أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 83926
تحميل: 4504


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83926 / تحميل: 4504
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

الصائم) وليس المعنى فيه عند الفقهاء الخروج منه وإنما المراد منه إبطال ثوابه فاحتمل أن يكون ذكر إفطار الحاجم والمحجوم لهذا المعنى وعلى أن الأخبار التي روينا فيها ذكر تاريخ الرخصة بعد النهى وجائز أيضا أن يكون النهى عن الحجامة كان لما يخاف من الضعف كما نهى عن الصوم في السفر حين رأى رجلا قد ظلل عليه وأما وجه قولهم فيمن بلع شيئا بين أسنانه لم يفطره فهو أن ذلك بمنزلة أجزاء الماء الباقية في فمه بعد غسل فمه للمضمضة ومعلوم وصولها إلى جوفه ولا حكم لها كذلك الأجزاء الباقية في فيه هي بمنزلة ما وصفنا ألا ترى أن من أكل بالليل سويقا أنه لا يخلو إذا أصبح من بقاء شيء من أجزائه بين أسنانه ولم يأمره أحد بتقصى إخراجها بالأخلة والمضمضة فدل ذلك على أن تلك الأجزاء لا حكم لها وأما الذباب الواصل إلى جوفه من غير إرادته فإنما لم يفطره من قبل أن ذلك في العادة غير متحفظ منه ألا ترى أنه لا يؤمر بإطباق الفم وترك الكلام خوفا من وصوله إلى جوفه فأشبه الغبار والدخان يدخل إلى حلقه فلا يفطره وليس هو بمنزلة من أوجر ماء وهو صائم مكرها فيفطر من قبل أنه ليس للعادة في هذا تأثير وإنما بينا حكم وصول الذباب إلى جوفه معلوما على العادة في فتح الفم بالكلام وما كان مبنيا على العادة مما يشق الامتناع عنه فقد خفف الله عن العباد فيه قال الله( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) * وأما الجنابة فإنها غير مانعة من صحة الصوم لقوله( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فأطلق الجماع من أول الليل إلى آخره ومعلوم أن من جامع في آخر الليل فصادف فراغه من الجماع طلوع الفجر أنه يصبح جنبا وقد حكم الله بصحة صيامه بقوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وروت عائشة وأم سلمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك وروى أبو سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام) وهو يوجب الجنابة وحكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ذلك بصحة صومه فدل على أن الجنابة لا تنافى صحة الصوم وقد روى أبو هريرة خبرا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك) إلا أنه لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا علم لي بهذا أخبرنى به الفضل بن العباس وهذا مما يوهن خبره لأنه قال بديا ما أنا قلت ورب الكعبة من أصبح جنبا فقد أفطر محمد قال

٢٤١

ذلك ورب الكعبة وأفتى السائل عن ذلك بالإفطار فلما أخبر برواية عائشة وأم سلمة تبرأ من عهدته وقال لا علم لي بهذا إنما أخبرنى به الفضل وقد روى عن أبى هريرة الرجوع عن فتياه بذلك حدثنا عبد الباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا ابن شبابة قال حدثنا عمرو بن الهيثم قال حدثنا هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن الذي كان يفتي من أصبح جنبا فلا يصوم وعلى أنه لو ثبت خبر أبى هريرة احتمل أن لا يكون معارضا لرواية عائشة وأم سلمة بأن يريد من أصبح على موجب الجنابة بأن يصبح مخالطا لامرأته ومتى أمكننا تصحيح الخبرين واستعمالهما معا استعملناهما على ما أمكن من غير تعارض فإن قيل جائز أن يكون رواية عائشة وأم سلمة مستعملة فيما وردت بأن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا بذلك دون أمته لأنهما أضافتا ذلك إلى فعله وخبر أبى هريرة مستعمل في سائر الناس قيل له قد عقل أبو هريرة من روايته مساواة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيره في هذا الحكم لأنه قال حين سمع رواية عائشة وأم سلمة لا علم لي بهذا وإنما أخبرنى به الفضل بن العباس ولم يقل إن رواية هاتين المرأتين غير معارضة لروايتي إذ كانت روايتهما مقصورة على حال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروايتي إنما هي في غيره من الناس فهذا يبطل تأويلك وأيضا فإنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مساو للأمة في سائر الأحكام إلا ما خصه الله تعالى به وأفرده من الجملة بتوقيف للأمة عليه بقوله تعالى( فَاتَّبِعُوهُ ) وقوله( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فهذه الأمور التي ذكرنا مما تعبدنا فيه بالإمساك عنه في نهار رمضان هي من الصوم المراد به في قوله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فهي إذا من الصوم اللغوي والشرعي جميعا وأما ما ليس بإمساك مما وصفنا فإنما هو من شرائطه ولا يكون الإمساك على الوجوه التي ذكرنا صوما شرعيا إلا بوجود هذه الشرائط وذلك الإسلام والبلوغ والنية وأن تكون المرأة غير حائض فمتى عدم شيء من هذه الشرائط خرج عن أن يكون صوما شرعيا وأما الإقامة والصحة فهما شرط صحة لزومه ووجود المرض والسفر لا ينافي صحة الصوم وإنما ينافي لزوم الصوم على جهة الوجوب ولو صاما لصح صومهما وإنما قلنا البلوغ شرط في صحة لزومه لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبى حتى يحتلم) ولا خلاف أنه لا يلزمه سائر العبادات فكذلك الصوم وقد يؤمر به المراهق على

