أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 83974
تحميل: 4504


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83974 / تحميل: 4504
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

والبالغ في قتل الرجل وعلى عاقلة الصبى نصف الدية وقال الأوزاعى على عاقلتهما الدية وقال الشافعى إذا قتل رجلا مع صبي رجلا فعلى الصبى العامد نصف الدية في ماله وكذلك الحر والعبد إذا قتلا عبدا والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا قال وإن شركة قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله وجناية المخطئ على عاقلته* قال أبو بكر أصل أصحابنا في ذلك أنه متى اشترك اثنان في قتل رجل وأحدهما لا يجب عليه القود فلا قود على الآخر وما قدمناه من دلائل الآي التي ذكرنا يمنع وجوب القود على أحدهما عمدا ويجب المال على الآخر لحصول حكم الخطأ للنفس المتلفة ولا جائز أن يكون خطأ وعمدا موجبا للمال والقود في حال واحدة وهي نفس واحدة لا تتبعض ألا ترى أنه غير جائز أن يكون بعضها متلفا وبعضها حيا لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة فلما امتنع ذلك ثبت أن كل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها فوجب بذلك قسطها من الدية على من لا يجب عليه القود فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ فلا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد لأنه لو جاز ذلك لوجب أن يكون فيهما جميع الدية ويشبه من هذا الوجه أيضا الواطئ لجارية بينه وبين غيره في سقوط الحد عنه لأن فعله لم يتبعض في نصيبه دون نصيب شريكه فلما لم يجب عليه الحد في نصيبه منع ذلك من وجوبه في نصيب شريكه لعدم التبعيض فيه وعلى هذا قال أصحابنا في رجلين سرقا من ابن أحدهما أنه لا قطع على واحد منهما لمشاركته في انتهاك الحرز من لا يستحق القطع* فإن قال قائل إن تعلق حكم العامد على العامد والصحيح والبالغ موجب عليه القود بقضية استدلالك بالآى التي تلوت إذا كان قاتلا لجميع النفس متلفا لجميع الحياة ولذلك استحق الوعيد في حال الاشتراك والانفراد وكذلك الجماعة العامدون لقتل رجل أوجب على كل واحد منهم القود إذ كان في حكم من أتلف الجميع منفردا به وهذا يوجب قتل العاقل منهما وكذلك الصبى والبالغ وأن لا يسقط بمشاركة من لا قود عليه* قيل له هذا غير واجب من قبل أنه لا خلاف أن المشارك الذي لا قود عليه يلزمه قسطه من الدية ولما وجب فيه الأرش انتفى عنه حكم العمد في الجميع لما ذكرنا من امتناع تبعيضها في حال الإتلاف فصار الجميع في حكم الخطأ وما لا قود فيه ولما كان الواجب على الشريك الذي لم يستحق عليه القود قسطه من الدية دون جميعها ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ لو لا ذلك

١٨١

لوجب جميع الدية ألا ترى أنهم لو كانوا جميعا ممن يجب عليهم القود لأقدنا منهم جميعا وكان كل واحد منهم في حكم القاتل منفردا به فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دل ذلك على سقوط القود وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ فلذلك انقسمت الدية على عددهم ومن حيث وافقنا الشافعى في قاتلي العمد والخطأ أن لا قود على العامد منهما لزمه مثل ذلك في العاقل والمجنون والصبى والبالغ لمشاركته في القتل من لا قود عليه فيه وأيضا فوجدنا في الأصول امتناع وجوب المال والقود في شخص واحد ألا ترى أنه لو كان القاتل واحدا فوجب المال انتفى وجوب القصاص وكذلك الوطء إذا وجب به المهر سقط الحد وكذلك السرقة إذا وجب بها الضمان سقط القطع عندنا لأن المال لا يجب في هذه المواضع إلا مع وجود الشبهة المسقطة للقود والحد فلما وجب المال في مسألتنا بالاتفاق انتفى به وجوب القصاص ومما يدل على أن سقوط القود فيما وصفنا أولى من إيجابه أن القود قد يتحول ما لا بعد ثبوته والمال لا يتحول قودا بوجه فكان مالا ينفسخ إلى غيره أولى بالإثبات مما ينفسخ بعد ثبوته إلى الآخر وكان سقوط القود عن أحدهما مسقطا له عن الآخر فإن قيل فأنتم تقولون في العامدين إذا قتلا رجلا ثم عفا الولي عن أحدهما أن الآخر يقتل فكذلك يجب أن تقولوا في هذه المسألة قيل له هذا سؤال ساقط على أصل الشافعى لأنه يلزمه أن يقيد من العامد إذا شاركه المخطئ إذا كانت الشركة لا حظ لها في نفى القود عمن يجب عليه ذلك لو انفرد وإن كان سقوط القود عن أحد قاتلي العمد بالعفو لا يسقط عن الآخر فلما لم يلزمه ذلك في المخطئ والعامد لم يلزمنا في الصبى والبالغ والمجنون والعاقل والسؤال ساقط للآخرين أيضا من قبل أن هذا كلام في الإستيفاء والإستيفاء لا يجب على وجه الشركة إذ له أن يقتل أحدهما قبل الآخر وله أن يقتل من وجده منهما دون من لم يجد وأيضا مسألتنا في الوجوب ابتداء إذا وقع القتل على وجه الشركة فيستحيل حينئذ أن يكون كل واحد منهما قد صار في الحكم كمتلف دون الآخر واستحال انفراد أحدهما بالحكم دون شريكه وأيضا فالوجوب حكم غير الإستيفاء فغير جائز إلزام الإستيفاء عليه إذ غير جائز اعتبار حال الإستيفاء بحال الوجوب ألا ترى أنه يجوز أن يكون في حال الإستيفاء تائبا وليا لله عز وجل وغير جائز أن يكون في حال القتل الموجب للقود وليا لله تعالى وجائز أن يتوب الزاني فيكون

