أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 83933
تحميل: 4504


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83933 / تحميل: 4504
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

أبى هريرة ورفاعة بن رافع في تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعرابى الصلاة حين لم يحسنها فقال له ثم اقرأ ما تيسر من القرآن وأمره بذلك عندنا إنما صدر عن القرآن لأنا متى وجدنا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرا يواطئ حكما مذكورا في القرآن وجب أن يحكم بأنه إنما حكم بذلك عن القرآن كقطعه السارق وجلده الزاني ونحوها ثم لم يخصص نفلا من فرض فثبت أن مراد الآية عام في الجميع فهذا الخبر يدل على جوازها بغير فاتحة الكتاب من وجهين أحدهما دلالته على أن مراد الآية عام في جميع الصلوات والثاني إنه مستقل بنفسه في جوازها بغيرها وعلى أن نزول الآية في شأن صلاة الليل لو لم يعاضده الخبر لم يمنع لزوم حكمها في غيرها من الفرائض والنوافل من وجهين أحدهما إنه إذا ثبت ذلك في صلاة الليل فسائر الصلوات مثلها بدلالة أن الفرض والنفل لا يختلفان في حكم القراءة وإن ما جاز في النفل جاز في الفرض مثله كما لا يختلفان في الركوع والسجود وسائر أركان الصلاة* فإن قال قائل هما مختلفان عندك لأن القراءة في الأخريين غير واجبة* عندك في الفرض وهي واجبة في النفل إذا صلاها* قيل له هذا يدل على أن النفل آكد في حكم القراءة من الفرض إذا جاز النفل مع ترك فاتحة الكتاب فالفرض أحرى أن يجوز والوجه الآخر أن أحدا لم يفرق بينهما ومن أوجب فرض قراءة فاتحة الكتاب في أحدهما أوجبها في الآخر ومن أسقط فرضها في أحدهما أسقطه في الآخر فلما ثبت عندنا بظاهر الآية جواز النفل بغيرها وجب أن يكون كذلك حكم الفرض* فإن قال قائل فما* الدلالة على جواز تركها بالآية* قيل له لأن قوله( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) يقتضى التخيير وهو بمنزلة قوله اقرأ ما شئت ألا ترى أن من قال لرجل بع عبدى هذا بما تيسر أنه مخير له في بيعه له بما رأى وإذا ثبت أن الآية تقتضي التخيير لم يجز لنا إسقاطه والاقتصار على شيء معين وهو فاتحة الكتاب لأن فيه نسخ ما اقتضته الآية من التخيير فإن قال قائل هو بمنزلة قوله( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ووجوب الاقتصار به على الإبل والبقر والغنم مع وقوع الإسم على غيرها من سائر ما يهدى ويتصدق به فلم يكن فيه نسخ الآية* قيل له إن خياره باق في ذبحه أيها شاء من الأصناف الثلاثة فلم يكن فيه رفع حكمها من التخيير ولا نسخه وإنما فيه التخصيص ونظير ذلك ما لو ورد أثر في قراءة آية دون ما هو أقل منها لم يلزم منه نسخ الآية لأن خياره باق في أن يقرأ أيما شاء من آي

٢١

القرآن* قال قائل قوله( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) يستعمل فيما عدا فاتحة الكتاب* فلا يكون فيه نسخ لها* قيل له لا يجوز ذلك من وجوه أحدها أنه جعل الأمر بالقراءة عبارة عن الصلاة فيها فلا يجوز أن تكون عبادة إلا وهي من أركانها التي لا تصح إلا بها الثاني أن ظاهره يقتضى التخيير في جميع ما يقرأ في الصلاة فلا يجوز تخصيصه في بعض ما يقرأ فيها دون غيرها الثالث أن قوله( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ) أمر وحقيقته ومقتضاه الواجب فلا يجوز صرفه إلى الندب من القراءة دون الواجب منها ومما يدل على ما ذكرنا من جهة الأثر ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا حماد عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن على بن يحيى ابن خلاد عن عمر أن رجلا دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي عليه السلام فرد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان يصلى ثم جاء إلى النبي عليه السلام فسلم فرد عليه ثم قال له ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال عليه السلام إنه لا تتم صلاة واحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله تعالى ويثنى عليه ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن مفاصله وذكر الحديث وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله قال حدثني سعيد بن أبى سعيد عن أبيه عن أبى هريرة أن رجلا دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم وذكر نحوه ثم قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع وذكر الحديث* قال أبو بكر قال في الحديث الأول ثم اقرأ ما شئت وفي الثاني ما تيسر فخيره في القراءة بما شاء ولو كانت قراءة فاتحة الكتاب فرضا لعلمه إياها مع علمه بجهل الرجل بأحكام الصلاة إذ غير جائز الاقتصار في تعليم الجاهل على بعض فروض الصلاة دون بعض فثبت بذلك أن قراءتها ليست بفرض وحدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا أحمد بن على الجزار قال حدثنا عامر ابن سيار قال حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان حدثنا سفيان عن أبى نضرة عن أبى سعيد قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا صلاة إلا بقراءة يقرأ فيها فاتحة الكتاب أو غيرها من القرآن) وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا وهب بن بقية عن خلد عن محمد بن عمرو عن على بن يحيى بن خلاد عن رفاعة بن رافع بهذه القصة