٢٤٢

وجه التعليم ليعتاده وليمرن عليه لقوله تعالى( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ) قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) وليس ذلك على وجه التكليف وإنما هو على وجه التعليم والتأديب وأما الإسلام فإنما كان شرطا في صحة فعله لقوله( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) فلا تصح له قربة إلا على شرط كونه مؤمنا وأما العقل فإن فقدت معه النية والإرادة فإنما ينفى عنه صحة الصوم لعدم النية فإن وجدت منه النية من الليل ثم عزب عقله لم ينف ذلك صحة صومه وإنما قلنا إن النية شرط في صحة الصوم من قبل أنه لا يكون صوما شرعيا إلا بأن يكون فاعله متقربا به إلى الله عز وجل ولا تصح القربة إلا بالنية والقصد لها قال الله تعالى( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فأخبر عز وجل أن شرط التقوى تحرى موافقة أمره ولما كان الشرط كونه متقيا فعل الصوم من المفروض لم يحصل له ذلك إلا بالنية لأن التقوى لا تحصل له إلا بتحرى موافقة أمر الله والقصد إليه وقال تعالى( وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ولا يكون إخلاص الدين له إلا بقصده به إليه راغبا عن أن يريد به غيره فهذه أصول في تعلق صحة الفروض بالنيات ولا خلاف بين المسلمين في أن من شرط الصلاة والزكاة والحج والكفارات إيجاد النية لها لأنها فروض مقصوده لأعينها فكان حكم الصوم حكمها لهذه العلة بعينها* فإن قيل جميع ما استدللت به على كون النية شرطا في الصوم وفي سائر الفروض يلزمك شرط النية في الطهارة إذ كانت فرضا من الفروض قيل له ليس ذلك على ما ظننت لأن الطهارة ليست فرضا مقصودا لعينها وإنما المقصود غيرها وهي شرط فيه فقيل لنا لا تصلوا إلا بطهارة كما قيل لا تصلوا إلا بطهارة من بحاسة ولا تصلوا إلا بستر العورة فليست هذه الأشياء مفروضة لأنفسها فلم يلزم إيجاد النية لها ألا ترى أن النية نفسها لما كانت شرطا لغيرها ولم تكن مفروضة لنفسها صحة بغير نية توجد لها فانفصل بما ذكرنا حكم الفروض المقصودة لأعيانها وحكم ما جعل منها شرطا لغيره وليس هو بمفروض لنفسه فلما كانت الطهارة بالماء شرطا لغيرها وليست أيضا ببدل عن سواها لم يلزم فيها النية ولا يلزم على هذا إيجابنا النية في التيمم لأنه بدل عن غيره فلا يكون طهورا إلا بإنضمام النية إليه إذ ليس هو طهورا في نفسه بل هو بدل عن غيره ولم يختلف الأمة في أن كل صوم واجب في الذمة فشرط صحته

٢٤٣

إيجاد النية له فوجب أن يكون كذلك حكم صوم رمضان في كون النية شرطا لصحته وشبه زفر صوم رمضان بالطهارة في إسقاط النية لهما من قبل أن الطهارة مفروضة في أعضاء بعينها فكان الصوم مشبها لها في كونه مفروضا في وقت مستحق العين له وهذا عند سائر الفقهاء ليس كذلك لأن العلة التي ذكرها للطهارة غير موجودة في الصوم إذ جعل علة الطهارة أنها مفروضة في موضع بعينه وهذا المعنى غير موجود في الصوم لأنه غير موضوع في موضع بعينه وإنما هو موضوع في وقت معين لا في موضع معين وعلى أن هذه العلة منتقضة بالطواف لأنه مفروض في موضع معين ولو عدا رجل خلف غريم له يوم النحر حوالى البيت لم يكن طائفا طواف الزيارة وكذلك لو كان يسقى الناس هناك وبين الصفا والمروة لم يجزه ذلك من الواجب فإذا كانت هذه العلة غير موجبة للحكم في معلولها من الطواف والسعى فبأن لا يوجب حكمها فيما ليست فيه موجودة أولى وعلى أن الطهارة مخالفة للصوم لما بينا من أنها غير مفروضة لنفسها وإنما هي شرط لغيرها لا على وجه البدل فلم تجب أن تكون النية شرطا فيها كأنه قيل لا تصل إلا وأنت طاهر من الحدث ومن النجاسة ولا تصل إلا مستور العورة وليس شرط غسل النجاسة وستر العورة النية كذلك الطهارة بالماء وأما الصوم فإنه مفروض مقصود لعينه كسائر الفروض التي ذكرنا فوجب أن يكون شرط صحته إيجاد النية له ومعنى آخر وهو أنا قد علمنا أن الصوم على ضربين منه الصوم اللغوي ومنه الصوم الشرعي وأن أحدهما إنما ينفصل من الآخر بالنية مع ما قدمنا من شرائطه ومتى لم توجد له النية كان صوما لغويا لا حظ فيه للشرع فلذلك وجب اعتبار النية في صوم رمضان ألا ترى أن من أمسك في يوم من غير رمضان عما يمسك عنه الصائم ولم يكن له نية الصوم أن صومه ذلك لا يكون صوم شرع وصوم التطوع مشبه لصوم رمضان في جواز ترك النية له من الليل فلما لم يكن صائما متطوعا بالإمساك دون النية وجب أن يكون صوم رمضان كذلك ويلزم زفر أن يجعل المغمى عليه أياما في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب صائما لوجود الإمساك وهذا إن التزمه قائل كان قائلا قولا مستشنعا وإنما قلنا أنه يحتاج إلى إيجاد النية كل يوم إما من الليل أو قبل الزوال من قبل أنا قد بينا أن صوم رمضان لا يصح إلا بنية ومن حيث افتقر إلى نية في أول الشهر وجب أن يكون اليوم الثاني مثله لأنه يخرج بالليل من الصوم ومتى خرج منه

٢٤٤

احتاج في دخوله فيه إلى نية وقال مالك ما لم يكن وجوبه معينا من الصيام لم يصح إلا بنية من الليل وما كان وجوبه في وقت بعينه كان يعلمه ذلك الوقت صائما واستغنى عن نية الصيام بذلك فإذا قال لله على أن أصوم شهرا متتابعا فصام أول يوم أنه يجزيه باقى الأيام بغير نية وهو قول الليث بن سعد وقال الثوري في صوم التطوع إذا نواه في آخر النهار أجزأه قال وقال إبراهيم النخعي له أجر ما يستقبل وهو مذهب الحسن بن صالح وقال الثوري يحتاج في صوم رمضان أن ينويه من الليل وقال الأوزاعى يجزيه نية صوم رمضان بعد نصف النهار وقال الشافعى لا يجزى كل صوم واجب رمضان وغيره إلا بنية من الليل ويجزى صوم التطوع بنية قبل الزوال فأما الدلالة على بطلان قول من اكتفى بنية واحدة للشهر كله فهو ما قدمنا من افتقار صوم اليوم الثاني إلى الدخول فيه والدخول في الصوم لا يصح إلا بنية فوجب أن يكون شرط اليوم الثاني إيجاد النية كاليوم الأول فإن قيل يكتفى بالنية الأولى وهي نية لجميع الشهر كما يتجزى في الصلاة بنية واحدة في أولها ولا يحتاج إلى تجديد النية لكل ركعة والمعنى الجامع بينهما أن الصلاة الواحدة لا تتخلل ركعاتها صلاة أخرى غيرها كما لا يتخلل صيام شهر رمضان صيام من غيره قيل له لو جاز أن يكتفى بنية واحدة للشهر لجاز أن يكتفى بها لعمره كله فلما بطل هذا واحتاج إلى نية لأول يوم لم يجز أن تكون تلك النية لسائر أيام الشهر كما لا يجوز أن تكون لسائر عمره وأما تشبيهه بالصلاة فلا معنى له لأن الصلاة إنما اكتفى فيها بنية واحدة لأن الجميع مفعول بتحريمة واحدة ألا ترى أنه لا يصح بعضها دون بعض فكانت الركعات كلها مبنية على تلك التحريمة ألا ترى أنه متى ترك ركعة حتى خرج منها بطلت صلاته كلها وأنه لو ترك صوم يوم من رمضان بأن أفطر فيه لم يبطل عليه صوم سائر الشهر ومن جهة أخرى أنه لا يخرج من الصلاة بفعل الركعة الأولى فلم يحتج إلى نية أخرى إذ النية إنما يحتاج إليها للدخول فيها فأما الصوم فإنه إذا دخل الليل خرج من الصوم ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا أقبل الليل من هاهنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) فاحتاج بعد الخروج من صوم اليوم الأول إلى الدخول في اليوم الثاني فلم يصح له ذلك إلا بالنية المتجددة* وإنما أجاز أصحابنا ترك النية من الليل في كل صوم مستحق العين إذا نواه قبل الزوال لقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وهذا قد شهد الشهر فواجب أن يكون مأمورا بصومه