١٨٢

حق استيفاء الحد باقيا عليه وغير جائز وجوب الحد وهو على هذه الصفة فمن اعتبر حال الوجوب بحال الإستيفاء فهو مغفل للواجب عليه وأيضا فإنه متى عفا عن أحدهما سقط حكم قتله فصار الباقي في حكم المنفرد بقتله فلزمه القود ولم يسقط عنه بسقوطه عن الآخر وأما المجنون ومن لم يجب عليه القود فحكم فعله ثابت على وجه الخطأ وذلك موجب لحظر دم من شاركه إذ كان حكمه حكمه لاشتراكهما فيه وإذا ثبت بما قدمنا من دلائل الكتاب والنظر سقوط القود عمن شاركه من لا يجب عليه القود جاز أن يخص بهما موجب حكم الآي المذكور فيها القصاص من قوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) وقوله( الْحُرُّ بِالْحُرِّ ) وقوله( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً ) و( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وما جرى مجرى ذلك من عموم السنن الموجبة للقصاص ولأن جميع ذلك عام قد أريد به الخصوص بالاتفاق وما كان هذا سبيله فجائز تخصيصه بدلائل النظر والله الموفق وذكر المزني أن الشافعى احتج على محمد في منعه إيجاب القود على العامد إذا شاركه صبي أو مجنون فقال إن كنت رفعت عنه القتل لأن القلم مرفوع عنهما وأن عمدهما خطأ فهلا أقدت من الأجنبى إذا قتل عمدا مع الأب لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع وهذا ترك لأصله قال المزني قد شرك الشافعى محمدا فيما أنكر عليه في هذه المسألة لأن رفع القصاص عن المخطئ والمجنون واحد وكذلك حكم من شركهم في العمد واحد قال أبو بكر ما ذكره المزني عن الشافعى إلزام في غير موضعه لأنه ألزمه عكس المعنى وإنما الذي يلزم على هذا الأصل أن كل من كان عمده خطأ أن لا يقيد المشارك له في القتل وإن كان عامدا فأما من ليس عمده خطأ فليس يلزمه أن يخالف بينهما في الحكم بل حكمه موقوف على دليله لأنه عكس العلة وليس يلزم من اعتل بعلة في الشرع أن يعكسها ويوجب من الحكم عند عدمها ضد موجبها عند وجودها ألا ترى أنا إذا قلنا وجود الغرر يمنع جواز البيع لم يلزمنا على ذلك الحكم بجوازه عند عدم الغرر بل جائز أن يمنع الجواز عند عدم الغرر لوجود معنى آخر وهو أن يكون مما لم يقبضه بائعه أو شرط فيه شرطا لا يوجبه العقد أو يكون مجهول الثمن وما جرى مجرى ذلك من المعاني المفسدة لعقود البياعات وجائز أن يجوز البيع عند زوال الغرر على حسب قيام دلالة الجواز والفساد ونظائر ذلك كثيرة في مسائل العقد لا يخفى على من له أدنى ارتياض بنظر الفقه ومما يحتج به في ذلك حديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل

١٨٣

السوط والعصا فيه الدية مغلظة وقتيل الصبى والبالغ والمجنون والعاقل والمخطئ والعامد هو خطأ العمد من وجهين أحدهما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر قتيل خطأ العمد بأنه قتيل السوط والعصا فإذا اشترك مجنون معه عصا وعاقل معه السيف فهو قتيل خطأ العمد لقضية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالواجب أن لا قصاص فيه والوجه الآخر أن عمد الصبى والمجنون خطأ لأن القتل لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه إما خطأ أو عمد أو شبه عمد فلما لم يكن قتل الصبى والمجنون عمدا وجب أن يكون في أحد الحيزين الآخرين من الخطأ أو شبه العمد وأيهما كان فقد اقتضى ظاهر لفظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إسقاط القود عن مشاركة في القتل لأنه قتيل خطأ أو قتيل خطأ العمد وأيضا فإنه أوجب فيمن استحق هذه التسمية دية مغلظة ومتى وجبت الدية كاملة انتفى القود بالاتفاق* فإن قيل إنما أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله قتيل خطأ العمد إذا انفرد* بقتله بالسوط والعصا* قيل له مشاركة غيره فيه بالسيف لا تخرجه من أن يكون قتيل السوط والعصا وقتيل خطأ لأن كل واحد منهما من حيث كان قاتلا وجب أن يكون هو قتيلا لكل واحد منهما فاشتمل لفظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على المعنيين وانتفى به القصاص في الحالين ويدل على صحة ما ذكرنا وأنه غير جائز اختلاف حكم مشاركة المجنون للعاقل والمخطئ للعامد أن رجلا لو جرح رجلا وهو مجنون ثم أفاق وجرحه أخرى بعد الإفاقة ثم مات المجروح منهما أنه لا قود على القاتل كما لو جرحه خطأ ثم جرحه عمدا ومات منهما لم يجب عليه القود وكذلك لو جرحه مرتدا ثم أسلم ثم جرحه ومات من الجراحتين لم يكن على الجارح القود وذلك يدل على معنيين أحدهما أن موته من جراحتين إحداهما غير موجبة للقود والأخرى موجبة يوجب إسقاط القود ولم يكن لانفراد الجراحة التي لا شبهة فيها عن الأخرى حكم في إيجاب القود بل كان الحكم للتي لم توجب قودا فوجب على هذا أنه إذا مات من جراحة رجلين أحدهما لو انفرد أوجبت جراحته القود والأخرى لا توجبه أن يكون حكم سقوطه أولى من حكم إيجابه لحدوث الموت منهما فكان حكم ما يوجب سقوط القود أولى من حكم ما يوجبه والعلة فيهما موته من جراحتين إحداهما مما توجب القود والأخرى مما لا توجبه والمعنى الآخر ما قسمنا الكلام عليه بديا هو أنه لا فرق بين المخطئ والعامد وبين المجنون والعاقل عند الاشتراك كما لم تختلف جناية المجنون في حال جنونه ثم في حال إفاقته إذا حدث الموت منهما وجناية الخطأ والعمد إذا حدث الموت

١٨٤

منهما في سقوط القود في الحالين كذلك ينبغي أن لا يختلف حكم جناية الصحيح لمشاركة المجنون وحكم جناية العامد لمشاركة المخطئ والله أعلم.

باب ما يجب لولى قتيل العمد

قال الله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) وقال تعالى( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وقال تعالى( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) وقد اتفقوا أن القود مراد به وقال تعالى( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) وقال( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) فاقتضت هذه الآيات إيجاب القصاص لا غير* وقد اختلف الفقهاء في موجب القتل العمد فقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك بن أنس والثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح ليس للولي إلا القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضى القاتل وقال الأوزاعى والليث والشافعى الولي بالخيار بين أخذ القصاص والدية وإن لم يرض القاتل وقال الشافعى فإن عفا المفلس عن القصاص جاز ولم يكن لأهل الوصايا والدين منعه لأن المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة المجنى عليه إذا كان حيا أو بمشيئة الورثة إذا كان ميتا قال أبو بكر ما تقدم ذكره من ظواهر آي القرآن بما تضمنه من بيان المراد من غير اشتراك في اللفظ يوجب القصاص دون المال وغير جائز إيجاب المال على وجه التخيير إلا بمثل ما يجوز به نسخه لأن الزيادة في نص القرآن توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) فحظر أخذ مال كل واحد من أهل الإسلام إلا برضاه على وجه التجارة وبمثله قد ورد الأثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه) فمتى لم يرض القاتل بإعطاء المال ولم تطب به نفسه فماله محظور على كل أحد وروى عن ابن عباس وقد ذكرنا سنده فيما تقدم قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول) وروى سليمان بن كثير قال حدثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من قتل في عميا أو في زحمة لم يعرف قاتله أو رميا تكون بينهم بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل خطأ ومن قتل عمدا فقود يديه فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذين الحديثين أن الواجب بالعمد هو القود ولو كان له خيار في أخذ الدية لما اقتصر على ذكر القود دونها لأنه