٢٢

قال فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ وذكر تمام الحديث فذكر فيه قراءة أم القرآن وغيرها وهذا غير مخالف للأخبار الأخر لأنه محمول على أنه يقرأ بها إن تيسر إذ غير جائز حمله على تعيين الفرض فيها لما فيه من نسخ التخيير المذكور في غيره ومعلوم أن أحد الخبرين غير منسوخ بالآخر إذ كانا في قصة واحدة فإن قال قائل لما ذكر في أحد الخبرين التخيير فيما يقرأ وذكر في الآخر الأمر بقراءة فاتحة الكتاب من غير تخيير وأثبت التخيير فيما عداها بقوله وبما شاء الله أن تقرأ بعد فاتحة الكتاب ثبت بذلك أن التخيير المذكور في الأخبار الأخر إنما هو فيما عدا فاتحة الكتاب وإن ترك ذكر فاتحة الكتاب إنما هو إغفال من بعض الرواة ولأن في خبرنا زيادة وهو الأمر بقراءة فاتحة الكتاب بلا تخيير* قيل له غير جائز حمل الخبر الذي فيه التخيير مطلقا على الخبر المذكور فيه فاتحة الكتاب على ما ادعيت لإمكان استعمالهما من غير تخصيص بل الواجب أن نقول التخيير المذكور في الخبر المطلق حكمه ثابت في الخبر المقيد بذكر فاتحة الكتاب فيكون التخيير عاما في فاتحة الكتاب وغيرها كأنه قال اقرأ بأم القرآن إن شئت وبما سواها فيكون في ذلك استعمال زيادة التخيير في فاتحة الكتاب دون تخصيصه في بعض القراءة دون بعض ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن موسى قال حدثنا عيسى عن جعفر بن ميمون البصري قال حدثنا أبو عثمان النهدي عن أبى هريرة قال قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد) وقوله لا صلاة إلا بالقرآن يقتضى جوازها بما قرأ به من شيء وقوله ولو بفاتحة الكتاب فما زاد يدل أيضا على جوازها بغيرها لأنه لو كان فرض القراءة متعينا بها لما قال ولو بفاتحة الكتاب فما زاد ولقال بفاتحة الكتاب ومما يدل على ما ذكرنا حديث ابن عيينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أيما صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) ورواه مالك وابن جريج عن العلاء عن أبى السائب مولى هشام ابن زهرة عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلافهما في السند على هذا الوجه لا يوهنه لأنه قد روى أنه قد سمع من أبيه ومن أبى السائب جميعا فلما قال فهي

٢٣

خداج والخداج الناقصة دل ذلك على جوازها مع النقصان لأنها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان لأن إثباتها ناقصة ينفى بطلانها إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء ألا ترى أنه لا يقال للناقة إذا حالت فلم تحمل أنها قد أخدجت وإنما يقال أخدجت وخدجت إذا ألقت ولدها ناقص الخلقة أو وضعته لغير تمام في مدة الحمل فأما ما لم تحمل فلا توصف بالخداج فثبت بذلك جواز الصلاة بغير فاتحة الكتاب إذ النقصان غير ناف للأصل بل يقتضى ثبوت الأصل حتى يصح وصفها بالنقصان وقد روى أيضا عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة عن النبي عليه السلام قال (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) فأثبتها ناقصة وإثبات النقصان يوجب ثبوت الأصل على ما وصفنا وقد روى أيضا عن النبي عليه السلام (أن الرجل ليصلى الصلاة يكتب له نصفها خمسها عشرها) فلم يبطل جزء بنقصانها* فإن قال قائل قد روى هذا الحديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبى السائب مولى هشام بن زهرة عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من صلّى صلاة ولم يقرأ فيها شيئا من القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام) وهذا الحديث يعارض حديث مالك وابن عيينة في ذكرهما فاتحة الكتاب دون غيرها وإذا تعارضا سقطا فلم يثبت كونها ناقصة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب* قيل له لا يجوز أن يعارض مالك وابن عيينة بمحمد بن عجلان بل السهو والإغفال أجوز عليه منهما فلا يعترض على روايتهما به وعلى أنه ليس فيه تعارض إذ جائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قالهما جميعا قال مرة وذكر فاتحة الكتاب وذكر مرة أخرى القراءة مطلقة وأيضا فجائز أن يكون المراد بذكر الإطلاق ما قيد في خبر هذين* فإن قال قائل إذا جوزت أن يكون النبي عليه السلام قد قال الأمرين فحديث محمد بن عجلان يدل على جواز الصلاة بغير قراءة رأسا لإثباته إياها ناقصة مع عدم القراءة رأسا* قيل له نحن نقبل هذا السؤال ونقول كذلك يقتضى ظاهر الخبرين إلا أن الدلالة قامت على أن ترك القراءة يفسدها فحملناه على معنى الخبر الآخر* قال أبو بكر وقد رويت أخبار أخر في قراءة فاتحة الكتاب يحتج بها من يراها فرضا فمنها حديث العلاء بن عبد الرحمن عن عائشة وعن أبى السائب مولى هشام ابن زهرة عن أبى هريرة عن النبي عليه السلام قال (يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني

٢٤

وبين عبدى نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدنى عبدى) وذكر الحديث قالوا فلما عبر بالصلاة عن قراءة فاتحة الكتاب دل على أنها من فروضها كما أنه لما عبر عن الصلاة بالقرآن في قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) وأراد قراءة صلاة الفجر دل على أنها من فروضها وكما عبر عنها بالركوع فقال( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) دل على أنه من فروضها* قيل له لم تكن العبارة عنهما لما ذكرت موجبا لفرض القراءة والركوع فيها دون ما تناوله من لفظ الأمر المقتضى للإيجاب وليس في قوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدى أمر وإنما أكثر ما فيه الصلاة بقراءة فاتحة الكتاب وذلك غير مقتض للإيجاب لأن الصلاة تشتمل على النوافل والفروض وقد أفاد النبي عليه السلام بهذا الحديث نفى إيجابها لأنه قال في آخره فمن لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فأثبتها ناقصة مع عدم قراءتها ومعلوم أنه لم يرد نسخ أول كلامه بآخره فدل ذلك على أن قول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين وذكر فاتحة الكتاب لا يوجب أن يكون قراءتها فرضا فيها وهذا كما روى شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أنس ابن أبى أنس عن عبد الله بن نافع بن العميان عن عبد الله بن الحارث عن المطلب ابن أبى وداعة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (الصلاة مثنى مثنى وتشهد في كل ركعتين وتبأس وتمكن وتقنع لربك وتقول اللهم فمن لم يفعل فهي خداج) ولم يوجب ذلك أن يكون ما سماه صلاة من هذه الأفعال فرضا فيها ومما يحتاج به المخالفون أيضا حديث عبادة ابن الصامت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن بشار قال حدثنا جعفر عن أبى عثمان عن أبى هريرة قال أمرنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أنادى أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد* قال أبو بكر قوله عليه السلام (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) يحتمل لنفى الأصل ونفى الكمال وإن كان ظاهره عندنا على نفى الأصل حتى تقوم الدلالة على أن المراد نفى الكمال ومعلوم أنه غير جائز إرادة الأمرين جميعا لأنه متى أراد نفى الأصل لم يثبت منه شيء وإذا أراد نفى الكمال وإثبات النقصان فلا محالة بعضه ثابت وإرادتهما معا منتفية مستحيلة والدليل على أنه لم يرد نفى الأصل أن إثبات ذلك إسقاط التخيير في قوله تعالى( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) وذلك نسخ وغير جائز نسخ القرآن

