• البداية
  • السابق
  • 137 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10358 / تحميل: 6288
الحجم الحجم الحجم
الدعاء المعاني والصيغ والأنواع

الدعاء المعاني والصيغ والأنواع

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بما نسي ولا ترهقني من أمري عسراً ) (١) وقال أيضاً :( قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذراً ) (٢) فقوله :( لا تؤاخذني ) ،( ولاترهقني ) ،( بعد ها فلا ) دعاء على صورة النهي ولعل السؤال عن كيفية كون النبي في هذا الموضع داعياً وهو ضمن سياقات الخطب الاعتيادية لا يكون إلاّ عالي الرتبة وتعليل ذلك أن السياق القرآني يبينموسيفي خطابه مع الخضر طالباً التعلّم قا تعالى :( قال له موسى هل أتّبعك على أن تعلّمن ممّا علّمت رشداً ) (٣) فكلام موسى جاء على صيغة السؤال لا الأمر وهو بذلك أفصح « عن الخلق والأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبالة الخضر وهوكليم الله الرسول النبي أحد أولي العزم فكلامه موضوع على التواضعمن أوله إلى آخره وقد تأدّب معه أولاً فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الأمر بل في صورة الاستفهام هضماً لنفسه »(٤) ما دام السياق القرآني سياق تعليم وتعلّم فهو أرمز

__________________

جهة أخري فإن البشر متساوون أمام خالقهم وموجدهم تبارك وتعالى ولا يفترقون إلاّ من جهة الاستعلاء داخل الرتبة الواحدة وهي عبادتهم لله سبحانه ومنزلتهم داخل الرتبة الواحدة وهذا بعض مفهوم الأصوليين في تقسيمهم للأمرعلى واجب ومندوب فالواجب ما كان من عالي الرتبة والمندوب ما كان ضمن الرتبة الواحدة وانماز بصفة الاستعلاء , ويمكن أن نتناول ضمن مفهوم دعاء الالتماس الدعاء بين المخلوقين وأقصد بذلك ما دار بين نبي الله موسى والعبد الصالح الخضر وغيرها.

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٣.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٧٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٦٦.

(٤) الميزان في تفسير القرآن ٣٤٣ : ١٣.

٨١

إلى التواضع والتلطّف في طلب العلم المفروض تخلّق المتعلّم بها على جلالة شأنه وعظيم منزلته وليس بعد منزلته النبي منزلة إلاّ أنّ ذلك لا يمنع أن يكون النبي في موضع المتعلّم دلالة على سمو درجة العلم وفضلاً عن هدف قرآني يقصد من وهو الإبانة عن أخلاق المتعلم وفي هذا السياق لا نجد موسى داعياً فقط بل هو منهي عن السؤال من قبل الخضر كما في قوله تعالى :( قال فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيء حتّى أحدث لك منه ذكراً ) (١)

ولا أدل من ذلك على علو مرتبة الخضر في هذا السياق وهو بالضرورة أعلى حيث المعلم أعلى درجة من المتلم.

لذلك يكون كل ما صدرفي هذا السياق عن موسى دعاء(٢) والله أعلم بالصواب.

وكل`ما جاء من الدعاء ضمن الصورة الثانية ـ صيغة النهي ـ صريح إلاّ في آية واحدة حيث حذفت الأداة (لا) والفعل المضارع معهما لإغناء السياق عنها ولسبقها في الكلام قال تعالى :( ... ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) (٣) فقد أغنى العطف ب (أو) عن تكرار السياق وتقديره ـ والله أعلم ـ (لاتؤاخذنا إن نسيناو لا تؤخذنا إن أخطأنا).

ولا تخفى دلالة الإيجاز في الحذف في سياق الدعاء هنا وقد يأتي النهي

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٠.

(٢) من المفيد أن نذكّر أنّ الدعاء بين المخلوقين ـ في صورة النهي ـ جاء في ثمانية مواضع أربعة منها على لسان هارون في الأعراف : ١٥٠ طه : ٩٤ وآية واحدة في سورة التوبة : ٤٩ فضلاً عمّا جاء على لسان موسى.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.

٨٢

من خلال أسلوب الاستفهام مجازاً(١) ويراد به للدعاء كما في قوله تعالى :( أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا ) (٢) .(٣) فليس هذا باستفهام حقيقي إذ ليس يعقل « أن يظن موسى ـ لأن الكلام على لسانه ـ أنّ الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم »(٤) فهو إذا يذكر الفعل كي يخلص بالنتيجة إلى إنكار وقوعه(٥) ومن ذلك قوله تعالى :( ... أتعجل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّمآء ) (٦) والاستفهام في هذه الآية لم يقصد به طلب الاستخبار من الله تعالى هل يجعل في الأرض من يسفك الدماء أة لا لأنّ الله تعالى قد قدّم في قوله ما يبيّن استخلافه جلّ وعلا للإنسان في الأرض(٧) حين قا :( ... إنّي جاعل في الأرض خليفةً ) (٨) فالنهي جاء عن طريق الاستفهام مجازاً وقصد به الدعاء. وعلى الرغم من أن الدعاء على صورة النهي أسلوب طلبي يجاب عنه بجوابمجزوم ـ كالأمر ـ كما ذكر ذلك

__________________

(١) جاء الاستفهام خارجاً إلى النهي مجازاً في القرآن الكريم في اثنين وثلاثين موضعاً : ظ : صيغ الأمر والنهي في القرآن : ١٩٧ وعد السيوطي في الإتقان أكثر من ثلاثين غرضاً بلاغيّاً يخرج الاستفهام لها٢ : ٧٠ ـ ٨٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٥.

(٣) في المعنى ظ : قوله تعالى :( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : ٧ / ١٧٣] أي لا تهلكنا والله أعلم.

(٤) مفاتيح الغيب ١٨ : ١٥ مجمع البيان ٣٥ : ٣.

(٥) أساليب الاستفهام في القرآن الكريم / عبد العليم السيد فوده : ٢٥٨.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

(٧) البرهان ٣٤١ : ٢.

(٨) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٨٣

النحاة(١) إلاّ أنّه لم يرد الدعاء على هذه الصورة مجاباً في القرآن الكريم(٢) والله أعلم بالصواب.

الصورة الثالثة ـ الدعاء بالخبر :

سبقت الإشارة في بدء هذا الفصل إلى أنّ قسمي الكلام : الخبر والإنشاء يقع كل منهماموقع الآخر فالأمر ـ إنشاء طلبي ـ قد يقع موقع الخبر(٣) والخبر قد يوضع كذلك موضع الإنشاء وما يعنينا من ذلك : الدعاء بالخبر.

ولاريب في إنّ خروج الخبر عن حقيقته ـ إلى الدعاء ـ يخدم أغراضاً ومقاصد يرمز إليها المتكلم ويهدف لها وهو ما اعتنى به البلاغيون بالدرجة الأساس وأجمعوا ـ وهم على حق ـ على أنّ الدعاء بالخبر أبلغ من أخراج الدعاء بصيغة المعهودة السابقة فقولنا : ( غفرالله لك ورحمك الله إعزّك ) إظهار بتيقّن الاستجابة والتفاؤل بحصول الغفران والرحمة والإعزاز فضلاً عن التأكيد والحرص على وقوعها(٤) .

وحدّد القزويني إغراض وقوع الخبر موقع الإنشاء وهي : « إمّا للتفاؤل أو لإظهار الحرص في وقوعه والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يتحمّل الوجهين أو للاحتراز عن صورة الأمر كقول العبد للمولي إذا حوّل عنه وجهه : ينظر المولي إليّ ساعة أو لحمل المخاطب على المطلوب »(٥) والناظر في

__________________

(١) ظ : الكتاب٩٣ : ٣.

(٢) ظ : صيغ الأمر والنهي في القرآن : الملحق (٥٨) : ٣٦٤.

(٣) ظ : بدائع الفوائد ١٣٩ : ٢ ـ ١٤٠ معجم المصطلحات البلاغية ٣٢١ : ١.

(٤) ظ : الكشاف ٢٧٠ : ١.

(٥) الإيضاح ٢٤٥ : ١.

٨٤

دلالة الدعاء على الزمن يجده في دلالة على الاستقبال ـ بخاصة ـ أمثل من دلالته على الحال(١) وبصيغة أخرى إنّ الدعاء وإن دلّ على الحال في شيء من زمنه فهو على الاستقبال أدلّ إذ يصحّ أن نخبر بالفعل المضارع لدلالة على الحال كما في قولة جلّ شأنه :( قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين ) (٢) فقوله :( يغفر ) إخبار عن الحال ولكنّه إذا أريد له الدعاء كان دالّاً على الاستقبال(٣) . والدعاء بالخبر أو بصيغة الفعل الماضي يجد فيه المتكلّم والسامع لطافة في التعبير عن الزمن الواسع بكلّ أوقاته : الماضي والحال والاستقبال معاً أمّا دلالة الماضي فكأنّ استجابة الدعاء واقعة من جهة المتكلّم بشكل من الأشكال بفعل التفاؤل الشديد بها الحرص الأكيد عليها فيكون حين الإخبار بها ماضياً لأنّها بحكم الواقع في الزمن الماضي بالنسبة للداعي. أمّا من جهة الحال والستقبال فه في أنّ وقوع الاستجابة حتماً يعقب الدعاء سواء في ذلك أستجيب للداعي في حال دعائه أم في قابل زمنه ومستقبله وبذلك تكون دلالة الماضي والحال والاستقبال ظاهرة في صيغة الدعاء بالخبر يصح إرجاعه ـ تأويله ـ إلى الأمر والنهي فقولنا :

__________________

(١) ذهبد. تمام حسان إلى أن الدعاء دال على الحال والاستقبال ظ : العربية معناها ومبناها : ٢٥١ وأرى أن دلالة الدعاء لربما تنحصر أكثر في الاستقبال دون الحال والله أعلم.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٩٢.