١٨٥

غير جائز أن يكون له أحد شيئين على وجه التخيير ويقتصرصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبيان على أحدهما دون الآخر لأن ذلك يوجب نفى التخيير ومتى ثبت فيه تخيير بعده كان نسخا له* فإن قيل قد روى ابن عيينة هذا الحديث الآخر عن عمرو بن دينار عن طاوس موقوفا عليه ولم يذكر فيه ابن عباس ولا رفعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم * قيل له كان ابن عيينة حدث به مرة هكذا غير مرفوع وحدث به مرة أخرى كما حدث سليمان بن كثير وقد كان ابن عيينة سيئ الحفظ كثير الخطأ ومع ذلك فجائز أن يكون طاوس رواه مرة عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومرة أفتى به وأخبر عن اعتقاده فليس إذا في ذلك ما يوهن الحديث* وقد تنازع أهل العلم معنى قوله تعالى( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ) فقال قائلون العفو ما سهل وما تيسر قال الله تعالى( خُذِ الْعَفْوَ ) يعنى والله أعلم ما سهل من الأخلاق وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعنى تيسير الله وتسهيله على عباده فقوله تعالى( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) يعنى الولي إذا أعطى شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة كما قال عقيب ذكر القصاص من سورة المائدة( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) فندبه إلى العفو والصدقة وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ثم أمر الولي بالاتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان* وقال بعضهم المعنى فيه ما روى عن ابن عباس وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان الثوري قال حدثنا عمرو بن دينار قال سمعت مجاهدا يقول سمعت ابن عباس يقول كان القصاص في بنى إسرائيل ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ـ إلى قوله ـفَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) قال ابن عباس العفو أن يقبل الدية في العمد( فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) فيما كان كتب على من كان قبلكم( فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) قال بعد قبول الدية فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت ناسخة لما كان على بنى إسرائيل من حظر قبول الدية وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل تخفيفا من الله علينا ورحمة بنا فلو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال فالعفو أن يقبل الدية لأن

١٨٦

القبول لا يطلق إلا فيما بذله غيره لو لم يكن أراد ذلك لقال إذا اختار الولي فثبت بذلك أن المعنى كان عند جواز تراضيهما على أخذ الدية* وقد روى عن قتادة ما يدل على أن الحكم الذي كان في بنى إسرائيل من امتناع قبول الدية ثابت على من قتل بعد أخذ الدية وهو ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع الجرجانى قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى( فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ ) قال يقول من قتل بعد أخذ الدية فعليه القتل لا يقبل منه الدية* وقد روى فيه معنى آخر وهو ما روى سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال كان بين حيين من العرب قتال فقتل من هؤلاء ومن هؤلاء فقال أحد الحيين لا نرضى حتى نقتل الرجل بالمرأة وبالرجل الرجلين وارتفعوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم القتل بواء أى سواء فاصطلحوا على الديات ففضل لأحد الحيين على الآخر فهو قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ـ إلى قوله ـفَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) قال سفيان فمن عفى له من أخيه شيء يعنى فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف* فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية وذكر سفيان أن معنى العفو هاهنا الفضل وهو معنى يحتمله اللفظ قال الله تعالى( حَتَّى عَفَوْا ) يعنى كثروا وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أعفوا اللحى) فتقدير الآية على ذلك فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف وليؤد إليه بإحسان* وقد ذكر فيه معنى آخر وهو أنهم قالوا هو في الدم بين جماعة إذا عفا بعضهم تحول نصيب الآخرين مالا وقد روى عن عمر وعلى وعبد الله ذلك ولم يذكروا أنه تأويل الآية وهذا تأويل لفظ الآية يوافقه لأنه قال( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) وهذا يقتضى وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه فيتحول نصيب الشركاء مالا وعليهم اتباع القتل بالمعروف عليه أداؤه إليهم بإحسان* وتأوله بعضهم على أن لولى الدم أخذ المال بغير رضى القاتل وهذا تأويل يدفعه ظاهر الآية لأن العفو لا يكون مع أخذ الدية ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (العمد قود إلا أن يعفو الأولياء) فأثبت له أحد الشيئين قتل أو عفو ولم يثبت له مالا بحال* فإن قال قائل إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا* ويتناوله لفظ الآية* قيل له إن كان الواجب أحد الشيئين فجائز أيضا أن يكون عافيا بترك المال وأخذ القود فعلى هذا لا يخلو الولي من عفو قتل أو أخذ مال وهذا فاسد

١٨٧

لا يطلقه أحد ومن جهة أخرى ينفيه ظاهر الآية وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بترك القود وأخذ المال فإنه لا يقال له عفا له وإنما يقال له عفا عنه فيتعسف فيقيم اللام مقام عن أو يحمله على أنه عفا له عن الدم فيضمر حرفا غير مذكور ونحن متى استغنينا بالمذكور عن المحذوف لم يجز لنا إثبات الحذف وعلى أن تأويلنا هو سائغ مستعمل على ظاهره من غير إثبات ضمير فيه وهو أن يحمل على معنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال ومن جهة أخرى يخالف ظاهرها هو أن قوله( مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) فقوله( مِنْ ) تقتضي التبعيض لأن ذلك حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غيره فيوجب هذا أن يكون العفو عن بعض دم أخيه وعند المخالف هو عفو عن جميع الدم وتركه إلى الدية وفيه إسقاط حكم من ومن وجه آخر وهو قوله( شَيْءٌ ) وهذا أيضا يوجب العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام حظه من مقتضاه وموجبه لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال فمن عفى له عن الدم وطولب بالدية فأسقط حكم قوله( مِنْ ـ وقوله ـشَيْءٌ ) وغير جائز لأحد تأويل الآية على وجه يؤدى إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن استعماله على حقيقته ومتى استعمل على ما ذكرنا كان موافقا لظاهر الآية من غير إسقاط منه لأنه إن كان التأويل ما ذكره الشعبي من نزولها على السبب وما فضل من بعضهم على بعض من الديات فهو موافق للفظ الآية لأنه عفى له من أخيه بمعنى أنه فضل له شيء من المال فيه التقاضي وذلك بعض من جملة وشيء منها فتناوله اللفظ على حقيقته وإن كان التأويل أنه إن سهل له بإعطاء شيء من المال فالولى مندوب إلى قبوله موعود بالثواب عليه فذلك قد يتناول أيضا للبعض بأن يبذل بعض الدية وذلك جزء من كل مما أتلفه* وإن كان التأويل الأخبار بنسخ ما كان على بنى إسرائيل من إيجاب حكم القود ومنع أخذ البدل فتأويلنا أيضا على هذا الوجه أشد ملاءمة لمعنى الآية لأنا نقول إن الآية اقتضت جواز الصلح منهما على ما يقع الإصطلاح عليه من قليل أو كثير فذكر البعض وأفاد به حكم الكل أيضا كقوله تعالى( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) نص على هذا القول بعينه وأراد به ما فوقه في نظائر لذلك في القرآن* وإن كان التأويل عفو بعض الأولياء عن نصيبه فهو أيضا يواطئ* ظاهر الآية لوقوع العفو عن البعض دون الجميع* فعلى أى وجه يصرف تأويل المتأولين ممن قدمنا قوله فتأويله موافق لظاهر الآية غير تأويل من تأوله على أن للولي العفو عن