٢٥

بأخبار الآحاد ويدل عليه أيضا ما رواه أبو حنيفة وأبو معاوية وابن فضيل وأبو سفيان عن أبى نضرة عن سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة)في الفريضة وغيرها إلا أن أبا حنيفة قال معها غيرها وقال معاوية لا صلاة ومعلوم أنه لم يرد نفى الأصل وإنما مراده نفى الكمال لاتفاق الجميع على أنها مجزية بقراءة فاتحة الكتاب وإن لم يقرأ معها غيرها فثبت أنه أراد نفى الكمال وإيجاب النقصان وغير جائز أن يريد به نفى الأصل ونفى الكمال لتضادهما واستحالة إرادتهما جميعا بلفظ واحد* فإن قال قائل هذا حديث غير حديث عبادة وأبى هريرة وجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مرة لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فأوجب بذلك قراءتها وجعلها فرضا فيها وقال مرة أخرى ما ذكره سعيد من قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها وأراد به نفى الكمال إذا لم يقرأ مع فاتحة الكتاب غيرها* قيل له ليس معك تاريخ الحديثين ولا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك في حالين ويحتاج إلى دلالة في إثبات كل واحد من الخبرين في الحالين ولمخالفك أن يقول لما لم يثبت أن النبي عليه السلام قال ذلك في وقتين وقد ثبت اللفظان جميعا جعلتهما حديثا واحدا ساق بعض الرواة لفظه على وجهه وأغفل بعضهم بعض ألفاظه وهو ذكر السورة فهما متساويان حينئذ ويثبت الخبر بزيادة في حالة واحدة ويكون لقول خصمك مزية على قولك وهو أن كل ما لم يعرف تاريخه فسبيله أن يحكم بوجودهما معا وإذا ثبت أنه قالهما في وقت واحد بزيادة السورة فمعلوم أنه مع ذكر السورة لم يرد نفى الأصل وإنما أراد إثبات النقص حملناه على ذلك ويكون ذلك كقوله عليه السلام (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ومن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ولا إيمان لمن لا أمانة له) وكقوله تعالى( إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) فنفاها بدأ وأثبتها ثانيا لأنه أراد نفى الكمال لا نفى الأصل أى لا أيمان لهم وافية فيفون بها* فإن قال قائل فهلا استعملت الأخبار على ظواهرها واستعملت التخيير المذكور في الآية فيما عدا فاتحة الكتاب* قيل له لو انفردت الأخبار عن الآية لما كان فيها ما يوجب فرض قراءة فاتحة الكتاب لما بينا من أن فيها ما لا يحتمل إلا إثبات الأصل مع تركها واحتمال سائر الأخبار الأخر لنفى الأصل ونفى الكمال وعلى أن هذه الأخبار لو كانت موجبة

٢٦

لتعيين فرض القراءة فيها لما جاز الاعتراض بها على الآية وصرفها عن الواجب إلى النفل فيما عدا فاتحة الكتاب لما ذكرناه في أول المسألة فارجع إليه فإنك تجده كافيا إن شاء الله تعالى.

فصل قال أبو بكر وقراءة فاتحة الكتاب مع ما ذكرنا من حكمها تقتضي أمر الله تعالى إيانا بفعل الحمد وتعليم لنا كيف نحمده وكيف الثناء عليه وكيف الدعاء له ودلالة على أن تقديم الحمد والثناء على الله تعالى على الدعاء أولى وأحرى بالإجابة لأن السورة مفتتحة بذكر الحمد ثم بالثناء على الله وهو قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) إلى( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ثم الاعتراف بالعبادة له وإفرادها له دون غيره بقوله( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ثم الاستعانة به في القيام بعبادته في سائر ما بنا الحاجة إليه من أمور الدنيا والدين وهو قوله( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ثم الدعاء بالتثبيت على الهداية التي هدانا لها من وجوب الحمد له واستحقاق الثناء والعبادة لأن قوله( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) هو دعاء للهداية والتثبيت عليها في المستقبل إذ غير جائز ذلك في الماضي وهو التوفيق عما ضل عنه الكفار من معرفة الله وحمده والثناء عليه فاستحقوا لذلك غضبه وعقابه والدليل على أن قوله تعالى( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) مع أنه تعليم لنا الحمد هو أمر لنا به قوله( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فاعلم أن الأمر بقول الحمد مضمر في ابتداء السورة وهو مع ما ذكرنا رقية وعوذة وشفاء لما حدثنا به عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا سعيد بن المعلى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن جعفر بن أياس عن أبى نضرة عن أبى سعيد قال كنا في سرية فمررنا بحي من العرب فقالوا سيد لنا لدغته العقرب فهل فيكم راق قال قلت أنا ولم أفعله حتى جعلوا لنا جعلا جعلوا لنا شاة قال فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ فأخذت الشاة ثم قلت حتى نأتى النبي عليه السلام فأتيناه فأخبرناه فقال علمت أنها رقية حق اضربوا لي معكم بسهم * ولهذه السورة أسماء منها أم الكتاب لأنها ابتدءوه قال* الشاعر* الأرض معقلنا وكانت أمنا* فسمى الأرض أما لنا لأنه منها ابتدأنا الله تعالى وهي أم القرآن وإحدى العبارتين تغنى عن الأخرى لأنه إذا قيل أم الكتاب فقد علم أن المراد كتاب الله تعالى الذي هو القرآن فقيل تارة أم القرآن وتارة أم الكتاب وقد رويت العبارة باللفظين جميعا عن النبي عليه السلام وكذلك فاتحة الكتاب وهي السبع

٢٧

المثاني قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن السبع المثاني فقال السبع المثاني هي أم القرآن وإنما أراد بالسبع أنها سبع آيات ومعنى المثاني أنها تثنى في كل ركعة وذلك من سنتها وليس من سنة سائر القرآن إعادته في كل ركعة.