(٣) ظ : معاني النحو ٣١٧ : ٣.

٨٥

غفر الله لأحمد بمعنى اغفر اللّهمّ لأحمد وقولنا : ( يغفرالله لك ) بمعنى ( ليغفر الله لك ) وكذلك قولنا : ( لايرحم الله قاتلك ) بمعنى ( لا يرحمه الله ) بالجزم وكذلك الماضي بعد ( لا ) الطلبية في نحو قولنا : لا غفرالله له بمعنى لا يغفره الله له جزماً فنريد من لفظ الخبر ـ ماضياً ومضارعاً ـ معنى الدعاء الصادر عن الأمر والنهي مجازاً(١) ز وقد يشكل الدعاء بالخبر في وقوع الماضي بعد ( لا ) الطلبية إذ لا يقع بعدها إلاّ المستقبل كي لا تلتبس ب ( لا ) النافية ولكن جاز ذلك في الدعاء ـ أي وقوع الماضي بعد لا الطلبية ـ للأسباب التي ذكرناها وهي التفاءل بالاستجابة والإخبار عنها بلفظ واحد دالّاً على الماضي والحال والاستقبال جاء في البرهان الكشاف : « لا يكاد يقع بعد ( لا ) ـ أي الطلبية ـ الفعل الماضي إلاّ إذا أريد به الدعاء كقوله : ( لا غفرالله لفلان ) ليجمعوا بين التفاؤل بالإجابة حتى كأنّها وقعت وصارت من قبيل ما يخبر عنه بالوقوع والدعاءفي لفظ واحد ليعلم الداعي السامع أنّه مخبر »(٢) وزيادة على ذلك أن عدم التباس ( لا ) الطلبية والفعل الماضي بعدها ب ( لا ) النافية هو ما يوضحه السياق ففي الدعاء « هيبة ترفع الالتباس وذكرالله تعالى مع الفعل ليس بمنزلة ذكرالناس »(٣) وإذا علمنا أن ثمة فرقاً بين عمل الأداتين ( لا الطلبية ) و ( لا النافية ) في الفعل جزماً ونصباً زال الالتباس وانتهي. أمّا النحويون فقد اشترطوا في مجيء الدعاء على لفظ الخبر بعدم اللبس(٤) بمعنة أنّهم يمنعونه

__________________

(١) ظ : المتقضب ٢٧٣ : ٣ ١٧٥ : ٤.

(٢) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن / ابن الزملكاني : ١٧٣.

(٣) بدائع الفوائد ١٠٣ : ١.

(٤) ظ : الأصول ١٧٧ : ٢ دقائق التصريف : ١٨.

٨٦

إذا اختلف المعنى والتبس اسياق فإذا قلنا : « ليغفر الله لزيد ويقطع يده لم يجز جزم ( يقطع ) لاختلاف المعنى ولكن يجوز في جميع ذا الرفع فيكون لفظه لفظ الخبر والمعنى دعاء وإذا أسقطت ( اللاّم ) رفعت الفعل المضارع فقلت : يغفر الله لك وغفرالله لك »(١)

وفي القرآن الكريم جاء الدعاء بلقظ الخبر في آيات عدّ’(٢) منها قوله تعالى :( إيّاك نستعين ) (٣) فاللفظ جاء على سبيل الإخبار إلاّ أن معناه الدعاء « أي أعنّا على عبادتك »(٤) و منه قوله تعالى :( ... قاتلهم الله أنّي يؤفكون ) (٥) و معنى قوله : (قاتلهم الله) « خبر أريد به الدعاء عليهم »(٦) و منها قوله تعالى :( والخامسة أنّ غضب الله عليها ) (٧) قوله :( غضب ) خبر بلفظ الماضي خرج إلى الدعاء(٨) ومنها قوله عزّوجلّ :( سلام عليكم ) (٩) اللفظ لفظ الخبر والمقصود الدعاء لهم(١٠) و هذا ينطبق علىجمع الآيات الواردة على هذه

__________________

(١) الأصول ١٧٧ : ٢ ـ ١٧٨.

(٢) ظ : البرهان ٣٢٦ : ٢ صيغ الإتقان ٢٢٧ : ٣ صيغ الأمر والنهي في القرآن الكريم : ٣١٧ أساليب المجاز في القرآن الكريم : ٥١٢ وما بعدها.

(٣) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

(٤) البرهان ٣٢١ : ٢.

(٥) سورة التوبة : ٩ / ٣٠ وسورة المنافقون : ٦٣ / ٤.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١١١ : ٨.

(٧) سورة النور : ٢٤ / ٩.

(٨) ظ : نحو الفعل / الجواري : ٣١.

(٩) سورة الرعد : ١٣ / ٢٤.

(١٠) ظ : البرهان ٣٤٧ : ٣.

٨٧

الصيغة في القرآن ففي( سلام عليكم ) معنى « الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنّيها وكذلك ( ويل ) »(١) ومن ذلك قوله تعالى :( أعوذ بالله ) (٢) وكل استعاذة بالله تعالى تكون بلفظ الخبر والمعنى دعاء فقولنا : أعوذ بالله « لفظه الخبر ومعناه الدعاء والتقدير : اللّهمّ أعذني »(٣) وكذلك يمكن عد آيات الحمد أو دعاء الحمد في القرآن من صيغ الدعاء بلفظ الخبر قال تعالى :( الحمد الله الّذي خلق السّموات ) (٤) أي أنّ الحمد جاء « في لفظ الخبر ومعناه الأمر : أي المحمد الله وإنما جاء على صيغة الخبر وإن كان فيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث إنّه يجمع الأمرين »(٥) والمقصود بالأمر الدعاء لأنّ الحمد دعاء. وكذلك قوله تعالى :( ... ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد ) (٦) فقوله : (إنّك لا تخلف الميعاد) جاء في لفظ الخبر كما نقل الطوسي ذلك عن آخرين فقد خرج الكلام « مخرج المساءلة ومعناه الخبر »(٧) ومن ذلك قوله تعالى :( تبّت يدا أبي لهبٍ وتبَّ ) (٨) فقوله تعالى :( تبّت ) « الأول دعاء والثاني خبر »(٩)

__________________

(١) بدائع الفوائد ١٣٩ : ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦٧.

(٣) مفاتيح الغيب ٩٦ : ١.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٣.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٤.

(٧) التبيان / الطوسي ٨٦ : ٣.

(٨) سورة المسد : ١١١ / ١.

(٩) معاني القرآن / الفراء ٢٩٨ : ٣.

٨٨

في قوله تعالى :( ... حصرت صدورهم ) (١) « قيل هو دعاء عليهم بضيع صدورهم عن قتال أحد »(٢) . وغير ذلك آيات كثيرة جاءت بلفظ الخبر ومعناها الدعاء(٣) .

و لابدّ من الإشارة ـ في نهاية الفصل ـ إلى بعض الظواهر النحوية المتعلّقة بالدعاء منها دخول ( لا ) النافية على الفعل الماضي لإفادة الدعاء(٤) نحو قولنا : ( لا فضّ الله فاك ) إلاّ أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن الكريم وإنما دخلت ( لا ) النافية على المصادر التي يدعى بها(٥) في موضعين فقط وهي قوله تعالى :( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبأً بهم إنّهم صالوا النّار ٭قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدّمتموه لنا فبئس القرار ) (٦) و دخول ( لا ) النافية على المصدر ( مرحباً ) لم تعمل فيه ولم تغيره لأنّه قد عمل فيه فعل مقدّر فنصبه على المصدر لأنّه لا يجوز « أن يعمل في حرف عاملان »(٧) و لعل ورود الدعاء بصيغة الفعل الماضي الذي تسبقه ( لا ) النافية فأكثر ما ورد سماعاً عن العرب ثم اشتهر في أشعارهم وكلامهم على أنّه صيغة من صيغ الدعاء ومن الظواهر الأخرى مجيء ( لن ) للدعاء وتباينت آراء النحاة في ذلك فقد ذهب ابن

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ٩٠.

(٢) الإتقان ٣٢٧ : ٣.

(٣) ظ : الآيات التالية في المعنى نفسه : المائدة : ٥ / ٦٤ يوسف : ١٢ / ٩٢ الذاريات : ٥١ / ١٠ المدثّر : ٧٤ / ١٩ و ٢٠ عبس : ٨٠ / ١٧ البروج : ٨٥ / ٤ النمل : ٢٧ / ٨ التوبة : ٩ / ١٢٨ النساء : ٤ / ٩.

(٤) ظ : البرهان ٣٥٤ : ٤.

(٥) ظ : دراسات لأساليب القرآن ٥٤٨ : ٢.

(٦) سورة ص : ٣٨ / ٥٩ و ٦٠.

(٧) المقتضب ٣٨٠ : ٤.