١٨٨

الجميع وأخذ المال وليس يمتنع أن يكون جميع المعاني التي قدمنا ذكرها عن متأوليها مرادة بالآية فيكون نزولها على سبب نسخ بها ما كان على بنى إسرائيل وأبيح لنا أخذ قليل المال وكثيره ويكون الولي مندوبا إلى القبول إذا تسهل له القاتل بإعطاء المال وموعودا عليه بالثواب ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية حصول الفضل من بعض على بعض في الديات فأمروا به بالاتباع بالمعروف وأمر القاتل بالأداء إليهم بإحسان ويكون على اختلاف فيه بيان حكم الدم إذا عفا عنه بعض الأولياء فهذه الوجوه كلها على اختلاف معانيها تحتملها الآية وهي مرادة من غير إسقاط شيء من لفظها* فإن قال قائل وما تأوله المخالفون في إيجاب الدية للولي باختياره من غير رضى القاتل تحتمله الآية فوجب أن يكون مرادا إذ ليس فيه نفى لتأويلات الآخرين ويكون قوله( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ) معناه أنه ترك له من قولهم عفت المنازل إذا تركت حتى درست والعفو عن الذنوب ترك العقوبة عليها فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية* قيل له إن كان كذلك فينبغي أن يكون لو ترك الدية وأخذ القود أن يكون عافيا لأنه تارك لأخذ الدية وقد يسمى ترك المال وإسقاطه عفوا قال الله( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) فأطلق اسم العفو على الإبراء من المال ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على من آثر أخذ القود وترك أخذ الدية فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم العافي إذ كان إنما اختار أحد الشيئين كان مخيرا في اختيار أيهما شاء لأن من كان مخيرا بين أحد شيئين فاختار أحدهما كان الذي اختاره هو حقه الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره ألا ترى أن من اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين كان العتق هو كفارته كأنه لم يكن غيره وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه كذلك هذا الولي لو كان مخيرا في أحد شيئين من قود أو مال ثم اختار أحدهما لم يستحق اسم العافي لتركه أحدهما إلى الآخر فلما كان اسم العفو منتفيا عمن ذكرنا حاله لم يجز تأويل الآية عليه وكانت المعاني التي قدمنا ذكرها أولى بتأويلها ثم ليس يخلو الواجب للولي بنفس القتل أن يكون القود والدية جميعا أو القود دون الدية أو أحدهما على وجه التخيير لا جائز أن يكون حقه الأمرين جميعا بالاتفاق ولا يجوز أيضا أن يكون الواجب أحدهما على حسب ما يختاره الولي كما في كفارة اليمين ونحوها لما بينا من أن الذي أوجبه الله تعالى في الكتاب

١٨٩

هو القصاص وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص ونفى لإيجاب القصاص ومثله عندنا يوجب النسخ فإذا الواجب هو القود لا غيره فلا جائز له أخذ المال إلا برضى القاتل لأن كل من له قبل غيره حق يمكن استيفاءه منه لم يجز له نقله إلى بدل غيره إلا يرضى من عليه الحق وعلى أن قائل هذا القول مخطئ في العبارة حين قال الواجب هو القود وله أن يأخذ المال لأنه لم يخرجه من أن يكون مخيرا فيه إذ قد جعل له أن يستوفى القود إن شاء وإن شاء المال فلو قال قائل الواجب هو المال وله نقله إلى القود بدلا منه كان مساويا له فلما فسد قول هذا القائل من أن الواجب هو المال وله نقله إلى القود لإيجابه التخيير كذلك قول من قال الواجب هو القود وله نقله إلى المال إذ لم ينفك في الحالين من إيجاب التخيير بنفس القتل والله سبحانه إنما كتب على القاتل القصاص بقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) ولم يقل كتب عليكم المال في القتلى ولا كتب عليكم القصاص أو المال في القتلى والقائل بأن الواجب هو القود وله نقله إلى المال إنما عبر عن التخيير الذي أوجبه له بغير اسمه وأخطأ في العبارة عنه* فإن قال قائل هذا كما تقول إن الواجب هو القصاص ولهما جميعا نقله إلى المال بتراضيهما ولم يكن في جواز تراضيهما على نقله إلى المال إسقاط لموجب حكم الآية من القصاص* قيل له من قبل أنا قد بينا بديا أن القصاص حق للولي على القاتل من غير إثبات تخيير له بين القود وغيره وتراضيهما على نقله إلى البدل لا يخرجه من أن يكون هو الحق الواجب دون غيره لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤثر في الأصل الذي كان واجبا من غير خيار ألا ترى أن الرجل قد يملك العبد والدار ولغيره أن يشتريه منه برضاه وليس في جواز ذلك نفى لملك الأصل لمالكه الأول ولا موجبا لأن يكون ملكه موقوفا على الخيار وكذلك الرجل يملك طلاق امرأته ويملك الخلع وأخذ البدل عن الطلاق وليس في ذلك إثبات ملك الطلاق له بديا على أنه مخير في نقله إلى المال من غير رضى المرأة وأنه لو كان له أن يطلق أو يأخذ المال بديا من غير رضاها لكان ذلك موجبا لكونه مالكا لأحد شيئين من طلاق أو مال ويدل على أن الواجب بالقتل هو القود لا غير حديث أنس الذي قدمنا إسناده في قصة الربيع حين كسرت ثنية جارية فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب الله القصاص فأخبر أن موجب الكتاب هو القصاص فغير جائز لأحد إثبات شيء معه ولا نقله إلى غيره إلا بمثل ما يجوز