٢٤٥

وواجب أن يجزيه إذا فعل ما أمر به ومن جهة السنة وهو ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم بقية يومه وقد روى أنه أمر الآكلين بالقضاء * حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن على بن مسلم قال حدثنا محمد بن منهال قال حدثنا يزيد بن ربيع قال حدثنا شعبة عن قتادة عن عبد الرحمن ابن سلمة عن عمه قال أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم عاشوراء فقال (أصمتم يومكم هذا قالوا لا قال فأتموا يومكم هذا واقضوا) فدل ذلك على معنيين أحدهما أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا ولذلك أمر بالقضاء من أكل والثاني أنه فرق بين الآكلين ومن لم يأكل فأمر الآكلين بالإمساك والقضاء والذين لم يأكلوا بالصوم فدل ذلك على أن من الصوم ما كان مفروضا في وقت بعينه فجائز ترك النية من الليل لأنه لو كان شرط صحته إيجاد النية له من الليل لما أمرهم بالصيام ولكانوا حينئذ بمنزلة الآكلين في باب امتناع صحة صومهم ووجوب القضاء عليهم فثبت بما وصفنا أنه ليس شرط صحة الصوم المستحق العين وجود النية له من الليل وأنه جائز له أن يبتدئ النية له في بعض النهار* فإن قيل إنما جاز ترك النية له من الليل لأن الفرض لم يكن تقدم قبل ذلك الوقت وإنما هو فرض مبتدأ لزمهم في بعض النهار فلذلك أجزى له مع ترك النية من الليل وأما بعد ثبوت فرض الصوم فغير جائز إلا أن يوجد له نية من الليل قيل له لو كان إيجاد النية من الليل من شرائط صحته لوجب أن يكون عدمها مانعا صحته كما أنه لما كان ترك الأكل من شرائط صحة الصوم كان وجوده مانعا منه وأن لا يختلف في ذلك حكم الفرض المبتدأ في بعض النهار وحكم ما تقدم فرضه فلما أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الآكلين بالإمساك وأمرهم مع ذلك بالقضاء لأن ترك الأكل من شرط صحته ولم يأمر تاركي النية من الليل بالقضاء وحكم لهم بصحة صومهم إذا ابتدءوه في بعض النهار ثبت بذلك أن إيجاد النية من الليل ليس بشرط في الصوم المستحق العين وصار ذلك أصلا في نظائره مما يوجبه الإنسان على نفسه من الصوم في وقت بعينه أنه يصح بنية يحدثها بالنهار قبل الزوال* فإن قيل فرض صوم عاشوراء منسوخ برمضان فكيف* يستدل بالمنسوخ على صوم ثابت الحكم مفروض* قيل له أنه وإن نسخ فرضه فلم ينسخ دلالته فيما دلت عليه من نظائره ألا ترى إن فرض التوجه إلى بيت المقدس قد نسخ ولم ينسخ بذلك سائر أحكام الصلاة وكذلك قد نسخ فرض صلاة الليل ولم ينسخ سائر أحكام

٢٤٦

الصلاة ولم يمنع نسخها من الاستدلال بقوله تعالى( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) في إثبات التخيير في إيجاب القراءة بما شاء منه وإن كان ذلك نزل في شأن صلاة الليل وإنما قالوا إنه يجزى أن ينويه قبل الزوال ولا يجوز بعده لما روى في بعض الأخبار أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى أهل العوالي فقال (من تغدى منكم فيمسك ومن لم يتغد فليصم) والغداء على ما قبل الزوال ثم لا يخلو ذكر الغداء من وجهين إما أن يكون قال ذلك بالغداء قبل الزوال أو بين لهم أن جواز النية متعلق بوجودها قبل الزوال في وقت يسمى غداء وإلا كان اقتصر على ذكر الأكل دون ذكر الغداء لو كان حكم ما قبل الزوال وبعده سواء فلما أوجب أن يكسو هذا اللفظ فائدته لئلا يخلو كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن فائدة وجب أن يختلف حكم نيته قبل الزوال وبعده* وإنما أجازوا ترك النية من الليل في صوم التطوع بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال حدثنا مسلم بن عبد الرحمن السلمى البلخي قال حدثنا عمر بن هارون عن يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصبح ولم يجمع للصوم فيبدو له فيصوم قالت عائشة كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتينا فيقول (هل عندكم من طعام فإن كان وإلا قال فإنى إذا صائم) فإن قيل إذا لم يعزم النية من الليل حتى أصبح فقد وجد غير صائم في بعض النهار فكان بمنزلة الآكل فلا يصح له صوم يومه* قيل له قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء صوم التطوع في بعض النهار واتفق الفقهاء عليه ولم يجعلوا ما مضى من النهار عاريا من نية متقدمة مانعا من صحة صومه ولم يكن ذلك بمنزلة الأكل في أول النهار في منع صحة صوم التطوع فكذلك عدم نية الصوم في المستحق العين من الصيام لا يمنع ابتداء صومه ولا يكون عدم النية في أوله بمنزلة وجود الأكل فيه كما لم يكن ذلك حكمه في التطوع وأيضا فلو نوى الصوم من الليل ثم عزبت نيته لم يكن عزوب نيته مانعا من صحة صومه ولم يكن شرط بقائه استصحاب النية له فلذلك جاز ترك النية في أول النهار لبعض من الصوم على حسب قيام الدلالة عليه ولا يمنع ذلك صحة صومه ولو ترك الأكل في أول النهار ثم أكل في آخره كان ذلك مبطلا لصومه ولم يكن وجود الأكل بمنزلة عزوب النية فاستوى حكم الأكل في الابتداء والبقاء واختلف ذلك في حكم النية فلذلك اختلفا ولم يمتنع أن يكون غير ناو للصوم في أوله ثم ينويه في بعض النهار فيكون ما مضى من اليوم محكوما له بحكم الصوم كما يحكم