٨٩

السراج إلى أنّ « الدعاء ب (الن) غي معروف وإنّما الأصل ما ذكرناه أن يجيء على لفظ الأمر والنهي »(١) بينما أجاز الفراء مجيئها للدعاء كما في قوله تعالى :( قال ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين ) (٢) « فقد تكون ( لن أكون ) على هذا المعنة دعاء من موسى : اللّهمّ لن أكون ظهيراً فيكون دعاء »(٣) والظاهر أنّ ( لن ) قد تأتي للدعاء إذا سبقت بسياق دعائي يحتم خروجها من معنى الإخبار إلى الطلب ـ الدعاء ـ وبالنتيجة : يمكن حملها على الدعاء من هذا الجانب والله وأعلم »(٤) .

و خلاصة القول : أنّ الدعاء يصدر عن أسلوبي الأمر والنهي الحقيقيين وله صيغه التي بها يتمثّل وقد استقصيناها بالتفصيل وسنعرض لما في هذا الأسلوب من نكات بلاغية تنطوي تحت فنون علوم البلاغية : البيان والمعاني والبديع.

__________________

(١) الأصول ١٧٨ : ٢ ظ : تسهيل الفوائد : ٢٢٩ البحر المحيط ١١٠ : ٧.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٧.

(٣) معاني القرآن ٣٠٤ : ٢ البرهان ٣٨٨ : ٤.

(٤) ظ : الأصول ١٧٨ : ٢.

٩٠

الفصل الثالث

معالم الدعاء وأنواعه في القرآن الكريم

المبحث الأوّل

معالم الدعاء في القرآن الكريم

شغل الدعاء مكاناً كبيراً ومهمّاً من كتاب الله العزيز ولعلّك تلحظ تناثر الدعاء من أول سورةٍ فيه مروراً بطوال السور وقصارها مكيّها ومدنيّها حتى إذا النتهينا عند آخر سور الكتاب المجيد وجدناها دعاءً كريماً يجسد صورةً معبرة لاعتراف الإنسان بضعفه ولجوئه إلى خالقه وتعلّقه بحصنه من كلّ ما دار بفكرٍ أو جال بخاطرٍ من أمرٍ عظيمٍ.

وبدء القرآن بالدعاء وانتهاؤه به دافع للتفكّر بأنّ « هناك سرّاً إلهيّاً في أن تكون فاتحة الكتاب كلّها دعاءً وخاتمته دعاءً وما بين الفاتحة والخاتمة عقيدة وعبادة ودعاء »(١) .

والناظر المستقرئ لظاهرة الدعاء في القرآن العظيم يأنس تعدّد صورها

__________________

(١) الدعاء في القرآن الكريم / محمود بن الشريف : ٧.

٩١

واختلاف أساليبها وتنوّع مستوياتها فمرّةً يجد حثّناً على الدعاء وثانيةً تعليماً له وثالثةً بياناً متواصلاً لحالات الداعين من المؤمنين حيناً ومن المشركين حيناً آخر. وإذا تابعنا السير في ظلّ هذه الظاهرة الكريمة نرى أنّها عالجت قضايا الإنسان العقائدية في التوحيد والعدل والنبؤة والإمامة والمعاد فضلاً عن حاجاته النفسيّة والاجتماعيّة التي تفتقر قواه والذّرية والنّصرة في مواقف الحرب وإلى غير من قضايا مهمة.

و أول ما تجدر الإشارة إليه في بيان معالم الدّعاء أنّها رسمت لنا منهجاً واضحاً في الاعتقاد ومعرفة الخالق وآداباً في سؤاله وخطابه جلّ وعلا. ولعلّ الذي يظهر ذلك ويوضحه الآيات التي أبرزت نزوع الإنسان الفطري في حالات الضّر والشدّة والخوف والرعب إليه تعالى ونبذ سواه والبراءة منه والاعتراف بكلّ خضوعٍ وذلّةٍ وتمسكنٍ بالضعف والقصور ثمّ ما يلبث الإنسان بعد إجابته أن يعود إلى ما كان عليه من اعتقادٍ باطلٍ. وفي ذلك إقامة للحجّة على صحّة نزوعه وفطرة عقيدته من جهة وبطلان ما كان بضد ذلك من جهة أخرى ولقد صوّرت الآيات الكريمة ذلك في مشهدين :

الأوّل : مشهد الإنسان الذي مسّة الضّرّ فلا يجد سبيلاً غير الله فليوذ به طالباً كشف ضرّه فال الله تعالى :( وإذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا لجنبه أو فاعدًا أو قائماً فلمّا كشفناعنه ضرّة مرّ كان لم يدعنا إلى ضرّ مسّة كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون ) (١) .(٢)

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٢.

(٢) ظ : في السياق عينه : الأنعام : ٦ / ٤٠ ـ ٤١ الروم : ٣٠ / ٣٣ فصلت : ٤١ / ٤٩ ـ ٥٠ الزمر : ٣٩ / ٨ النحل : ١٦ / ٥٣ ـ ٥٤ هود : ١١ / ٩ ـ ١٠.

٩٢

و ينبئك بيان الحالات الثلاث (الاضطجاع والقعود والقيام) للإنسان الداعي مدى الاجتهاد في الدعاء والتضرّع إليه تعالى لكي يكشف الضّرّ عنه وما أحسن هذا التقسيم المعلن عن لجوء الإنسان إلى خالقه الحقّ في ضرّة وهو في مختلف حالاته المتقدّمة(١) .

الثاني : مشهد الإنسان وسط أهوال البحر في هيجانه يدعوه جلّ وعلا باجتهادٍ وتيضرّع راجياً النجاة قال تعالى :( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدّين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ) (٢) .(٣)

و موقف كهذا يصوّر بدقةٍ متناهيةٍ فطرة الإنسان في صدق توجهه وإخلاص دعوته لله تعالى وهجر ما سبق من اعتقادٍ بالطلٍ في ساعة شدّته وخوفه ثمّ سرعان ما تعود تلك النفوس التي تناقض فطرتها إلى ما اعتادت عليه من الشرك(٤) .

ومن المعالم الدعائيّة في القرآن العزيز هو افتتاح بعض السور بالدّعاء وقد عدّ الزركشي سوراً ثلاثاً استفتحت بالدعاء(٥) و لا يفوتنا أن نذكر أن ثمة سوراًختمت بالدعاء أيضاً(٦) .

__________________

(١) ظ : مجمع البيان / الطبرسي ٢٠ : ٣ الكشاف ٣٢٣ : ٢ مفاتيح الغيب / الرازي ٥١ : ١٧ البرهان / الزركشي ٤٧٢ : ٣ تحرير التحبير / ابن أبي الإصبع المصري ١٧٥ : ١.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٥.

(٣) ظ : في السياق نفسه : يونس : ١٠ / ٢٢ الإسراء : ١٧ / ٦٦ ـ ٦٧ الأنعام : ٦ / ٦٣ ـ ٦٤ لقمان : ٣١ / ٣١ ـ ٣٢.

(٤) ظ : مفاتيح ٩٢ : ٢٥.

(٥) وهي : المطففين : ٨٣ / ١ الهمزة : ١٠٤ / ١ المسد : ١١١ / ١ ظ : البرهان ١٨٠ : ١.

(٦) ظ : الآيات التالية : الفاتحة : ١ / ٧ البقرة : ٢ / ٢٨٦ الزمر : ٣٩ / ٧٥

٩٣

و من أجلى معالم الدعاء في القرآن الكريم اقترانه بأمرين مهمّين :

أوّلهما : الحثّ عليه والترغيب فيه.

ثانيهما : استجابته.

أمّا الحثّ عليه : فقد جاء تبياناً لمكانةالدّعاء وتشريفاً إليهاً للداعين في آنٍ واحدٍ قال تعالى :( وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيد خلون جهنّم داخرين ) (١) .(٢)

و في الحثّ على الدّعاء « في الآية دلالةً على عظيم قدر الدعاء عنه الله تعالى وعلى فضل الانقطاع إليه »(٣) و في الحثّ كذلك بيان لكمال الألطاف الإلهية ومنتهى التكريم منه تعالى وهو الغني المطلق عنٍ خلقه هذا من جهة وإشارة إلى ضعف الإنسان وافتقاره له تعالى فطرةً وطبعأً من جهة ثانية وجمعت الآية بين الحثّ والاستجابة من ناحية وبين حقيقة الدعاء في أنّه العبادة من ناحية أخرى بل إنها « تجعل مطلق العبادة دعاءً حيث إنّها هو على ترك العبادة رأساًلا على ترك بعض أقسامها دون بعض فاضل العبادة دعاء »(٤) و في مجيء الحث بهذه الصورة ـ مقترناً بالإجابة ـ إيناس للداعي وتأييد لا طمئنانه في استجابة دعائه ولايخفى ما في ذلك من تشريفٍ وتكريم.

وفي الحثّ تصريح وتأكيد على التوحيد ونبذ وتسفيه كلّ عقيدةٍ باطلةٍ

__________________

الصافات ٣٧ / ١٨٢ المؤمنون : ٢٣ / ١١٨.

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٢) ظ : الآيات في السياق نفسه : البقرة : ٢ / ١٨٦ الأعراف : ٧ / ٢٩ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ١٨٠ الإسراء : ١٧ / ١١٥ غافر : ٤٠ / ١٤ ، ٦٥.

(٣) مجمع البيان ٢٠٩ : ٥.

(٤) الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي ٣٤ : ١.

٩٤

لأن جوهر الدعاء يمثّل حقيقة التوحيد بل إنّ التوحيد ركن أساس من أركان الدعاء القلبية قال تعالى :( هو الحيّ لا إله إلاّ هو فادعوه مخلصين له الدّين الحمد لله ربّ العالمين ) (١) .

