أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 83931
تحميل: 4504


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83931 / تحميل: 4504
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

المرأة فكيف يجوز قياس البهيمة على الإنسان وقد اختلف حكمهما في نفس ما ذكرت* فإن قيل لما كان الجنين في حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها كان بمنزلة العضو* منها إذا ذكيت الأم فيحل بذكاتها* قيل له غير جائز أن يكون بمنزلة عضو منها لجواز خروجه حيا تارة في حياة الأم وتارة بعد موتها والعضو لا يجوز أن يثبت له حكم الحياة بعد انفصاله منها فثبت أنه غير تابع لها في حال حياتها ولا بعد موتها فإن قيل الواجب أن يتبع الجنين الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في العتاق والاستيلاد والكتابة ونحوها* قيل له هذا غلط من الوجه الذي قدمنا في امتناع قياس حكم على حكم آخر ومن جهة أخرى أنه غير جائز إذا أعتقت الأمة أن ينفصل الولد منها غير حر وهو تابع للأم في الأحكام التي ذكرت وجائز أن يذكى الأم ويخرج الولد حيا فلا يكون ذكاة الأم ذكاة له فعلمنا أنه لا يتبع الأم في الذكاة إذ لو تبعها في ذلك لما جاز أن ينفرد بعد ذكاة الأم بذكاة نفسه* وأما مالك فإنه ذهب فيه إلى ما روى في حديث سليمان أبى عمران عن ابن البراء عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في أجنة الأنعام أن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه وروى عن على وابن عمر من قولهما مثل ذلك* فيقال له إذا ذكر الإشعار في هذا الخبر وأبهم في غيره من الأخبار التي هي أصح منه وهو خبر جابر وأبى سعيد وأبى الدرداء وأبى أمامة ولم يشترط فيها الإشعار فهلا سويت بينهما إذ لم تنف هذه الأخبار ما أوجبه خبر الإشعار إذ هما جميعا يوجبان حكما واحدا وإنما في أحدهما تخصيص ذلك الحكم من غير نفى لغيره وفي الآخر إبهامه وعمومه ولما اتفقنا جميعا على أنه إذا لم يشعر لم تعتبر فيه ذكاة الأم واعتبرت ذكاة نفسه وهو في هذه الحالة أقرب أن يكون بمنزلة أعضائها منه بعد مباينته لها وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أشعر ويكون معنى قوله ذكاته ذكاة أمه على أنه يذكى كما تذكى أمه* ويقال لأصحاب الشافعى إذا كان قوله ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر ينفى ذكاته بأمه إذا لم يشعر فهلا خصصت به الأخبار المبهمة أكان عندكم أن هذا الضرب من الدليل يخص به العموم بل هو أولى منه* ومما يحتج به على الشافعى أيضا في ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان) ودلالة هذا الخبر يقتضى عنده تحريم سائر الميتات سواهما فيلزمه أن يحمل معنى قوله ذكاة الجنين

١٤١

ذكاة أمه على موافقة دلالة هذا الخبر.

باب جلود الميتة إذا دبغت

قوله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) وقوله تعالى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً ) يقتضى تحريم الميتة بجميع أجزائها وجلدها من أجزائها لأنه قد حله الموت بدلا من الحياة التي كانت فيه إلا أن قوله( عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) قد دل على الاقتصار بالتحريم على ما يتأتى فيه الأكل وقد بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المعنى في جلد الميتة بعد الدباغ بقوله إنما حرم أكلها وإنما حرم لحمها * وقد اختلف الفقهاء في حكم جلد الميتة بعد الدباغ فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبد الله بن الحسن العنبري والأوزاعى والشافعى يجوز بيعه بعد الدباغ والانتفاع به قال الشافعى إلا جلد الكلب والخنزير وأصحابنا لم يفرقوا بين جلد الكلب وغيره وجعلوه طاهرا بالدباغ إلا جلد الخنزير خاصة وقال مالك ينتفع بجلود الميتة في الجلوس عليها ويغربل عليها ولا تباع ولا يصلى عليها وقال الليث بن سعد لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا بينت أنها ميتة* والحجة لمن طهرها وجعلها مذكاة ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآثار المتواترة من الوجوه المختلفة بألفاظ مختلفة كلها يوجب طهارتها والحكم بذكاتها فمنها حديث ابن عباس قال (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وحديث الحسن عن الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى في غزوة تبوك على بيت بفنائه قربة معلقة فاستسقى فقيل إنها ميتة فقال (ذكاة الأديم دباغته) وروى سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (دباغ جلود الميتة طهورها) وسماك عن عكرمة عن سودة بنت زمعة قالت كانت لنا شاة فماتت فطرحناها فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ما فعلت شاتكم فقلنا رميناها فتلا قوله تعالى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) الآية أفلا استمتعتم بإهابها فبعثنا إليها فسلخناها ودبغنا جلدها وجعلناه سقاء وشربنا فيه حتى صار شنا وقالت أم سلمة مر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة ميمونة فقال (ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها) والزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قالت مر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة لهم ميتة فقال (ألا دبغوا إهابها فانتفعوا به) فقالوا يا رسول الله إنها ميتة فقال (إنما حرم من الميتة أكلها) في غير ذلك من الأخبار كلها يوجب طهارة جلد الميتة

