين بصورة كبيرة أدّي إلي اختلاف أقوال العلماء والمفسرين في حمل معني العبادة علي اللفظ أو معني الطلب والدعاء أو اعتبار جواز المعنيين في اللفظ نفسه.
الوجه الثاني ـ الدعاء بمعني القول :
والاستعمال القرآني للدعاء بمعني القول لم يخرج عن جنس ما استخدمه العرب بل ورد مطابقاً لما في كلامها قال الشاعر(٥) .
يدعون عنتر والرماح كأنّها |
أشطان بئر في لبان الأدهم |
يقول ابن منظور في معني البيت : «معناه : يقولون : يا عنتر فدلّت يدعون عليها»(٦) .
ومما جاء في القرآن العزيز بمعني القول :( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ) يعني : ماكان قولهم إذ جاءهم عذابنا( إلاّ أن قالوا إنّا كنّا ظالمين ) (٧) .(٨)
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧١.
(٢) سورة الصافّات : ٣٧ / ١٢٥.
(٣) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو)
(٤) انظر الآيات التالية بنفس المعني : يونس : ١٠ / ١٠٦ ، الشعراء : ٢٦ / ٢١٣ ،
القصص : ٢٨ / ٨٨ الحج : ٢٢ / ١٣ ، فاطر : ٣٥ / ٦٧ العنكبوت : ٢٩ / ١٧ ،
الفرقان : ٢٥ / ٦٨ ، الحج : ٢٢ / ١٣ ، الكهف : ١٨ / ١٤.
(٥) ديوان عنترة : ١٨.
(٦) لسان العرب : مادة (دعو).
(٧) سورة الأعراف : ٧ / ٥.
(٨) الأشباه والنظائر ٢٨٥ : ٢ ، ظ : الوجوه والنظائر : ٣١٣ ، ظ : نزهة الأعين : ٢٩٣.
وجلي أن هذا من تفسير القرآن بالقرآن فقد ناسب قوله تعالي : (دعواهم ) بـ (قالوا ) فبيّن أن معني الدعوي هنا القول.
الوجه الثالث ـ الدعاء بمعني الاستعانة أو الاستغاثة :
ولتداخل معني الاستعانة والاستغاثة وتشابههما كان أهل اللغة وأصحاب الوجوه والنظائر في ذلك علي أقسام ثلاثة :
أ ـ قسم حمل لفظ ( دعا ) أو بعض مشتقاته علي معني الاستغاثة دون الإشارة إلي معني الاستعانة ويمثل هذا القسم : مقاتل بن سليمان في الأشباه والنظائر(١) .
والراغب في مفرداته(٢) والدامغاني في قاموس القرآن(٣) .
ب ـ القسم الثاني : علي عكس ما ذهب إليه الفريق الأوّل فقد حمل لفظ ( دعا ) أو بعض اشتقاقه علي معني الاستعانة ولم يشر إلي الاستغاثة مطلقاً وضم هذا القسم هارون بن موسي في الوجوه والنظائر(٤) ، ويحيي بن سلام في التصاريف(٥) وابن الجوزي في نزهة الأعين(٦) والسيوطي في الإتقان(٧) .
جـ ـ أما القسم الثالث فقد جمع بين « معنيي الاستغاثة والاستعانة » كما هو عند الأزهري في تهذيب اللغة(٨) ، والفيروزآبادي في بصائر ذوي
__________________
(١) الأشباه والنظائر ٢٨٧ : ٢.
(٢) معجم مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : ١٧١.
(٣) قاموس القرآن : ١٧٤.
(٤) الوجوه والنظائر : ٣١٤.
(٥) التصاريف : ٣٢٦.
(٦) نزهة الأعين : ٢٩٤.
(٧) الإتقان ١٣١ : ٢.
(٨) نهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).
التمييز(١) .
والغالب عندي ـ والله أعلم ـ أن المعينيين علي تقاربهما يمكن أن نلحظ في دلالة الاستغاثة سعة أكثر منه في الاستعانة وكلاهما طلب وبمحلان علي الدعاء أيضاً إلاّ أن الاستغاثة «طلب الواقع في بلية»(٢) قال تعالي :( وإن يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه بئس الشّراب وساءت مرتفقاً ) (٣) واكثر ما تجي الاستغاثة في طلب « النصرة »(٤) قال تعالي :( ... فاستغاثه الّذي من شيعته علي الّذي من عدوّه ) (٥) وقال جلّ ذكره :( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين ) (٦) .
والاستجابة السريعة في هذه الآية ـ وفي الاستغاثة عموماً ـ إشارة إلي أن الاستغاثة انتشال من أمر عظيم فقد الطالب ـ المستغيث ـ فيه أمله بقدراته وعلّقها بمغيثه.
أما الاستعانة فالظاهر فيها ـ والله أعلم ـ الطلب والدعاء إلاّ أنّ حال الطالب يكون أقلّ شدّة من المستغيث فليس هناك بلاء واقع علي المستعين وإنّما يكون الطلب زيادة في إكمال الأمر المستعان عليه كما يظهر من قوله تعالي :( قال ما مكّنّي فيه خير فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردماً ) (٧) ومما
__________________
(١) بصائر ذوي التمييز ٦٠١ : ٢.
(٢) لسان العرب : مادة (غوث).
(٣) سورة الكهف : ٢٩ / ١٨.
(٤) ظ : معجم مفردات القرآن / الراغب (ت / ٥٠٢ه) : ٣٧٩.
