ابطال ما استدلّ به لإمامة أبي بكر

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الإمامة
ISBN: 964-319-258-X
الصفحات: 55
مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الإمامة
ISBN: 964-319-258-X
الصفحات: 55
مناقشة أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
هذه عامّة أدلّتهم ، ولو سألتني عن أهمّ هذه الأدلّة لذكرت لك : قضيّة الصلاة أوّلاً ، وحديث « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، فهما أهم هذه الأدلّة العشرة.
لكنّا نبحث عن كل هذه الأدلّة واحداً واحداً ، على ضوء كتبهم ، وعلى أساس رواياتهم ، وأقوال علمائهم.
الدليل الأول :
قوله تعالى :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ *وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ) .
هذه آية قرآنية ، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الآيات المستدل بها على إمامة أمير المؤمنينعليهالسلام : إنّ دلالة الآية على إمامة علي تتوقّف على ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر ، وإلاّ فالآية من
القرآن ، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.
قوله تعالى :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ) يتوقّف الإستدلال به على مقدمات ، حتّى تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر
أوّلاً : الإستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة عليعليهالسلام ، وإلاّ فالمعصوم أكرم عند الله سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى ، فإذن ، يتوقّف الإستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر ـ لو كانت نازلةً فيه ـ على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة عليعليهالسلام ، وإلاّ فلو تمّ شيء من تلك الأدلّة لكان علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى ، وحينئذ يبطل هذا الاستدلال.
وثانياً : يتوقف الإستدلال بهذه الآية المباركة لأكرميّة أبي بكر ، على أنْ لا يتمّ ما استدلّ به لافضليّة عليعليهالسلام ، وإلاّ لتعارضا بناء على صحة هذا الإستدلال وحجيّة هذا الحديث الوارد في ذيل هذه الآية المباركة ، ويكون الدليلان حجّتين متعارضتين ، ويتساقطان ، فلا تبقى في الآية هذه دلالة على امامته.
ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثبات هو : أنّ عليّاًعليهالسلام لم يسجد لصنم قط ، وأبو بكر سجد ، ولذا يقولون ـ إذا ذكروا عليّاً ـ : كرّم الله وجهه ، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً : يتوقف الإستدلال بهذه الآية المباركة على نزول الآية في أبي بكر ، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : إنّ الآية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.
القول الثاني : إنّ الآية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة ، راجعوا الدر المنثور في التفسير بالمأثور(١) ، يذكر لكم هذه القصة في ذيل هذه الآية ، وإنّ الآية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.
القول الثالث : إنّ الآية نازلة في أبي بكر.
فالقول بنزول الآية المباركة في أبي بكر أحد الأقوال الثلاثة عندهم.
لكن هذا القول ـ أي القول بنزول الآية في أبي بكر ـ يتوقف على صحة سند الخبر به ، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول.
وإليكم المصدر الذي ذكر فيه خبر نزول الآية في أبي بكر
__________________
(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٦ / ٣٥٨.
وتصريحه بضعف سند هذه الرواية :
الرواية يرويها الطبراني ، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ، ثمّ يقول : فيه ـ أي في سنده ـ مصعب بن ثابت ، وفيه ضعف(١) .
فالقول الثالث الذي هو أحد الأقوال في المسألة يستند إلى هذه الرواية ، والرواية ضعيفة.
ومصعب بن ثابت هو حفيد عبدالله بن الزبير ، مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير ، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصلة المطولة ، ومصعب بن ثابت : ضعّفه يحيى بن معين ، ضعّفه أحمد بن حنبل ، ضعّفه أبو حاتم قال : لا يحتجّ به ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وهكذا قال غير هؤلاء(٢) .
فكيف يستدل بالآية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته ، وفي المسألة ثلاثة أقوال ، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية ، وتلك الرواية ضعيفة ؟
مضافاً : إلى أنّ هذا الإستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الإماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته.
__________________
(١) مجمع الزوائد ٩ / ٥٠.
(٢) تهذيب التهذيب ١٠ / ١٤٤.
الدليل الثاني :
الحديث : « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».
هذا الحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين ، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام ، وفي كتب الاُصول أيضاً ، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة ، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة ، فالحديث مهمّ جدّاً ، لا سيّما وأنّه في مسند أحمد بن حنبل(١) ، وأيضاً في صحيح الترمذي(٢) ، وأيضاً في مستدرك الحاكم(٣) ، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة ، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.
ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث ، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد ، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل ، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب ، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة ، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف ، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.
__________________
(١) مسند أحمد ٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥.
(٢) صحيح الترمذي ٥ / ٥٧٢.
(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٧٥.
لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه بالنسبة إلى هذا الحديث ، وأُقرّب لكم الطريق ولا تحتاجون إلى مراجعة الكتب ، فأقول :
قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير(١) : أعلّه أبو حاتم [ أي قال : هذا الحديث عليل ] وقال البزّار كابن حزم لا يصح(٢) .
فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث : أبو حاتم ، أبو بكر البزّار ، وابن حزم الأندلسي.
والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه ، يضعّفه بصراحة ، فراجعوا كتاب الترمذي وهو موجود(٣) .
وإذا ما رجعتم إلى كتاب الضعفاء الكبير لأبي جعفر العُقيلي لرأيتموه يقول : منكر لا أصل له(٤) .
وإذا رجعتم إلى ميزان الاعتدال يقول نقلاً عن أبي بكر
__________________
(١) وقد ذكرت لكم من قبل إنّنا في فهم الأحاديث والدقّة في أسانيدها لابدّ وأن نرجع إلى ما قيل في شرحها والكتب المؤلّفة في شروح الأحاديث ، من قبيل المرقاة وفيض القدير وشروح الشفاء للقاضي عياض ، وأمثال ذلك.
(٢) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٢ / ٥٦.
(٣) صحيح الترمذي ٥ / ٥٧٢.
(٤) كتاب الضعفاء الكبير ٤ / ٩٥.
النقّاش : وهذا الحديث واهٍ(١) .
ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ : هذا الحديث لا يثبت(٢) .
وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة ٧٤٣ ه ، يقول في شرحه على منهاج البيضاوي : إنّ هذا الحديث موضوع(٣) .
ولو رجعتم إلى ميزان الاعتدال لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب ، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله ، فراجعوا(٤) .
وإذا رجعتم إلى تلخيص المستدرك ترونه يتعقّب الحاكم ويقول : سنده واه جدّاً(٥) .
وإذا رجعتم إلى مجمع الزوائد للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول : وفيه من لم أعرفهم(٦) .
__________________
(١) ميزان الاعتدال ١ / ١٤٢.
(٢) لسان الميزان ٥ / ٢٣٧.
(٣) شرح المنهاج : مخطوط.
(٤) ميزان الاعتدال ١ / ١٠٥ ، ١٤١ و ٤٣ / ٦١٠.
(٥) تلخيص المستدرك ـ ط في ذيل المستدرك ٣ / ٧٥.
(٦) مجمع الزوائد ٩ / ٥٣.
وإذا رجعتم إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام لرأيتم يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوط هذا الحديث ، فراجعوا لسان الميزان(١) .
وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة ، وهو شيخ الإسلام الهروي ، له كتاب الدر النضيد من مجموعة الحفيد ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول : هذا الحديث موضوع(٢) .
وابن درويش الحوت يورد هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(٣) (٤) .
فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق أنْ يُستدلّ به على مبحث الإمامة ، سواء كان يستدل به الشيعة الإمامية أو السنّة ، حتّى لو
__________________
(١) لسان الميزان ١ / ١٨٨ ، ٢٧٢ و ٥ / ٢٣٧.
(٢) الدر النضيد من مجموعة الحفيد : ٩٧.
(٣) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب : ٤٨.
(٤) هذا ، وللحافظ ابن حزم الاندلسي في الإستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً ، إنّه يقول ما هذا نصّه : ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، ولكنّه لم يصح ويعيذنا الله من الإحتجاج بما لا يصح. الفصل في الملل والنحل ٤ / ٨٨.
أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة عليعليهالسلام ، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة ، فلا يمكن الإحتجاج به على القوم لإثبات الإمامة أصلاً ، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.
ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً ، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لاثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً ، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.
فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه شرح الفقه الأكبر إلى صحيحي البخاري ومسلم ، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين ، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً ، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها ، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.
ثمّ كيف يأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآله بالإقتداء بالشيخين ، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد ، فبمن يقتدي المسلمون ؟ وكيف يأمر رسول الله بالإقتداء بالشيخين ، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا ؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما ، وتلك الموارد كثيرة جدّاً ؟!
الدليل الثالث :
قول رسول الله لأبي الدرداء : « ما طلعت شمس ولا غربت » إلى آخره.
هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم ، فقد رواه الطبراني في الأوسط بسند قال الهيثمي : فيه إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب.
وفيه أيضاً ـ أي في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول : فيه بقيّة ـ بقيّة بن الوليد ـ وهو مدلّس وهو ضعيف(١) .
وهو ساقط عند علماء الرجال.
الدليل الرابع :
« هما سيّدا كهول أهل الجنّة ».
هذا الحديث يرويه البزّار ، ويرويه الطبراني ، كلاهما عن أبي سعيد.