١٤٢

بعد الدباغ كرهت الإطالة بذكرها* وهذه الأخبار كلها متواترة موجبة للعلم والعمل قاضية على الآية من وجهين أحدهما ورودها من الجهات المختلفة التي يمنع من مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم والغلط والثاني جهة تلقى الفقهاء إياها بالقبول واستعمالهم لها فثبت بذلك أنها مستعملة مع آية تحريم الميتة وأن المراد بالآية تحريمها قبل الدباغ وما قدمنا من دلالة قوله على طاعم يطعمه أن المراد بالآية فيما يتأتى فيه الأكل والجلد بعد الدباغ خارج عن حد الأكل فلم يتناوله التحريم ومع ذلك فإن هذه الأخبار لا محالة بعد تحريم الميتة لو لا ذلك لما رموا بالشاة الميتة ولما قالوا أنها ميتة ولم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقول (إنما حرم أكلها) فدل ذلك على أن تحريم الميتة مقدم على هذه الأخبار وأن هذه الأخبار مبينة أن الجلد بعد الدباغ غير مراد بالآية* ولما وافقنا مالك على جواز الانتفاع به بعد الدباغ فقد استعمل الأخبار الواردة في طهارتها ولا فرق في شيء منها بين افتراشها والصلاة عليها وبين أن تباع أو يصلى عليها بل في سائر الأخبار أن دبغها ذكاتها ودباغها طهورها وإذا كانت مذكاة لم يختلف حكم الصلاة عليها وبيعها وحكم افتراشها والجلوس عليها كسائر جلود الحيوان المذكاة ألا ترى أنها قبل الدباغ باقية على حكم التحريم في امتناع جواز الانتفاع بها من سائر الوجوه كالانتفاع بلحومها فلما اتفقنا على خروجها عن حكم الميتة بعد الدباغ فيما وصفنا ثبت أنها مذكاة طاهرة بمنزلة ذكاة الأصل ويدل على ذلك أيضا أن التحريم متعلق بكونها مأكولة وإذا خرج عن حد الأكل صار بمنزلة الثوب والخشب ونحو ذلك ويدل على ذلك أيضا موافقة مالك إيانا على جواز الانتفاع بشعر الميتة وصوفها لامتناع أكله وذلك موجود في الجلد بعد الدباغ فوجب أن يكون حكمه حكمها* فإن* قيل إنما جاز ذلك في الشعر والصوف لأنه يؤخذ منه في حال الحياة* قيل له ليس يمتنع أن يكون ما ذكرنا علة الإباحة وكذلك ما ذكرت فيكون للإباحة علتان إحداهما أنه لا يتأتى فيه الأكل والأخرى أنه يؤخذ منه في حال الحياة فيجوز الانتفاع به لأن موجبهما حكم واحد ومتى عللناه بما وصفناه وجب قياس الجلد عليه وإذا عللته بما وصفت كان مقصور الحكم على المعلول* وقد روى الحكم عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عبد الله ابن عكيم قال قرئ علينا كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فاحتج بذلك من حظر جلد الميتة بعد الدباغ وغير جائز معارضة الأخبار الواردة في الإباحة

١٤٣

بهذا الخبر من وجوه أحدها أن الأخبار التي قدمناها في حيز التواتر الموجب للعلم وحديث عبد الله بن عكيم ورد من طريق الآحاد وقد روى عاصم بن على عن قيس بن الربيع عن حبيب بن أبى ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عبد الله بن عكيم قال كتب إلينا عمر ابن الخطاب أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فذكر في هذا الحديث أن عمر كتب إليهم بذلك فلا يجوز معارضة الأخبار التي قدمنا بمثله ومن جهة أخرى أنهما لو تساويا في النقل لكان خبر الإباحة أولى لاستعمال الناس له وتلقيهم إياه بالقبول ووجه آخر وهو أن خبر عبد الله بن عكيم لو انفرد عن معارضة الأخبار التي قدمنا لم يكن فيه ما يوجب تحريم الجلد بعد الدباغ لأنه قال لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وهو إنما يسمى إهابا قبل الدباغ والمدبوغ لا يسمى إهابا وإنما يسمى أديما فليس إذا في هذا الخبر ما يوجب تحريمه بعد الدباغ* وأما قول الليث بن سعد في إباحة بيع جلد الميتة قبل الدباغ فقول خارج عن اتفاق الفقهاء لم يتابعه عليه أحد ومع ذلك هو مخالف لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) لأنه قبل الدباغ يسمى إهابا والبيع من وجوه الانتفاع فوجب أن يكون محظورا بقوله (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) قال أبو بكر فإن قال قائل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنما حرم من الميتة أكلها) يدل على أن التحريم مقصور على الأكل دون البيع* قيل له فينبغي أن تجيز بيع لحمها بقوله إنما حرم أكلها فإذا لم يجز بيع اللحم مع قوله إنما حرم أكلها كذلك حكم الجلد قبل الدباغ فإن قال قائل منعت بيع اللحم بقوله إنما حرم أكلها قيل له وأمنع بيع الجلد بقوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) لأنه لم يفرق بين الجلد واللحم وإنما خص من جملته المدبوغ منه دون غيره وأيضا فروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها) وإذا كان الجلد محرم الأكل قبل الدباغ كتحريم اللحم وجب أن لا يجوز بيعه كبيع اللحم نفسه وكبيع سائر المحرمات لأعيانها كالخمر والدم ونحوهما* وأما جلد الكلب فيلحقه الدباغ ويطهر إذا كان ميتة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وقال (دباغ الأديم ذكاته) ولم يفرق بين الكلب وغيره ولأنه تلحقه الذكاة عندنا لو ذبح لكان طاهرا* فإن قيل إذا كان نجسا* في حال الحياة كيف يطهر بالدباغ* قيل له كما يكون جلد الميتة نجسا ويطهره الدباغ لأن الدباغ ذكاته كالذبح وأما الخنزير فلا تلحقه الذكاة لأنه محرم العين بمنزلة الخمر والدم

١٤٤

فلا تعمل فيه الذكاة ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به في حال الحياة والكلب يجوز الانتفاع به في حال الحياة فليس هو محرم العين والله أعلم.

باب تحريم الانتفاع بدهن الميتة

قال الله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) وقال( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) وهذان الظاهران حظران دهن الميتة كما أوجبا حظر لحمها وسائر أجزائها وقد روى محمد بن إسحاق عن عطاء عن جابر قال لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك فقالوا يا رسول الله إنا نجمع هذه الأوداك وهي من الميتة وعكرها وإنما هي للأدم والسفن فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها) فنهاهم عن ذلك فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تحريم الله تعالى إياها على الإطلاق قد أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها وقد ذكر عن ابن جريج عن عطاء أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن وهو قول شاذ وقد ورد الأثر بتحريمه واقتضى ظاهر الآية حظره.