(٥) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.
(٦) سورة الأنفال : ٨ / ٩.
(٧) سورة الكهف : ١٨ / ٩٥.
ورد في القرآن بهذه المعاني قوله تعالي :( وإن كنتم في ريبٍ مّمّا نزّلنا علي عبدنا فاتوا بسورة مّن مّثله وادعوا شهداءكم مّن دون الله إن كنتم صادقين ) (١) قال مقاتل : « يعني استغيثوا بشهدائكم »(٢) في حين إن معني ( ادعو ) في الآية نفسها لدي هارون بن موسي « يعني استعينوا بشركائكم »(٣) .
ويري الباحث أن لا مانع من حمل معني الاستعانة والاستغاثة علي مضمون الآية إن أجاز لنا سياق الآية ذلك أو حمل المعنيين معاً إذا أوّل كلّ منهما كما عند الأزهري في تهذيب اللغة(٤) .(٥)
الوجه الرابع ـ الدعاء بمعني النداء :
قال الراغب : « الدعاء كالنداء إلاّ أن النداء قد يقال ب يا أو أيا ونحو ذلك من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لايكاد يقال إذا كان معه الاسم نحو : يافلان وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر(٦) ، قوله تعالي :( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون ) (٧) وقوله تعالي :( قل إنّما أنذركم بالوحي ولايسمع الصّمّ
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.
(٢) الأشباه والنظائر ٢٨٧ : ٢.
(٣) الوجوه والنظائر : ٣١٣ ، ظ : التصاريف : ٣٢٦.
(٤) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو) ظ : بصائر ذوي التمييز ٦٠١ : ٢.
(٥) ظ : هذا المعني في الآيات : سورة يونس : ١٠ / ٣٨ سورة هود : ١١ / ١٣ ، سورة غافر : ٤٠ / ٢٦.
(٦) معجم مفردات ألفاظ القرآن : ١٧١.
(٧) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.
الدّعاء ) (1) « يعني النداء »(2) و قال تعالي علي لسان زكريا :( إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً ٭قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واستعل الرّاس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً ) (3) «أي بندائك»(4) .
وهنا يظهر أن لفظ الدعاء يفسر النداء والعكس يصح كذلك لهذا كان معني الدعاء ضمن وجوه النداء في القرآن(5) قال تعالي :( وأيّوب إذ نادي ربّه أنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين ) (6) أي دعا ربه والله أعلم وقوله تعالي :( يوم يدع الدّأع إلي شيءٍ نكرٍ ) (7) « أي يوم ينادي المنادي »(8) (9) وعلي الرغم من تقارب دلالتي النداء والدعاء إلاّ أننا يمكن أن نرصد فرقاً بينهما وذلك « أن النداء : هو رفع الصوت بما له معني والدعاء يكون برفع الصوت وخفضه يقال : دعوته من بعيد ودعوت الله في نفسي ولايقال : نادية في نفسي »(10) . وبذلك يتضح إشراك الدعاء والنداء في جانب من دلالتهما في وضع أحدهما موضع الآخر واختلافهما من جانب آخر.
__________________
(1) سورة الأنبياء : 21 / 45.
(2) قاموس القرآن : 174.
(3) سورة مريم : 19 / 3 و 4.
(4) بصائر ذوي التمييز 601 : 2.
(5) ظ : قاموس القرآن : 450.
(6) سورة الأنبيا : 21 / 83.
(7) سورة القمر : 54 / 6.
(8) الأشباه والنظائر 286 : 2 ، الوجوه والنظار : 314.
(9) ظ : الآيات التالية في السياق نفسه : سورة الإسراء : 17 / 15 سورة الروم : 30 / 52 سورة فاطر : 35 / 14 ، سورة الأنبيا : 21 / 76 و 87 و 89.
(10) الفروق اللغوية / أبو هلال العسكري : 26.
الوجه الخامس ـ الدعاء بمعني السؤال :
ورد السؤال في القرآن الكريم علي عشرين وجهاً(1) والسؤال بمعني الدعاء يمكن أن يكون في بايين :
الأول : السؤال علي وجهة الاستفهام والاستعلام.
الثاني : السؤال علي جهة الطلب والرغبة في حصول المراد.
ومما جاء من آيات الذكر الكريم في الباب الأوّل قوله تعالي :( ويوم يقول نادوا شر كاثي الّذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ) (2) «يعني : فسألوهم أهم آلهة؟ (فلم يستجيبوالهم ) بأنهم آلهة »(3) وقال تعالي علي لسان بني إسرائيل في سؤالهم موسي :( قالوا ادع لنا ربّك . ) (4) أي سل لنا(5) أو استعلم لنا.
أما السؤال بمعني الرجاء في حصول الشيء فيأتي دائماً متعلقاً بطلب ظاهر في سياق الآية قال تعالي :( وقال الّذين في النّار لخزنة جهنّم ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوماً من العذاب ) (6) « أي سلوا ربكم واطلبوا إليه »(7) (يخفّف عنّا يوماً من العذاب ). وقال تعالي في سورة الزخرف :( وقالوا
__________________
(1) ظ : بصائر ذوي التمييز 162 : 3.
(2) سورة الكهف : 18 / 52.
(3) الأشباه والنظائر 287 : 2.
(4) سورة البقرة : 2 / 68.
(5) ظ : الوجوه والنظائر : 315 ، التصاريف : 327 ، كذلك المفردات : 171 ، ظ : نزهة الأعين النواظر في علم
الوجوه والنظائر : 295.