أحكام سورة البقرة

قوله تعالى( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) يتضمن الأمر بالصلاة والزكاة لأنه جعلهما من صفات المتقين ومن شرائط التقوى كما جعل الإيمان بالغيب وهو الإيمان بالله وبالبعث والنشور وسائر ما لزمنا اعتقاده من طريق الاستدلال من شرائط التقوى فاقتضى ذلك إيجاب الصلاة والزكاة المذكورتين في الآية* وقد قيل في إقامة الصلاة وجوه منها إتمامها من تقويم الشيء وتحقيقه ومنه قوله( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ) وقيل يؤدونها على ما فيها من قيام وغيره فعبر عنها بالقيام لأن القيام من فروضها وإن كانت تشتمل على فروض غيره كقوله( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) والمراد الصلاة التي فيها القراءة وقوله تعالى( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) المراد القراءة في صلاة الفجر وكقوله( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) وقوله( ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ) وقوله( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) فذكر ركنا من أركانها الذي هو من فروضها ودل به على أن ذلك فرض فيها وعلى إيجاب ما هو من فروضها فصار قوله( يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) موجبا للقيام فيها ومخبرا به عن فرض للصلاة ويحتمل( يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) يديمون فروضها في أوقاتها كقوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) أى فرضا في أوقات معلومة لها ونحوه قوله تعالى( قائِماً بِالْقِسْطِ ) يعنى يقيم القسط ولا يفعل غيره والعرب تقول في الشيء الراتب الدائم قائم وفي فاعله مقيم يقال فلان يقيم أرزاق الجند وقيل هو من قول القائل قامت السوق إذا حضر أهلها فيكون معناه الاشتغال بها عن غيرها ومنه قد قامت الصلاة وهذه الوجوه على اختلافها تجوز أن تكون مرادة بالآية وقوله( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) في فحوى الخطاب دلالة على أن المراد المفروض من النفقة وهي الحقوق الواجبة لله تعالى من الزكاة وغيرها كقوله تعالى( وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) وقوله( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) وقوله( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ) والذي يدل على أن المراد المفروض منها أنه قرنها

٢٨

إلى الصلاة المفروضة وإلى الإيمان بالله وكتابه وجعل هذا الإنفاق من شرائط التقوى ومن أوصافها ويدل على أن المراد المفروض من الصلاة والزكاة أن لفظ الصلاة إذا أطلق غير مقيد بوصف أو شرط يقتضى الصلوات المعهودة المفروضة كقوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) ونحو ذلك فلما أراد بإطلاق اللفظ الصلاة المفروضة كان فيه دلالة على أن المراد بالإنفاق ما فرض عليه منه ولما مدح هؤلاء بالإنفاق مما رزقهم الله دل ذلك على أن إطلاق اسم الرزق إنما يتناول المباح منه دون المحظور وإن ما اغتصبه وظلم فيه غيره لم يجعله الله له رزقا لأنه لو كان رزقا له لجاز إنفاقه وإخراجه إلى غيره على وجه الصدقة والتقرب به إلى الله تعالى ولا خلاف بين المسلمين إن الغاصب محظور عليه الصدقة بما اغتصبه وكذلك قال النبي عليه السلام (لا تقبل صدقة من غلول) والرزق الحظ في اللغة قال الله تعالى( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) أى حظكم من هذا الأمر التكذيب به وحظ الرجل هو نصيبه وما هو خالص له دون غيره ولكنه في هذا الموضع هو ما منحه الله تعالى عباده وهو المباح الطيب* وللرزق وجه آخر وهو ما خلقه الله تعالى من أقوات الحيوان فجائز إضافة ذلك إليه لأنه جعله قوتا وغذاء* وقوله تعالى في شأن المنافقين وإخباره عنهم بإظهار الإيمان للمسلمين من غير عقيدة وإظهار الكفر لإخوانهم من الشياطين في قوله( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) وقوله( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ ) إلى قوله( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ) يحتج به في استتابة الزنديق الذي اطلع منه على إسرار الكفر متى أظهر الإيمان لأن الله تعالى أخبر عنهم بذلك ولم يؤمر بقتلهم وأمر النبي عليه السلام بقبول ظاهرهم دون ما علمه هو تعالى من حالهم وفساد اعتقادهم وضمائرهم ومعلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض القتال لأنها نزلت بالمدينة وقد كان الله تعالى فرض قتال المشركين بعد الهجرة ولهذه الآية نظائر في سورة براءة وسورة محمد عليه السلام وغيرهما في ذكر المنافقين وقبول ظاهرهم دون حملهم على أحكام سائر المشركين الذين أمرنا بقتالهم وإذا انتهينا إلى مواضعها ذكرنا أحكامها واختلاف الناس في الزنديق واحتجاج من يحتج بها في ذلك وهو يظهر من قوله عليه السلام (أمرت أن

٢٩

أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وأنكر عن أسامة بن زيد حين قتل في بعض السرايا رجلا قال لا إله إلا الله حين حمل عليه ليطعنه فقال (هلا شققت عن قلبه) يعنى أنه محمول على حكم الظاهر دون عقد الضمير ولا سبيل لنا إلى العلم به* قال أبو بكر وقوله تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) يدل على أن الإيمان ليس هو الإقرار دون الإعتقاد لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم سمته بقوله وما هم بمؤمنين ويروى عن مجاهد أنه قال في أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين* والنفاق اسم شرعي جعله سمة لمن يظهر الإيمان ويسر الكفر خصوا بهذا الإسم للدلالة على معناه وحكمه وإن كانوا مشركين إذ كانوا مخالفين لسائر المبادين بالشرك في أحكامهم وأصله في اللغة من نافقاء اليربوع وهو الجحر الذي يخرج منه إذا طلب لأن له اجحرة(1) يدخل بعضها عند الطلب ثم يراوغ الذي يريد صيده فيخرج من جحر آخر قد أعده* وقوله تعالى( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) هو مجاز في اللغة لأن الخديعة في الأصل هي الإخفاء وكأن المنافق أخفى الإشراك وأظهر الإيمان على وجه الخداع والتمويه والغرور لمن يخادعه والله تعالى لا يخفى عليه شيء ولا يصح أن يخادع في الحقيقة وليس يخلو هؤلاء القوم الذين وصفهم الله تعالى بذلك من أحد وجهين إما أن يكونوا عارفين بالله تعالى قد علموا أنه لا يخدع بتساتر بشيء أو غير عارفين فذلك أبعد إذ لا يصح أن يقصده لذلك ولكنه أطلق ذلك عليهم لأنهم عملوا عمل المخادع ووبال الخداع راجع عليهم فكأنهم إنما يخادعون أنفسهم وقيل إن المراد يخادعون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحذف ذكر النبي عليه السلام كما قال( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) والمراد يؤذون أولياء الله وأى الوجهين كان فهو مجاز وليس بحقيقة ولا يجوز استعماله إلا في موضع يقوم الدليل عليه وإنما خادعوا رسول الله تقية لتزول عنهم أحكام سائر المشركين الذين أمر النبي عليه السلام والمؤمنون بقتلهم وجائز أن يكونوا أظهروا الإيمان للمؤمنين ليوالوهم كما يوالى المؤمنون بعضهم بعضا ويتواصلون فيما بينهم وجائز أن يكونوا يظهرون لهم الإيمان ليفشوا إليهم أسرارهم

__________________

(1) هكذا في النسخ التي بأيدينا وصوابه جحرة.