١٩٠

به نسخ الكتاب ولو سلمنا احتمال الآية لما ادعوه من تأويلها في جواز أخذ المال من غير رضى القاتل في قوله( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) مع احتماله للوجوه التي ذكرنا كان أكبر أحواله أن يكون اللفظ مشتركا محتملا للمعاني فيوجب ذلك أن يكون متشابها ومعلوم أن قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ) محكم ظاهر المعنى بين المراد لا اشتراك في لفظه* لا احتمال في تأويله وحكم المتشابه أن يحمل على معنى المحكم ويرد إليه بقوله تعالى( مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ـ إلى قوله ـوَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) فأمر الله تعالى برد المتشابه إلى المحكم لأن وصفه للمحكم بأنه أم الكتاب يقتضى أن يكون غيره محمولا عليه ومعناه معطوفا عليه إذ كان أم الشيء ما منه ابتداؤه وإليه مرجعه ثم ذم من اتبع المتشابه واكتفى بما احتمله اللفظ من تأويله من غير رد له إلى المحكم وحمله على موافقته في معناه وحكم عليهم بالزيغ في قلوبهم بقوله( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) وإذا ثبت أن قوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ) محكم وقوله( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) متشابه وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا إزالة لشيء من حكمه وهو أن يكون على أحد الوجوه التي ذكرنا مما لا ينفى موجب لفظ الآية من القصاص من غير معنى آخر يضم إليه ولا عدول عنه إلى غيره وكذلك قوله تعالى( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) إذ كانت النفس مثلا فيما يستحقه الولي وهو القود فإذا كان المثل هو القود وإتلاف نفسه كما أتلف كان بمنزلة متلف المال الذي له مثل ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي لقوله تعالى( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وبدلالة الأصول عليه* واحتج من أوجب للولي الخيار بين القود وأخذ المال من غير رضى القاتل بأخبار منها حديث يحيى بن كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فتح مكة(من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يودى) وحديث يحيى بن سعيد عن أبى ذيب قال حدثني سعيد المقبري قال سمعت أبا شريح الكعبي يقول قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته يوم فتح مكة(ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإنى عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا) ورواه محمد بن إسحاق عن الحرث بن فضيل عن سفيان عن أبى العرجاء عن أبى شريح الخزاعي قال قال رسول الله

١٩١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصيب بدم أو بخبل يعنى بالخبل الجراح فوليه بالخيار بين أحد ثلاث بين العفو أو يقتص أو يأخذ الدية وهذه الأخبار غير موجبة لما ذكروا لاحتمالها أن يكون المراد أخذ الدية برضى القاتل كما قال تعالى( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) المعنى فداء برضى الأسير فاكتفى بالمحذوف عن ذكره لعلم المخاطبين عند ذكر المال بأنه لا يجوز إلزامه إياه بغير رضاه كذلك قوله أو يأخذ الدية وقوله أو يودى وكما يقول القائل لمن له دين على غيره إن شئت فخذ دينك دراهم وإن شئت دنانير وكما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلال حين أتاه بتمر أكل تمر خيبر هكذا فقال لا ولكنا نأخذ الصاع منه بالصاعين والصاعين بثلاثة فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفعلوا ولكن بع تمرك بعرض ثم خذ بالعرض هذا ومعلوم أنه لم يرد أن يأخذ التمر بالعرض بغير رضى الآخر ويكون ذكره الدية إبانة عما نسخه الله عما كان على بنى إسرائيل من امتناع أخذ الدية برضى القاتل وبغير رضاه تخفيفا عن هذه الأمة على ما روى عن ابن عباس أن القصاص كان في بنى إسرائيل ولم يكن فيهم أخذ الدية فخفف الله عن هذه الأمة ويدل على ما وصفنا من أن المراد أخذ الدية برضى القاتل أن الأوزاعى قد روى حديث أبى هريرة عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال فيه (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفادى) والمفاداة إنما تكون بين اثنين كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة ونحو ذلك فدل على أن مراده في سائر الأخبار أخذ الدية برضى القاتل وهذه الأخبار تبطل قول من يقول إن الواجب على القاتل هو القود وللولي نقله إلى الدية لأن في جميعها إثبات التخيير للولي بنفس القتل بين القود وأخذ الدية ولو كان الواجب هو القود لا غير وإنما للولي نقله إلى الدية بعد ثبوته كما ينقل الدين إلى العرض والعرض إلى الدين على وجه العوض عنه وليس هناك خيار موجب بنفس القتل بل الواجب شيء واحد وهو القود والقائل بإيجاب القود بالقتل دون غيره إلا أن ينقله الولي إلى الدية مخالف لهذه الآثار وقد روى الأنصارى عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قصة الربيع أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (كتاب الله القصاص) وذلك ينفى كون المراد بالكتاب المال أو القصاص وقد روى علقمة بن وائل عن أبيه وثابت البناني عن أنس أن رجلا قتل رجلا فدفعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ولى المقتول ثم قال أتعفو قال لا قال أفتأخذ الدية قال لا قال أما إنك إن قتلته كنت مثله فمضى الرجل فلحقه الناس فقالوا إن رسول الله