(6) سورة غافر : 40 / 49.
(7) الأشباه والنظائر 287 : 2.
يا أيّة السّاحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون ) (1) أي سل لنا ربك(2) ومثلما أن معني السؤال وجه من وجوه الدعاء معني الدعاء وجه من وجوه السؤال(3) . قال تعالي :( سأل سائل بعذّاب واقع ) (4) « يعني دعا داع »(5) .
الوجه السادس ـ الدعاء بمعني العذاب والعقوبة والموت :
قال تعالي في وصف جهنم :( كلاّ إنّها لظي ٭نزّاعة للشّوي ٭تدعوا من أدبر وتولّي ) (6) أي « تعذّب »(7) ونقل عن بعض المفسرين قولهم « ليست كالدعاء تعال ولكن دعوتها إياهم ما نفعل لهم من الأفاعيل »(8) وهذا عين ما استخدمته العرب عند دعائها علي شخص ما فتقول : « دعاك الله أي أماتك قول الأعرابي : دعاك الله : أي عذّبك »(9) .
الوجه السابع ـ معان مختلفة :
هناك معانٍ جديدة للدعاء نلمحها من خلال اختلاف السياق الذي وردت فيه وهي كما يلي :
__________________
(1) سورة الزخرف : 43 / 49.
(2) ظ : التصاريف : 327.
(3) قاموس القرآن : 224.
(4) سورة المعارج : 70 / 1.
(5) ظ : في السياق نفسه : سورة غافر : 40 / 60 سورة الأعراف : 7 / 55 و 56.
(6) سورة المعارج : 70 / 15 ـ 17.
(7) بصائر ذوي التمييز 602 : 2 ، ظ : نزهة الأعين النواظ : 395 ، مجمع البحرين
/ الطريحي 139 : 1.
(8) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).
(9) قاموس القرآن : 175.
أ ـالدعاء بمعني الصلاة : الصلاة في أشهر معانيها الدعاء وجاءت في القرآن بهذا المعني في كثير من آياته قال تعالي :( واصبر نفسك مع الّذين يدّعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ) (1) قال مجاهد في تفسير هذه الآية «يصلّون الصلوات الخمس»(2) .
ب ـوالدعاء بمعني التمنّي : قال تعالي :( لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون ) (3) أي ما يتمنون(4) وقيل إنّه «راجع إلي معني الدعاء أي ما يدّعيه أهل الجنّة يأتيهم»(5) ، واستعمل العرب الدعاء بمعني التمنّي كما في قولهم «ادع عليّ ما شئت»(6) .
جـ ـالدعاء بمعني التسمية : والدعاء بهذا المعني آتٍ من معني النداء لأنّ النداء غالباً ما يكون بالاسم والدعاء يأتي بمعني النداء فاستعمل الدعاء « استعمال التسمية نحو دعوت ابني زيداً : أي سميته »(7) ، وجاء في القرآن الكريم استعمال الدعاء بمعني التسمية في قوله تعالي :( لاتجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ) (8) أي تسمّوه باسمه كما هو بينكم بل كنّوه وعظّموه في تسميته ـ والله أعلم ـ.
__________________
(1) سورة الكهف : 18 / 28.
(2) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو)
(3) سورة يس : 36 / 57.
(4) مجمع البحرين 139 : 1.
(5) لسان العرب : مادة (دعو).
(6) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).
(7) معجم مفردات القرآن : 172.
(8) سورة النور : 24 / 63.
د ـوالدعاء بمعني اللسان : كما ورد في قوله تعالي :( لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) (1) ( علي لسان داود أي في دعائه )(2) .
هـ ـالدعاء بمعني النسب وإلحاق الشخص بنسبه : كما في قوله تعالي :( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) (3) أي انسبوهم(4) ، وقال تعالي :( ... أن دعوا للرّجمن ولدا ً) (5) نسبوا وجعلوا له أبناء تعالي الله عن ذلك علوّاً كبيراً(6) هذا ولم يفرّق بعضهم بين وجوه الدعاء ونظائره في القرآن وبين معانيه التفسيرية فالفيروز آبادي علي سبيل المثال أوصل وجوه الدعاء إلي سبعة عشر وجهاً(7) جمع بين نظائر الدعاء في القرآن وتفسيره ـ والرأي عندي ـ أن تفسير الآيات يمكن إرجاعها ضمن وجوه ونظائر الدعاء مثالنا في ذلك : دعوة نوح في قوله :( ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً ) (8) يمكن أن توضع ضمن الوجه الخامس ـ السؤال الطلبي ـ بمعني أنه سألهم الهداية وطلب منهم ذلك.
وكذلك دعوة إسرافيل( ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم
__________________
(1) سورة المائدة : 5 / 78.
(2) قاموس القرآن : 415.
(3) سورة الأحزاب : 33 / 5.
(4) ظ : تهذيب اللغة : باب العين والدال ( دعو ) ، ظ : مجمع البحرين 140 : 1.
(5) سورة مريم : 19 / 91.
(6) ظ : تهذيب اللغة : باب العين والدال ( دعو ).
(7) انظر بصائر ذوي التمييز 601 : 2 ـ 603.
(8) سورة نوح : 71 / 5.