٣٠

فينقلوا ذلك إلى أعدائهم وكذلك قول الله تعالى( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) مجاز وقد قيل فيه وجوه أحدها على جهة مقابلة الكلام بمثله وإن لم يكن في معناه كقوله تعالى( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) والثانية ليست بسيئة بل حسنة ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها وقوله تعالى( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) والثاني ليس باعتداء وقوله تعالى( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) والأول ليس بعقاب وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله ومزاوجته له وتقول العرب الجزاء بالجزاء والأول ليس بجزاء ومنه قول الشاعر :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومعلوم أنه لم يمتدح بالجهل ولكنه جرى على عادتهم في ازدواج الكلام ومقابلته وقيل إن ذلك أطلقه الله تعالى على التشبيه وهو أنه لما كان وبال الاستهزاء راجعا عليهم ولا حقا لهم كان كأنه استهزأ بهم وقيل لما كانوا قد أمهلوا في الدنيا ولم يعاجلوا بالعقوبة والقتل كسائر المشركين وأخر عقابهم فاغتروا بالإمهال كانوا كالمستهزئ بهم* ولما كانت أجرام المنافقين أعظم من أجرام سائر الكفار المبادين بالكفر لأنه جمعوا الاستهزاء والمخادعة بقوله( يُخادِعُونَ اللهَ ) وقولهم( إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ) وذلك زيادة في الكفر وكذلك أخبر الله تعالى أنهم( فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة خالف بين أحكامهم في الدنيا وأحكام سائر المظهرين للشرك في رفع القتل عنهم بإظهارهم الإيمان وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغيره ثبت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الإجرام وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه فأوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه الرجم بالتوبة ألا ترى إلى قوله عليه السلام في ما عز بعد رجمه وفي الغامدية بعد رجمها لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له والكفر أعظم من الزنا ولو كفر رجل ثم تاب قبلت توبته وقال تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) وحكم القاذف بالزنا بجلد ثمانين ولم يوجب على القاذف بالكفر الحد وهو أعظم من الزنا وأوجب على شارب الخمر الحد ولم يوجب على شارب الدم وآكل الميتة فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام ولأنه لما كان جائزا

٣١

في العقل أن لا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حدا رأسا ويكل أمرهم إلى عقوبات جاز أن يخالف بينها فيوجب في بعضها أغلظ ما يوجب في بعض ولذلك قال أصحابنا لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق وما ذكر الله تعالى من أمر المنافقين في هذه الآية وإقرارهم من غير أمر لنا بقتالهم أصل فيما ذكرنا ولأن الحدود والعقوبات التي أوجبها من فعل الإمام ومن قام بأمور الشريعة جارية مجرى ما يفعله هو تعالى من الآلام على وجه العقوبة فلما جاز أن لا يعاقب المنافق في الدنيا بالآلام من جهة الأمراض والأسقام والفقر والفاقة بل يفعل به أضداد ذلك ويكون عقابه المستحق بكفره ونفاقه مؤجلا إلى الآخرة جاز أن لا يتعبدنا بقتله في الدنيا وتعجيل عقوبة كفره ونفاقه وقد غير النبي عليه السلام بمكة بعد ما بعثه الله تعالى ثلاث عشر سنة يدعو المشركين إلى الله وتصديق رسله غير متعبد بقتالهم بل كان مأمورا بدعائهم في ذلك بلين القول وألطفه فقال تعالى( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وقال( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) وقال( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) في نظائر ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه ثم فرض القتال بعد الهجرة لعلمه تعالى بالمصلحة من كلا الحالين بما تعبد به فجاز من أصل ما وصفنا أن يكون الأمر بالقتل والقتال خاصا في بعض الكفار وهم المجاهرون بالكفر دون ما يظهر الإيمان ويسر الكفر وإن كان المنافق أعظم جرما من غيره* وقوله تعالى( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) يعنى والله أعلم قرارا والإطلاق لا يتناولها وإنما يسمى به مقيدا كقوله تعالى( وَالْجِبالَ أَوْتاداً ) وإطلاق اسم الأوتاد لا يفيد الجبال وقوله( الشَّمْسَ سِراجاً ) ولذلك قال الفقهاء أن من حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لا يحنث وكذلك لو حلف لا يقعد في سراج فقعد في الشمس لأن الأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من الأسماء وليس في العادة إطلاق هذا الإسم للأرض والشمس هذا كما سمى الله تعالى الجاحد له كافرا وسمى الزارع كافرا والشاك السلاح كافرا ولا يتناولهما هذا الإسم في الإطلاق وإنما يتناول الكافر بالله تعالى ونظائر ذلك من الأسماء المطلقة والمقيدة كثيرة ويجب اعتبارها في كثير من الأحكام فما

