أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف:

الصفحات: 411
المشاهدات: 83976
تحميل: 4504


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83976 / تحميل: 4504
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

في هذا الموضع بيان معنى السحر وحكمه والآن حيث انتهى بنا القول إلى ذكر قول الفقهاء فيه وما تضمنته الآية من حكمه وما يجرى على مدعى ذلك من العقوبات على حسب منازلهم في عظم المأثم وكثرة الفساد والله أعلم بالصواب.

باب اختلاف الفقهاء في حكم الساحر وقول السلف فيه

حدثنا عبد الباقي حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال حدثنا عبد الرحمن بن رجاء قال أخبرنا إسرائيل عن أبى إسحاق عن هبيرة عن عبد الله قال من أتى كاهنا أو عرافا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد عليه السلام وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها فوجدوا سحرها واعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ ذلك عثمان فأنكره فأتاه ابن عمر فأخبره أمرها وكان عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلت بغير أذنه وذكر ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بحالة يقول كنت كاتبا لجزى بن معاوية فأتى كتاب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر وروى أبو عاصم عن الأشعث عن الحسن قال يقتل الساحر ولا يستتاب وروى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب أخذ ساحرا فدفنه إلى صدره ثم تركه حتى مات وروى سفيان عن عمرو عن سالم بن أبى الجعد قال كان قيس ابن سعد أميرا على مصر فجعل يفشو سره فقال من هذا الذي يفشى سرى فقالوا ساحر هاهنا فدعاه فقال له إذا نشرت الكتاب علمنا ما فيه فأما ما دام مختوما فليس نعلمه فأمر به فقتل وروى أبو إسحاق الشيباني عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال قال على بن أبى طالب عليه السلام إن هؤلاء العرافين كهان العجم فمن أتى كاهنا يؤمن له بما يقول فهو برىء مما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام وروى مبارك عن الحسن أن جندبا قتل ساحرا وروى يونس عن الزهري قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر أهل الكتاب لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سحره رجل من اليهود يقال له ابن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما وعن عمر بن عبد العزيز قال يقتل الساحر* قال أبو بكر اتفق هؤلاء السلف على وجوب قتل الساحر ونص بعضهم على كفره واختلف فقهاء الأمصار في حكمه على ما نذكره فروى ابن شجاع عن الحسن بن زياد عن أبى حنيفة أنه قال في الساحر يقتل إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله إنى أترك السحر وأتوب منه

٦١

فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد عليه شاهدان أنه ساحر فوصفوا ذلك بصفة يعلم أنه سحر قتل ولا يستتاب وإن أقر فقال كنت أسحر وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل وكذلك لو شهد عليه أنه كان مرة ساحرا وأنه ترك منذ زمان لم يقتل إلا أن يشهدوا أنه الساعة ساحر وأقر بذلك فيقتل وكذلك العبد المسلم والذمي والحر الذمي من أقر منهم أنه ساحر فقد حل دمه فيقتل ولا يقبل توبته وكذلك لو شهد على عبد أو ذمي أنه ساحر ووصفوا ذلك بصفة يعلم أنه سحر لم يقبل توبته ويقتل وإن أقر العبد أو الذمي أنه كان ساحرا وترك ذلك منذ زمان قبل ذلك منه وكذلك لو شهدوا عليه أنه كان مرة ساحرا ولم يشهدوا أنه الساعة ساحر لم يقتل وأما المرأة فإذا شهدوا عليها أنها ساحرة أو أقرت بذلك لم تقتل وحبست وضربت حتى يستيقن لهم تركها للسحر وكذلك الأمة والذمية إذا شهدوا أنها ساحرة أو أقرت بذلك لم تقتل وحبست حتى يعلم منها ترك ذلك كله وهذا كله قول أبى حنيفة قال ابن شجاع فحكم في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة إلا أن يجيء فيقر بالسحر أو يشهد عليه بذلك أنه عمله فإنه جعل ذلك بمنزلة الثبات على الردة وحكى محمد بن شجاع عن أبى على الرازي قال سألت أبا يوسف عن قول أبى حنيفة في الساحر يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد فقال الساحر قد جمع مع كفره السعى في الأرض بالفساد والساعى بالفساد إذا قتل قتل قال فقلت لأبى يوسف ما الساحر قال الذي يقتص له من العمل مثل ما فعلت اليهود بالنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاءت به الأخبار إذا أصاب به قتلا فإذا لم يصب به قتلا لم يقتل لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقتله إذ كان لم يصب به قتلا قال أبو بكر ليس فيما ذكر بيان معنى السحر الذي يستحق فاعله القتل ولا يجوز أن يظن بأبى يوسف أنه اعتقد في السحر ما يعتقده الحشو من إيصالهم الضرر إلى المسحور من غير مماسة ولا سقى دواء وجائز أن يكون سحر اليهود للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة إرادتهم التوصل إلى قتله بإطعامه وأطلعه الله على ما أردوا كما سمته زينب اليهودية في الشاة المسمومة فأخبرته الشاة بذلك فقال إن هذه الشاة لتخبرني أنها مسمومة قال أبو مصعب عن مالك في المسلم إذا تولى عمل السحر قتل ولا يستتاب لأن المسلم إذا ارتد باطنا لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام قال إسماعيل ابن إسحاق فأما ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلا أن يضر المسلمين فيقتل