١٩٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أما إنك إن قتلته كنت مثله فعفا عنه فاحتج الموجبون للخيار بين القود والمال بهذا الحديث وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا وذلك لأنه يحتمل أن يريد أن يأخذ الدية برضى القاتل كما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرأة ثابت بن قيس حين جاءت تشكوه أتردين عليه حديقته قالت نعم ومعلوم أن رضى ثابت قد كان مشروطا فيه وإن لم يكن مذكورا في الخبر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يلزم ثابتا الطلاق ولا يملكه الحديقة إلا برضاه وجائز أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قصد إلى أن يعقد عقدا على مال فيكون موقوفا على رضى القاتل أو فسخه وجائز أن يكون أراد أن يؤدى الدية من عنده كما فعل في قتيل الخزاعي بمكة وكما تحمل عن اليهود دية عبد الله بن سهل الذي وجد قتيلا بخيبر وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن قتلته كنت مثله يحتمل معنيين أحدهما إنك قاتل كما أنه قاتل لا إنك مثله في المأثم لأنه استوفى حقا له فلا يستحق اللوم عليه والأول فعل ما لم يكن له فكان آثما فعلمنا أنه لم يرد كنت مثله في المأثم والآخر إنك إذا قتلته فقد استوفيت حقك منه ولا فضل لك عليه وقد ندب الله تعالى إلى الأفضال بالعفو بقوله تعالى( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) فإن قال قائل لما كان عليه إحياء نفسه وجب أن يحكم عليه بذلك إذا اختار الولي أخذ المال قيل له وعلى كل أحد أن يحيى غيره إذا خاف عليه التلف مثل أن يرى إنسانا قد قصد غيره بالقتل أو خاف عليه الغرق وهو يمكنه تخليصه أو كان معه طعام وخاف عليه أن يموت من الجوع فعليه إحياؤه بإطعامه وإن كثرت قيمته وإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه فعلى الولي أيضا إحياؤه إذا أمكنه ذلك فوجب على هذه القضية إجبار الولي على أخذ المال إذا بذله القاتل وهذا يؤدى إلى بطلان القصاص أصلا لأنه إذا كان على كل واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود وأيضا فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة أن يعطيه لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده واحتج المزني للشافعي في هذه المسألة بأنه لو صالح من حد القذف على مال أو من كفالة بنفس لبطل الحد والكفالة ولم يستحق شيئا ولو صالح من دم عمد على مال باتفاق الجميع قبل ذلك فدل ذلك على أن دم العمد مال في الأصل لو لا ذلك لما صح الصلح كما لم يصح عن حد القذف والكفالة قال أبو بكر قد انتظم هذا الاحتجاج الخطأ والمناقضة

١٩٣

فأما الخطأ فهو أن من أصلنا أن الحد لا يبطل بالصلح ويبطل المال والكفالة بالنفس فيها روايتان إحداهما لا تبطل أيضا والأخرى أنها تبطل وأما المناقضة فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الطلاق ولا خلاف أن الطلاق في الأصل ليس بمال وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالا عن طلاق بغير رضاها وعلى أن الشافعى قد قال فيما حكاه المزني عنه أن عفو المحجور عليه عن الدم جائز وليس لأصحاب الوصايا والدين منعه من ذلك لأن المال لا يملك في العمد إلا باختيار المجنى عليه فلو كان الدم مالا في الأصل لثبت فيه حق الغرماء وأصحاب الوصايا وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو القود لا غير وأنه لم يوجب له خيارا بين القتل وبين الدية فإن قال قائل قوله تعالى( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) يوجب لوليه الخيار بين أخذ القود والمال إذا كان اسم السلطان يقع عليهما والدليل عليه أن بعض المقتولين ظلما تجب فيه الدية نحو قتيل شبه العمد والأب إذا قتل ابنه وبعضهم يجب فيه القود وذلك يقتضى أن يكون جميع ذلك مرادا بالآية لاحتمال اللفظ لهما وقد تأوله الضحاك بن مزاحم على ذلك فقال في معنى قوله( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) أنه إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية فلما احتمل السلطان ما وصفنا وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود لوقوع الاسم عليهما ولأنه قد ثبت باتفاق الجميع أن كل واحد منهما مراد الله تعالى في حال وحينئذ يكون تقدير الآية ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في القود والدية ولما حصل الاتفاق على أنهما لا يجبان مجتمعين وجب أن يكون وجوبهما على وجه التخيير وكما احتججتم في إيجاب القود بقوله( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) لاتفاق الجميع على أن القود مراد وصار كالمنصوص عليه فيه وجعلتموه كعموم لفظ القود فيلزمكم مثله في إثبات المال لوجودنا مقتولين ظلما يكون سلطان الولي هو المال* قيل له حمله على القود أولى من حمله على الدية وذلك لأنه لما كان السلطان لفظا مشتركا محتملا للمعاني كان متشابها يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه وهي آية محكمة في إيجاب القصاص وهو قوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) فوجب أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية أن يكون معطوفا على ما في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص وليس معك آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد فيكون معنى المتشابه محمولا عليه فلذلك وجب الاقتصار

١٩٤

بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره لموافقته لمعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه ومن حمله على تخييره في أخذ الدية أو القود فلم يلجأ إلى أصل له من المحكم يحمله عليه فلذلك لم يصح إثبات التخيير مع احتمال اللفظ له* وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه لأنه قال( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) يعنى والله أعلم السرف في القصاص بأن يقتل غير قاتله أو أن يمثل بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق من القتل وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله سلطانا القود وأيضا لما ثبت أن القود مراد بالآية انتفت إرادة المال لأنه لو كان مرادا مع القود لكان الواجب هما جميعا في حالة واحدة لا على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير فلما امتنع إرادتهما جميعا وكان القود لا محالة مرادا علمنا أنه لم يرد المال وأن إيجابنا للدية في بعض المقتولين ظلما ليس عن هذه الآية والله تعالى أعلم.

باب العاقلة هل تعقل العمد

قال الله تعالى( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ) وقد قدمنا تأويل من تأوله على عفو بعض الأولياء عن نصيبه من الدم ووجوب الأرش للباقين واحتمال اللفظ لذلك وفيه دلالة على أن الواجب على القاتل الذي لم يعف في ماله وكذلك كل عمد فيه القود فهو على الجاني في ماله كالأب إذا قتل ابنه وكالجراحة فيما دون النفس ولا يستطاع فيها القصاص نحو قطع اليد من نصف الساعد والمنقلة والجائفة فالعامد والمخطئ إذا قتلا أن على العامد نصف الدية في ماله والمخطئ على عاقلته وهو قول أصحابنا وعثمان البتى والثوري والشافعى وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك هي على العاقلة وهو آخر قول مالك قال ابن القاسم ولو قطع يمين رجل ولا يمين له كانت دية اليد في ماله ولا تحملها العاقلة وقال الأوزاعى هو في مال الجاني فإن لم يبلغ ذلك ماله حمل على عاقلته وكذلك إذا قتلت المرأة زوجها متعمدة ولها منه أولاد فديته في مالها خاصة فإن لم يبلغ ذلك مالها حمل على عاقلتها* قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على أن الصلح عن دم العمد وسقوط القود بعفو بعض الأولياء يوجب الدية في مال الجاني لأنه تعالى قال( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) وهو يعنى القاتل إذا كان المعنى عفو بعض الأولياء ثم قال( فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) يعنى اتباع الولي للقاتل ثم قال( وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ) يعنى أداء القاتل