تخرجون ) (1) هي ضمن الوجه الرابع ـ بمعني النداء ـ أي ناداكم مكما فعل ذلك مقاتل البلخي عندما جمع بين وجه الدعاء وتفسيره ضمن وجه النداء في قوله تعالي :( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ) (2) يقول : «يوم يناديكم إسرافيل»(3) ومثل هذا في قوله تعالي في يونس :( دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ ) (4) وهو دعاء أهل الجنة «يعني قولهم إذا اشتهوا الطعام( سبحانك اللّهم ) » (5) وضع ضمن اوجه الثاني معني القول لذا فليس من المناسب أن نضع لكل سياق وجهاً جديداً لأنّ أغلب وجوه الدعاء لاتخرج عما ذكرناه آنفاً ـ والله أعلم ـ ويتضح مما تقدّم أن معاني الدعاء متعددة الوجوه وكثيرة النظائر وأن هناك ألفاظاً حملت معني الدعاء في دلالتها سواء أكان ذلك في صيغها أم كان في مضمونها وهذا ما سيتكفل بطرحه المبحث الآتي.
المبحث الثاني
الألفاظ المستعملة في معني الدعاء
إذ كانت أهمية الدعاء ـ في جانبمنها ـ متأتيةً من كثرة ألفاظه واستخدامها علي صعيد النص القرآني ، فإن مضامين الدعاء ودلالته في ألفاظ أخري لا تقل أهمية وسعة واستعمالاً في القرآن الكريم ولهذا تجد ألفاظاً
__________________
(1) سورة الروم : 30 / 25.
(2) سورة الإسراء : 17 / 52.
(3) الأشباه والنظائر 286 : 2 ، التصاريف : 326.
(4) سورة يونس : 10 / 10.
(5) قاموس القرآن : 173.
كثيرة تتحقق فيها مظاهر الدعاء وأركانه في مضامينها وسياقها مما جعلنا نعدّها دعاء فضلاً عن أصلها اللغوي ومعناها الاصطلاحي الذي سوّغ لنا ذلك وهدانا إلي استكشاف أبعادها الدلالية التي أسمهت ـ إلي حد بعيد ـ في إظهار ما ندهب إليه من تقارب روافدها مع الدعاء بل واشتراك استعمالها قرآنياً بمعاني الدعاء الأمر الذي حدا بالبحث إلي أن يلتمس بذائقته بعضاً من تلك الألفاظ ويتتبعها كي تتكامل الظاهرة الدعائية ـ كما نرى ـ وترتسم معالمها لفظاً ومعني علي مستوي النص القرآني وأول هذه الألفاظ :
الصلاة :
تنقسم معاني الصلاة في أصلها اللغوي علي معانٍ أربعة نستعرضها بإيجاز ونبيّن ما ذهبنا إليه.
المعني الأوّل : أن الصلاة مأخوذه من الصلا «وهو مغرز الذنب من الفرس والاثنان صلوان»(1) والصلا في الإنسان «العظم الذي عليه الإليتان وهو آخر ما يبلي من الإنسان في القبر»(2) وأطلقت الصلاة علي حركة رفع الصلا في الركوع والسجود لدي المصلي.نقل هذا المعني الزمخشري في كشافه(3) إلاّ أن الرازي أنكر هذا المعني وعابه في قوله : « إن الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلي طعن عظيم في كون القرآن حجة وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً علي ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء واشتهاراً بين أهل النقل»(4) .
__________________
(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 88 : 3.
(2) جمهرة اللغة : مادة ( صلي ).
(3) الكشاف / الزمخشري 1000 : 1.
(4) مفاتيح الغيب 33 : 2.
و قد فض هذا الأصل في الصلاة الشريف الجرجاني(1) أيضاً ويغنينا عن القول في استبعاد معني الصلاة من ( الصلا ) ما تقدّم من كلام الرازي فقد بيّن عدم اشتهار هذا الأصل بالنسبة للمسلمين فضلاً عن قلّة شواهده الجاهلية التي تؤيد استعمال العرب للصلاة من هذا المعني.
المعنى الثاني : أصل الصلاة من صلي «وصليت القناة : قوّمتها بالنار»(2) ثم استعير تقويم العصا بالنار وتلينها إلي تقويم النفس ظاهراً وباطناً بمعني أن وقوف العبد أمام خالقه و «قبالة عظمته وجلاله ورأفته ورحمته فوصل إليه من هذه الأشياء كما وصل إليه من حرّ النار حتي صلي بها»(3) وهذا الأصل وإن حمل بعضاً من روح الصلاة إلاّ أنّه يقصر عن أن يكون أصلاً للصلاة.
المعنى الثالث : يقارب المعني الثاني وهو أن أصل الصلاة : اللزوم أو الملازمة ، « يقال : صلي واُصطلى : إذا لزم ومن هذا يصلى في النار أي يلزم »(4) وتبنّي الأزهري هذا الرأي في أصل الصلاة حيث قال : « والقول عندي إنما الصلاة لزوم ما فرض الله والصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزمه »(5) .
وأري أن هذا المعني جزء من المعني السابق من الصلي بالنار ولاينهض كأصل للصلاة كذلك وإن حمل تأويلاً لطيفاً في التزام الصلاة كفرض لايتهاون فيه.
المعنى الرابع : وهو أن أصل الصلاة : الدعاء « مأخوذ من صلى يصلي إذا
__________________
(1) حاشية السيد الجرجاني علي الكشاف 100 : 1 طبعة البابي الحلبي ، مصر ، 1984.
(2) أساس البلاغة : 539.