٦٢

لنقض العهد وقال الشافعى إذا قال الساحر أنا أعمل عملا لأقتل فأخطئ وأصيب وقد مات هذا الرجل من عملي ففيه الدية وإن قال عملي يقتل المعمول به وقد تعمدت قتله قتل به قودا وإن قال مرض منه ولم يمت أقسم أوليائه لمات منه ثم تكون الدية قال أبو بكر فلم يجعل الشافعى الساحر كافرا بسحره وإنما جعله جانيا كسائر الجناة وما قدمنا من قول السلف يوجب أن يكون مستحقا للقتل باستحقاق سمة السحر فدل ذلك على أنهم رأوه كافرا وقول الشافعى في ذلك خارج عن قول جميعهم يعتبر أحد منهم قتله لغيره بعمله السحر في إيجاب قتله قال أبو بكر وقد بينا فيما سلف معاني السحر وضروبه وأما الضرب الأول الذي ذكرنا من سحر أهل بابل في القديم ومذاهب الصابئين فيه وهو الذي ذكر الله تعالى في قوله( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) فيما يرى والله أعلم فإن القائل به والمصدق به والعامل به كافر وهو الذي قال أصحابنا فيه عندي أنه لا يستتاب والدليل على أن المراد بالآية هذا الضرب من السحر ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا نظير قال حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن الأخنس قال حدثنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر وهذا يدل على معنيين أحدهما أن المراد بالآية هو السحر الذي نسبه عاملوه إلى النجوم وهو الذي ذكرناه من سحر أهل بابل والصابئين لأن سائر ضروب السحر الذي ذكرنا ليس لها تعلق بالنجوم عند أصحابها والثاني أن إطلاق لفظ السحر المذموم يتناول هذا الضرب منه وهذا يدل على أن التعارف عند السلف من السحر هو هذا الضرب منه ومما يدعى فيه أصحابها المعجزات وإن لم يعلقوا ذلك بفعل النجوم دون غيرها من الوجوه التي ذكرنا وأنه هو المقصود بقتل فاعله إذ لم يفرقوا فيه بين عامل السحر بالأدوية والنميمة والسعاية والشعوذة وبين غيره ومعلوم عند الجميع أن هذه الضروب من السحر لا توجب قتل فاعلها إذا لم يدع فيه معجزة لا يمكن العباد فعلها فدل ذلك على أن إيجابهم قتل الساحر إنما كان لمن ادعى بسحره معجزات لا يجوز وجود مثلها إلا من الأنبياء عليهم السلام دلالة على صدقهم وذلك ينقسم إلى معنيين أحدهما ما بدأنا بذكره من سحر أهل بابل والآخر ما يدعيه المعزمون وأصحاب النيرنجيات من خدمة الشياطين لهم والفريقان جميعا كافران أما الفريق الأول فلان في