باب الفأرة تموت في السمن

قال الله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) وقوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) لم يقتض تحريم ما ماتت فيه من المائعات وإنما اقتضى تحريم عين الميتة وما جاور الميتة فلا يسمى ميتة فلم ينتظمه لفظ التحريم ولكنه محرم الأكل بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الفأرة تقع في السمن فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه وروى أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ألقوها وما حولها ثم كلوه وروى عبد الجبار ابن عمر عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه أخبره أنه كان عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث سأله رجل عن فأرة وقعت في ودك لهم فقال أجامد هو قال نعم قال اطرحوها واطرحوا ما حولها وكلوا ودككم قالوا يا رسول الله إنه مائع قال فانتفعوا به ولا تأكلوه فأطلق النبي صلى الله عليه سلم جواز النتفاع به من غير فأطلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل وهذا يقتضى جواز

١٤٥

بيعه لأنه ضرب من ضروب الانتفاع ولم يخص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا منه وروى عن ابن عمر وأبى سعيد الخدري وأبى موسى الأشعرى والحسن في آخرين من السلف جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل قال أبو موسى بيعوه ولا تطعموه ولا نعلم أحدا من الفقهاء منع الانتفاع به من جهة الاستصباح ودبغ الجلود ونحوه ويجوز بيعه عند أصحابنا أيضا ويبين عيبه وحكى عن الشافعى أن بيعه لا يجوز ويجوز الاستصباح به وقد روى في حديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إطلاق الانتفاع من غير تخصيص منه لوجه دون وجه فدل ذلك على أن المحرم منه الأكل دون غيره وأن بيعه جائز كما يجوز بيع سائر الأشياء التي يجوز الانتفاع بها من نحو الحمار والبغل إذ ليس لهذه الأشياء حق في منع البيع وهو مما يجوز الانتفاع به وهو غير محرم العين* فإن قيل يجوز الانتفاع بأم الولد والمدبر ولا يجوز* بيعهما* قيل له هذا لا يلزم على ما ذكرنا لأنا قيدنا المعنى بأنه لا حق لما جاز الانتفاع به من ذلك في منع بيعه فلم يمنع تحريم أكله جواز بيعه من حيث جاز الانتفاع به من غير جهة الأكل ولا حق له في منع البيع وأما المدبر وأم الولد فإنه قد ثبت لهما حق العتاق وفي جواز بيعهما إبطال لحقهما فلذلك منع بيعهما مع إطلاق سائر وجوه الانتفاع فيهما وليس هذا عندهم بمنزلة ودك الميتة لأنه محرم العين كلحمها ممنوع الانتفاع به من سائر الوجوه وليس ما مات فيه الفأرة من المائعات بمحرم العين وإنما هو محرم الأكل لمجاورته الميتة وسائر وجوه المنافع مطلقة فيه سوى الأكل فكان بيعه بمنزلة بيع الحمار والبغل والكلب ونحوه مما يجوز الانتفاع به ولا يجوز أكله وكذلك الرقيق يجوز بيعهم كسائر منافعهم وقد دل قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمره بإلقاء الفأرة وما حولها في الجامد منه على معنيين أحدهما أن ما كان نجسا في نفسه فإنه ينجس بالمجاورة لحكمه فيما جاور الفأرة منه بالنجاسة وإن ما ينجس بالمجاورة لا ينجس ما جاوره إذ لم يحكم بنجاسة السمن المجاور للسمن النجس لأنه لو وجب الحكم بذلك لوجب الحكم بتنجيس سائر سمن الإناء بمجاورة كل جزء منه لغيره فهذا أصل قد ثبت بالسنة وكل ذلك يدل على اختلاف مراتب النجاسة في التغليظ والتخفيف وأنها ليست متساوية المنازل فجاز من أجل ذلك أن يعتبر في بعضها أكثر من قدر الدرهم وفي بعضها الكثير الفاحش على حسب قيام دلالة التخفيف والتغليظ والله أعلم بالصواب.

١٤٦

باب القدر يقع فيها الطير فيموت

ذكر أبو جعفر الطحاوي قال سمعت أبا حازم القاضي يحدث عن سويد بن سعيد عن على بن مسهر قال كنت عند أبى حنيفة رضى الله عنه فأتاه ابن المبارك بهيئة خراسانى فسأله عن رجل نصب له قدرا فيها لحم على النار فمر طير فوقع فيها فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه ماذا ترون فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل ويهراق المرق فقال أبو حنيفة بهذا نقول ولكن هو عندنا على شريطة فإن كان وقع فيها في حال سكونها فكما في هذه الرواية وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق فقال له ابن المبارك ولم ذلك فقال لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم وإذا وقع في حال سكونها فمات فإن الميتة وسخت اللحم فقال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين هذا زرين بالفارسية يعنى المذهب وروى ابن المبارك عن عباد بن راشد عن الحسن مثل جواب أبى حنيفة رضى الله عنه وقد ذكر أبو حنيفة رضى الله عنه علة فرقه بين وقوعه في حال الغليان وحال السكون وهو فرق ظاهر وقال ابن وهب عن مالك في الدجاجة تقع في قدر اللحم وهي تطبخ فتموت فيها قال لا أرى أن آكل تلك القدر لأن الميتة قد اختلطت بما كان في القدر وقال الأوزاعى يغسل اللحم ويؤكل وقال الليث ابن سعد لا يؤكل ذلك اللحم حتى يغسل مرارا ويغلى على النار حتى يذهب كل ما كان فيه وقد روى ابن المبارك عن عثمان بن عبد الله الباهلي قال حدثني عكرمة عن ابن عباس في طير وقع في قدر فمات فقال يهراق المرق ويؤكل اللحم ولم يذكر فيه حال الغليان وروى محمد بن ثوبان عن السائب بن خباب أنه كان له قدر على النار فسقطت فيها دجاجة فماتت ونضجت مع اللحم فسألت ابن عباس فقال اطرح الميتة وأهرق المرق وكل اللحم فإن كرهته فأرسل إلى منه عضوا أو عضوين وهذا أيضا لا دلالة فيه على حال الغليان لأنه جائز أن يكون وقعت فيه بعد سكون الغليان والمرق حار فنضجت والله سبحانه أعلم.

باب النفحة الميتة ولبنها

قال أبو حنيفة لبن الميتة وأنفحتها طاهران لا يلحقهما حكم النجاسة وقال أبو يوسف ومحمد والثوري يكره اللبن لأنه في وعاء نجس وكذلك الإنفحة إذا كانت مائعة فإن كانت جامدة فلا بأس وقالوا جميعا في البيضة إذا كانت من دجاجة ميتة فلا بأس بها وقال مالك