٢٤٧

له بحكم الصوم مع عزوب النية* فإن قيل لما لم يصح له الدخول في الصلاة إلا بنية* مقارنة لها كان كذلك حكم الصوم* قيل له هذا غلط لأنه لا خلاف بين المسلمين في جواز صوم من نواه من الليل ثم نام فأصبح نائما وإن صومه تام صحيح من غير مقارنة نية الصوم بحال الدخول ولو نوى الصلاة ثم اشتغل عنها ثم تحرم بالصلاة لم تصح إلا بنية يحدثها عند إرادته الدخول فلما لم يكن شرط الدخول في الصوم مقارنة النية له عند الجميع وكان شرط الدخول في الصلاة مقارنة النية لم يجز أن يحكم له بحكم الصلاة إلا بعد وجود نية الدخول في ابتدائها ولم يجز اعتبار الصوم بالصلاة في حكم النية وأيضا قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يبتدئ صوم التطوع في بعض النهار واتفق الفقهاء على تلقى هذا الخبر بالقبول واستعمالهم له واتفقوا أيضا أنه لا يصح له الدخول في صلاة التطوع إلا بنية تقارنها فعلمنا أن نية الصوم غير معتبرة بنية الصلاة من الوجه الذي ذكرت وأما ما كان من الصوم الواجب في الذمة غير مفروض في وقت معين فإنه لا يجوز ترك النية فيه من الليل والأصل فيه حديث حفصة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (لا صيام لمن يعزم عليه من الليل) وكان عموم ذلك يقتضى إيجاب النية من الليل لسائر ضروب الصوم إلا أنه لما قامت الدلالة في الصوم المستحق العين وصوم التطوع سلمناه للدلالة وخصصناه من الجملة وبقي حكم اللفظ فيما عداه ولا يختلف على ذلك صوم شهرين متتابعين وقضاء رمضان لأن صوم الشهرين المتتابعين غير مستحق العين وأى وقت ابتدأ فيه فهو وقت فرضه فكان كسائر الصوم الواجب في الذمة* والأحكام المستفادة من قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) إلزام صوم الشهر من كان منهم شاهدا له وشهود الشهر ينقسم إلى أنحاء ثلاثة العلم به من قولهم شاهدت كذا وكذا والإقامة في الحضر من قولك مقيم ومسافر وشاهد وغائب وأن يكون من أهل التكليف على ما بينا ثم أفاد من نسخ فرض أيام معدودات على قول من قال أن صوم الأيام المعدودات كان فرضا غير رمضان ثم نسخ به ونسخ به أيضا التخيير بين الفدية والصوم للصحيح المقيم وأفاد أن من رأى الهلال وحده فعليه صومه وحكم آخر وهو أن من علم بالشهر بعد ما أصبح أو كان مريضا فبرأ ولم يأكل ولم يشرب أو مسافر قدم فعليهم صومه إذ هم شاهدون للشهر وأفاد أن فرض الصيام مخصوص بمن شهد الشهر دون غيره وأن من ليس من أهل التكليف أو ليس بمقيم

٢٤٨

أو لم يعلم به فغير لازم له وأفاد تعيين الشهر لهذا الفرض حتى لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه لمن شهده وأفاد أن مراده بعض الشهر لا جميعه في شرط لزوم الصوم وإن الكافر إذا أسلم في بعضه والصبى إذا بلغ فعليهما صوم بقية الشهر وأفاد أن من نوى بصيامه تطوعا أجزأه لورود الأمر مطلقا بفعل الصوم غير مخصوص بصفة ولا مقيد بشرط فاقتصر جوازه على أى وجه صامه ويحتج به من يقول أنه إذا صام وهو غير عالم بالشهر لم يجزه ويحتج به أيضا من يقول إذا طرئ عليه شهر رمضان وهو مقيم ثم سافر لم يفطر لقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فهذا الذي حضرنا من ذكر فوائد قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) ولا ندفع أن يكون فيه عدة فوائد غيرها لم يحط علمنا بها وعسى أن نقف عليها في وقت غيره أو يستنبطها غيرنا وأما ما تضمنه قوله( فَلْيَصُمْهُ ) فهو ما قدمنا ذكره من الأمور التي أمرنا بالإمساك عنها في حال الصوم منها متفق عليه ومنها مختلف فيه وما قدمناه من ذكر شرائطه وإن لم يكن صوما في نفسه وقد تقدم بيان حكم المريض والمسافر بعون الله وكرمه.

باب كيفية شهود الشهر

قال الله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقال تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان ابن داود قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (الشهر تسع وعشرون ولا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأقدروا له) قال وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسع وعشرين نظر له فإن رأى فذلك وإن لم يرو لم يحل دون منظره سحاب أو قتره أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما قال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب* قال أبو بكر قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته) موافق لقوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) واتفق المسلمون على معنى الآية والخبر في اعتبار رؤية الهلال في إيجاب صوم رمضان فدل ذلك على أن رؤية الهلال هي شهود الشهر* وقد دل قوله( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ) على أن الليلة التي يرى فيها الهلال من الشهر المستقبل دون الماضي وقد اختلف في معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فإن غم عليكم فأقدروا له) فقال قائلون أراد به اعتبار منازل

٢٤٩

القمر فإن كان في موضع القمر لو لم يحل دونه سحاب وقترة ورؤي يحكم له بحكم الرؤية في الصوم والإفطار وإن كان على غير ذلك لم يحكم له بحكم الرؤية وقال آخرون فعدوا شعبان ثلاثين يوما أما التأويل الأول فساقط الاعتبار لا محالة لإيجابه الرجوع إلى قول المنجمين ومن تعاطى معرفة منازل القمر ومواضعه وهو خلاف قول الله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ ) فعلق الحكم فيه برؤية الأهلة ولما كانت هذه عبادة تلزم الكافة لم يجز أن يكون الحكم فيه متعلقا بما لا يعرفه إلا خواص من الناس ممن عسى لا يسكن إلى قولهم والتأويل الثاني هو الصحيح وهو قول عامة الفقهاء وابن عمر راوي الخبر وقد ذكر عنه في الحديث أنه لم يكن يأخذ بهذا الحساب وقد بين في حديث آخر معنى قوله فأقدروا له بنص لا تأويل فيه وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر عنده شهر رمضان فقال (لا تصوموا حتى تروا الهلال فإن غم عليكم فأقدروا ثلاثين) فأوضح هذا الخبر معنى قوله فأقدروا بما سقط به تأويل المتأولين ويدل على بطلان تأويلهم أيضا ما رواه حماد بن سلمة عن سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبين منظره سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين) فأمرصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ثلاثين مع جواز الرؤية لو لم يحل بيننا وبينه سحاب أو قترة ولم يوجب الرجوع إلى قول من يقول لو لم يحل بيننا وبينه حائل من سحاب أو غيره لرأيناه وقد روى في ذلك أيضا ما هو أوضح من هذا وهو ما حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال صوموا رمضان لرؤيته فإن حال بينكم غمامة أو ضبابة فأكملوا عدة شهر شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان فأوجب عد شعبان ثلاثين عند حدوث الحائل بيننا وبين رؤيته من سحاب أو نحوه فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة* وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونص السنة وإجماع الفقهاء بخلافه وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) هو أصل في اعتبار الشهر ثلاثين