٦٣

سحره تعظيم الكواكب واعتقادها آلهة وأما الفريق الثاني فلأنها وإن كانت معترفة بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها حيث أجازت أن تخبرها الجن بالغيوب وتقدر على تغيير فنون الحيوان والطيران في الهواء والمشي على الماء وما جرى مجرى ذلك فقد جوزت وجود مثل أعلام الأنبياء عليهم السلام مع الكذابين المتخرصين ومن كان كذلك فإنه لا يعلم صدق الأنبياء عليهم السلام لتجويزه كون مثل هذه الأعلام مع غيرهم فلا يأمن من أن يكون جميع من ظهرت على يده متخرصا كذابا فإنما كفر هذه الطائفة من هذا الوجه وهو جهله بصدق الأنبياء عليهم السلام والأظهر من أمر الساحر الذي رأت الصحابة قتله من غير بحث منهم عن حاله ولا بيان لمعانى سحره أنه الساحر المذكور في قوله تعالى( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) وهو الساحر الذي بدأنا بذكره عند ذكرنا ضروب السحر وهو سحر أهل بابل في القديم وعسى أن يكون هو الأغلب الأعم في ذلك الوقت ولا يبعد أن يكون في ذلك الوقت من يتعاطى سائر ضروب السحر الذي ذكرنا وكانوا يجرون في دعواهم الأخبار بالغيوب وتغيير صور الحيوان على منهاج سحرة بابل وكذلك كهان العرب يشمل الجميع اسم الكفر لظهور هذه الدعاوى منهم وتجويزهم مضاهاة الأنبياء في معجزاتهم وعلى أى وجه كان معنى السحر عند السلف فإنه لم يحك عن أحد إيجاب قتل الساحر من طريق الجناية على النفوس بل إيجاب قتله باعتقاده عمل السحر من غير اعتبار منهم لجنايته على غيره فأما ما يفعله المشعوذون وأصحاب الحركات والخفة بالأيدى وما يفعله من يتعاطى ذلك بسقى الأدوية المبلدة للعقل أو السموم القاتلة ومن يتعاطى ذلك بطريق السعى بالنمائم والوشاية والتضريب والإفساد فإنهم إذا اعترفوا بأن ذلك حيل ومخاريق حكم من يتعاطى مثلها من الناس لم يكن كافرا وينبغي أن يؤدب ويزجر عن ذلك والدليل على أن الساحر المذكور في الآية مستحق لاسم الكفر قوله تعالى( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) أى على عهد سليمان روى ذلك عن المفسرين وقوله تتلوا معناه تخبر وتقرأ ثم قوله تعالى( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) يدل على أن ما أخبرت به الشياطين وادعته من السحر على سليمان كان كفرا فنفاه الله عن سليمان وحكم بكفر الشياطين الذين تعاطوه وعملوه ثم عطف على ذلك قوله تعالى( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ

٦٤

وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) فأخبر عن الملكين أنهما يقولان لمن يعلمانه ذلك لا تكفر بعمل هذا السحر واعتقاده فثبت أن ذلك كفر إذا عمل به واعتقده ثم قال( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) يعنى والله أعلم من استبدل السحر بدين الله ماله في الآخرة من خلاق يعنى من نصيب ثم قال( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر وهذا يدل على أن الساحر كافر وإذا ثبت كفره فإن كان مسلما قبل ذلك أو قد ظهر منه الإسلام في وقت كفره بفعل السحر فاستحق القتل بقوله عليه السلام (من بدل دينه فاقتلوه) وإنما قال أبو حنيفة ولا نعلم أحدا من أصحابنا خالفه فيما ذكره الحسن عنه أنه يقتل ولا يستتاب فأما ما روى عن أبى يوسف في فرق أبى حنيفة بين الساحر وبين المرتدين فإن الساحر قد جمع إلى كفره السعى بالفساد في الأرض فإن قال قائل فأنت لا تقتل الخناق والمحاربين إلا إذا قتلوا فهلا قلت مثله في الساحر قيل له يفترقان من جهة أن الخناق والمحارب لم يكفرا قبل القتل ولا بعده فلم يستحقا القتل إذ لم يتقدم منهما سبب يستحقان به القتل وأما الساحر فقد كفر بسحره قتل به أو لم يقتل فاستحق القتل بكفره ثم لما كان مع كفره ساعيا في الأرض بالفساد كان وجوب قتله حدا فلم يسقط بالتوبة كالمحارب إذا استحق القتل لم يسقط ذلك عنه بالتوبة فهو مشبه للمحارب الذي قتل في أن قتله حد لا تزيله عنه التوبة ويفارق المرتد من جهة أن المرتد يستحق القتل بإقامته على الكفر فحسب فمتى انتقل عنه زال عنه الكفر والقتل ولما وصفنا من ذلك لم يفرقوا بين الساحر من أهل الذمة ومن المسلمين كما لا يختلف حكم المحارب من أهل الذمة والإسلام فيما يستحقونه بالمحاربة ولذلك لم تقتل المرأة الساحرة لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا وإنما تقتل قودا ووجه آخر لقول أبى حنيفة في ترك استتابة الساحر وهو ما ذكره الطحاوي قال حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبى يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال قال أبو حنيفة اقتلوا الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف ولم يحك أبو يوسف خلافه ويصح بناء مسألة الساحر عليه لأن الساحر يكفر سرا فهو بمنزلة الزنديق فالواجب أن لا تقبل توبته فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا يقتل

٦٥

الساحر من أهل الذمة لأن كفره ظاهر وهو غير مستحق للقتل لأجل الكفر* قيل له الكفر الذي أقررناه عليه هو ما أظهره لنا وأما الكفر الذي صار إليه بسحره فإنه غير مقر عليه ولم نعطه الذمة على إقراره عليه ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر بالجزية لم نجبه إليه ولم نجز إقراره عليه ولا فرق بينه وبين الساحر من أهل الملة وأيضا فلو أن الذمي الساحر لم يستحق القتل بكفره لاستحقه بسعيه في الأرض بالفساد كالمحاربين على النحو الذي ذكرنا وقولهم في ترك قبول توبة الزنديق يوجب أن لا يستتاب الإسماعيلية وسائر الملحدين الذين قد علم منهم اعتقاد الكفر كسائر الزنادقة وأن يقتلوا مع إظهارهم التوبة ويدل على وجوب قتل الساحر ما حدثنا به ابن قانع حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا ابن الأصبهانى قال حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن ابن جندب أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (حد الساحر ضربه بالسيف) وقصة جندب في قتله الساحر بالكوفة عند الوليد بن عقبة مشهورة وقوله عليه السلام (حد الساحر ضربه بالسيف) قد دل على معنيين أحدهما وجوب قتله والثاني أنه حد لا يزيله التوبة كسائر الحدود إذا وجبت ولما ذكرنا من قتله على وجه قتل المحارب قالوا فيما حدثنا الحسن بن زياد أنه إذا قال كنت ساحرا وقد ثبت أنه لا يقتل كمن أقر أنه كان محاربا وجاء تائبا أنه لا يقتل لقوله تعالى في شأن المحاربين( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فاستثنى التائب قبل القدرة عليه من جملة من أوجب عليه الحد المذكور في الآية ويستدل بظاهر قوله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) إلى آخر الآية على وجوب قتل الساحر حدا لأنه من أهل السعى في الأرض بالفساد لعمله السحر واستدعائه الناس إليه وإفساده إياهم مع ما صار إليه من الكفر وأما مالك بن أنس فإنه أجرى الساحر مجرى الزنديق فلم يقبل توبته كما لا يقبل توبة الزنديق ولم يقتل ساحر أهل الذمة لأنه غير مستحق للقتل بكفره وقد أقررناه عليه فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين فيكون ذلك عنده نقضا للعهد فيقتل كما يقتل الحربي وقد بينا موافقة الساحر الذمي للزنديق من قبل أنه استحدث كفرا سرا لا يجوز إقراره عليه بجزية ولا غيرها فلا فرق بينه وبين الساحر ممن ينتحل ملة الإسلام ومن جهة أخرى أنه في معنى المحارب فلا يختلف حكم أهل الذمة ومنتحلي الذمة وأما مذهب الشافعى فقد