١٤٧

وعبد الله بن الحسن والشافعى لا يحل اللبن في ضروع الميتة وقال الليث بن سعد لا تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة وقال عبد الله بن الحسن أكره أن أرخص فيها قال أبو بكر اللبن لا يجوز أن يلحقه حكم الموت لأنه لا حياة فيه ويدل عليه أنه يؤخذ منها وهي حية فيؤكل فلو كان مما يلحقه حكم الموت لم يحل إلا بذكاة الأصل كسائر أعضاء الشاة وأيضا فإن قوله( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) عام في سائر الألبان فاقتضى ذلك شيئين أحدهما أن اللبن لا يموت ولا يحرمه موت الشاة والثاني أنه لا ينجس بموت الشاة ولا يكون بمنزلة لبن جعل في وعاء ميت فإن قيل ما الفرق بينه وبين ما لو حلب من شاة حية ثم جعل في وعاء نجس وبين ما إذا كان في ضرع الميتة* قيل الفرق بينهما أن موضع الخلقة لا ينجس ما جاوره بما حدث فيه خلقة والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على جواز أكل اللحم بما فيه من العروق مع مجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل لذلك فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه ودليل آخر وهو قوله( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) وهذا يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما ما قدمناه آنفا في صدر المسألة في اقتضائه لبن الحية ولبن الميتة والثاني أخباره بخروجه من بين فرث ودم هما بحسان مع الحكم بطهارته ولم تكن مجاورته لهما موجبة لتنجيسه لأنه موضع الخلقة كذلك كونه في ضرع ميتة لا يوجب تنجيسه ويدل على ذلك أيضا ما رواه شريك عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الطائف بجبنة فجعلوا يقرعونها بالعصا فقال أين يصنع هذا فقالوا بأرض فارس فقال اذكروا اسم الله عليه وكلوا ومعلوم أن ذبائح المجوس ميتة وقد أباحصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكلها مع العلم بأنها من صنعة أهل فارس وأنهم كانوا إذ ذاك مجوسا ولا ينعقد الجبن إلا بأنفحة فثبت بذلك أن أنفحة الميتة طاهرة وقد روى القاسم بن الحكم عن غالب بن عبد الله عن عطاء بن أبى رباح عن ميمونة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجبن فقال ضعى السكين واذكري اسم الله تعالى وكلى فأباح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث أكل الجميع منه ولم يفصل بين ما صنع منه بأنفحة ميتة أو غيرها وقد روى عن على وعمرو سلمان وعائشة وابن عمر وطلحة بن عبيد الله وأم سلمة والحسن بن على إباحة أكل الجبن الذي فيه أنفحة الميتةفدل ذلك على أن الإنفحة طاهرة وإن كانت

١٤٨

من ميتة وإذا ثبت بما وصفنا طهارة الإنفحة وإن كانت من ميتة ثبت طهارة لبن الميتة وأنفحتها ووجب أن يكون ذلك حكم البيضة الخارجة من الدجاجة الميتة لأنها تبين منها في حياتها وهي طاهرة يجوز أكلها فكذلك بعد موتها لأنها لو كانت مما يحتاج إلى ذكاة لما أباحها إلا ذكاة الأصل كسائر أعضائها لما كان شرط إباحتها الذكاة لم تحل إلا بذكاة الأصل.

باب شعر الميتة وصوفها والفراء وجلود السباع

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومحمد بن صالح وعبيد الله بن الحسن يجوز الانتفاع بعظام الميتة ولا بأس بشعر الميتة وصوفها ولا يكون ميتة لأنه يؤخذ منها في حال الحياة وقال الليث لا ينتفع بعصب الميتة ولا بعقبها ولا أرى بأسا بالقرن والظلف أن ينتفع به ولا بأس بعظام الميتة ولا الشعر ولا الصوف* حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال حدثنا يوسف ابن الشقر قال حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة قال سمعت أم سلمة قالت سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرنها إذا اغتسل بالماء) حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا الحسن ابن عمر قال حدثنا عبد الله بن سلمة عن ابن أبى ليلى عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال حدثني أبى أنه كان عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله رجل عن الصلاة في الفراء والمساتق قال وفي الدباغ عنكم وروى يحيى الحماني قال حدثنا سيف بن هارون البرجمي عن سليمان التيمي عن أبى عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الفراء والجبن والسمن فقال إن الحلال الذي أحل الله تعالى في القرآن والحرام الذي حرم الله تعالى في القرآن وما سكت عنه فهو عفو منه قال أبو بكر هذه الأخبار فيها إباحة الشعر والصوف والفراء والجبن من وجهين أحدهما ما ذكرناه في حديث أم سلمة من النص على إباحة الشعر والصوف من الميتة وحديث ابن أبى ليلى في إباحة الفراء والمساتق والآخر ما ذكر في حديث سلمان وفيه دلالة على الإباحة من وجهين أحدهما أنه لو كان محرما لأجابه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتحريم والثاني أن ما لم يذكر بتحريم ولا تحليل فهو مباح بقوله وما سكت عنه فهو عفو وليس في القرآن تحريم الشعر والصوف ونحوهما بل فيه ما يوجب الإباحة وهو قوله( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ ) والدفء ما يتدفأ به من شعرها ووبرها

١٤٩

وصوفها وذلك يقتضى إباحة الجميع من الميتة والحي وقال تعالى( وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) فعم الجميع بالإباحة من غير فصل بين المذكى منه وبين الميتة ومن حظر هذه الأشياء من الميتة احتج فيه بقوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) وذلك يتناولها بجميع أجزائها فإذا كان الصوف والشعر والعظام ونحوها من أجزائها اقتضت الآية تحريم جميعها* فيقال له إنما المراد بالآية ما يتأتى فيه الأكل والدليل عليه قوله تعالى في الآية الأخرى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) فأخبر أن التحريم مقصور على ما يتأتى فيه الأكل وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنما حرم من الميتة لحمها) وفي خبر آخر (إنما حرم أكلها) فأبان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مراد الله تعالى بتحريم الميتة فلما لم يكن الشعر والصوف والعظم ونحوها مما ذكرنا من المأكول لم يتناولها التحريم ومن حيث خصصنا جلد الميتة والمدبوغ بالإباحة للآثار الواردة فيه وجب تخصيص الشعر والصوف وما لا يتأتى فيه الأكل من جملة المحرم بالآثار المروية فيها مما قدمنا ذكره ويدل عليه أيضا من جهة أخرى وهي أن جلد الميتة لما كان خروجه عن حد الأكل بالدباغ مبيحا له وجب أن يكون ذلك حكم سائر ما لا يتأتى فيه الأكل منها من الشعر والصوف ونحوهما ويدل عليه أيضا أن الأخبار الواردة في إباحة الانتفاع بجلود الميتة لم يذكر فيها حلق الشعر والصوف عنها بل فيها الإباحة على الإطلاق فاقتضى ذلك إباحة الانتفاع بها بما عليها من الشعر والصوف ولو كان التحريم ثابتا في الصوف والشعر لبينه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمه أن الجلود لا تخلوا من أجزاء الحيوان مما ليس فيه حياة وما لا حياة فيه لا يلحقه حكم الموت* والدليل على أن الشعر ونحوه لا حياة فيه أن الحيوان لا يتألم بقطعها ولو كانت فيه حياة لتألم بقطعها كما يألمه قطع سائر أعضائه فدل ذلك على أن الشعر والصوف والعظم والقرن والظلف والريش لا حياة فيها فلا يلحقها حكم الموت ووجود النماء فيها لا يوجب لها حياة لأن الشجر والنبات ينميان ولا حياة فيهما ولا يلحقهما حكم الموت فكذلك الشعر والصوف ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميت) ويبين منها الشعر والصوف ولا يلحقهما حكم الموت فلو كان مما يلحقهما حكم الموت لوجب أن لا يحل إلا بذكاة الأصل كسائر أعضاء الحيوان فدل ذلك على أنه لا يلحقه حكم الموت ولا يحتاج إلى ذكاة* وقد روى عن الحسن ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب

١٥٠

وإبراهيم إباحة شعر الميتة وصوفها* وروى عن عطاء كراهية الميتة وعظام الفيل وعن طاوس كراهة عظام الفيل وروى عن ابن عمر أنه رأى على رجل فروا فقال لو أعلمه ذكيا لسرني أن يكون لي منه ثوب وذكر أنس أن عمر رأى على رجل قلنسوة ثعلب فنزعها وقال ما يدريك لعله مما لم يذك وقد اختلف في جلود السباع فكرهها قوم وأباحها أصحابنا ومن قدمنا ذكره من الصحابة والتابعين وقد روى عطاء عن ابن عباس وأبو الزبير عن جابر ومطرف عن عمار إباحة الانتفاع بجلود السباع وعن على بن حسين والحسن وإبراهيم والضحاك وابن سيرين لا بأس بلبس جلود السباع وعن عطاء عن عائشة في الفراء دباغها ذكاتها* فإن قال قائل روى قتادة عن أبى المليح عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن جلود السباع وقتادة عن أبى شيخ الهنائى أن معاوية قال لنفر من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلمون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن سروج النمور أن يركب عليها قالوا نعم وقد تنازع أهل العلم معنى هذين الحديثين فقال قائلون هذا نهى تحريم يقتضى تحريم لبسها على كل حال وقال آخرون هو على وجه الكراهية والتشبه بزي العجم كما روى أبو إسحاق عن هبيرة بن مريم عن على قال نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القسي وعن الثياب الحمر وما روى عن الصحابة في إباحة لبس جلود السباع والانتفاع بها يدل على أن النهى على وجه الكراهية والتشبه بالعجم وقد تقدم ذكر حديث سلمان وغيره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إباحة لبس الفراء والانتفاع بها وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر وقوله دباغ الأديم ذكاته عام في جلود السباع وغيرها وهذا يدل على أن النهى عن جلود السباع ليس من جهة النجاسة بل على وجه الكراهة والتشبه بالعجم.

باب تحريم الدم

قال الله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) وقال( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) فلو لم يرد في تحريمه غير هاتين الآيتين لاقتضى ذلك تحريم سائر الدماء قليلها وكثيرها فلما قال في آية أخرى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) دل ذلك على أن المحرم من الدم هو المسفوح دون غيره فإن قال قائل قوله( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) خاص فيما كان منه على هذه الصفة وقوله في الآيتين الأخريين عام في سائر الدماء فوجب إجراؤه على عمومه إذ ليس في الآية ما يخصه قيل

١٥١

له قوله( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) جاء فيه نفى لتحريم سائر الدماء إلا ما كان منه بهذا الوصف لأنه قال( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ ـ إلى قوله ـأَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) وإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يخل من أن يكون قوله( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) متأخرا عن قوله( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) أو أن يكونا نزلا معا فلما عدمنا تاريخ نزول الآيتين وجب الحكم بنزولهما معا فلا يثبت حينئذ تحريم الدم إلا معقودا بهذه الصفة وهو أن يكون مسفوحا وحدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع الجرجانى أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال لو لا هذه الآية( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) لا تبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) قال حرم من الدم ما كان مسفوحا وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به وروى القاسم بن محمد عن عائشة أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم والمذبح قالت إنما نهى الله عن الدم المسفوح ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء الدم في العروق لأنه غير مسفوح ألا ترى أنه متى صب عليه الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه وليس هو بمحرم إذ ليس هو مسفوحا ولما وصفنا قال أصحابنا إن دم البراغيث والبق والذباب ليس بنجس وقالوا أيضا إن دم السمك ليس بنجس لأنه يؤكل بدمه وقال مالك في دم البراغيث إذا تفاحش غسله ويغسل دم الذباب ودم السمك وقال الشافعى لا يفسد الوضوء إلا أن تقع منه نجاسة من دم أو بول أو غيره فعم الدماء كلها فإن قال قائل قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) وقوله( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) يوجب تحريم دم السمك لأنه مسفوح* قيل له هذا مخصوص بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أحلت لي ميتتان ودمان السمك والجراد)فلما أباح السمك بما فيه من الدم من غير إراقة دمه وقد تلقى المسلمون هذا الخبر بالقبول في إباحة السمك من غير إراقة دمه وجب تخصيص الآية في إباحة دم السمك إذ لو كان محظورا لما حل دون إراقة دمه كالشاة وسائر الحيوان ذوات الدماء والله أعلم.