(3) تحصيل نظائر القرآن / الحكيم الترمذي : 71.
(4) تهذيب اللغة : باب الصاد واللاّم ( صلى ).
(5) المصدر نفسه : باب الصاد واللاّم ( صلى ).
دعا »(1) وهو المعنيى الأكثر شهرة وإليه يذهب أغلب أهل اللغة وجمهورها حيث تؤكده الشواهد الشعرية الجاهلية ، جاء في جامع البيان : « أما الصلاة في كلام العرب فإنّها الدعاء »(2) .
قال الأعشى(3) .
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا |
يا رب جنّب أبي الأوصاب والوجعا |
|
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي |
نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا |
مثل الذي صليت بمعني مثل الذي دعيت لي.
وقال كذلك :
وقابلها الريح في دنّها |
نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا(4) |
« ارتسم الرجل : كبر ودعا »(5) .
ويمكن أن نقول : إن الصلاة « حقيقة في الدعاء مجاز لغوي في الهيئات المخصوصة المشتملة عليه »(6) والمقصود بالهيئات المخصوصة المعاني الأخري للصلاة ومثل هذا الرأي ـ ولاريب ـ معقول ومقبول وذلك « لورود الصلاة بمعني الدعاء قبل تشريع الصلاة المشتملة علي الركوع والسجود ولورودها في كلام من لا يعرف بالهيأة المخصوصة »(7) ثم إنّ تواتر استعمال
__________________
(1) الجامع 168 : 1.
(2) جامع البيان / الطبري 104 : 1.
(3) ديوان الأعشى / ميمون بن قيس : 101.
(4) ديوان الأعشى : 35. والبيت الذي قبله :
وصهباء طاف بها يهوديها |
وأبرزها وعليها ختم |
(5) الجامع 168 : 1.
(6) حاشية السيد الشريف الجرجاني علي تفسير الكشاف 100 : 1.
(7) كشاف الفنون / التهانوي859 : 4.
الصلاة بمعني الدعاء يؤيد ذلك كما جاء عن الرسول « إذا دعي أحدكم إلي طعام فليجب فإن كان مضطراً فليطعم وإن كان صائماً فليصلّ »(1) .
« قال أبو عبيدة : قوله فليصلّ يعني فليدع لهم بالبركة والخير ، وكل داعٍ فهو مصلّ »(2) .
وفضّل الرازي الدعاء كأصل للصلاة بوصفه الأقرب إليها من المعاني الأخري(3) وعلّل إطلاق الدعاء عليها مجازاً لغوياً مشهوراً في « إطلاق اسم الجزء علي الكل ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة علي الدعاء لاجرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز »(4) بمعنى إن تسمية الصلاة بالدعاء « كتسمية الشيء باسم بعض ما يتضمنه »(5) وإذا دقّقنا النظر في فعاليات الصلاة علمنا أن الدعاء في كل حركاتها لأنّ معنى الطلب مع الخضوع والتذلّل واضح في جانب ومعنى التعظيم والإجلال للخالق ظاهر في جانب آخر كما في القراءة والقنوت والركوع والسجود فضلاً عما يجب علي الفرد من آدابها القلبية التي هي مظهر آخر من الطلب والدعاء.
والصلاة في القرآن جاءت علي أكثر من وجه أوصلها أحدهم إلي عشرين وجهاً(6) من بينها وجه الدعاء وفي ذلك إثبات على نزول القرآن بلغة العرب واستعماله للألفاظ والمعاني من جنس ما استعملوا كما في قوله تعالي :( إنّ
__________________
(1) سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث 306 : 2.
(2) تهذيب اللغة : باب الصاد واللاّم (صلى).
(3) ظ : مفاتيح الغيب 47 : 3.
(4) مفاتيح الغيب 47 : 3.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن : 293.
(6) ظ : منتخب قرة العيون النواظر / ابن الجوزي : 161.
الله وملائكته يصلّون علي النّبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ) (1) .
يقول الطبري في معرض حديثه عن هذه الآية « أن يصلّي على النبي ، ويثني عليه بالثناء الجميل ويبجّله لأعظم التبجيل وملائكته يصلّون ويثنون بأحسن الثناء ويدعون له بأزكى الدعاء »(2) .
وقال تعالي :( .. وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) (3) فمعنى( وصلّ عليهم ) « واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحّم »(4) .
وفرّق العلماء بين صلاة الله تعالي وصلاة المخلوقين ـ الملائكة والإنس ـ فالصلاة منه ـ عزّ ذكره ـ الرحمة(5) ومن المخلوقين ـ الدعاء والاستغفار(6) وفي هذا لمحة عظيمة دالّة علي التوحيد والعطف في آن واحد علي التوحيد لأنّه تعالي يفيض برحمته ولا يفاض عليه ويدعي ولا يدعو ولمن يدعو؟ ولا شيء قبله بعده غني مطلق الغنى عن كل شيء.
أما على العطف فهو عالم سبحانه بافتقار خلقه إليه فرحمته لهم عطف منه تعالى وفضل سابق وجاء معنى الرحمة في صلاة الله تعالي قول الراعي(7) :
__________________
(1) سورة الأحزاب : 33 / 56.
(2) مجمع البيان / الطبرسي 369 : 8 ظ : الكشاف 307 : 2.
(3) سورة التوبة : 9 / 103.
(4) الكشاف 307 : 2 ، ظ : التبيان في إعجاز القرآن / ابن الزملكاني : 90.