و لا ريب في أنّ الدعاء دون الاعتقاد بإلهٍ واحدٍ قادرٍ على إجابة الدّعاء يفضي إلى القول بتعدّد الآلهة والتعدّد يقتضي التضادّ والتناقض في الإجابة ضمن المشيئة الإلهيّة المتعدّدة وعليه يكون الدعاء إلى عدم الإجابة أقرب منه إلى الإجابة وليس بإله من تعجز قدراته عن إجابة خلقه لذلك خاطب القرآن الكريم بأبلغ صورةٍ من كانت حاله كذلك قال تعالى :( له دعوة الحقّ واللّذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلاّ كباسط كفّية إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال ) (٢) .

فليس أبلغ من هذا الاستنكار للذين يدعون من لا يقدرون على نغع أنفسهم أو ضرّها وما دعاء الداعين إلاّ في ضلالٍ وما هم إلاّ ضالّون عن سبيل الحقّ وجادّة الصواب ولنا في بدء هذه الآية ( له دعوة الحقّ ) تأكيد بتقييد وتخصيص دعاء الحقّ به تعالى وليس لأحدٍ سواء غير الباطل والضلال.

ومن جانب آخر امتدح القرآن الكريم الذين انتهجوا نهج الحقّ في الدّعاء ووجّهوا دعاءهم إليه تعالى آملين ـ بخشيةٍ وسرورٍ ـ إجابتهم قال تعالى :( ... إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) (٣) .

فضلاً عن ذلك فقد نقل لنا الكتاب العزيز ما سيكون الكفار عليه من

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٥.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ١٤.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.

٩٥

موقف استهجانٍ وتوبيخٍ من قبل الله تعالى يوم القيامة(١) حين تلقة عليهم الحجّة في سخريتهم من المؤمنين الذين يدعونه ويطلبون منه الغفران والرحمة قال تعالى على لسان أهل النار :( قالوا ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قومًا ضالّين * ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلّمون * إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنا فاغفرلنا وارحمنا وأنت خير الرّاحمين * فاتّخذتموهم سخريّاً حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون * إنّى جزيتهم اليوم بما صبروا أنّهم هم الفائزون ) (٢) . هذا فيما يتعلّق بالحثّ على الدعاء والترغيب فيه وهو أول الأمرين.

استجابة الدعاء :

يقيناً إنّ لكلّ دعاءٍ إجابةً طال وقتها أو قصر وهذا واضح من المنهج الدّعائي في القرآن المجيد حيث تأتي الإجابة عب الدعاء مباشرةً من دون فصلٍ بينهما كما الغالب من آيات الدعاء قال تعالى :( وأيوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم رجمةً من عندنا وذكرى للعابدين ) (٣) .(٤)

و لاشك في أنّ أدعية القرآن بأجمعها مجابةً(٥) بل وحتّى إبليس

__________________

(١) تفسير التبيان / الطوسي ٣٩٩ : ٧.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦ ـ ١١١.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٣ ، ٨٤.

(٤) ظ : الآت التالية في السياق نفسه : القصص : ٢٨ / ٣٢ ـ ٣٥ يوسف ١٢ / ٣١ ـ ٣٤ طه : ٢٠ / ٢٤ ـ ٣٦ آل عمران : ٣ / ١٩٠ ـ ١٩٥ الشعراء : ٢٦ / ١٠ ـ ١٦.

(٥) ظ : كتاب « لكلّ دعاء واجابة » : ثامر محمود حيث اتّبع منهجاً روائيّا في قصّ حوادث أدعي القرآن الكريم معقّباً عليها بذكر إجابتها في القرآن نفسه.

٩٦

عليه اللعنة المعروف بعدائه للإنسان ولكلّ ما خلق الله تعالى قد أجيب دعاؤه وليس بعد ذلك دلالة على مدى رحمة الله تعالى في إجابة خلقه وعباده إذ من جاهر الله ـ سبحانه ـ بالعصيان والكفر أجيب طلبه(١) فكيف بمن عرق الله تعالى ورجا رحمة ومغفرته لا يجاب؟ قال تعالى على لسان إبليس :( قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنّك من المنظرين ) (٢) .(٣)

و إجابة الدّعاء حتمية لا يساورنا فيها أدني شكّ ولذلك فمن ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة ومن تمام عنايته تعالى بالإجابة مجاء قوله تعالى :( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون ) (٤) فما تضمنته الآية من الدلالات والإشارات يبهر العقول فيالعناية بأمر الدّعاء واستجابته وأول ما تلحظ ذلك في طريقة ذكرها للسائلين بلفظ ( عبادي ) حيث جاءت بألطف سلوب وأرقّة في ذكر الداعيين مما يكشف مدي العطف عليهم والترحّم بهم من قبله تعالى(٥) .

فضلاً عن ذلك فالخطاب في الآية الكريمة « قد وضع أساسه على التكلّم وحده دون الغية ونحوها وفي دلالة على كمال العناية بالأمر ثمّ قوله ( عبادي ) ولم يقل الناس أو ما أشبهه يزيد في هذه العناية »(٦) حيث شرّفهم بأن أضافهم

__________________

(١) ظ : إحياء علوم الدين ٣٢٤ : ١.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٦ و ٣٧.

(٣) ظ : الآيات التالية في ضمن هذا السياق : الأعراف : ٧ / ١٢ ـ ١٥ سورة ص : ٣٨ / ٧٩ ـ ٨١.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.

(٥) ظ : الطراز / العلوي ١١٧ : ١.

(٦) الميزان ٣٠ : ١.

٩٧

إليه تعالى بلفظ ( عبادي )(١) .

و من اللطائف الخطابية في هذه الآية أنّها تجاوزت الوساطة بين الخالق وعباده وذلك من خلال اتقراء مواضع السؤال والجواب في الكتاب العزيز حيث نلحط اقتران الجواب في التعبير القرآني بلفظ ( قل ) في جميع الآيات التي يتقدّمها السؤال وذلك أمر منه تعالى لنبيّه الأمين بإجابتهم ومن ذلك قوله تعالى :

( ... ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن الله لكم الآيات ) (٢) .(٣)

أما في هذه الآية فقد تولّى سبحانه وتعالى الإجابة عن السؤال بنفسه ولم يصرح بلفظ ( قل )( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان ) (٤) و في هذا غاية التكريم وأرفع درجات التشريف لعباده الداعين يقول الفخر الرازي في تعليقة على هذه الآية : « كأنّه سبحانه وتعالى يقول واسطة بيني وبينك »(٥) .

ومن جمال الآية وسموها أنّه أكّد قربه بـ ( إنّ ) في ( فإنّي )(٦) و لم يقل سبحانه

__________________

(١) ظ : الطراز ٢٦٧ : ٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.

(٣) ظ : في هذا المعنى سورة البقرة : ٢١٥ ، ٢١٧ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ المائدة : ٤ الأعراف : ١٨٧ الكهف ٨٣ وغيرها.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.

(٥) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ١٠٧ : ٥ ظ : البرهان / الزركشي ٥٤ : ٤.

(٦) ظ : الميزان ٣٠ : ١.

٩٨

وتعالى « فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وهذا فيه سرّ نفيس »(١) .

و يزيد من جمال التعبير التأكيد على الأستجابة من خلال استعمال الفعل المضارع الدّالّ على التجدّد والحدوث للإشارة إلى تجدّد الاستجابة وحدوثها(٢) .

والمتدبّر في الآية الشريفة يجد من الدلالات والإشارات بعد ذلك الشيء الكثير منها الحضور الإلهي في هذه الآية الذي أنبأنا به تكرار ضمير المتكلّم الدّالّ عليه في سبعة مواضع (عبادي ، عنّي ، فإنّى ، أجيب ، دعان لي بي) وهذه الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف(٣) .

وفضلاً عن كلّ ذلك فإن انتظام هذه الآية بين آيات تريع الصوم(٤) دالَ على تأكيد قول من عدها ضمن آيات الأحكام « من أنّه ليس فيها حكم ظاهرة »(٥) و عليه فلا يغيب عن ذهن المتدبّر فائدة توسطها بين آيات الصوم وما ينبغي للصائم من الدعاء وطلب الحوائج فهو في موقف يكون قربه من الإجابة آكد ومنزلته في التشريف أقرب والله أعلم.

ومن كوامن الرحمة في هذه الآية أنّها « تسكب في قلب المؤمن النداوة والحلاوة والودّ المؤنس والرضي المطمئن والثقة واليقين ويعيش فيها المؤمن في جناب رضي وقربي ندية وملاذٍ أمين وقرارٍ مكين »(٦) .

__________________

(١) كفاتيح الغيب ٣٥ : ٢٢.

(٢) ظ : الميزان ٣١ : ١.

(٣) ظ : الميزان ٣١ : ١.

(٤) ظ : مجمع البيان ١٢٥ : ١ مفاتيح ١٠٣ : ٥.

(٥) تفسير آيات الأحكام / حسين اليزدي ٣١١ : ١.

(٦) في ظلال القرآن / سيد قطب مج ١ ج ٢ ص ٨٣.

٩٩

و لابدّ من التذكير بأن للإجابة شروطاً حدّدثها الأحاديث النبويّة الشيفة والروايات المنقوله عن أهل البيت ولم نرغب في إطالة الكلام بها لأنّ مظانّها كتب الدّعاء التي ألّفت وفقاً لمنهج طلاب الشريعة والعلوم الإسلاميو فمن أراد التزووّد بها فلا بأس من الرجوع إليها والأخذ عنها وإنّما الإشارة لذلك قصداً للإيجاز.