١٩٥

فاقتضى ذلك وجوبه في مال القاتل وكذلك تأويل من تأوله على التراضي عن الصلح على مال ففيه وجوب الأداء على القاتل دون غيره إذ ليس للعاقلة ذكر في الآية وإنما فيها ذكر الولي والقاتل وروى ابن أبى الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن الفضل الخطيب قال حدثنا إسماعيل بن موسى قال حدثنا شريك عن جابر ابن عامر قال اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عبدا ولا عمدا ولا صلحا ولا اعترافا وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة قتادة بن عبد الله المدلجي الذي قتل ابنه أن عمر جعل عليه مائة من الإبل وأعطاها أخوته ولم يورثه منها شيئا فجعل ذلك في ماله لما كان عمدا ولما ثبت ذلك في النفس ولم يخالف عمر فيه غيره من الصحابة كان كذلك حكم ما دونها إذا سقط القصاص وروى هشام بن عروة عن أبيه قال ليس على العاقلة عقل في عمد وإنما عليهم الخطأ وقال عروة أيضا ما كان من صلح فلا تعقله العشيرة إلا أن تشاء وقال قتادة كل شيء لا يقاد منه فهو في مال الجاني وقال أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم لا تعقل العاقلة صلحا ولا عمدا ولا اعترافا* وقوله تعالى( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) فيه إخبار من الله تعالى في إيجاب القصاص حياة للناس وسببا لبقائهم لأن من قصد قتل إنسان رده عن ذلك علمه بأنه يقتل به ودل على وجوب القصاص عموما بين الحر والعبد والرجل والمرأة والمسلم والذمي إذ كان الله تعالى مريد التبقية الجميع فالعلة الموجبة للقصاص بين الحرين المسلمين موجودة في هؤلاء فوجب استواء الحكم في جميعهم وتخصيصه لأولى الألباب بالمخاطبة غير ناف مساواة غيرهم لهم في الحكم إذ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوى الألباب موجودا في غيرهم وإنما وجه تخصيصه لهم أن ذوى الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطبون به وينتهون إلى ما يؤمرون به ويزدجرون عما يزجرون عنه وهكذا كقوله تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) وهو منذر لجميع المكلفين ألا ترى إلى قوله تعالى( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) ونحو قوله( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) وهو هدى للجميع وخص المتقين لانتفاعهم به ألا ترى إلى قوله في آية أخرى( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ) فعم الجميع به وكقوله( قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) لأن التقى هو الذي يعيذ من استعاذ بالله* وقد ذكر عن

١٩٦

بعض الحكماء أنه قال قتل البعض إحياء الجميع وعن غيره القتل أقل للقتل وأكثروا القتل ليقل القتل وهو كلام سائر على ألسنة العقلاء وأهل المعرفة وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) ثم إذا مثلت بينه وبينه وجدت بينهما تفاوتا بعيدا من جهة البلاغة وصحة المعنى وذلك يظهر عند التأمل من وجوه أحدها أن قوله تعالى( فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) هو نظير قولهم قتل البعض إحياء للجميع والقتل أقل للقتل وهو مع قلة عدد حروفه ونقصانها عما حكى عن الحكماء قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه ولا يستغنى عنه الكلام ما ليس في قولهم لأنه ذكر القتل على وجه العدل لذكره القصاص وانتظم مع ذلك الغرض الذي إليه أجرى بإيجابه القصاص وهو الحياة وقولهم القتل أقل للقتل وقتل البعض إحياء الجميع والقتل أنفى للقتل إن حمل على حقيقته لم يصح معناه لأنه ليس كل قتل هذه صفته بل ما كان منه على وجه الظلم والفساد فليست هذه منزلته ولا حكمه فحقيقة هذا الكلام غير مستعملة ومجازه يحتاج إلى قرينة وبيان في أن أى قتل هو إحياء للجميع فهذا كلام ناقص البيان مختل المعنى غير مكتف بنفسه في إفادة حكمه وما ذكره الله تعالى من قوله( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) مكتف بنفسه مفيد لحكمه على حقيقته من مقتضى لفظه مع قلة حروفه ألا ترى أن قوله تعالى( فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) أقل حروفا من قولهم قتل البعض إحياء للجميع والقتل أقل للقتل وأنفى للقتل ومن جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله( فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) على قولهم القتل أقل للقتل وأنفى للقتل أن في قولهم تكرار اللفظ وتكرار المعنى بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة أنه يصح تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد ولا يصلح مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى( وَغَرابِيبُ سُودٌ )

ونحو قول الشاعر : وألفى قولها كذبا ومينا

كرر المعنى الواحد بلفظين وكان ذلك سائغا ولا يصح مثله في تكرار اللفظ وكذلك قوله( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) لا تكرار فيه مع إفادته للقاتل إذ كان ذكر القصاص يفيد ذلك ألا ترى أنه لا يكون قصاصا إلا وقد تقدمه قتل من المقتص منه وفي قولهم ذكر للقتل وتكرار له في اللفظ وذلك نقصان في البلاغة فهذا وأشباهه مما يظهر به للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر إذ ليس يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل ما يوجد في كلام الله تعالى.

١٩٧

باب كيفية القصاص

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) وقال في آية أخرى( وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وقال( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) فأوجب بهذه الآي استيفاء المثل ولم يجعل لأحد ممن أوجب عليه أو على وليه أن يفعل بالجانى أكثر مما فعل* واختلف الفقهاء في كيفية القصاص فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر على أى وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف وقال ابن القاسم عن مالك إن قتله بعصا أو بحجر أو بالنار أو بالتغريق قتله بمثله فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتله به حتى يموت وإن زاد على فعل القاتل الأول وقال ابن شبرمة نضربه مثل ضربه ولا نضربه أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون السيف يجزى عن ذلك كله فإن غمسه في الماء فإنى لا أزال أغمسه فيه حتى يموت وقال الشافعى إن ضربه بحجر فلم يقلع عنه حتى مات فعل به مثل ذلك وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات حبس فإن لم يمت في مثل تلك المدة قتل بالسيف* قال أبو بكر لما كان في مفهوم قوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) وقوله( الْجُرُوحَ قِصاصٌ ) استيفاء المثل من غير زيادة عليه كان محظورا على الولي استيفاء زيادة على فعل الجاني ومتى استوفى على مذهب من ذكرنا في التحريق والتغريق والرضخ بالحجارة والحبس أدى ذلك إلى أن يفعل به أكثر مما فعل لأنه إذا لم يمت بمثل ذلك الفعل قتله بالسيف أو زاد على جنس فعله وذلك هو الاعتداء الذي زجر الله عنه بقوله( فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) لأن الاعتداء مجاوزة القصاص والقصاص أن يفعل به مثل فعله سواء إن أمكن وإن تعذر فإن يقتله بأوحى وجوه القتل فيكون مقتصا من جهة إتلاف نفسه غير متعد ما جعل له وقول مالك بتكرار مثل ذلك الفعل عليه حتى يموت زائد على فعل القاتل خارج عن معنى القصاص وقول الشافعى أنه يفعل به مثل ما فعل ثم يقتله مخالف لحكم الآية لأن القصاص إن كان من جهة أن يفعل به مثل ما فعل فقد استوفى فقتله بعد ذلك تعد ومجاوزة لحد القصاص وقال تعالى( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وإن كان معنى القصاص هو إتلاف نفس بنفس من غير مجاوزة لمقدار الفعل فهو الذي نقوله فلا ينفك موجب القصاص على الوجه الذي ذهب إليه مخالفونا من مخالفة الآية لمجاوزة