(5) ظ : تهذيب اللغة باب الصاد واللاّم ( صلى ) ظ : مفاتيح الغيب 215 : 25.
(6) ظ : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 293 ، كشاف الفنون 859 : 4.
(7) لسان العرب : مادة صلى : ولم أجد هذا الشاهد في كتاب شعرالراعي وأخباره لناصر الحاني بل وليس له وجود في كتاب شعر الراعي النميري : د.نوري حمودي القيسي.
صلّى على عزّة الرحمن وابنتها |
ليلى وصلّى علي جاراتها الاُخر |
ونخلص من الحديث عن الصلاة بجلاء مفهوم الدعاء سواء كأصل لغوي أو استعمال قرآني أو ركن تشريعي.
الابتهال :
« أصل البهل : اللعن »(1) وتباهل القوم « إذا تلاعنوا »(2) أي طلب كل منهما اللعن لغيره.
والتبهّل « العناء بالطلب »(3) ويقال كذلك « ابتهل إلي الله بالدعاء : تضرّع واجتهد »(4) وأخلص في الدعاء.
قال لبيد في هذا المعنى :
في كهول سادة من قومه |
نظر الدهر إليهم فابتهل(5) |
أي اجتهد في إهلاكهم.
ونجد في الابتهال في القرآن بصيغة واحدة كما في آية المباهلة ، قال تعالي :( فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ويساءنا ويساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (6) .
ووجود اللفظ في هذه الآية بالذات يحمل دلالة لطيفة لا يوديها عنه لفظ آخر وإن ماثله في معناه كلفظ « ندعو » لأنّ الابتهال هنا ليس مجرد الدعاء بل
__________________
(1) جمهرةاللغة : مادة ( بهل ).
(2) تهذيب اللغة باب الهاء واللاّم ( بهل )
(3) لسان العرب : مادة ( بهل )
(4) ظ : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 61 ، أساس البلاغة : 71 ، الجامع 104 : 4.
(5) ديوان لبيد : 148.
(6) سورة آل عمران : 3 / 61.
هو الاجتهاد في التضرع والإخلاص في الدعاء وفرّق بين ما يحمل « نبتهل » عن « ندعو » من معنى لذلك « لا يقال ابتهل في الدعاء إلاّ إذا كان هناك اجتهاد »(1) وإذا وضعنا أمامنا حساسية الموقف فالرسول قد كذّبته النصاري وفي الابتهال إقامة الحجّة علي النبوة إذ ليس هناك موقف أعظم من هذا يتوجه فيه بالدعاء الصادق المخلص فضلاً عما يحمل الابتهال من معنى اللعن والاهلاك للكاذب لذلك فما أن استيقن النصاري من صدق الرسول من جانب وعزمه علي الابتهال من جانب آخر حتي سالموه وقبلوا مرغمين على دفع الجزية(2) .
ونري من ذلك أن الابتهال أدل علي الضراعة والإلحاح في الدعاء وقد مثّل مظهراً من مظاهرا الدعاء في القرآن.
القنوت :
تتعدّد دلالات لفظ القنوت ومعانيها إلي أكثر من معنى وهي « الطاعة ، والخشوع ، والصلاة ، والدعاء ، والقيام ، وطول القيام ، والسكون ، فيصرف كل واحد من هذه المعاني إلي ما يحمله لفظ الحديث الوارد فيه »(3) .
وكل هذه المعاني تلتقي في أصل واحد وهو الطاعة(4) حتى السكوت أو الإمساك عن الكلام يرد في معنى الطاعة وهو من قبل الانقطاع إليه تعالى
__________________
(1) مفاتيح الغيب 87 : 8 ظ : الكشاف 368 : 1.
(2) ظ : أسباب النزول / الواحدي النيسابوري : 58 ـ 59.
(3) لسان العرب : مادة ( قنت ).
(4) ظ : مقاييس اللغة : باب القاف والنون وما يثلثهما ( قنت ) ظ : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 428.
بالكلام دون غيره من الخلق لذلك يقال « للمصلي قانت »(1) أي المتوجه بالكلام إلي خالقه إلاّ أنّ أشهر المعاني السابقة للقنوت عند أهل اللغة الدعاء فما نقل عن الزجاج إذ يقول : « والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء وحقيقة القانت أنّه القائم بأمرالله فالداعي إذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت لأنّه ذاكرالله تعالى وهو قائم على رجليه فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله عزّوجلّ في حال القيام ويجوز أن يقع في سائر الطاعة لأن إن لم يكن قيام بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنيّة »(2) .
وقد يقال إن القنوت مصطلح قرآني لم يرد « هو أو إحدى مشتقاته في الشعر الجاهلي والمجموعات الكثيرة التي ألّفت فيه »(3) .
إلاّ أننا رأينا استعمال اللفظ باجاهلية ـ بمعني الدعاء ـ مما يؤيد ما ذهب إليه الزجاج من ناحية وإلي أن العرب قد عرفته واستخدمته ويظهر ذلك من مسائل ابن الأزرق لعبد الله بن عباس حين سأله عن معني قوله تعالى :( كلّ له قانتون ) (4) « فقال ابن عباس : مقرون. واستشهد بقول عدي بن زيد(5) :
قانتاًلله يرجو عفوه |
يوم لا يكفر عبد ما ادّخر |
وفي القرآن الكريم جاءت مادة ( قنت ) في ثلاثة عشر موضعاً يمكن
__________________
(1) تهذيب اللغة : باب القاف والتاء ( قنت ).