باب تحريم الخنزير

قال الله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) وقال تعالى( حُرِّمَتْ

١٥٢

عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) وقال تعالى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) فنص في هذه الآيات على تحريم لحم الخنزير والأمة عقلت من تأويله ومعناه مثل ما عقلت من تنزيله واللحم وإن كان مخصوصا بالذكر فإن المراد جميع أجزائه وإنما خص اللحم بالذكر لأنه أعظم منفعته وما يبتغى منه كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد وخص القتل بالذكر لأنه أعظم ما يقصد به الصيد وكقوله تعالى( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) فخص البيع بالنهى لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم والمعنى جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة وإنما نص على البيع تأكيدا للنهى عن الاشتغال عن الصلاة كذلك خص لحم الخنزير بالنهى تأكيدا لحكم تحريمه وحظرا لسائر أجزائه فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصا في لحمه* وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير فقال أبو حنيفة ومحمد يجوز الانتفاع به للخرز وقال أبو يوسف أكره الخرز به وروى عنه الإباحة وقال الأوزاعى لا بأس أن يخاط بشعر الخنزير ويجوز للخراز أن يشتريه ولا يبيعه وقال الشافعى لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير* قال أبو بكر لما كان المنصوص عليه في الكتاب من الخنزير لحمه وكان ذلك تأكيدا لحكم تحريمه على ما بينا جاز أن يقال أن التحريم قد يتناول الشعر وغيره وجائز أن يقال أن التحريم منصرف إلى ما كان فيه الحياة منه مما لم يألم بأخذه منه فأما الشعر فإنه لما لم يكن فيه حياة لم يكن من أجزاء الحي فلم يلحقه حكم التحريم كما بينا في شعر الميتة وأن حكم المذكى والميتة في الشعر سواء إلا أن من أباح الانتفاع به من أصحابنا فذكر أنه إنما أجازه استحسانا وهذا يدل على أن التحريم قد تناول الجميع عندهم بما عليه من الشعر وإنما استحسنوا إجازة الانتفاع به للخرز دون جواز بيعه وشرائه لما شاهدوا المسلمين وأهل العلم يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم عليهم فصار هذا عندهم إجماعا من السلف على جواز الانتفاع به وظهور العمل من العامة في شيء مع إقرار السلف إياهم عليه وتركهم النكير عليهم يوجب إباحته عندهم وهذا مثل ما قالوا في إباحة دخول الحمام من غير شرط أجرة معلومة ولا مقدار معلوم لما يستعمله من الماء ولا مقدار مدة لبثه فيه لأن هذا كان ظاهرا مستفضيا في عهد السلف

١٥٣

من غير منكر به على فاعليه فصار ذلك إجماعا منهم وكذلك قالوا في الاستصناع أنهم أجازوه لعمل الناس ومرادهم فيه إقرار السلف الكافة على ذلك وتركهم النكير عليهم في استعماله فصار ذلك أصلا في جوازه ونظائر ذلك كثيرة واختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أصحابنا لا يؤكل وقال مالك وابن أبى ليلى والشافعى والأوزاعي لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر وقال الشافعى لا بأس بخنزير الماء ومنهم من يسميه حمار الماء وقال الليث ابن سعد لا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء* قال أبو بكر ظاهر قوله( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) * موجب لحظر جميع ما يكون منه في البر وفي الماء لشمول الإسم له* فإن قيل إنما ينصرف هذا إلى خنزير البر لأنه الذي يسمى بهذا الاسم على الإطلاق وخنزير الماء لا يطلق عليه الاسم وإنما يسمى به مقيدا واسمه الذي يطلق عليه في العادة حمار الماء* قيل له لا يخلو خنزير الماء من أن يكون على خلقة خنزير البر وصفته أو على غير ذلك فإن كان على هذه الخلقة فلا فرق بينهما في إطلاق الاسم عليه من قبل أن كونه في الماء لا يغير حكمه إذا كان في معناه وعلى خلقته إلا أن تقوم الدلالة على خصوصه وإن كان على خلقة أخرى غيرها ومن أجلها يسمى حمار الماء فكأنهم إنما أجروا اسم الخنزير على ما ليس بخنزير ومعلوم أن أحدا لم يخطئهم في التسمية فدل ذلك على أنه خنزير على الحقيقة وأن الاسم يتناوله على الإطلاق وتسميتهم إياه حمار الماء لا يسلبه اسم الخنزير إذ جائز أن يكونوا سموه بذلك ليفرقوا بينه وبين خنزير البر وكذلك كلب الماء وكلب البر سواء لا فرق بينهما إذ كان الاسم يتناول الجميع وإن خالفه في بعض أوصافه والله أعلم.

باب تحريم ما أهل به لغير الله

قال الله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) ولا خلاف بين المسلمين أن المراد به الذبيحة إذا أهل بها لغير الله عند الذبح* فمن الناس من يزعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم كقوله تعالى( وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وقالوا إن الله تعالى قد أباح أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح على ذبائحهم وهو مذهب الأوزاعى والليث ابن سعد أيضا وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعى لا تؤكل

١٥٤

ذبائحهم إذا سموا عليها باسم المسيح* وظاهر قوله تعالى( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) يوجب تحريمها إذا سمى عليها باسم غير الله لأن الإهلال به لغير الله هو إظهار غير اسم الله ولم يفرق في الآية بين تسمية المسيح وبين تسمية غيره بعد أن يكون الإهلال به لغير الله وقوله في آية أخرى( وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) وعادة العرب في الذبائح للأوثان غير مانع اعتبار عموم الآية فيما اقتضاه من تحريم ما سمى عليه غير الله تعالى وقد روى عطاء بن السائب عن زادان وميسرة أن عليا عليه السلام قال إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون * وأما ما احتج به القائلون بإباحة ذلك لإباحة الله طعام أهل الكتاب مع علمه بما يقولون فليس فيه دلالة على ما ذكروا لأن إباحة طعام أهل الكتاب معقودة بشريطة أن لا يهلوا لغير الله إذ كان الواجب علينا استعمال الآيتين بمجموعهما فكأنه قال( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) ما لم يهلوا به لغير الله* فإن قال قائل إن النصراني إذا سمى الله فإنما يريد به المسيح عليه السلام فإذا كان إرادته كذلك ولم تمنع صحة ذبيحته وهو مع ذلك مهل به لغير الله كذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح* قيل له لا يجب ذلك لأن الله تعالى إنما كلفنا حكم الظاهر لأن الإهلال هو إظهار القول فإذا أظهر اسم غير الله لم تحل ذبيحته لقوله( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) وإذا أظهر اسم الله فغير جائز لنا حمله على اسم المسيح عنده لأن حكم الأسماء أن تكون محمولة على حقائقها ولا تحمل على ما لا يقع الاسم عليه عندنا ولا يستحقه ومع ذلك فليس يمتنع أن تكون العبادة علينا في اعتبار إظهار الاسم دون الضمير ألا ترى أن من أظهر القول بالتوحيد وتصديق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حكمه حكم المسلمين مع جواز اعتقاده للتشبيه المضاد للتوحيد وكذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وقد أعلمه الله أن في القوم منافقين يعتقدون غير ما يظهرون ولم يجرهم مع ذلك مجرى سائر المشركين بل حكم لهم فيما يعاملون به من أحكام الدنيا بحكم سائر المسلمين على ما ظهر من أمورهم دون ما بطن من ضمائرهم وكذلك جائز أن تكون صحة ذكاة النصراني متعلقة بإظهار اسم الله تعالى وأنه متى أظهر اسم المسيح لم تصح ذكاته كسائر المشركين إذا أظهروا على ذبائحهم

١٥٥

أسماء أوثانهم والله أعلم.