٣٢

كان في العادة مطلقا فهم على إطلاقه والمقيد فيها على تقييده ولا يتجاوز به موضعه* وفي هذه الآية دلالة على توحيد الله تعالى وإثبات الصانع الذي لا يشبهه شيء القادر الذي لا يعجزه شيء وهو ارتفاع السماء ووقوفها بغير عمد ثم دوامها على طول الدهر غير متزايلة ولا متغير كما قال تعالى( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ) وكذلك ثبات الأرض ووقوفها على غير سند فيه أعظم الدلالة على التوحيد وعلى قدرة خالقها وأنه لا يعجزه شيء وفيها تنبيه وحث على الاستدلال بها على الله وتذكير بالنعمة* وقوله تعالى( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) نظير قوله( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) وقوله( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) وقوله( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) يحتج بجميع ذلك في أن الأشياء على الإباحة مما لا يحظره العقل فلا يحرم منه شيء إلا ما قام دليله* وقوله تعالى( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فيه أكبر دلالة على صحة نبوة نبينا عليه السلام من وجوه أحدها أنه تحداهم بالإتيان بمثله وقرعهم بالعجز عنه مع ما هم عليه من الأنفة والحمية وأنه كلام موصوف بلغتهم وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم تعلم اللغة العربية وعنهم أخذ فلم يعارضه منهم خطيب ولا تكلفه شاعر مع بذلهم الأموال والأنفس في توهين أمره وإبطال حججه وكانت معارضته لو قدروا عليها أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه فلما ظهر عجزهم عن معارضته دل ذلك على أنه من عند الله الذي لا يعجز شيء وأنه ليس في مقدور العباد مثله وإنما أكبر ما اعتذروا به أنه من أساطير الأولين وأنه سحر فقال تعالى( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) وقال( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ) فتحداهم بالنظم دون المعنى في هذه الصورة وأظهر عجزهم عنه فكانت هذه معجزة باقية لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيام الساعة أبان الله تعالى بها نبوة نبيه وفضله بها لأن سائر معجزات الأنبياء على سائر الأنبياء نقضت بانقضائهم وإنما يعلم كونها معجزة من طريق الأخبار وهذه معجزة باقية بعده كل من اعتراض عليها بعده قرعناه بالعجز عنه فتبين له حينئذ موضع الدلالة على تثبيت النبوة كما كان حكم من كان في عصره من لزوم الحجة به وقيام الدلالة عليه والوجه الآخر من الدلالة أنه معلوم عند المؤمنين بالنبي عليه السلام وعند الجاحدين لنبوته أنه من كان من أتم الناس عقلا

٣٣

وأكملهم خلقا وأفضلهم رأيا فما طعن عليه أحد في كمال عقله ووفور حلمه وصحة فهمه وجودة رأيه وغير جائز على من كان هذا وصفه أن يدعى أنه نبي الله قد أرسله إلى خلقه كافة ثم جعل علامة نبوته ودلالة صدقه كلاما يظهره ويقرعهم به مع علمه بأن كل واحد منهم يقدر على مثله فيظهر حينئذ كذبه وبطلان دعواه فدل ذلك على أنه لم يتحدهم بذلك ولم يقرعهم بالعجز عنه إلا هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله الثالث قوله تعالى في نسق التلاوة( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) فأخبر أنهم لا يعارضونه ولا يقع ذلك منهم وذلك إخبار بالغيب ووجد مخبره على ما هو به ولا تتعلق هذه بإعجاز النظم بل هي قائمة بنفسها في تصحيح نبوته لأنه أخبار بالغيب كما لو قال لهم الدلالة على صحة قولي إنكم مع صحة أعضائكم وسلامة جوارحكم لا يقع من أحد منكم أن يمس رأسه وأن يقوم من موضعه فلم يقع ذلك منهم مع سلامة أعضائهم وجوارحهم وتقريعهم به مع حرصهم على تكذيبه كان ذلك دليلا على صحة نبوته إذ كان مثل ذلك لا يصح إلا كونه من قبل القادر الحكيم الذي صرفهم عن ذلك في تلك الحال* قال أبو بكر وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) فلما ظهر عجزهم قال( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ) فلما عجزوا قال( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه فلما ظهر عجزهم عن ذلك وقامت عليهم الحجة وأعرضوا عن طريق المحاجة وصمموا على القتال والمغالبة أمر الله نبيه بقتالهم وقيل في قوله تعالى( وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) أنه أراد به أصنامهم وما كانوا يعبدونهم من دون الله لأنهم كانوا يزعمون أنها تشفع لهم عند الله وقيل أنه أراد جميع من يصدقكم ويوافقكم على قولكم وأفاد بذلك عجز الجميع عنه في حال الاجتماع والانفراد كقوله( لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) فقد انتظمت فاتحة الكتاب من ابتدائها إلى حيث انتهينا إليه من سورة البقرة الأمر والتبدئة باسم الله تعالى وتعليمنا حمده والثناء عليه والدعاء له والرغبة إليه في الهداية إلى الطريق المؤدى إلى معرفته وإلى جنته ورضوانه دون طريق المستحقين لغضبه والضالين عن معرفته وشكره على نعمته ثم ابتدأ في سورة

٣٤

البقرة بذكر المؤمنين ووصفهم ثم ذكر الكافرين وصفتهم ثم ذكر المنافقين ونعتهم وتقريب أمرهم إلى قلوبنا بالمثل الذي ضربه بالذي استوقد نارا وبالبرق الذي يضيء في الظلمات من غير بقاء ولا ثبات وجعل ذلك مثلا لإظهارهم الإيمان وإن الأصل الذي يرجعون إليه وهم ثابتون عليه هو الكفر كظلمة الليل والمطر اللذين يعرض في خلالهما برق يضيء لهم ثم يذهب فيبقون في ظلمات لا يبصرون ثم ابتدأ بعد انقضاء ذكر هؤلاء بإقامة الدلالة على التوحيد بما لا يمكن أحد دفعه من بسطه الأرض وجعلها قرارا ينتفعون بها وجعل معايشهم وسائر منافعهم وأقواتهم منها وأقامتها على غير سند إذ لا بد أن يكون لها نهاية لما ثبت من حدوثها وأن ممسكها ومقيمها كذلك هو الله خالقها وخالقكم المنعم عليكم بما جعل لكم فيها من أقواتكم وسائر ما أخرج من ثمارها لكم إذ لا يجوز أن يقدر على مثل ذلك إلا القادر الذي لا يعجزه ولا يشبهه شيء فحثهم على الاستدلال بدلائله ونبههم على نعمه ثم عقب ذلك بالدلالة على نبوة النبي عليه السلام بما أظهر من عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن ودعاهم في ذلك كله إلى عبادة الله تعالى وحده المنعم علينا بهذه النعم فقال( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يعنى والله أعلم تعلمون أن ما تدعونه آلهة لا تقدر على شيء من ذلك وأن الله هو المنعم عليكم به دونها وهو الخالق لها وقيل في معنى قوله( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنكم تعلمون الفصل بين الواجب وغير الواجب ويكون معناه أن الله تعالى قد جعل لكم من العقل ما يمكنكم به الوصول إلى معرفة ذلك فوجب تكليفكم ذلك إذ غير جائز في العقل إباحة الجهل بالله تعالى مع إزاحة العلة والتمكن من المعرفة فلما قرر جميع ذلك عندهم بدلائله الدالة عليه عقد عليه بذكر الوعيد بقوله( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) ثم عقب بذكر ما وعد المؤمنين في الآخرة بقوله( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) إلى آخر ما ذكر* قال أبو بكر رحمه الله وقد تضمنت هذه الآيات مع ما ذكرنا من التنبيه على دلائل التوحيد وإثبات النبوة الأمر باستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائلها وذلك مبطل لمذهب من نفى الاستدلال بدلائل الله تعالى واقتصر على الخبر بزعمه في معرفة الله والعلم بصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله تعالى لم يقتصر فيما دعا الناس إليه من معرفة توحيده وصدق رسوله