١٩٨

حد القصاص لأن فاعل ذلك داخل في حد الاعتداء الذي أوعد الله عليه وكذلك قوله( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وقوله( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) يمنع أن يجرح أكثر من جراحته أو يفعل به أكثر مما فعل ويدل على أن المراد به مثل ما فعل لا زائدا عليه اتفاق الجميع على أن من قطع يد رجل من نصف الساعد أنه لا يقتص منه لعدم التيقن بالاقتصار على مقدار حقه وإن كان قد يغلب في الظن إذا اجتهد إنه قد وضع السكين في موضعه من المجنى عليه ولم يكن للاجتهاد في ذلك حظ فكيف يجوز القصاص على وجه نعلم يقينا أنه مستوف لأكثر من حقه وجان عليه بأكثر من جنايته وأيضا لا خلاف أنه يجوز للولي أن يقتله ولا يحرقه ولا يغرقه وهذا يدل على أن ذلك مراد بالآية وإذا كان القتل بالسيف مرادا ثبت أن القصاص هو إتلاف نفسه بأيسر وجوه القتل وإذا ثبت أن ذلك مراد انتفت إرادة التحريق والتغريق والرضخ وما جرى مجرى ذلك لأن وجوب الاقتصار على قتله بالسيف ينفى وقوع غيره* فإن قيل اسم المثل في القصاص يقع على قتله بالسيف وعلى أن يفعل به مثل فعله وله إن لم يمت أن يقتله بالسيف وله أن يقتصر بديا على قتله بالسيف فيكون تاركا لبعض حقه وله ذلك* قيل له غير جائز أن يكون الرضخ والتحريق مستحقا مع قتله بالسيف لأن ذلك ينافي القصاص وفعل المثل ومن حيث أوجب الله تعالى القصاص لا غير فغير جائز حمله على معنى ينافي مضمون اللفظ وحكمه وعلى أن الرضخ بالحجارة والتحريق والتغريق والرمي لا يمكن استيفاء القصاص به لأن القصاص إذا كان هو استيفاء المثل فليس للرضخ حد معلوم حتى يعلم إنه في مقادير أجزاء رضخ القاتل للمقتول وكذلك الرمي والتحريق لم يجز أن يكون ذلك مرادا بذكر القصاص فوجب أن يكون المراد إتلاف نفسه بأوحى الوجوه ويدل على هذا ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفى القصاص في المنقلة والجائفة لتعذر استيفائه على مقادير أجزاء الجناية فكذلك القصاص بالرمي والرضخ غير ممكن استيفاؤه في معنى الإيلام وإتلاف الأجزاء التي أتلفها* فإن قيل لما كان المثل ينتظم معنيين وكذلك القصاص أحدهما إتلاف نفسه كما أتلف فيكون القصاص والمثل في هذا الوجه إتلاف نفس بنفس والآخر أن يفعل به مثل ما فعل استعملنا حكم اللفظ في الأمرين لأن عمومه يقتضيهما فقلنا نفعل به مثل ما فعل فإن مات وإلا استوفى المثل من جهة

١٩٩

إتلاف النفس* قيل له لا يجوز أن يكون المراد بالمثل والقصاص جميع الأمرين بأن يفعل به مثل ما فعل بالمقتول ثم يقتل وإن كان يجوز أن يكون المراد كل واحد من المعنيين على الانفراد غير مجموع إلى الآخر لأن الاسم يتناوله وهو غير مناف لحكم الآية وأما إذا جمعهما فغير جائز أن يكون مرادا على وجه الجمع لأنه يخرج عن حد القصاص والمثل بل يكون زائدا عليه وغير جائز تأويل الآية على معنى يضادها وينفى حكمها فلذلك امتنع إرادة القتل بالسيف بعد الرضخ والتغريق والحبس والإجاعة وقد روى سفيان الثوري عن جابر عن أبى عازب عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا قود إلا بالسيف وهذا الخبر قد حوى معنيين أحدهما بيان مراد الآية في ذكر القصاص والمثل والآخر أنه ابتداء عموم يحتج به في نفى القود بغيره ويدل عليه أيضا ما روى يحيى بن أبى أنيسة عن الزبير عن جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يستقاد من الجراح حتى تبرأ وهذا ينفى قول المخالف لنا وذلك لأنه لو كان الواجب أن يفعل بالجانى كما فعل لم يكن لاستثنائه وجه فلما ثبت الاستثناء دل على أن حكم الجراحة معتبر بما يئول إليه حالها* فإن قيل يحيى بن أبى أنيسة* لا يحتج بحديثه* قيل له هذا قول جهال لا يلتفت إلى جرحهم ولا تعديلهم وليس ذلك طريقة الفقهاء في قبول الأخبار وعلى أن على بن المديني قد ذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال يحيى بن أبى أنيسة أحب إلى في حديث الزهري من حديث محمد بن إسحاق* ويدل عليه أيضا ما روى خالد الحذاء عن أبى قلابة عن أبى الأشعث عن شداد بن أوس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح فأوجب عموم لفظه أن من له قتل غيره أن يقتله بأحسن وجوه القتل وأوحاها وأيسرها وذلك ينفى تعذيبه والمثلة به* ويدل عليه ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه* نهى أن يتخذ شيء من الحيوان غرضا فمنع بذلك أن يقتل القاتل رميا بالسهام* وحكى أن القسم بن معن حضر مع شريك بن عبد الله عند بعض السلاطين فقال ما تقول فيمن رمى رجلا بسهم فقتله قال يرمى فيقتل قال فإن لم يمت بالرمية الأولى قال يرمى ثانيا قال أفتتخذه غرضا وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتخذ شيء من الحيوان غرضا قال شريك لم يموق فقال القسم يا أبا عبد الله هذا ميدان إن سابقناك فيه سبقتنا يعنى البذاء وقام* ويدل عليه أيضا ما روى عمران بن حصين وغيره أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المثلة وقال سمرة بن جندب

٢٠٠