باب ذكر الضرورة المبيحة لأكل الميتة

قال الله تعالى( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) وقال في آية أخرى( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) وقال( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فقد ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضها بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها* واختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) فقال ابن عباس والحسن ومسروق( غَيْرَ باغٍ ) في الميتة( وَلا عادٍ ) في الأكل وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس وأباحوا للبغاة الخارجين على المسلمين أكل الميتة عند الضرورة كما أباحوه لأهل العدل وقال مجاهد وسعيد بن جبير إذا لم يخرج باغيا على إمام المسلمين ولم يكن سفره في معصية فله أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها وإن كان سفره في معصية أو كان باغيا على الإمام لم يجز له أن يأكل وهو قول الشافعى* وقوله( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) يوجب الإباحة للجميع من المطيعين والعصاة وقوله في الآية الأخرى( غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) وقوله( غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) لما كان محتملا أن يريد به البغي والعدوان في الأكل واحتمل البغي على الإمام أو غيره لم يجز لنا تخصيص عموم الآية الأخرى بالاحتمال بل الواجب حمله على ما يواطئ معنى العموم من غير تخصيص وأيضا فقد اتفقوا على أنه لو لم يكن سفره في معصية بل كان سفره لحج أو غزو أو تجارة وكان مع ذلك باغيا على رجل في أخذ ماله أو عاديا في ترك صلاة أو ذكاة لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة* فثبت بذلك أن قوله( غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) لم يرد به انفاء البغي والعدان في سائر الوجوه وليس في الآية ذكر شيء منه مخصوص فيوجب ذلك كون اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان فلا يجوز تخصيص الآية الأولى به لتعذر استعماله على حقيقته وظاهره ومتى حملنا ذلك على البغي والتعدي في الأكل استعملنا اللفظ على عمومه وحقيقته فيما أريد به وورد فيه فكان حمله على ذلك أولى من وجهين أحدهما أنه يكون مستعملا على عمومه والآخر أنا لا نوجب به تخصيص قوله( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ

١٥٦

إِلَيْهِ ) وكذلك( غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) لا يخلو من أن يريد به مجانبة سائر الآثام حتى يكون شرط الإباحة للمضطر أن يكون غير متجانف لإثم أصلا في الأكل وغيره حتى إن كان مقيما على ترك رد مظلمة درهم أو ترك صلاة أو صوم لم يتب منه لا يحل له الأكل أو أن يكون جائز له الأكل مع كونه مقيما على ضرب من المعاصي بعد أن لا يكون سفره في معصية ولا خارجا على إمام وقد ثبت عند الجميع أن إقامته على بعض المعاصي لا تمنع استباحته للميتة عند الضرورة فثبت أن ذلك ليس بمراد ثم بعد ذلك يحتاج في إثبات المأثم الذي يمنع الاستباحة إلى دلالة من غير الآية وهذا يوجب إجمال اللفظ وافتقاره إلى البيان فيؤدى ذلك إلى وقوف حكم الآية على بيان من غيرها* ومتى أمكننا استعمال حكم الآية وجب علينا استعمالها وجهة إمكان استعمالها ما وصفنا من إثبات المراد بغيا وتعديا في الأكل بأن لا يتناول منها إلا بمقدار ما يمسك الرمق ويزيل خوف التلف وأيضا قال الله تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) ومن امتنع من المباح حتى مات كان قاتلا نفسه متلفا لها عند جميع أهل العلم ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع بل يكون امتناعه عند ذلك من الأكل زيادة على عصيانه فوجب أن يكون حكمه وحكم المطيع سواء في استباحة الأكل عند الضرورة ألا ترى أنه لو امتنع من أكل المباح من الطعام معه حتى مات كان عاصيا لله تعالى وإن كان باغيا على الإمام خارجا في سفر معصية والميتة عند الضرورة بمنزلة المذكى في حال الإمكان والسعة* فإن قيل قد يمكنه الوصول إلى استباحة أكل* الميتة بالتوبة فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه* قيل له أجل هو كما قلت إلا أنه غير مباح له الجناية على نفسه بترك الأكل وإن لم يتب لأن ترك التوبة لا يبيح له قتل نفسه وهذا العاصي متى ترك الأكل في حال الضرورة حتى مات كان مرتكبا لضربين من المعصية أحدهما خروجه في معصية والثاني جنايته على نفسه بترك الأكل وأيضا فالمطيع والعاصي لا يختلفان فيما يحل لهما من المأكولات أو يحرم ألا ترى أن سائر المأكولات التي هي مباحة للمطيعين هي مباحة للعصاة كسائر الأطعمة والأشربة المباحة وكذلك ما حرم من الأطعمة والأشربة لا يختلف في تحريمه حكم المطيعين والعصاة فلما كانت الميتة مباحة للمطيعين عند الضرورة وجب أن يكون كذلك حكم العصاة فبها كسائر الأطعمة المباحة في غير حال الضرورة* فإن قال قائل إباحة الميتة رخصة للمضطر ولا رخصة للعاصي*