٢٥٠

ثلاثين إلا أن يرى قبل ذلك الهلال فإن كل شهر غم علينا هلاله فعلينا أن نعده ثلاثين هذا في سائر الشهور التي يتعلق بها الأحكام وإنما يصير إلى أقل من ثلاثين برؤية الهلال ولذلك قال أصحابنا من أجر داره عشرة أشهر وهو في بعض الشهر أنه يكون تسعة أشهر بالأهلة وشهر ثلاثين يوما يكمل الشهر الأول من آخر شهر بمقدار نقصانه لأن الشهر الأول ابتداؤه بغير هلال فاستوفى له ثلاثين يوما وسائر الشهور بالأهلة فلم يعتبر غيرها وقالوا لو أجره في أول الشهر لكانت كلها بالأهلة* وقد اختلف في الشهادة على رؤية الهلال فقال أصحابنا جميعا تقبل في رؤية هلال رمضان شهادة رجل عدل إذا كان في السماء علة وإن لم تكن في السماء علة لم يقبل إلا شهادة الجماعة الكثيرة التي يوجب خبرها العلم وقد حكى عن أبى يوسف أنه حد في ذلك خمسين رجلا وكذلك هلال شوال وذي الحجة إذا لم يكن بالسماء علة فإن كان بالسماء علة لم يقبل فيها إلا شاهد عدلين يقبل مثلهما في الحقوق وقال مالك والثوري والأوزاعى والليث والحسن بن حي وعبيد الله لا يقبل في هلال رمضان وشوال إلا شهادة عدلين وقال المزني عن الشافعى إن شهد على رؤية هلال رمضان عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه والاحتياط والقياس في ذلك أن لا يقبل إلا شاهدان ولا أقبل على رؤية هلال الفطر إلا عدلين* قال أبو بكر إنما اعتبر أصحابنا إذا لم يكن بالسماء علة شهادة الجمع الكثير الذين يقع العلم بخبرهم لأن ذلك فرض قد عمت الحاجة إليه والناس مأمورون بطلب الهلال فغير جائز أن يطلبه الجمع الكثير ولا علة بالسماء مع توافي هممهم وحرصهم على رؤيته ثم يراه النفر اليسير منهم ولا يراه الباقون مع صحة أبصارهم وارتفاع الموانع عنهم فإذا أخبر بذلك النفر اليسير منهم دون كافتهم علمنا أنهم غالطون غير مصيبين فإما أن يكونوا رأوا خيالا فظنوه هلالا أو تعمدوا الكذب إذ جواز ذلك عليهم غير ممتنع وهذا أصل صحيح تقتضي العقول بصحته وعليه مبنى أمر الشريعة والخطأ فيه يعظم ضرره ويتوصل به الملحدون إلى إدخال الشبهة على الأغمار والحشو وعلى من لم يتيقن ما ذكرنا من الأصل* ولذلك قال أصحابنا ما كان من أحكام الشريعة بالناس حاجة إلى معرفته فسبيل ثبوته الاستفاضة والخبر الموجب للعلم وغير جائز إثبات مثله بأخبار الآحاد نحو إيجاب الوضوء من مس الذكر ومس المرأة والوضوء مما مست النار والوضوء مع عدم تسمية الله عليه فقالوا لما كانت البلوى

٢٥١

عامة من كافة الناس بهذه الأمور ونظائرها فغير جائز أن يكون فيه حكم الله تعالى من طريق التوقيف إلا وقد بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ووقف الكافة عليه وإذا عرفته الكافة فغير جائز عليها ترك النقل والاقتصار على ما ينقله الواحد منهم بعد الواحد لأنهم مأمورون بنقله وهم الحجة على ذلك المنقول إليهم وغير جائز لها تضييع موضع الحجة فعلمنا بذلك أنه لم يكن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف في هذه الأمور ونظائرها وجائز أن يكون كان منه قول يحتمل المعاني فحمله الناقلون الأفراد على الوجه الذي ظنوه دون الوجه الآخر نحو الوضوء من مس الذكر يحتمل غسل اليد على نحو قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الإناء فإنه لا يدرى أين باتت يده) وقد بينا أصل ذلك في أصول الفقه وبتضييع هذا الأصل دخلت الشبهة على قوم في انتحالهم القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على رجل بعينه واستخلفه على الأمة وإن الأمة كتمت ذلك وأخفته فضلوا وأضلوا وردوا معظم شرائع الإسلام وادعوا فيه أشياء ليست لها حقيقة ولا ثبات لا من جهة نقل الجماعات ولا من جهة نقل الآحاد وطرقوا للملحدين أن يدعوا في الشريعة ما ليس منها وسهلوا للإسماعيلية والزنادقة السبيل إلى استدعاء الضعفة والأغمار إلى أمر مكتوم زعموا حين أجابوهم إلى تجويز كتمان الإمامة مع عظمها في النفوس وموقعها من القلوب فحين سمحت نفوسهم بالإجابة إلى ذلك وضعوا لهم شرائع زعموا أنها من المكتوم وتأولوها تأويلات زعموا أن ذلك تأويل الإمام فسلخوهم من الإسلام وأدخلوهم في مذهب الخزمية في حال والصابئين في أخرى على حسب ما صادفوا من قبول المستجيبين لهم وسماحة أنفسهم بالتسليم لهم ما ادعوه وقد علمنا أن مجوز كتمان ذلك لا يمكنه إثبات نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تصحيح معجزاته وكذلك سائر الأنبياء لأن مثلهم مع كثرة عددهم واختلاف هممهم وتباعد أوطانهم إذا جاز عليهم كتمان أمر الإمامة فجائز عليهم أيضا التواطؤ على الكذب إذ كان ما يجوز فيه التواطؤ على الكتمان فجائز فيه التواطؤ على وضع خبر لا أصل له فيوجب ذلك أن لا نأمن أن يكون المخبرون بمعجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا متواطئين على ذلك كاذبين فيه كما تواطؤ على كتمان النص على الإمام ومن جهة أخرى أن الناقلين لمعجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الذين زعمت هذه الفرقة الضالة أنها كفرت وارتدت بعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتمانها أمر الإمام وأن الذين لم يرتدوا منهم كانوا خمسة أو ستة