٣٥

على الخبر دون إقامة الدلالة على صحته من جهة عقولنا وقوله تعالى( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) يدل على أن البشارة هي الخبر السار والإظهار والأغلب أن إطلاقه يتناول من الأخبار ما يحدث عنده الاستبشار والسرور وإن كان قد يجرى على غيره مقيدا كقوله( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) وكذلك قال أصحابنا فيمن قال أى عبد بشرنى بولادة فلانة فهو حر فبشروه جماعة واحدا بعد واحد أن الأول يعتق دون غيره لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره ولم يكن هذا عندهم بمنزلة ما لو قال أى عبد أخبرنى بولادتها فأخبروه واحدا بعد واحد أنهم يعتقون جميعا لأنه عقد اليمين على خبر مطلق فيتناول سائر المخبرين وفي البشارة عقدها على خبر مخصوص بصفة وهو ما يحدث عنده السرور والاستبشار ويدل على أن موضوع هذا الخبر ما وصفنا قولهم رأيت البشر في وجهه يعنى الفرح والسرور قال الله في صفة وجوه أهل الجنة( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) فأخبر عما ظهر في وجوههم من آثار السرور والفرح بذكر الاستبشار ومنه سموا الرجل بشيرا تفاؤلا منهم إلى الأخبار بالخير دون الشر وسموا ما يعطى البشير على هذا الخبر بشرى وهذا يدل على أن الإطلاق يتناول الخير المفيد سرورا فلا ينصرف إلى غيره إلا بدلالة وأنه متى أطلق في الشر فإنما يراد به الخبر فحسب وكذلك قوله تعالى( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) معناه أخبرهم ويدل على ما وصفنا من أن البشير هو المخبر الأول فيما ذكرنا من حكم اليمين قولهم ظهرت لنا تباشير هذا الأمر يعنون أوله ولا يقولون ذلك في الشر وفيما يغم وإنما يقولونه فيما يسر ويفرح ومن الناس من يقول أن أصله فيما يسر ويغم لأن معناه ما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر* وقوله تعالى( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يدل على أنه علم الأسماء كلها لآدم أعنى الأجناس بمعانيها لعموم اللفظ في ذكر الأسماء وقوله( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ) فيه دلالة على أنه أراد أسماء ذريته على ما روى عن الربيع بن أنس إلا أنه قد روى عن ابن عباس ومجاهد أنه علمه أسماء جميع الأشياء وظاهر اللفظ يوجب ذلك فإن قيل لما قال عرضهم دل على أنه أسماء من يعقل لأن هم إنما يطلق فيما يعقل دون ما لا يعقل قيل له لما أراد ما يعقل وما لا يعقل جاز تغليب ما يعقل كقوله تعالى

٣٦

( خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ) لما دخل في الجملة من يعقل أجرى الجميع مجرى واحدا وهذه الآية تدل على أن أصول اللغات كلها توقيف من الله تعالى لآدم عليه السلام عليها على اختلافها وأنه علمه إياها بمعانيها إذ لا فضيلة في معرفة الأسماء دون المعاني وهي دلالة على شرف العلم وفضيلته لأنه تعالى لما أراد إعلام الملائكة فضيلة آدم علمه الأسماء بمعانيها حتى أخبر الملائكة بها ولم تكن الملائكة علمت منها ما علمه آدم فاعترفت له بالفضل في ذلك ومن الناس من يقول إن لغة آدم وولده كانت واحدة إلى زمان الطوفان فلما أغرق الله تعالى أهل الأرض وبقي من نسل نوح من بقي وتوفى نوح عليه السلام وتوالدوا وكثروا أرادوا بناء صرح ببابل يمتنعون به من طوفان أن كان بلبل الله ألسنتهم فنسي كل فرقة منهم اللسان الذي كان عليه وعلمها الله الألسنة التي توارثها بعد ذلك ذريتهم عنهم وتفرقوا في البلدان وانتشروا في الأرض ومن الناس من يأبى ذلك ويقول لا يجوز أن ينسى إنسان كامل العقل جميع لغته التي كان يتكلم بها بالأمس وأنهم قد كانوا عارفين بجميع اللغات إلى أن تفرقوا فاقتصر كل أمة منهم على اللسان الذي هم عليه اليوم وتركوا سائر الألسنة التي كانوا عرفوها ولم تأخذها عنهم أولادهم ونسلهم فلذلك لم يعرف من نشأ بعدهم سائر اللغات.

باب السجود لغير الله تعالى

قال الله تعالى( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ) روى شعبة عن قتادة أن الطاعة كانت لله تعالى في السجود لآدم أكرمه الله بذلك وروى معمر عن قتادة في قوله( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) قال كانت تحيتهم السجود وليس يمتنع أن يكون ذلك السجود عبادة الله تعالى وتكرمة وتحية لآدم عليه السلام وكذلك سجود أخوة يوسف عليهم السلام وأهله له وذلك لأن العبادة لا تجوز لغير الله تعالى والتحية والتكرمة جائز ان لمن يستحق ضربا من التعظيم ومن الناس من يقول إن السجود كان لله وآدم كان بمنزلة القبلة لهم وليس هذا بشيء لأنه يوجب أن لا يكون لآدم في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة وظاهر ذلك يقتضى أن يكون آدم مفضلا مكرما فذلك كظاهر الحمد إذا وقع لمن يستحق ذلك يحمل على الحقيقة ولا يحمل على ما يطلق من ذلك مجازا كما يقال أخلاق فلان محمودة