١٥٧

قيل له قد انتظمت هذه المعارضة الخطأ من وجهين أحدهما قولك إباحة الميتة رخصة للمضطر وذلك لأن أكل الميتة فرض على المضطر والاضطرار يزيل الحذر ومتى امتنع المضطر من أكلها حتى مات صار قاتلا لنفسه بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان حتى مات كان عاصيا لله جانيا على نفسه ولا خلاف في أن هذا حكم المضطر إلى الميتة غير الباغي فقول القائل إباحة الميتة رخصة للمضطر بمنزلة قوله لو قال إن إباحة أكل الخبز وشرب الماء رخصة لغير المضطر ولا يطلق هذا أحد يعقل لأن الناس كلهم يقولون فرض على المضطر إلى الميتة أكلها فلا فرق بينهما ولما لم يختلف العاصي والمطيع في أكل الخبز وشرب الماء كذلك في أكل الميتة عند الضرورة وأما الوجه الثاني من الخطأ فهو قولك أنه لا رخصة للعاصي وهذه قضية فاسدة بإجماع المسلمين لأنهم رخصوا للمقيم العاصي الإفطار في رمضان إذا كان مريضا وكذلك يرخصون له في السفر التيمم عند عدم الماء ويرخصون للمقيم العاصي أن يمسح يوما وليلة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رخص للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع فبان بما وصفنا فساد هذه المقالة* وقوله( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) وقوله( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) كل واحد من هذين فيه ضمير لا يستغنى عنه الكلام وذلك لأن وقوع الضرورة ليس من فعل المضطر فيكون قوله( فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) وقوله( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) خبر له* وقوله( فَمَنِ اضْطُرَّ ) لا بدله من خبر به تم الكلام إذ لم يكن الحكم متعلقا بنفس الضرورة وخبره الذي يتم به الكلام ضميره وهو الأكل فكان تقديره فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه* ثم قوله( غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) على قول من يقول غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل فيكون البغي والعدوان حالا للأكل وتقديره على قول من يقول غير باغ ولا عاد على المسلمين فمن اضطر غير باغ ولا عاد على المسلمين فأكل فلا إثم عليه فيكون البغي والعدوان حالا له عند الضرورة قبل أن يأكل فلا يكون ذلك صفة للأكل وعند الأولين يكون صفة للأكل* والحذف في هذا الموضع كالحذف في قوله( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) والمعنى فأفطر فعدة من أيام أخر فحذف فأفطر وقوله( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ ) ومعناه فحلق ففدية وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالمحذوف

١٥٨

ودلالة الخطاب عليه وهذا يوجب أن يكون حمله على البغي والعدوان في الأكل أولى منه على المسلمين وذلك لأنه لم يتقدم للمسلمين في الآية ذكر لا محذوفا ولا مذكورا كحذف الأكل فحمله على ما في مقتضى الآية بأن يكون حالا له فيه وصفة أولى من حمله على معنى لم يتضمنه اللفظ لا محذوفا ولا مذكورا* وأما قوله( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) فلا ضمير فيه ولا حذف لأنه لفظ مستغن بنفسه إذ هو استثناء من جملة مفهومة المعنى وهو التحريم بقوله( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) فإنه مباح لكم وهذا اللفظ مستغن عن الضمير ومعنى الضرورة هاهنا هو خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل وقد انطوى تحته معنيان أحدهما أن يحصل في موضع لا يجد غير الميتة والثاني أن يكون غيرها موجودا ولكنه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه وكلا المعنيين مراد بالآية عندنا لاحتمالهما وقد روى عن مجاهد أنه تأولها على ضرورة الإكراه ولأنه إذا كان المعنى في ضرورة الميتة ما يخاف على نفسه من الضرر في ترك تناوله وذلك موجود في ضرورة الإكراه وجب أن يكون حكمه حكمه ولذلك قال أصحابنا فيمن أكره على أكل الميتة فلم يأكلها حتى قتل كان عاصيا لله كمن اضطر إلى ميتة بأن عدم غيرها من المأكولات فلم يأكل حتى مات كان عاصيا كمن ترك الطعام والشراب وهو واجدهما حتى مات فيموت عاصيا لله بتركه الأكل لأن أكل الميتة مباح في حال الضرورة كسائر الأطعمة في غير حال الضرورة والله أعلم.

باب المضطر إلى شرب الخمر

قال أبو بكر وقد اختلف في المضطر إلى شرب الخمر فقال سعيد بن جبير المطيع المضطر إلى شرب الخمر يشربها وهو قول أصحابنا جميعا وإنما يشرب منها مقدار ما يمسك به رمقه إذ كان يرد عطشه وقال الحارث العكلي ومكحول لا يشرب لأنها لا تزيده إلا عطشا وقال مالك والشافعى لا يشرب لأنها لا تزيده إلا عطشا وجوعا وقال الشافعى ولأنها تذهب بالعقل وقال مالك إنما ذكرت الضرورة في الميتة ولم تذكر في الخمر* قال أبو بكر في قول من قال إنها لا تزيل ضرورة العطش والجوع لا معنى له من وجهين أحدهما أنه معلوم من حالها أنها تمسك الرمق عند الضرورة وتزيل العطش ومن أهل الذمة فيما بلغنا من لا يشرب الماء دهرا اكتفاء بشرب الخمر عنه فقولهم في ذلك غير المعقول

١٥٩

المعلوم من حال شاربها والوجه الآخر أنه إن كان كذلك كان الواجب أن نحيل مسألة السائل عنها ونقول إن الضرورة لا تقع إلى شرب الخمر وأما قول الشافعى في ذهاب العقل فليس من مسألتنا في شيء لأنه سئل عن القليل الذي لا يذهب العقل إذا اضطر إليه وأما قول مالك أن الضرورة إنما ذكرت في الميتة ولم تذكر في الخمر فإنها في بعضها مذكورة في الميتة وما ذكر معها وفي بعضها مذكورة في سائر المحرمات وهو قوله تعالى( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) وقد فصل لنا تحريم الخمر في مواضع من كتاب الله في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) وقوله تعالى( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ ) وقال( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) وذلك يقتضى التحريم والضرورة المذكورة في الآية منتظمة لسائر المحرمات وذكره لها في الميتة وما عطف عليها غير مانع من اعتبار عموم الآية الأخرى في سائر المحرمات ومن جهة أخرى أنه إذا كان المعنى في إباحة الميتة إحياء نفسه بأكلها وخوف التلف في تركها وذلك موجود في سائر المحرمات وجب أن يكون حكمها حكمها لوجود الضرورة والله أعلم.

باب في مقدار ما يأكل المضطر

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعى فيما رواه عنه المزني لا يأكل المضطر من الميتة إلا مقدار ما يمسك به رمقه وروى ابن وهب عن مالك أنه قال يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها فإن وجد عنها غنى طرحها وقال عبد الله بن الحسن العنبري يأكل منها ما يسد به جوعه* قال أبو بكر قال الله تعالى( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) وقال( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) فعلق الإباحة بوجود الضرورة والضرورة هي خوف الضرر بترك الأكل إما على نفسه أو على عضو من أعضائه فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة لأن الجوع في الابتداء لا يبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه وأيضا في قوله تعالى( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) فقد بينا أن المراد منه غير باغ ولا عاد في الأكل ومعلوم أنه لم يرد الأكل منها فوق الشبع لأن ذلك محظورا في الميتة وغيرها من المباحات فوجب أن يكون المراد غير باغ في الأكل منها مقدار الشبع فيكون البغي والتعدي واقعين في أكله منها مقدار

١٦٠