٢٥٢

وخبر هذا القدر من العدد لا يوجب العلم ولا تثبت به معجزة وخبر الجم الغفير والجمهور الكثير منهم غير مقبول عندهم لجواز اجتماعهم عندهم على الكذب فصار صحة النقل مقصورة على العدد اليسير فلزمهم دفع معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطال نبوته* فإن قيل أمر الأذان والإقامة ورفع اليدين في تكبير الركوع وتكبيرات العيدين وأيام التشريق مما عمت البلوى به وقد اختلفوا فيه فكل من يروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه شيئا فإنما يرويه من طريق الآحاد فلا يخلو حينئذ ذلك من أحد وجهين إما أن يكون لم يكن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف للكافة مع عموم الحاجة إليه وفي هذا ما يبطل أصلك الذي بنيت عليه من أن كل ما بالناس إليه حاجة عامة فلا بد أن يكون من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف الأمة عليه أو أن يكون قد كان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف للكافة على شيء بعينه فلم تنقله حين ورد إلينا من طريق الآحاد وفي ذلك هدم قاعدتك أيضا في اعتبار نقل الكافة فيما عمت به البلوى* قيل له هذا سؤال من لم يضبط الأصل الذي بنينا عليه الكلام في المسألة وذلك أنا قلنا ذلك فيما يلزم الكافة ويكونون متعبدين فيه بفرض لا يجوز لهم تركه ولا مخالفته وذلك مثل الإمامة والفروض التي تلزم العامة وأما ما ليس بفرض فهم مخيرون في أن يفعلوا ما شاءوا منه وإنما الخلاف بين الفقهاء فيه في الأفضل منه وليس على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيفهم على الأفضل مما خيرهم فيه وهذا سبيل ما ذكرت من أمر الأذان والإقامة وتكبير العيدين والتشريق ونحوها من الأمور التي نحن مخيرون فيها وإنما الخلاف بين الفقهاء في الأفضل منها فلذلك جاز ورود بعض الأخبار فيه من طريق الآحاد ويحمل الأمر على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان منه جميع ذلك تعليما منه على وجه التخيير وليس ذلك مثل ما قد وقفوا عليه وحظر عليهم مجاوزته وتركه إلى غيره مع بلواهم به فالذي ذكرناه من الخبر عن رؤية الهلال إذا لم تكن بالسماء علة من الأصل الذي قدمنا أن ما عمت به البلوى فسبيل وروده أخبار التواتر الموجبة للعلم وأما إذا كان بالسماء علة فإن مثله يجوز خفاؤه على الجماعة حتى لا يراه منهم إلا الواحد والاثنان من خلل السحاب إذا انجاب عنه لم يستره قبل أن يتبينه الآخرون فلذلك قبل فيه خبر الواحد والاثنين ولم يشترط فيه ما يوجب العلم* وإنما قبل أصحابنا خبر الواحد في هلال رمضان لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن

٢٥٣

عكرمة عن ابن عباس أنهم شكوا في هلال رمضان مرة فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا فجاء أعرابى من الحرة فشهد أنه رأى الهلال فأتى به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (أتشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قال نعم وشهد أنه رأى الهلال فأمر بلالا أن ينادى في الناس فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا) قال أبو داود وأن يقوموا كلمة لم يقلها إلا حماد بن سلمة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمود بن خالد وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي وأنا بحديثه اتقن قالا حدثنا مروان بن محمد عن عبد الله ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبى بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى رأيته فصام وأمر الناس بصيامه وأيضا فإن صوم رمضان فرض يلزم من طريق الدين فإذا تعذر وجود الاستفاضة فيه وجب قبول أخبار الآحاد كأخبار الآحاد المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحكام الشرع الذي ليس من شرطه الاستفاضة ولذلك قبلوا خبر المرأة والعبد والمحدود في القذف إذا كان عدلا كما يقبل في الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما عاضد القياس من الآثار المروية فيه وأما هلال شوال وذي الحجة فإنهم لم يقبلوا فيه إلا شهادة رجلين عدلين ممن تقبل شهادتهم في الأحكام لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز قال أخبرنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد عن أبى مالك الأشجعى قال حدثنا حسين بن الحرث الجدلي من جديلة قيس أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننسك لرؤية الهلال فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما فسألت الحسين بن الحرث من أمير مكة فقال لا أدرى ثم لقيني بعد ذلك فقال هو الحرث بن حاطب أخو محمد بن حاطب ثم قال الأمير إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله منى وشهد هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأومأ بيده إلى رجل قال الحسين فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير قال عبد الله بن عمر وصدق كان أعلم بالله منه فقال بذلك أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله أمرنا أن ننسك لرؤية الهلال إنما هو على صلاة العيد والذبح يوم النحر لوقوع اسم النسك عليهما دون صوم رمضان لأن الصوم لا يتناوله هذا الاسم مطلقا وقد يتناول الصلاة والذبح ألا ترى إلى قوله تعالى( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فجعل النسك غير الصيام والدليل على أن النسك يقع على صلاة العيد حديث البراء بن عازب أن

٢٥٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم النحر(إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح) فسمى الصلاة نسكا وقد سمى الله الذبح نسكا في قوله( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ ) وفي قوله( أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فثبت بذلك أن قوله عهد إلينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننسك بشهادة شاهدي عدل قد انتظم صلاة العيد للفطر والذبح يوم النحر فوجب أن لا يقبل فيه أقل من شاهدين ومن جهة أخرى أن الاستظهار بفعل الفرض أولى من الاستظهار بتركه فاستظهروا للفطر بشهادة رجلين لأن الإمساك فيما لا صوم فيه خير من الأكل في يوم الصوم* فإن قيل في هذا ترك الاستظهار لأنه جائز أن يكون يوم الفطر وقد شهد به شاهد فإذا لم تقبل شهادته واعتبرت الاستظهار برجلين فلست تأمن أن تكون صائما يوم الفطر وفيه مواقعة المحظور وضد الاحتياط* قيل له إنما حظر علينا الصوم فيه إذا علمنا أنه يوم الفطر فأما إذا لم يثبت عندنا أنه يوم الفطر فالصيام فيه غير محظور فإذا لم يثبت يوم الفطر ووقفنا بين فعل الصوم وتركه كان فعله أحوط من تركه لما بينا حتى يثبت أنه يوم الفطر بشهادة من يقطع الحقوق بشهادته* وقوله عز وجل( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) يدل على النهى عن صيام يوم الشك من رمضان لأن الشاك غير شاهد للشهر إذ هو غير عالم به فغير جائز له أن يصومه عن رمضان ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين) فحكم لليوم الذي غم علينا هلاله بأنه من شعبان وغير جائز أن يصام شعبان عن رمضان مستقبل ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الفضل بن مخلد المؤدب قال حدثنا محمد بن ناصح قال حدثنا بقية عن على القرشي قال أخبرنى محمد بن عجلان عن صالح مولى التوأمة عن أبى هريرة قال نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم يوم الدأدأة وهو اليوم الذي يشك فيه لا يدرى من شعبان هو أم من رمضان حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبى إسحاق عن صلة قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسمصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا على بن محمد قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ولا تقدموا بين يديه بصيام يوم