ومهما يكن من أمر الاستجابة فإنّ الداعي لا يعدم الإجابة على الإطلاق فإذا أطأت إجابة فإنّ ذلك لا يعني عدم استجابة دعائه بل يلهمه الله تعالى « سكينةً في نفسه وانشراحاً في صدره وصبراً يسهل معه احتمال البلاء الحاضر وعلى كلّ حالٍ فلا يعدم فائدةً وهو نوع من الاستجابة »(١) .

ونفيد من الحديث عن معالم الدعاء في اقرآن الكريم أن في الحثّ نداءً إلهيّاً يدعو لسدّ ضعف الإنسان وفقره من خلال تعلّقه بخالقه الغنيّ ولجوئه لفيض كرمه وإحسانه وتحصنه بكهفه المنيع.

ونخلص كذلك على أن في الدعاء منهجاً لتعليم الإنسان وتأديبه في كيفية إقباله على بارئه ومخاطبة.

ونلحظ في الإجابة إعظاماً للدّعاء وإكراماً للداعي والتنبيه على أنّهما بيعن الله تعالى وعنايته وإذ جاز لنا اوصف قلنا إنّ الحثّ بذرة والدعاء شجرتها النامية وثمار الشجرة النامية الإجابة فبقدر منزلة الشجرة من النضج تكون ثمارها أكثر وألذّ والله أعلم.

__________________

(١) مفاتيح الغيب١١٠ : ٥.

١٠٠

المبحث الثاني

أنواع الدعاء في القرآن الكريم

من أجمل ما يألفه المتتبّع لآيات الدعاء في القرآن الكريم أمران : وهما كثرة آيات الدعاء وانتشارها على صعيد النص القرآني من جهة وتعدّد المستويات وتنوّعها من جهة أخرى فإنك تجدفي الكتاب العزيز أدعية للأنبياء مرّة وللمؤمنين ثانية وللملائكة ثالثة إلخ وقد تتفرّق أدعية كلّ مستوي على سورٍ عدّةٍ وسيكشف البحث من خلال استقصاء الأدعية وتفريقها على مستوياتها ميزاتٍ خاصةٍ ودلالاتٍ لطيفة ينطق عنها سياقها وسنبدأ بعرض أدعية الأنبياء أولاً.

أولاً ـ أدعية الأنبياء :

أكثر الدعاء الوارد في القرآن الكريم جاء على لسان الأنبياء وما يلحظ هنا تفاوت نسبة أدعية كلّ واحد منهم عن الآخر فضلاً عن خصوصية دعائه فنقل عن إبراهيم وموسي ونوح ونبيّنا عليى وعليهم أفضل الصلاة والسلام نصوص دعائية فاقت غيرهم من الأنبياء أمثال زكريا وسليمان ويوسف وأيوب إلخ وسنبدأ بأدعية نبينا الكريم محمد بن عبد الله.

دعاء الرسول محمد :

أوّل ما نلحظ في دعائه مجيء أدعيته كلّها مسبوقة بلفظ الأمر (قل) حيث لم يخل منها دعاء على الإطلاق وفي ذلك دلالة على نبوته وتعظيم

١٠١

لأمره ورسالته قال تالى :( وقلربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي لدنك سلطاناً نصيراً ) (1) ودعاؤه هذا جاء عقب ذكر قراءة القرآن والتهجّد به.

و في دعاء الرسول تجد شكواه من أذى قومه وبعدهم عن الإسلام صريحةً واضحةً كما في قوله تعالى :( وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً ) (2) ففي إظهار ( يا ) النداء إشارة لمعاناته حيث إنّ المعهود والمتعارف عليه حذف أداة النداء مع لفظ ( ربّ ) في أغلب آيات الدعاء إلاّ في مواضع قصد بها أغراض معينة.

وعلى الرغم مما لقيه من عنت قومه وضلالهم فإنّه ما دعا عليهم دعاءً صريحاً أبداً بل كان في دعائه يطلب إنصافه منهم وتفويض أمرهم إليه تعالى قال عزّوجلّ :( قل اللّهم فاطر السّماوات والأرض عالم الغيب والشّهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) (3) .

فقدّم في دعائه ثناءه عليه تعالى وبيان عظيم قدرته ثم أعقبها دعاءه بأسلوب الخبر( أنت تحكم بين عبادك ) بمعنى أحكم بينهم والله أعلم يقول الطبرسي في تعليقه على الآية : « لما قدّم سبحانه ذكر الأدلّة فلم ينظروا فيها والمواعظ فلم يتعظوا بها أمر نبيّه أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقونه فقال :( قل ) يا محمد ادع بهذا الدعاء( اللّهمّ فاطر السّموات ) أي فاحكم بيني وبين قومي بالحق وفي هذا إشارة للمؤمنين بالظفر والنصر لأنّه سبحانه

__________________

(1) سورة الإسراء : 17 / 80.

(2) سورة الفرقان : 25 / 30.

(3) سورة الزمر : 39 / 46.

١٠٢

إنّما أمره به للإجابة محالة »(1) .

و في السياق عينه جاء قوله تعالى في ختام سورة الأنبياء :( قال ربّ احكم بالحقّ وربّنا الرّحمن المستعان على ما تصفون ) (2) حيث نملح في هذه الآية دعاءً خفياً على الذين استهتروا بأذاه وأسرفوا في ظلمهم له وللأنبياء عموماً فجاء بلفظ (بالحق) إشعاراً بالدعاء عليهم وإقصائهم ورحمته تعالى والتعجيل بما يستحقّونه من العذاب(3) لأنّه سبحانه لا يحكم إلاّ بالحقّ والعدل وإنّما ذكر ذلك زيادةً في تأكيد دعائه عليهم بالهلاك. وقد تنبّه ابن أبي الأصبع المصري إلى ستّة عشر ضرباً من البديع في هذه الآية على إيجازها(4) .

ولابدّ من الإشارة إلى وجه المناسبة في دعائه بين معاناته من جانب والتذكير بما مرّ من معاناة الأنبياء في نفس السورة من جانبٍ آخر فختمت سورة الأنبياء بدعائه وهو خاتم الأنبياء. ومن جملة أدعيته دعاءه في الثناء على الله وتنزيهه وبيان قدرته وسلطانه وتصريفه لشؤون خلقه في إيتائهم الملك ونزعه منهم وفي إعراز وإذلال من يشاء من خلقه كما في قوله تعالى :( قل اللّهمّ مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك عى كلّ شيء قدير ) (5) و في هذا الدعاء العظيم تعليم للثناء عليه تعالى بأفخم الثناء وأسماه. ومن أدعيته

__________________

(1) مجمع البيان 162 : 5 ظ : مفاتيح الغيب 286 : 26.

(2) سورة الأنبياء : 21 / 112.

(3) ظ : تحرير التحبير : 293 بديع القرآن : 208.

(4) ظ : تحرير التحبير : 293.

(5) سورة آل عمران : 3 / 26.

١٠٣

كذلك دعاء الحمد في قوله تعالى :( قل الحمد لله وسلام على عباده الّذين اصطفى آلله خير أمّا يشركون ) (1) فاجتمع في دعائه في هذه الآية دعاء الحمد مع دعائه وتحيته للأنبياء قبله بالسلام عليهم فبعد أن قصّ سبحانه في سورة النمل قصّة سليمان وأعقبها بالحديث عنصالحو لوط أمر نبيه بحمده والسلام على عباده الصالحين من الأنبياء السابقين وفي ذلك « تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمّن بالذكرين والتبرّك بهما »(2) فضلاً عمّا فيه من التهديد للمكذّبين به بأن مصيرهم نظير الأقوام المكذّبة السابقة من جهة في حين أن في الحمد والسلام راحد واطمئناناً لمن آمن به وصدّقهبأن عاقبتهم النصر والفوز كما سالف الأمم المؤمنة بأنبيائها رسلها ـ والله أعلم ـ.

دعاء آدم :

على كثرة ما وردت قصة آدم في القرآن الكريم إلاّ أنّ دعاءه لم يذكر إلاّ في موضع واحد فقد جاء ذكر آدم وقصّته في سورة البقرة(3) و سورة ص(4) وسورة الحجر(5) وسورة الأعراف التي صرّح فيها بدعائه وزوّجه حواء في قوله تعالى :( قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ) (6) و لعلّ ذلك يرجع إلى طبيعة التعبير الفني الذي ينهجه القرآن

__________________

(1) سورة النمل : 27 / 59.

(2) الكشاف 375 : 3.

(3) ظ : الآيات : 30 ـ 39.

(4) ظ : الآيات : 71 ـ 76.

(5) ظ : الآيات : 26 ـ 30.

(6) سورة الأعراف : 7 / 23.

١٠٤

طريقاً عرض قصصه حيث ترى مسير الأحداث في القصّة يتناسب تناسباً كليّاً مع السياق العالم الذي ترد فيه فمرّة تلحظ الإجمال في عرض جانب من القصّة وقد تلمح في موضع آخر أن ما أجمل هناك فصّل هنا وهكذا يمضي الأسلوب القرآني في عرض قصص الأنبياء ففي كلّ موضع جديد تبصر مشهداً جديداً أو جانباً آخر ما سبقت الإشارة إليه حتّي تكتمل لآلئ القصّة فينتظم عقدها وتسلسلها بشكل عجيب وساحر. عليه فقد ناسب ذكر دعاء آدم في الأعراف ما جاء « قبل القصّة من ندم المعاقبين من بني آدم »(1) الذي أبان عنه قوله تعالى :( وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون * فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلاّ أن قالوا إنّا كنّا ظالمين ) (2) .