__________________
(١) مجمع الزوائد ٩ / ٤٤.
قال الهيثمي حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد : فيه علي بن عابس وهو ضعيف.
ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيدالله بن عمر ويقول في راويه عبد الرحمن بن ملك : هو متروك(١) .
وليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.
الدليل الخامس :
« ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره ».
ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات وقال : هذا حديث موضوع على رسول اللهصلىاللهعليهوآله (٢) .
وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله ، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.
الدليل السادس :
وأمّا صلاة أبي بكر ، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين :
__________________
(١) مجمع الزوائد ٩ / ٥٣.
(٢) كتاب الموضوعات ١ / ٣١٨.
السبب الأول : إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين لا بسند بل أكثر ، ووارد في المسانيد والسنن ، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة.
وثانياً : الصلاة أفضل العبادات ، وإذا كان رسول اللهصلىاللهعليهوآله قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله ، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده ، فيكون هذا الحديث ـ حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول الله ـ من أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر.
ولو راجعتم الكتب لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث ، واستدلالهم بهذا الخبر على رأس جميع الأدلّة وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.
رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة ، وعلى رأسهم عائشة بنت أبي بكر ، ولكنّك لو تأمّلت في الأسانيد لرأيت الصحابة يروون هذا الخبر مرسلاً ، أو يسمعون الخبر عن عائشة وتكون هي الواسطة في نقل هذا الخبر ، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة ، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين :
الأوّل : مخالفتها لعلي.
الثاني : كونها بنت أبي بكر.
ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية ، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر ، وأيضاً القرائن الخارجية التي لها علاقة بهذا الخبر ، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها ، ولم يكن من رسول اللهصلىاللهعليهوآله .
فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية : قضية أمر رسول الله بخروج القوم مع أُسامة ، قضية بعث أُسامة ، وتأكيدهصلىاللهعليهوآله على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.
أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة ، وإلى آخر لحظة من حياته ، فلم يخالف فيه أحد ، ولا خلاف فيه أبداً ، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم ، فلا خلاف في هذا.
وأمّا أنّ كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث ، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ، فكيف يأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآله بخروج أبي بكر في بعث أُسامة ، ويؤكّد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته ، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه ؟
وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة ، ويقول هذا كذب ، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث
أُسامة ، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة ، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر ، إذن ، لابدّ من الإنكار والحال أنّ وجود أبي بكر في بعث اُسامة لا يقبل الإنكار.
أنقل لكم عبارة واحدة فقط ، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح البخاري :
قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي ، وابن سعد ، وابن إسحاق ، وابن الجوزي ، وابن عساكر ، وغيرهم(١) . أي : وغيرهم من علماء المغازي والحديث.
ولذا لمّا توفّي رسول اللهصلىاللهعليهوآله كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة ، ولذا لمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر قال : أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه ؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة ، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.
القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر ، أي خبر : أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصلاة.
ولكن لا نكتفي بهذا القدر ، ونضيف أنّ عليّاًعليهالسلام كان يعتقد ،
__________________
(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ١٢٤.
وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون ، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول الله.
قال ابن أبي الحديد : سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه ؟ فقال : أمّا أنا فلا أقول ذلك ، لكن عليّاً كان يقوله ، وتكليفي غير تكليفه ، كان حاضراً ولم أكن حاضراً.
ولا نكتفي بهذا القدر فنقول :
سلّمنا بأنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآله هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة ، فكم من صحابي أمر رسول الله بأنْ يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه ، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي الذي صلّى في مكانهصلىاللهعليهوآله .
لكنْ لكم أن تقولوا : بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة ، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب ، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده ، لك أنْ تقول هذا ، كما قالوا.
فاسمع لواقع القضية ، واستمع لما يأتي :
إنّه لو كان رسول اللهصلىاللهعليهوآله هو الأمر ، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّهصلىاللهعليهوآله خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين
ورجلاه تخطّان على الأرض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.
لكنّهم يعودون فيقولون : بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة ، وهذا الذي وقع من رسول الله وقع مرّة واحدةً فقط.
قلت :
أوّلاً : لم تكن الصلاة أيّاماً ، بل هي صلاة واحدة ، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين ، فكانت صلاة واحدة.
وثانياً : على فرض أنّه قد صلّى أيّاماً وصلوات عديدة ، ففعل رسول الله ذلك في آخر يوم من حياته ، وخروجه بهذا الشكل معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض ، دليل على أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.