٣٧

ومذمومة لأن حكم اللفظ أن يكون محمولا على بابه وحقيقته ويدل على أن الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم عليه السلام وتفضيله قول إبليس فيما حكى الله عنه( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ ) فأخبر إبليس أن امتناعه كان من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إياه بالسجود له ولو كان الأمر بالسجود له على أنه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة ولا فضيلة له لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة المنصوبة للقبلة وقد كان السجود جائزا في شريعة آدم عليه السلام للمخلوقين ويشبه أن يكون قد كان باقيا إلى زمان يوسف عليه السلام فكان فيما بينهم لمن يستحق ضربا من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا وبمنزلة تقبيل اليد وقد روى عن النبي عليه السلام في إباحة تقبيل اليد أخبار وقد روى الكراهة إلا أن السجود لغير الله تعالى على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر بن عبد الله وأنس أن النبي عليه السلام قال (ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) من عظم حقه عليها لفظ حديث أنس بن مالك قوله تعالى( وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ) قيل أن فائدة قوله( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ) وإن كان الكفر قبيحا من الأول والآخر منهيا عنه الجميع إن السابق إلى الكفر يقتدى به غيره فيكون أعظم لمأثمه وجرمه كقوله تعالى( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) وقوله( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) وروى عن النبي عليه السلام أن على ابن آدم القاتل كفلا من الإثم في كل قتيل ظلما لأنه أول من سن القتل وقال عليه السلام (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة قوله تعالى( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) لا يخلو من أن يكون راجعا إلى صلاة معهودة وزكاة معلومة وقد عرفها أو أن يكون متناولا صلاة مجملة وزكاة مجملة موقوفة على البيان إلا أنا قد علمنا الآن أنه قد أريد بهما فيما خوطبنا به من هذه الصلوات المفروضة والزكاة الواجبة إما لأنه كان معلوما عند المخاطبين في حال ورود الخطاب أو أن يكون كان ذلك مجملا ورد بعده بيان المراد فحصل ذلك معلوما وأما قوله( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ )

٣٨

فإنه يفيد إثبات فرض الركوع في الصلاة وقيل أنه إنما خص الركوع لأن أهل الكتاب لم يكن لهم ركوع في صلاتهم فنص على الركوع فيها ويحتمل أن يكون قوله( وَارْكَعُوا ) عبارة عن الصلاة نفسها كما عبر عنها بالقراءة في قوله( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) وقوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) والمعنى صلاة الفجر فينتظم وجهين من الفائدة أحدهما إيجاب الركوع لأنه لم يعبر عنها بالركوع إلا وهو من فرضها والثاني الأمر بالصلاة مع المصلين فإن قيل قد تقدم لم ذكر الصلاة في قوله( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فغير جائز أن يريد بعطف الركوع عليها الصلاة بعينها قيل له هذا جائز إذا أريد بالصلاة المبدوء بذكرها الإجمال دون صلاة معهودة فيكون حينئذ قوله( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) إحالة لهم على الصلاة التي بينها بركوعها وسائر فروضها وأيضا لما كانت صلاة أهل الكتاب بغير ركوع وكان في اللفظ احتمال رجوعه إلى تلك الصلاة بين أنه لم يرد الصلاة التي تعبد بها أهل الكتاب بل التي فيها الركوع وقوله تعالى( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ينصرف الأمر بالصبر على أداء الفرائض التي فرضها الله واجتناب معاصيه وفعل الصلاة المفروضة وقد روى سعيد عن قتادة أنهما معونتان على طاعة الله تعالى وفعل الصلاة لطف في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه كقوله( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر ) ويحتمل أن يريد به الصبر والصلاة المندوب إليهما لا المفروضين وذلك نحو صوم التطوع وصلاة النفل إلا أن الأظهر أن المراد المفروض منها لأن ظاهر الأمر للإيجاب ولا يصرف إلى غيره إلا بدلالة وقوله تعالى( وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ ) فيه رد الضمير على واحد مع تقدم ذكر اثنين كقوله( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) وقال( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ) وقول الشاعر :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنى وقيار بها لغريب

قوله تعالى( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) يحتج بها فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال بأنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها إلى غيرها وربما احتج به علينا المخالف في تجويزنا تحريمة الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح وفي تجويز القراءة بالفارسية على مذهب أبى حنفية وفي تجويز النجاح بلفظ الهبة والبيع بلفظ التمليك وما جرى مجرى ذلك وهذا لا يلزمنا فيما ذكرنا لأن قوله تعالى( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) إنما هو في القوم

٣٩

الذين قيل لهم( ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ) يعنى حط عنا ذنوبنا قال الحسن وقتادة قال ابن عباس أمروا أن يستغفروا روى عنه أيضا أنهم أمروا أن يقولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم وقال عكرمة أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله فقالوا بدل هذا حطنة حمراء تجاهلا واستهزاء وروى عن ابن عباس وغيره من الصحابة وعن الحسن إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى لفظ في ضد المعنى الذي أمروا به إذ كانوا مأمورين بالاستغفار والتوبة فصاروا إلى الإصرار والاستهزاء فأما من غير اللفظ مع اتفاق المعنى فلم تتناوله الآية إذ كانت الآية إنما تضمنت الحكاية عن فعل قوم غيروا اللفظ والمعنى جميعا فالحق بهم الذم بهذا الفعل وإنما يشاركهم في الذم من يشاركهم في الفعل مثلا بمثل فأما من غير اللفظ وأتى بالمعنى فلم تتضمنه الآية وإنما نظير فعل القوم إجازة من يجيز المتعة مع قوله تعالى( إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) فقصر استباحة البضع على هذين الوجهين فمن استباحه بلفظ المتعة مع مخالفة النكاح وملك اليمين من جهة اللفظ والمعنى فهذا الذي يجوز أن يلحقه الذم بحكم الآية* وقوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً _ إلى _وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ) إلى آخر الآية. قال أبو بكر في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروب من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة فأولها أن قوله تعالى( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) وإن كان مؤخرا في التلاوة فهو مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه قتل النفس وقد قيل فيه وجهان أحدهما أن ذكر القتل وإن كان مؤخرا في التلاوة فهو مقدم في النزول والآخر ان ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها ونظامها وإن كان مقدما في المعنى لأن الواو لا توجب الترتيب كقول القائل اذكر إذ أعطيت ألف درهم زيدا إذ بنى دارى والبناء مقدم على العطية والدليل على أن ذكر البقرة مقدم في النزول قوله تعالى( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ) فدل على أن البقرة قد ذكرت قبل ذلك ولذلك أضمرت ونظير ذلك قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام بعد ذكر الطوفان وانقضائه( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) ومعلوم أن ذلك كان قبل هلاكهم لأن تقديم الكلام وتأخيره إذا

٤٠