إلاّ أنّ التوافق بين سياق قصّة آدم وما قبله لا يمنع أن يوجد فرق بينهما فقد عبّر آدم عن ظلمه لنفسه بالفعل في حين أن ما جاء على لسان بينه من الظلم بالسم والتفاوت بين التعبيرين دال على الختلاف التعامل معهما يقول الدكتور فاضل السامرائي « انظر كيف كانت العقوبة على قدر الظلم فقد قال آدم :( ظلمنا ) بالصيغة الفعلية الدالّة على الحدوث والطروء للدلالة على أنّها زلّة طارئة وليست معصية إصرار وقال أبناؤه :( إنّا كنّا ظالمين ) بالصيغة الإسمية الدالّة على الثبات على الظلم والإصرار فتاب على الأوّلين وأهلك الآخرين »(3) و نلحظ كذلك في دعاء آدم وزوجه التعلّق العظيم بغفران الله تعالى وثقتهما المطلقة برحمته من جانب وخشيتهما ووجلهما من جانب

__________________

(1) التعبير القرآني / السامرائي : 258.

(2) سورة الأعراف : 7 / 4 و 5.

(3) التعبير القرآني : 258 ـ 259.

١٠٥

آخر لذا فقد أظهرا اعترافهما بالظلم لأنفسهما ووضعا أمرهما في موضع الراجي والخائف في آنٍ واحد وهذا ما يوحي إليه سياق الشرط في الدعاء حيث أكّدا جملة جواب الشرط ( باللّام ونون التوكيد الثقيلة ) زيادة في تأكيد حالهما المتأرجح بين الرجاء والخوف يرجون المغفرة والرحمةو يخافون الخسران وعاقبتهو من اللطيف أن قدّمت المغفرة على الرحمة وفي هذا دلالة دقيقةً تكشف عن أنّ الرحمة لا تنال إلاّ بالمغفرة فلا وجه للرحمة مع الإصرار على المعصية أو بقائها وهذا التعبير بتقديم طلب المغفرة على الرحمة متعارف عليه أغلب سياقات الدعاء في القرآن كما في قوله تعالى على لسان المؤمنين :( واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) (1) والله أعلم.

دعاء نوح :

المتتبّع لدعاء نبي الله نوح يجده متناثراً على ستّ سور بدأت بسورة هود وانتهت بسورة نوح التي اختصت وتفرّدت يعرض قصّة نوح دون سواه.

وفي كل موضع ترد فيه قصّة نوح تجد الدعاء يلازم قصّته ويتناسب معسياقعرض السورة فترى في موضع التفصيل بياناً لدعاء أطول وما يكون من شأن إجابته وما يعقبها من دعاء آخر كما في قوله تعالى :( ونادي نوح ربّه فقال ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين * قال ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم

__________________

(1) سورة البقرة : 2 / 286.

١٠٦

وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) (1) .(2)

أمّا في مواضع أخرى تجد دعاءه قصيراً سريعاً يوافق طريقة عرض الآيات في السورة وأسلوبها كما في سورة القمر قال تعالى :( فدعا ربّه أنّي مغلوب فانتصر ) (3) أو قد لا ينصّ على دعائه أصلاً وتكتفي الآية بالإشارة إليه كما في قوله تعالى :( ونوحاً إذ نادي من قبل فاستجبنا له فنجّيناه وأهله من الكرب العظيم ) (4) و ما في ذلك من تفنّن في التعبير وتجديد لخواطر النفس التي تحس في كلّ مكان من القرآن تناسقاً موضوعيّاً عجيباً يطابق واقع السورة من جهة وحال القصة المعروضة في فقراتها المختلفة على مستوى القرآن كلّه من جهة ثانية.

وأهم ما يلحظ في أدعية نوح دعاؤه على قومه فقد وردت جميعها مبينة لحاله معهم ومعاناة منهم فسترى أنّ معظمها دعاء عليهم وتعريضاً بكفرهم وجحودهم ولعلّ في سورة نوح أوضح مثال على ذلك فإنّك أوّل ما تلمس من هذه السورة شكوى نوح من قومه ودعاءه عليهم وهو في ذلك يجاري أغلب ما نقل عنه من الدعاء في القرآن الكريم قال تعالى :( وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً ) (5) .

ولا ريب في أنّ نوحاً قدّم قبل دعائه عليهم كلّ ما يبررها

__________________

(1) سورة هود : 11 / 45 ـ 47.

(2) ظ : في السياق عينه. المؤمنون : 23 / 28 ـ 29.

(3) سورة القمر : 54 / 10.

(4) سورة الأنبياء : 21 / 76

(5) سورة نوح : 71 / 26 و 27.

١٠٧

ويستوجبها من كثرة أذاهم ومكر أساليبهم في مجابهة دعوته وعلى كلّ حال فكما كان داعياً على كفّار قومه كان للمؤمنين منهم نصيب في دعائه كما في قوله تعالى :( ربّ اغفرلي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مومناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظّالمين إلاّ تباراً ) (1) . ففي هذه الآية التي ختمت بها سورة نوح يظهر مع الدعاء للمؤمنين الذين التّبعوه حرصه على أن يدعو على هؤلاء بالهلاك الذي يستأصلهم من الأرض. ومما ينبغي قوله هنا إن الدعاء على الكافرين من قوم نوح قد حكي عن الله تعالى كما في قصّة نوح في سورة هود قال تعالى :( ... وقيل بعداً للقوم الظّالمين ) (2) لئلّا يذهب الظنّ أنّ الهلاك قد شمل غير المذنبين فحكي الإبعاد عن رجمته مختصّاً بالظالمين منهم وهو ما يسمّي بالاحتراس من أن ينصرف الذهن إلى خلاف ما هو مقصود والله أعلم.

دعاء إبراهيم :

أوّل ما يطالعنا من دعاء إبراهيم دعاؤه في سورة البقرة في سياق الحديث عن بناء البيت الحرام وقد انطوى الدعاء على طلب الأمن والأمان للبيت الحرام وأهله والثبات على الإسلام لذريته كما في قوله تعالى :( وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) (3) و جاء السياق نفسه في سورة إبراهيم قال تعالى :( وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمنًا واجنبني وبنيّ أن نعبد

__________________

(1) سورة نوح : 71 / 28.

(2) سورة هود : 11 / 44.

(3) سورة البقرة : 2 / 126.

١٠٨

الأصنام ) (1) . ونلحظ في تكرار الدعاء في سورة إبراهيم تفاوتاً في التعبير حيث جاء لفظ البلد على التكبيرة مرّة وعلى التعريف ثانية وما في ذلك من تجديد للسياق فضلاً عن المعنى العام فقد يكون ـ والله أعلم ـ إن الدعاء في سورة إبراهيم جاء بعد إن جعل المكان المطلوب بلداً آمناً فخصّ حينها بالتعريف فضلاً عن ذلك فإن « النكرة إذا تكررت وأعيدت صارت معرفة ومثله في التنزيل( فيها مصباح المصباح في الزّجاجة كأنّها كوكب ) (2) »(3) أو أن التعريف والتنكير بالدعاء جاء « بعد ما صار المكان بلداً فقوله (اجعل هذا بلداً آمناً) تقديره : اجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك : كان اليوم يوماً حارّاً وهذا إنّما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة : لأنّ التنكير يدلّّ على المبالغة »(4) .

و مما يثير الانتباه منمجمل أدعية إبراهيم كثرة ذكره لوالديه وذريته قال تعالى :( ربّ اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيّتي ربّنا وتقبّل دعاء * ربّنا اغفرلي ولوالديّ وللمومنين يوم يقوم الحساب ) (5) .(6)

و لعلّ سبب الدعاء لذريّته هو أنّها « أحقّ بالشفعة والنصيحة قال تعالى :( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) (7) و لأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم

__________________

(1) سورة إبراهيم : 14 / 35.

(2) سورة النور : 24 / 35.

(3) ظ : مجمع البيان 227 : 4.

(4) مفاتيح الغيب 61 : 4.

(5) سورة إبراهيم : 14 / 40 و 41.

(6) ظ : في السياق نفسه : البقرة : 2 / 124 ، 128 إبراهيم : 14 / 37 الشعراء : 26 / 88 الصافات : 37 / 100.

(7) سورة التحريم : 66 / 6.

١٠٩

غيرهم وشايعو الخير »(1) في حين أنّ الدعاء للوالدين وتخصيصهما بطلب المغفرة والرحمة واجب يحتمه الشرع ويقره العرف وتعزّزه مشاعر الوقاء للوالدين لما بذلاه في سبيل تنشئة ولدهما وهذا ما أمر الله تعالى به نبيّة الكريم بدعائه لوالديه بقوله :( واخفض لهما جناح الذّلّ من الرّحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربّياتي صغيراً ) (2) .