(2) المصدر السابق : باب القاف والتاء ( قنت ).
(3) ظ : التطور الدلالي / عودة خليل أبو عودة : 210.
(4) سورة البقرة : 2 / 116.
(5) « عدي بن زيد بن حماد بن زيد العبادي ، التميمي ، شاعر من دهاة الجاهلين ت نحو 35 ق ه ـ 590م » ظ : الأعلام / خير الدين الزركلي 9 : 5 ، ظ : ترجمته : خزانة الأدب / البغدادي 184 : 1 ، والأغاني 97 : 2 الشعر والشعراء : 63.
حملها علي المعاني السابقة الذكر علي الرغم من أن بعضهم جعل لها وجهين فقط هما الإقرارلله تعالي بالعبودية ، والثاني الطاعة(1) وتفرّق بنت الشاطئ بين معني الإقرار والقنوت من خلال السياق القرآني وتصل إلي أن « تفسير القنوت بالإقرار ، لا يكون إلاّ علي وجه الإلزام وقد يكون عن تقية وخوف ولايكون القنوت إلاّ عن خشوع صادق »(2) .
والمعني الذي نميل إليه في القنوت هو الدعاء وقد امتدحه سبحانه وتعالي ووصف به إبراهيم وأولياء(3) كما في قوله تعالي :( إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتاً لله حنيفًا ولم يك من المشركين ) (4) .
وقال جلّ شأنه :( يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الرّاكعين ) (5) .
وجعله صفة للمؤمنين والمؤمنات بقوله سبحانه :( إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّادقين والصّادقات والصّابرين والصّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدقّات والصّائمين والصّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله كثيراً والذّاكرات أعدّالله لهم مغفرةً وأجرًا عظيماً ) (6)
__________________
(1) الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق / د. بنت الشاطئ : 350.
(2) ظ : التعاريف : 210.
(3) الإعجاز البياني للقرآن / بنت الشاطئ : 352.
(4) سورة النحل : 16 / 120.
(5) سورة آل عمران : 3 / 43.
(6) سورة الأحزاب : 33 / 35.
التضرّع :
وفي هذا اللفظ معني الدعاء على الرغم من كونه حالة من حالات الداعي إلاّ أنّنا يمكن أن نلحظ في التضرّع دعاء من خلال أصله اللغوي واستعماله القرآني.
فالتضرّع لغة : يأتي لمعان كثيرة هي : التذلّل والخشوع ، والابتهال ، والتلوي ، والاستغاثة(1) وفي هذا المعني قال الأحوص :
كفرت الذي أسدوا إليك ووسّدوا |
من الحسن إنعاماً وجنبك ضارع(2) |
و يمكن حمل ضارع في قوله علي المعاني السابقة.
والتضرّع بآياته الست التي ورد فيها في القرآن الكريم اقترن أربع منها بالتعريض بالأقوام التي لم تنهج طريق الدعاء ولم تقر بالذلة لله تعالى ، والتي ترجع بعد البأساء والضراء إلي الإشراك والعنت ولا ينفعها ـ حينذاك ـ تضرّعها ودعاءها قال تعالى :( ولقد أرسلنا إلي أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يتضرّعون ٭فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشّيطان ما كانوا يعملون ) (3) يقول القرطبي في حديثه حول الآية الكريمة « وهذا عتاب على ترك الدعاء وإخبار عنهم أنّهم لم يتضرّعوا حين نزول العذاب ، ويجوز أن يكونوا تضرّعوا تضرّع من لم يخلص أو تضرّعوا حين لابسهم العذاب والتضرّع علي هذه الوجوه غير نافع ، والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدّة »(4) .
__________________
(1) ظ : لسان اعرب : مادة ( ضرع ).
(2) ديوان الأحوص : 130.
(3) سورة الأنعام : 6 / 42 و 43.
(4) الجامع لأحكام القرآن 425 : 6 ظ : مجمع البيان67 : 4 مفاتيح الغيب 22 :
ويظهر من كلام القرطبي حمل التضرّع على الدعاء ، أما الآيتان الأخريان فقد حثّتا على التضرّع والدعاء حيث قرنتا الدعاء بالتضرّع والخليفة مما يدل على سبحانه :( ادعوا ربّكم تضرّعًا وخفيةً أنّه لا يحب المعتدين ) (1) .
وقال تعالى :( واذكر ربّك في نفسك تضرّعاً وخفيةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلينن ) (2) .
السلام :
الأصل في السلام لغة : « التعري من الآفات الظاهرة ، والباطنة »(3) وذهب الأزهري إلي أن السلام « دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه »(4) .
وورد السلام في القرآن ـ على تعدّد معانيه ـ منسوباً لله تعالى حيناً وللخلق من الملائكة والناس حيناً آخر ، فيكون السلام منه تعالى لأنبيائه وعباده الصالحين على جهة الثناء الجميل(5) .
ـ قال تعالى :( سلام على إبراهيم ) (6) ، وقال سبحانه :( سلام علي إل ياسين ) (7) ،(8) .
__________________
37.
(1) سورة الأعراف : 7 / 55.
(2) سورة الأعراف : 7 / 205.
(3) معجم مفردات القرآن : 245 ، ظ : الجامع 297 : 5.
(4) تهذيب اللغة : باب السين واللاّم (سلم).
(5) ظ : منتخب قرة العيون النواظر : 145.