٦٦

بينا خروجه عن أقاويل السلف لأن أحدا منهم لم يعتبر قتله بسحره وأوجبوا قتله على الإطلاق بحصول الإسم له وهو مع ذلك لا يخلوا من أحد وجهين في ذكره قتل الساحر بغيره إما أن يجيز على الساحر قتل غيره من غير مباشرة ولا اتصال سبب إليه على حسب ما يدعيه السحرة وذلك فظيع شنيع ولا يجيزه أحد من أهل العلم بالله ورسوله من فعل السحرة لما وصفنا من مضاهاته أعلام الأنبياء عليهم السلام أو أن يكون إنما أجاز ذلك من جهة سقى الأدوية ونحوها فإن كان هذا أراد فإن من احتال في إيصال دواء إلى إنسان حتى شربه فإنه لا يلزمه دية إذ كان هو الشارب له والجاني على نفسه كمن دفع إلى إنسان سيفا فقتل به نفسه وإن كان إنما أو جره إياه من غير اختيار لشربه فإن هذا لا يكاد يقع إلا في حال الإكراه والنوم ونحوه فإن كان أراد ذلك فإن هذا يستوي فيه الساحر وغيره ثم قوله إذا قال الساحر قد أخطئ وأصيب وقد مات هذا الرجل من عملي ففيه الدية فإنه لا معنى له لأن رجلا لو جرح رجلا بحديدة قد يموت المجروح من مثله وقد لا يموت لكان عليه فيه القصاص فكان الواجب على قوله إيجاب القصاص كما يجب في الحديدة وقوله قد يموت وقد لا يموت ليس بعلة في زوال القصاص لوجودها في الجارح بحديدة بعد أن يقر الساحر أنه قد مات من عمله* فإن قيل فقد جعله بمنزلة شبه العمد والضرب بالعصا واللطمة التي قد تقتل وقد لا تقتل قيل له ولم صار بالقتل بالعصا واللطمة أشبه منه بالحديدة فإن فرق بينهما من جهة أن هذا سلاح وذاك ليس بسلاح لزمه في كل ما ليس بسلاح أن لا يقتص منه ويلزمه حينئذ اعتبار السلاح دون غيره في إيجاب القود وقول الشافعى وإن قال مرض منه ولم يمت أقسم أولياؤه لمات منه مخالف في النظر لأحكام الجنايات لأن من جرح رجلا فلم يزل صاحب فراش حتى مات لزمه حكم جنايته وكان محكوما بحدوث الموت عند الجراحة ولا يحتاج إلى أيمان الأولياء في موته منها فكذلك يلزمه مثله في الساحر إذا أقر أن المسحور مرض من سحره فإن قيل كذلك نقول في المريض من الجراحة إذا لم يزل صاحب فراش حتى مات أنهم إذا اختلفوا لم يحكم بالقتل حتى يقسم أولياء المجروح قيل له فينبغي أن تقول مثله لو ضربه بالسيف ووالى بين الضرب حتى قتله من ساعته فقال الجارح مات من علة كانت به قبل الضربة الثانية أو قال اخترمه الله تعالى ولم يمت من ضربتي أن تقسم الأولياء وهذا لا يقوله أحد وكذلك ما وصفنا قال