و من بين ما نلحظه في بعض جعاء إبراهيم تقديمه لدعاء الثناء قبل دعاء المسألة كما في قوله تعالى :( الّذي خلقني فهو يشفين * والّذي يميتني ثمّ يحيين ) (3) .(4) فقد أثنى على الله تعالى وعظّمه بأن ذكر خلقه ونعمه فعقّب على ذلك بسؤاله وطلبه بقوله :( ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصّالحين * واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين ) (5) إلى آخر دعوته حيث تجد في تقديم الثناء على السؤال أدباً رائعاً ومنهجاً لطيفاً في تعليم كيفية دعائه تعالى وما ينبغي للداعي أن يتحلّى به عند مخاطبته جلّ وعلا فضلاً عمّا فيه من حسن الانتقال والتخلّص من حال لحال فإبراهيم قد تقرّب « إلى الله تعالى بدعواتأهل الإخلاص وابتهل إليه ابتهال أل الأمانة لأنّ الطالب من مولاه إذاقدم قبل سؤاله والتضرّع إليه ذكره بالصفات الحسنى والاعتراف بنعمه كان ذلك أسرع للإجابة وأنجح للمطلوب ولهذا فإن كل من أراد حاجةً

__________________

(1) الكشاف 88 : 1 مفاتيح الغيب 68 : 4 كذلك 139 : 19.

(2) سورة الإسراء : 17 / 24.

(3) سورة الشعراء : 26 / 78 ـ 81.

(4) ظ : كذلك : قوله تعالى في سورة الممتحنة : 60 / 4 ـ 5.

(5) سورة الشعراء : 26 / 83 و 84.

١١٠

إلى الله تعالى فإنّه يستحبّ تقديم الثناء على الله بما هو أهله وذكر صفاته وحمده وشكره ثمّ يسأل حاجته بعد ذلك فإنّ ذلك يكون أقرب للإجابة وأسنى لإنجاح الرغبة وإنجازها »(1) وقد جمع إبراهيم إلى جانب أدب دعائه أدب مخاطبته الله تعالى كما في نسبة الشفاء إليه عزّوجلّ دون المرض وهو بذلك قد « أسند أفعال الخير كلّها لله وأسند فعل الشرّ لنفسه »(2) تضرّعاً إليه وخضوعاً له جلّ وعلا.

و مما يمكن رصده من دعاء إبراهيم دعوته لخاتم الأنبياء وسيدهم محمد كما جاء على لسانه قوله تعالى :( ربّنا وابعثفيهم رسولاً منهم يثلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيزالحكيم ) (3) كما نلحظ أن إبراهيم ما دعا على قومه أبداً ولم يرد لذلك شاهد دعائي على الإطلاق والله أعلم.

دعاء موسي :

جسدت أدعية موسى مواق متعدّدة من أحواله بيّنت خلالها اتّصاله الوثيق بالله تعالى ودعاءه في مختلف أوضاعه في سرّائه وضرّائه مظهراً حاجته وفقره مرّة وتضرّعه وخضوعه مرّة أخرى.

و كما جاءت أدعية الأنبياء موزّعة بحسب ما يقتضيه المقام ويتطلّبه السياق فقد تعدّدت مواع أدعية موسى تبعاً لاستكمال حلقات قصّته على اختلافها إجمالاً وتفصلاً لأنّ « السياق هو الذي يحدّد القدر الذي يعرض

__________________

(1) الطراز 337 : 2 ظ : المثل السائر 55 : 3 مفاتيح الغيب 147 : 24.

(2) تحرير التحبير 417 : 3.

(3) سورة البقرة : 2 / 129.

١١١

منها في كلّ موطن كما يحدّد طريقة العرض والأداء بما يحقّق التناسق والجمال الفنّي »(1) .

و يمكننا ترتبيب دعاء موسى بدءاً من سورة القصص حيث نجد فيها التفصيل لقصّة موسى قبل نبوءته وما جاء على لسانه من دعاء في نلك الفترة التي ضمّت مواضع ثلاثه لأدعيته أولها كان بعد قتله القبطي قال تعالى :( قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي فغفر له إنّه هو الغفور الرّحيم ) (2) و من اللطيف هنا أن هذه الآية جمعت الندم والاستغفار والغفران معاً وإنّها جمعت الدعاء والإجابة في موضع واحد.

وجاء دعاؤه ثانية أثناء خروجه من المدينة خائفاً من تشاورأهلها على قتله وتوجّهه إلى مدين قال تعالى :( فخرج منها خائفًا يترقّب قال ربّ نجّني ممنالقوم الظّالمين * ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السّبيل ) (3) .

ويأتي الموضع الثالث من دعائه في الفترة نفسها بعد أن سقى لا بنتي شعيب موضّحاً تعلّقه بالله تعالى وفقره لكلّ خير ينزله قال تعالى :( فسقى لهما ثمّ تولّى إلى الظّلّ فقال ربّ إنّي لما أنزلت إلّى من خير فقير ) (4) .

وبعد إرسال موسى ترى في دعائه توقّع تكذيبه من قومه وخوفه منهم لذا فقد دعا بأن يمكنه من القيام بدعوته على أتمّ وجه وأنجحه. قال تعالى :( قال ربّ اشرح لي صدري * ويسّرلي أمري * واحلل عقدةً من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري *

__________________

(1) سيكو لوجية القصّة في القرآن / التهامي فقرة : 139.

(2) سورة القصص : 28 / 16.

(3) سورة القصص : 28 / 21 و 22.

(4) سورة القصص : 28 / 24.

١١٢

وأشركه في أمري ) (1) .

و مما ينبغي الإشارة إليه هنا تكرار ذكرهارون في أغلب دعائه وما في ذلك من الدلالات على تعظيم منزلة أخيه وإظهار مكانته الوافية في نفس موسى ودعوته إلى الله فهو أخوه وأمينه قال تعالى :( قال ربّ إنّي قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح منّي لسانًا فأرسله معي ردءًا يصدّقني إنّي أخاف أن يكذبون ) (2) .(3)

ومن جملة أدعية موسى نلحظ طلبه الدائم في إرسال أخيه معه تصديقاً لدعوته وقوّة لحجّته فمنزلته للموسى بمثابة نفس موسى قال تعالى :( قال ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرق وبيننا وبين القوم الفاسقين ) فقد وازن موسى بينه وبين أخيه هارون في إخلاصهما لله وبذلهما كلّ شيء في سبيله ونصرته.

ومن بين أدعية موسى دعاؤه على قوم فرعون لما لقيه منهم من الإصرار على الكفر وتسخير كلّ ما أنعم الله عليهم في الصدّ عن سبيله حيث دعا عليهم دعاء الشاكي منهم اليائس من إيمانهم وهدايتهم قال تعالى :( وقال موسى ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً ي الحياة الدّنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يومنوا حتّى يروا العذاب الأليم ) (5) .

__________________

(1) سورة طه : 20 / 25 ـ 32.

(2) سورة القصص : 28 / 33 و 34.

(3) ظ : في السياق عينه الآيات التالية : الأعراف : 151 / 7 الشعراء : 26 / 13.

(4) سورة المائدة : 5 / 25.

(5) سورة يونس : 10 / 88.

١١٣

فإنّك تلحظ في تكرار تضرعه بلفظ ( ربّنا ) شعوراً بمدى معاناته منهم وحرصاً على تأكيد إهلاكهم لأنّهم قابلوا آيات الله وتحذيره ووعظه لهم بزيادة الكفر والضلال فعظهم و « اشتدّ غضبه عليهم وأفرط في مقته وكراهيته لحالهم فدعا الله عليهم بما علم أنّه لا يكون غيره »(1) .

وممّا يعطي لسياق الدعاء قوّة مجيئه مكرّراً بلفظ ( اطمس ) و ( اشدد ) فضلاً عمّا في طلب الإيمان لهم بعد أن يروا العذاب. ليكن ذلك عذاباً آخر لهم وحسرة في قلوبهم على ترك الإيمان وهجر الحقّ والله أعلم.

دعاء زكريا :

ارتكز دعاء زكريا في مواضعه الثلاثه التي ورد فيها على طلب الذريّة الطيّبة ولم يخرج دعاؤه لغير ذلك على الإطلاق. قال تعالى :( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لي لدنك ذرّيّةً إنّك سميع الدّعاء ) (2) .

ومن اللطيف أن تعددّ طرائق التعبير من موضع لآخر في سؤاله الخلف الصالح ففي الآية السابقة جاء الدعاء مباشراً من دون أن يبيّن وهن عظامه وثورة الشيب في رأسه كما أوضع ذلك في سورة مريم قال تعالى :( ذكر رحمة ربّك عبده زكريّا * إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً * قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرّاس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً * وإنّي خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليّاً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّا ً) (3) .

__________________

(1) الكشاف 365 : 2.

(2) سورة آل عمران : 3 / 38.

(3) سورة مريم : 19 / 2 ـ 6.

١١٤

و الفرق بين التعبيرين ـ والله أعلم ـ راجع إلى سياق ورود الدعاء في كلا الموضعين فالدعاء في آل عمران جاء مسبوقاً بما هو معجز من أمر رزق مريم فكان ذلك موحياً لزكريا أن منقدر على إنزال الطعام والرزق في غير وقته قادر يهب الذرية ولو بعد حينها ثقة منه بالله وسروراً بما رآه من نعمه كرمه ورعايته جلّ وعلا.

جاء في مفاتيح الغيب : « إنّ زكريا لما رأى خرق العادة في حقّ مريم طمع في حقّ نفسه فدعا »(1) قال تعالى :( ... كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّي لك هذا قالت هومن عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ * هنالك دعا زكريّا ربّه ) (2) .

أمّا في الموضع الثانيمن دعائه فقد افتتحت به سورة مريم فكان مناسباً مع بدء السورة التذكير برحمة ربّه وبيان حاله وما كان من أمره في بداية السورة.