(6) سورة الصافات : 37 / 109.
(7) سورة الصافات : 37 / 130.
(8) ظ : الآيات الأخرى في السياق نفسه : (سورة الصافات : 37 / 120 و 181 و
أما ما ورد من السلام منسوباً لخلقه فهو دعاء لبعضهم البعض كما ورد علي لسان الملائكة في دعائهم لأهل الجنة قال تعالى شأنه :( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدّار ) (1) .
وقال عزّ ذكره :( الّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون ) (2) .(3)
ومما يجدر ذكره هنا أن الإسلام قد شرع التحيّة وأكدها بقوله سبحانه :( وإذا حييتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها إنّ الله كان على كلّ شيءٍ حسيباً ) (4) .
« وأصل التحية : الدعاء بالحياة »(5) وتحية الإسلام المعروفة « السلام عليكم » بمعني « السلامة عليكم ولكم »(6) ومن خلال ذلك يظهر الدعاء حتى في تشريع السلام ، ونستطيع حينئذٍ أن نضع السلام ـ بنحو ما ـ ضمن مظاهر الله تعالى هو المطلوب منه »(7) والمجيب لدعاء عباده.
الحمد ـ الشكر :
وفي هذين اللفظين نلحظ تضمّ ، اًللدعاء « فالحمد في كلام العرب معناه
__________________
79 ، سورة هود : 11 / 48 ).
(1) سورة الرعد : 13 / 24.
(2) سورة النحل : 16 / 32.
(3) ظ : في السياق نفسه : ( سورة الزمر : 39 / 73 ).
(4) سورة النساء : 4 / 86.
(5) الجامع 297 : 5.
(6) الزينة / أبوبكر الرازي 63 : 2 ، ظ : مجمع البيان 176 : 5.
(7) بدائع الفوائد 140 : 2.
الثناء الكامل »(1) والحمد كذلك « نقيض الذم »(2) بمعنى أن قولنا « الحمد لله » إخلاصاً في تنزيهه تعالى وإقراراً بكماله لذلك فقد « عبّر بعض الصوفية عن إظهار الصفات الكمالية بالحمد »(3) .
وقول الحمد لله بمنزلة الدعاء فيستلزم الإجابة ، ومن الشواهد القرآنية يتضّح ذلك.
قال تعالى على لسان أهل الجنة في دعائهم :( دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين ) (4) .(5)
والحمد كذلك دعاء الأنبياء قال تعالى على لسان نوح :( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الّذي نجّاما من القوم الظّالمين ) (6) .(7)
وفي السنّة النبوية نجد التأكيد على ىعاء الحمد كما روي عن الرسول الكريم قوله : « أفضل الدعاء الحمد لله »(8) ودعاء الحمد في القرآن « صار مصطلحاً خاصّاً معروفاً في حياة المسلمين لا يتوجه به المسلم إلاّ لله
__________________
(1) الجامع لأحكام القرآن 133 : 1.
(2) لسان العرب مادة (حمد).
(3) كشاف الفنون 389 : 1.
(4) سورة يونس : 10 / 10.
(5) ظ : الآيات في السياق نفسه : (سورة الأعراف : 7 / 43 سورة الزمر : 39 / 74 ، سورة فاطر : 35 / 34).
(6) سورة المؤمنون : 23 / 28.
(7) ظ : الآيات في السياق نفسه : (سورة النمل : 27 / 59 و 93 ، سورة الإسراء : 17
(8) سنن المصطفى / ابن ماجه 420 : 2.
عزّوجلّ »(1) والحمد المتعارف بين الناس هو قبل شكر الخالق عن طريق خلقه لأنّ الحمد في حقيقة يطلق ويراد به النعم الأوّل والآخر جلّ وعلا.
ومن ألطف اللطائف القرآنية بدء القرآن بالحمد ولم يبدأ بكلمة التوحيد ـ لاإله إلاّ الله ـ مثلاً لأنّ في قولنا( الحمد لله ربّ العالمين ) (2) « توحيد وحمد وفي قول لا إله إلاّ الله توحيد فقط »(3) وفيه أيضاً إقرار بالوحدانية وعرفان بالنعمة الأبدية التي لا تنفد. وفي دعاء الحمد شمول للمحامد كلها وشمول للأوقات أجمعها.
أما شموله للمحامد كلها فبد لالة دخول الألف واللاّم « الاستغراق الجنسي من المحامد »(4) ولأنّ في اتصالها في الحمد « معنى لا يؤديه قول القائل حمداً بإسقاط الألف ، ولذك أن دخولها منبئ عن أن معناه جميع المحامد والشكر الكامل لله ، ولو أسقطنا عنه لما دلّ إلاّ على أن حمد قائل ذلك دون المحمد كلها »(5) .
ويعلل هذا القول مجيء أكثر مواضع الحمد بالألف واللاّم إذ جاء في ثمانية وعشرين موضعاً.
أما شموله الأوقات كلها ، ففي الحمد « تعلّق بالماضي ، وتعلّق بالمستقبل. أما تعلّقه بالماضي : فهو أن يقع شكراً على النعم المقدمة وأما تعلقه
__________________
(1) التطور الدلالي : 307.
(2) سورة الفاتحة : ½.
(3) الجامع لأحكام القرآن 132 : 1.
(4) الجامع لأحكام القرآن 134 : 1.
(5) الإسلام ومشكلات الفكر / فتحي رضوان : 68.