فلو سلّمنا أنّ الأمر بهذه الصلاة هو رسول اللهصلىاللهعليهوآله ، لو سلّمنا هذا ، فرسول الله ملتفت إلى أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة على إمامته من بعده ، وفي هذا الفعل إشعار بالإمامة والخلافة العامة من بعدهصلىاللهعليهوآله ، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار ، وهذا مذكور وموجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها على أنّ رسول الله هو الأمر بهذه الصلاة بزعهم.
وهنا نكات :
النكتة الأولى : قالت الروايات : إنّه خرج معتمداً على رجلين ، والراوي عائشة ـ كما ذكرنا ، الأخبار كلّها تنتهي إلى عائشة ـ خرج رسول الله معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان الأرض ، وتنحّى أبو بكر عن المحراب ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة.
وخروجه بهذه الصورة دليل على العزل لو كان هناك نصّ.
وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول الله لدى خروجه ، ولم تذكر اسم الرجل الثاني ، والرجل الثاني كان عليعليهالسلام ، ممّا يدلّ على انزعاجها من هذا الفعل.
يقول ابن عباس للراوي : أسمّتْ لك الرجل الثاني ؟ قال : لا ، قال : هو علي ، ولكنّها لا تطيب نفساً بأن تذكره بخير.
النكتة الثانية : إنّه لمّا رأى بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله ، وضع حديثاً في أنّ رسول الله لم يعزل أبا بكر ، وإنّما جاء إلى الصلاة معتمداً على رجلين ، وصلّى خلف أبي بكر ، فثبتت القضية وقويت.
وبعبارة أُخرى : رسول اللهصلىاللهعليهوآله ينصب أبا بكر عملاً ، مضافاً إلى إرساله إلى الصلاة لفظاً وقولاً ، إذ يأتي معتمداً على رجلين
حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.
ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول الله ، مع اقتداء رسول الله به في الصلاة ، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلاً على إمامة أبي بكر لما عدا رسول الله ؟
نعم ، وضعوا هذه الأحاديث الدالّة على أنّ رسول الله اقتدى بأبي بكر.
لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث ، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين ، الموجود في الصحيحين : إنّ رسول الله نحّاه أو تنحّى أو تأخّر أبو بكر ، وصلّى رسول الله بنفسه تلك الصلاة.
أمّا هذا الحديث فموجود في مسند أحمد ، وهو حديث كذب قطعاً ، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة ، وحتّى أنّ بعضهم كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبيصلىاللهعليهوآله بأبي بكر ، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته ، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي ، هذا غير معقول أصلاً.
رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ عشرين سنة تقريباً لأوّل مرّة ،
نشرتها أنا بتحقيق منّي والحمد لله(١) .
النكتة الثالثة : إنّ النبيصلىاللهعليهوآله بعد أن خرج إلى الصلاة وصلّى بنفسه الشريفة ، ونحّى أبا بكر ، لم يكتف بهذا المقدار ، وإنّما جلس على المنبر بعد تلك الصلاة ، وخطب ، وذكر القرآن والعترة ، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما ، فأكّد رسول الله بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله ، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب ، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة إنّ على جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة ، وأكّد على وجوب هذا البعث وعلى الإسراع فيه.
وبعد هذا كلّه لا يبقى مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.
الدليل السابع :
قولهصلىاللهعليهوآله : « خير أُمّتي أبو بكر وعمر ».
هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الإيجي وشارحه
__________________
(١) هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي ، المتوفى سنة ٥٩٧ ه ، ردّاً على معاصره الحافظ عبد المغيث الحنبلي ، ولذا أسماها بآفة أصحاب الحديث في الردّ على عبد المغيث ، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا.
وغيرهما أيضاً.
لكن الحديث ليس هكذا ، للحديث ذيل ، وهم أسقطوا هذا الذيل ليتمّ لهم الإستدلال ، فاسمعوا إلى الحديث كاملاً :
عن عائشة ، قلت : يا رسول الله ، من خير الناس بعدك ؟ قال : « أبو بكر » ، قلت : ثمّ مَن ؟ قال : « عمر ».
هذا المقدار الذي استدلّ به هؤلاء.
لكن بالمجلس فاطمة سلام الله عليها ، قالت فاطمة : يا رسول الله ، لم تقل في علي شيئاً !
قال : « يا فاطمة ، علي نفسي ، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً ؟ ».
فيستدلّون بصدر الحديث بقدر ما يتعلّق بالشيخين ، ويجعلونه دليلاً على إمامة الشيخين ، ويسقطون ذيله ، وكأنّهم لا يعلمون بأنّ هناك من يرجع إلى الحديث ويقرأه بلفظه الكامل ، ويعثر عليه في المصادر.
لكن الحديث ـ مع ذلك ـ ضعيف سنداً ، فراجعوا كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة(١) .
__________________
(١) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ١ / ٣٦٧.