ونلحظ ثمة فروقاً بين سياقيالدعاء ين ـ في آل عمران ومريم ـ منها أنّه ختم دعاءه في آل عمران بقوله :( إنّك سميع الدّعاء ) بمعنى « قابل الدعاء ومجيب له »(3) في حين جاء في ختام دعائه في سورة مريم( ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً ) أي : « لم أشق يا رب بدعائك لأنك لم تخيّب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك بل كنت تجيب وتقضي »(4) وكلا الختامين يدلّان على إجابة الدعاء وقدأجيب في آل عمران على لسان الملائكة وهوقوله تعالى :( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك

__________________

(1) مفاتيح الغيب 195 : 21.

(2) سورة آل عمران : 3 / 37 ـ 38.

(3) مجمع البيان 72 : 2 ظ : التبيان 45 : 2.

(4) جامع البيان 46 : 16.

١١٥

بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله ) (1) .

في حين أنّ إجابة النداء في سورة مريم لم يرد فيها للملائكة ذكر بل إنّها كانت ـ كما ذهب إلى ذلك الرازي ـ من لدن الله تعالى(2) كما في قوله :( يا ذكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى ) (3) .

ومن أوجه الاختلاف بين الدعاء ين ما ذكر فيها من سؤال زكريا عن كيفيّة أن يكون له ولد وارث م ما أوضع من حاله قل سبحانه :( قال ربّ أنّي يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقراً وقال كذلك الله يفعل ما يشاء ) (4) .

وأعاد المعنى نفسه في سورة مريم وغيّر في السياق كما في قوله :( قال ربّ أنّى يكون لي غلام وكانتامرأتي عاقر وقد بلغت من الكبرعتيّا ً) (5) .

فقدّم في آل عمران : « كبر نفسه ثم عقر المرأة »(6) و أخّر ذلك في سورة مريم فضلاً عمّا في الآية نفسها من التقديم في قوله :( وقد بلغني الكبر ) بينما في سورة مريم قال :( قد بلغت من الكبر عتيّاً ) وهذا التجديد في السياق من جمال التعبير وجدّته فقد جعل « الكبر بمنزلة الطالب فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتي الكبر بمرور السنين عليه »(7) إلاّ أنّه أخّر هذا المعنى في سورة مريم لأنّه أكثر إيضاحاً ودلالة على حاله وذلك بأن بلغ بنفسه إلى أعلى

__________________

(1) سورة آل عمران : 3 / 39.

(2) ظ : مفاتيح الغيب 195 : 21.

(3) سورة مريم : 19 / 7.

(4) سورة آل عمران : 3 / 40.

(5) سورة مريم : 19 / 8.

(6) مفاتيح الغيب 195 : 21.

(7) مجمع البيان 74 : 2.

١١٦

درجات الكبر( عتيّاً ) وهو « حال اليبس والجفاف »(1) والله أعلم.

و الناظر بالآيات وسياقها في السورتين يتبيّن الكثير من التفاوت بالتعبير والدلالات ومما يجدر ذكره أن دعاء زكريا في سورة مريم قد تضمّن من الآداب الدعائية ما يوجب أن تكون منهجاً وسبيلاً لكلّ داع وأوّل ما يشار إليه هنا صفة الدعاء التي امتدحها القرآن الكريم بقوله :( إذ نادى ربّه نداء خفيّاً ) (2) .

ففي صفة الخفاء دلالة على قرب المدعو من الداعي ورعايته له فضلاً عن أن الإخفاء في الدعاء حالة حثّ القرآن عليها ورغّب فيها قال تعالى :( ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً ) (3) .

ولا ريب في أن الاخفاء في الدعاء « أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص »(4) لله تعالى من الإجهار والتصويت به « لأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الانكسار والتبرّي عن حول النفس وقوّتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه »(5) وفي خفاء الدعاء كذلك إشارة إلى عظيم « التضرّع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبّه ومقصوده »(6) .

ومن اللّافت للنظر في الآية أنّها جمعت بين النداء والخفاء في صفة

__________________

(1) التبيان 109 : 7.

(2) سورة مريم : 19 / 3.

(3) سورة الأعراف : 7 / 55.

(4) الكشاف 3 : 3.

(5) مفاتيح الغيب 194 : 21.

(6) بدائع الفوائد 6 : 3.

١١٧

الدعاء والعلوم أنّ النداء لا يكون إلاّ برفع الصوت والإجهار به فكيف يكون الدعاء نداءً من جهة وخفيّاً من جهة ثانية في آنٍ واحد؟ وتعليل ذلك ـ والله أعلم ـ أنّه أراد بالخفاء الإشارة إلى أنّ الله تعالى قريبمن عباده يسمع دعاءهم ويعلم هواجسهم فلا يغيب عنه شيء من أحوالهم أما النداء ففيه دلالة على استبعاد زكريا لنفسه ـ إفراطاً في الانقطاع إليه والتواضع والخضوع له تعالى ـ من مراتب القرب والزلفى وقصوره عن الوصول إلى منازل المناجين بمعنى أن في الخفاء دلالة للطيف إحاطته بعباده وقربه منهم وفي النداء إشارة على بعدهم وقصورهم عن مناجاته هذا من جانب ومن جانب ما قدر عليه من رفع الصوت إلاّ أن الصوت كان ضعيفاً نهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى قصده وخفيّاً نظراً إلى الواقع »(1) .

و فضلاً عن التحلّي بأدب الخطاب والدعاء الذي أتى به زكريا فقد بالغ في بيان ضعفه بأن خصّ العظم بالوهن وفي ذلك أرقى المعاني على عجزه ذهاب قدرته لأنّ العظم « عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته ولأنّه أشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن »(2) .

والموضع الثالث الذي جاء فيه دعاؤه في سورة الأنبياء ضمن ما قصّ القرآن من أدعيتهم ومناجاتهم وهو قوله تعالى :( وزكريّا إذ نادى ربّه ربّ

__________________

(1) مفاتيح الغيب 180 : 21.

(2) الكشاف من أدعيتهم 4 : 3 ظ : التبيان 4 : 7 ظ : مجمع البيان 11 : 4.

١١٨

لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ) (1) .

يتّضح لنا من خلال ما سلف أنّ أهمّ ما شغل دعاء زكريا هو طلب الولد الصالح وقد أجاب الله تعالى دعاءه بعدما رأي إخلاصه وتضرّعه وخضوعه في دعائه والله أعلم.

دعا ء هود ولوط(2) :

من بين الأنبياء الذين حكى الكتاب العزيز دعاءهم على أقوامهمنبي الله هود ولوط.

أمّا هوج فلم يرد له إلاّ موضع واحد في دعائه على قومه وطلبه نصرته تعالى بعد أن كذّبه قومه وجاهروا في كفرهم فتوجّه بدعائه قائلاً :( قال ربّ انصرني بما كذّبون ) (3) فأجابه الله وأهلكم كما ورد ذلك عقب دعائه مباشرة قال تعالى :( قال عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين * فأخذتهم الصّيحة بالحقّ فجعلناهم غثاءً فبعداً للقوم الظّالمين ) (4) .

وأمّا دعاء لوط على قومه فقد جاء في موضعين منه قوله تعالى :( ربّ نجّني وأهلى ممّا يعملون ) (5) لأنّه لم يدع عليهم إلاّ بعد أن استوثق من إصرار قومه على العمل السيئ فلم يبق منه إلاّ الدعاء عليهم كما في قوله تعالى :( قال ربّ انصرني على القوم المفسدين ) (6) فإنّك تلحظفي نعته لقومه

__________________

(1) سورة الأنبياء : 21 / 89.

(2) سورة الأنبياء فقرة رقم (7) ، (8).

(3) سورة المؤمنون : 23 / 26 ، 39.

(4) سورة المؤمنون : 23 / 40 و 41.

(5) سورة الشعراء : 26 / 169.

(6) سورة العنكبوت : 29 / 30.

١١٩

بالفساد مسوغاً للدعاء عليهم وإهلاكهم بعد أن عجز عن نصحهم وإنذراهم فجاء الدعاء عليهم عاقبة لأعمالهم وخاتمة لفسادهم والله أعلم.

دعاء سليمان :

اقتصر ذكر دعاء سليمان في القرآن الكريم على سورتين الأولى : في سورة النمل حيث طلبب من الله تعالى إلهامه الشكر على نعمته التي أنعمها عليه وعلى والديه من أمر نبوتهما قال تعالى :( ... وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك الّتي أنعمت عليّ والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصّالحين ) (1) .

ففي الآية دلالة على شكر نعمة وطلب التوفيق للمزيد من العمل الصالح.

وفي سورة ص نجد الموضع الثاني لدعاء سليمان وهو قوله تعالى :( قال ربّ اغفرلي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنّك أنت الوهّاب ) (2) .

حيث دعا الله عزّوجلّ أن يجعل له « معجزة تختصّ به كما أن موسى يختصّ بالعصا واليد البيضاء واختصّ صالح بالناقة ومحمد بالمعراج والقرآن »(3) فضلاً عمّا في الآية من الإشارة إلى طلب المغفرة قبل كلّ شيء لأنّها « سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأنّ سليمان طلب المغفرة أوّلاً ثمّ توسّل به إلى طلب المملكة »(4) و الله أعلم.

__________________

(1) سورة النمل : 27 / 19.

(2) سورة ص : 38 / 35.

(3) مجمع البيان 116 : 5.

(4) مفاتيح الغيب 209 : 26.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137