٢٥٥

ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ومعاني هذه الآثار موافقة لدلالة قوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ولا يرى أصحابنا بأسا بأن يصومه تطوعا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حكم بأنه من شعبان فقد أباح صومه تطوعا وقد اختلف في الهلال يرى نهارا فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعى إذا رأى الهلال نهارا فهو لليلة المستقبلة ولا فرق عندهم بين رؤيته قبل الزوال وبعده وروى مثله عن على بن أبى طالب وابن عمر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأنس بن مالك وأبى وائل وسعيد ابن المسيب وعطاء وجابر بن زيد وروى عن عمر بن الخطاب فيه روايتان إحداهما أنه إذا رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإذا رآه بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة وبه أخذ أبو يوسف والثوري وروى سفيان الثوري عن الركين بن الربيع عن أبيه قال كنت مع سليمان بن ربيعة ببلنجر فرأيت الهلال ضحى فأخبرته فجاء فقام تحت شجرة فنظر إليه فلما رآه أمر الناس أن يفطروا* قال أبو بكر قال الله تعالى( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وقد كان هذا الرجل مخاطبا بفعل الصوم في آخر رمضان مرادا بقوله تعالى( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فواجب أن يكون داخلا في خطاب قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) لأن الله تعالى لم يخص حالا من حال فهو على سائر الأحوال سواء رأى الهلال بعد ذلك أو لم يره ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن رؤيته بعد الزوال لم يزل عنه الخطاب بإتمام الصوم بل كان داخلا في حكم اللفظ فكذلك رؤيته قبل الزوال لدخوله في عموم اللفظ ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ومعلوم أن مراده صوم يستقبله بعد الرؤية والدلالة على ذلك من وجهين أحدهما استحالة الأمر بصوم يوم ماض والآخر اتفاق المسلمين على أنه إذا رأى الهلال في أخر ليلة من شعبان كان عليه صيام ما يستقبل من الأيام فثبت أن قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته إنما هو صوم بعد الرؤية فمن رأى الهلال نهارا قبل الزوال في أخر يوم من شعبان لزمه صوم ما يستقبل دون ما مضى لقصور مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على صوم يفعله بعد الرؤية وأيضا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) فأوجب بذلك اعتبار الثلاثين لكل شهر يخفى علينا رؤية الهلال فيه فلو احتمل

٢٥٦

الهلال الذي رأى نهارا الليلة الماضية واحتمل الليلة المستقبلة لكان الاحتمال لذلك جاعله في حكم ما خفى علينا رؤيته فواجب أن يعد الشهر ثلاثين يوما بقضية قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قيل لما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفطروا لرؤيته اقتضى ظاهر الأمر بالإفطار أى وقت رأى الهلال فيه فلما اتفق الجميع على أنه مزجور عن الإفطار لرؤيته بعد الزوال خصصناه منه وبقي حكم العموم في رؤيته قبل الزوال قيل له مرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيته ليلا بدلالة أن رؤيته بعد الزوال لا توجب له الإفطار لأنه رآه نهارا وكذلك حكمه قبل الزوال لوجود هذا المعنى وأيضا لو كان ذلك محمولا على حقيقته لاقتضى أن يكون ما بعد الرؤية من ذلك اليوم من شوال وما قبله من رمضان لحصول اليقين بأن مراده الإفطار لرؤية متقدمة لا لرؤية متأخرة عنه لاستحالة أمره بالإفطار في وقت قد تقدم الرؤية فيوجب ذلك أن يكون ما بعد الرؤية من هذا اليوم من شوال وما قبلها من رمضان فيكون الشهر تسعة وعشرين يوما وبعض يوم* وقد حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للشهر بأحد عددين من ثلاثين أو تسعة وعشرين لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الشهر تسعة وعشرون وقوله الشهر ثلاثون واتفقت الأمة على وجوب اعتقاد معنى هذا الخبر في أن الشهر لا ينفك من أن يكون على أحد العددين اللذين ذكرنا وأن الشهور التي تتعلق بها الأحكام لا تكون إلا على أحد وجهين دون أن يكون تسعا وعشرين وبعض يوم وإنما النقصان والزيادة بالكسور إنما يكون في غير الشهور الإسلامية نحو شهور الروم التي منها ما هو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم وهو شباط إلا في السنة الكبيسة فإنه يكون تسعة وعشرين يوما ومنها ما هو واحد وثلاثون ومنها ما هو ثلاثون وليس ذلك في الشهور الإسلامية كذلك فلما امتنع أن يكون الشهر إلا ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما علمنا أنه لم يرد بقوله صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته إلا أن يرى ليلا وأنه لا اعتبار برؤيته نهارا لإيجابه كون بعض يوم من هذا الشهر وبعضه من شهر غيره وأيضا فإن الذي قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته هو الذي قال فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ورؤيته نهارا في معنى ما قد غمي علينا لاشتباه الأمر في كونه لليلة الماضية أو المستقبلة وذلك يوجب عده ثلاثين وأيضا قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين رواه ابن عباس وقد تقدم ذكر سنده فحكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للهلال الذي قد حال بيننا وبينه حائل

٢٥٧

من سحاب بحكم ما لم ير لو لم يكن سحاب مع العلم بأنه لو لم يكن بيننا وبينه حائل من سحاب لرؤى لو لا ذلك لم يكن لقوله فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين معنى لأنه لو كان يستحيل وقوع العلم لنا بأن بيننا وبينه حائلا من سحاب لما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن حال بينكم وبينه سحاب فعدوا ثلاثين فيجعل ذلك شرطا لعد ثلاثين مع علمه باليأس من وقوع علمنا بذلك وإذا كان ذلك كذلك فقد اقتضى هذا القول من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا متى علمنا أن بيننا وبين الهلال حائلا من سحاب لو لم يكن لرأيناه أن نحكم لهذا اليوم بغير حكم الرؤية فاعتبار عدم الرؤية من الليل فيما رأيناه نهارا أولى فأوجب ذلك أن يكون حكم هذا اليوم حكم ما قبله ويكون من الشهر الماضي دون المستقبل لعدم الرؤية من الليل بل هو أضعف أمرا مما حال بيننا وبين رؤيته سحاب لأن ذلك قد يحيط العلم به وهذا لا يحيط علمنا بأنه من الليلة الماضية بل أحاط العلم بأنا لم نره الليلة الماضية مع عدم الحائل بيننا وبينه من سحاب أو غيره والله الموفق للصواب.

باب قضاء رمضان

قال الله تعالى( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) قال الشيخ أبو بكر قد دل ما تلونا من الآية على جواز قضاء رمضان متفرقا من ثلاثة أوجه أحدها أن قوله( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) قد أوجب القضاء في أيام منكورة غير معينة وذلك يقتضى جواز قضائه متفرقا إن شاء أو متتابعا ومن شرط فيه التتابع فقد خالف ظاهر الآية من وجهين أحدهما إيجاب صفة زائدة غير مذكورة في اللفظ وغير جائز الزيادة في النص إلا بنص مثله ألا ترى أنه لما أطلق الصوم في ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لم يلزمه التتابع إذ هو غير مذكور فيه والآخر تخصيصه القضاء في أيام غير معينة وغير جائز تخصيص العموم إلا بدلالة والوجه الثاني قوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) فكل ما كان أيسر عليه فقد اقتضى الظاهر جواز فعله وفي إيجاب التتابع نفى اليسر وإثبات العسر وذلك منتف بظاهر الآية والوجه الثالث قوله تعالى( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) يعنى والله أعلم قضاء عدد الأيام التي أفطر فيها وكذلك روى عن الضحاك وعبد الله بن زيد بن أسلم فأخبر الله أن الذي يريده منا إكمال عدد ما أفطر فغير سائغ لأحد أن يشترط فيه غير هذا المعنى لما فيه من

٢٥٨

الزيادة في حكم الآية وقد بينا بطلان ذلك في مواضع* وقد اختلف السلف في ذلك فروى عن ابن عباس ومعاذ بن جبل وأبى عبيدة بن الجراح وأنس بن مالك وأبى هريرة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء قالوا إن شئت قضيته متفرقا وإن شئت متتابعا وروى شريك عن أبى إسحاق عن الحرث عن على قال اقض رمضان متتابعا فإن فرقته أجزأك وروى الحجاج عن أبى إسحاق عن الحرث عن على في قضاء رمضان قال لا يفرق وجائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب وإنه إن فرق أجزأه كما رواه شريك وروى عن ابن عمر في قضاء رمضان صمه كما أفطرته وروى الأعمش عن إبراهيم قال كانوا يقولون قضاء رمضان متتابع وروى مالك عن حميد بن قيس المكي قال كنت أطوف مع مجاهد فسأله رجل عن صيام من أفطر في رمضان أيتابع قلت لا فضرب مجاهد في صدري وقال إنها في قراءة أبى متتابعات وقال عروة بن الزبير يتابع وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعى والشافعى إن شاء تابع وإن شاء فرق وقال مالك والثوري والحسن ابن صالح يقضيه متتابعا أحب إلينا وإن فرق أجزأه فحصل من إجماع فقهاء الأمصار جواز قضائه متفرقا وقد قدمنا ذكر دلالة الآية عليه* وقد روى حماد بن سلمة عن سماك ابن حرب عن هارون بن أم هانئ أو ابن بنت هانئ أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ناولها فضل شرابه فشربت ثم قلت يا رسول الله إنى كنت صائمة وإنى كرهت أن أرد سؤرك فقال إن كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضية وإن شئت فلا تقضيه فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقضاء يوم مكانه ولم يأمرها باستئناف الصوم إن كان ذلك منه فدل ذلك على معنيين أحدهما أن التتابع غير واجب والثاني أنه ليس بأفضل من التفريق لأنه لو كان أفضل منه لأرشدها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه وبينه لها ومما يدل على ذلك من طريق النظر أن صوم رمضان نفسه غير متتابع وإنما هو في أيام متجاورة وليس التتابع من شرط صحته بدلالة أنه لو أفطر منه يوما لم يلزمه استقبال الصوم وجاز ما صام منه غير متتابع فإذا لم يكن أصله متتابعا فقضاؤه أحرى بأن لا يكون متتابعا ولو كان صوم رمضان متتابعا لكان إذا أفطر منه يوما لزمه التتابع ألا ترى أنه إذا أفطر يوما من الشهرين المتتابعين لزمه استئنافهما* فإن قيل قد أطلق الله تعالى صيام كفارة اليمين غير معقود* بشرط التتابع وقد شرطتم ذاك فيه وزدتم في نص الكتاب* قيل له لأنه قد ثبت أنه

٢٥٩

كان في حرف عبد الله متتابعات وروى يزيد بن هارون قال أخبرنا ابن عون قال سألت إبراهيم عن الصيام في كفارة اليمين فقال كما في قراءتنا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية قال كان أبى يقرأها فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقد بينا ذلك مستقصى في أصول الفقه* فإن قيل لما قال الله( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وكان الأمر عندنا جميعا على الفور وجب أن يلزمه القضاء في أول أحوال الإمكان من غير تأخير وذلك يقتضى تعجيل قضائه يوما بعد يوم وفي وجوب ذلك إلزام التتابع* قيل له ليس كون الأمر على الفور من لزوم التتابع في شيء ألا ترى أن ذلك إنما يلزم على الفور على حسب الإمكان وأنه لو أمكنه صوم أول يوم فصامه ثم مرض فأفطر لم يلزمه من كون الأمر على الفور التتابع ولا استئناف اليوم الذي أفطر فيه فدل ذلك على أن لزوم التتابع غير متعلق بكون الأمر بالقضاء على الفور دون المهلة وأن التتابع له صفة أخرى غيره والله أعلم.

باب في جواز تأخير قضاء رمضان

قال الله تعالى( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فأوجب العدة في أيام غير معينة في الآية فقال أصحابنا جائز له أن يصوم أى وقت شاء ولا يحفظ عنهم رواية في جواز تأخيره إلى انقضاء السنة والذي عندي أنه لا يجوز تأخيره إلى أن يدخل رمضان آخر وهو عندي على مذهبهم وذلك لأن الأمر عندهم إذا كان غير موقت فهو على الفور وقد بينا ذلك في أصول الفقه وإذا كان كذلك فلو لم يكن قضاء رمضان موقتا بالسنة لما جاز له التأخير عن ثانى يوم الفطر إذ غير جائز أن يلحقه التفريط بالتأخير من غير علم منه بآخر وقت وجوب الفرض الذي لا يجوز له تأخيره عنه كما لا يجوز ورود العبادة بفرض مجهول عند المأمور ثم يلحقه التعنيف واللوم بتركه قبل البيان لا فرق بينهما وإذا كان كذلك وقد علمنا أن مذهبهم جواز تأخير قضاء رمضان عن أول أوقات إمكان قضائه ثبت أن تأخيره موقت بمضى السنة فكان ذلك بمنزلة وقت الظهر لما كان أوله وآخره معلومين جاز ورود العبادة بفعلها من أوله إلى آخره وجاز تأخيرها إلى الوقت الذي يخاف فوتها بتركها لأن آخر وقتها الذي يكون مفرطا بتأخيرها معلوم وقد روى جواز تأخيره في السنة عن جماعة من السلف وروى يحيى بن سعيد عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال

٢٦٠