٦٧

أبو بكر قد تكلمنا في معنى السحر واختلاف الفقهاء بما فيه كفاية في حكم الساحر ونتكلم الآن في معاني الآية ومقتضاها فنقول إن قوله تعالى( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) فقد روى فيه عن ابن عباس أن المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان ابن داود عليهما السلام وفي زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى مثله عن ابن جريح وابن إسحاق وقال الربيع بن أنس والسدى المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان وقال بعضهم أراد الجميع من كان منهم في زمن سليمان ومن كان منهم في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن متبعي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوصف الله هؤلاء اليهود الذين لم يقبلوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم مع كفرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهو يريد شياطين الجن والإنس ومعنى تتلو تخبر وتقرأ وقيل تتبع لأن التالي تابع وقوله( عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) قيل فيه على عهده وقيل فيه على ملكه وقيل فيه تكذب عليه لأنه إذا كان الخبر كذبا قيل تلا عليه وإذا كان صدقا قيل تلا عنه وإذا أبهم جاز فيه الأمران جميعا قال الله تعالى( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) وكانت اليهود تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أن ملكه كان به فبرأه الله تعالى من ذلك ذكر ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وقال محمد بن إسحاق قال بعض أحبار اليهود ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله تعالى( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) وقيل إن اليهود إنما أضافت السحر إلى سليمان توصلا منهم إلى قبول الناس ذلك منهم ولتجوزه عليهم وكذبوا عليه في ذلك وقيل إن سليمان جمع كتب السحر ودفنها تحت كرسيه أو في خزانته لئلا يعمل به الناس فلما مات ظهر عليه فقالت الشياطين بهذا كان يتم ملكه وشاع ذلك في اليهود وقبلته وأضافته إليه وجائز أن يكون المراد شياطين الإنس وجائز أن يكون الشياطين دفنوا السحر تحت كرسي سليمان في حياته من غير علمه فلما مات وظهر نسبوه إلى سليمان وجائز أن يكون الفاعلون لذلك شياطين الإنس استخرجوه بعد موته وأوهموا الناس أن سليمان كان فعل ذلك ليوهموهم ويخدعوهم به* قوله تعالى( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) قد قرئ بنصب اللام وخفضها فمن قرأها بنصبها جعلهما من الملائكة ومن قرأها بخفضها جعلهما من غير الملائكة وقد روى عن الضحاك أنهما كان علجين من أهل بابل والقراءتان

٦٨

صحيحتان غير متنافيتين لأنه جائز أن يكون الله أنزل ملكين في زمن هذين الملكين لاستيلاء السحر عليهما واغترارهما وسائر الناس بقولهما وقبولهم منهما فإذا كان الملكان مأمورين بإبلاغهما وتعريفهما وسائر الناس معنى السحر ومخاريق السحرة وكفرها جاز أن نقول في إحدى القراءتين وما أنزل على الملكين اللذين هما من الملائكة بأن أنزل عليهما ذلك ونقول في القراءة الأخرى وما أنزل على الملكين من الناس لأن الملكين كانا مأمورين بإبلاغهما وتعريفهما كما قال الله تعالى في خطاب رسوله( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) وقال في موضع آخر( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ) فأضاف الإنزال تارة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتارة إلى المرسل إليهم وإنما خص الملكين بالذكر وإن كانا مأمورين بتعريف الكافة لأن العامة كانت تبعا للملكين فكان أبلغ الأشياء في تقرير معاني السحر والدلالة على بطلانه تخصيص الملكين به ليتبعهما الناس كما قال لموسى وهارون( اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) وقد كانا عليهما السلام رسولين إلى رعاياه كما أرسلا إليه ولكنه خصه بالمخاطبة لأن ذلك أنفع في استدعائه واستدعاء رعيته إلى الإسلام وكذلك كتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر وخصهما بالذكر دون رعاياهما وإن كان رسولا إلى كافة الناس لما وصفناه من أن الرعية تبع للراعي وكذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه لكسرى (أما بعد فأسلم تسلم وإلا فعليك إثم المجوس) وقال لقيصر(أسلم تسلم وإلا فعليك إثم الأريسين) يعنى أنك إذا آمنت تبعتك الرعية وإن أبيت لم تستجب الرعية إلى الإسلام خوفا منك فهم تبع لك في الإسلام والكفر فلذلك والله أعلم خص الملكين من أهل بابل بإرسال الملكين إليهما كما قال الله تعالى( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) فإن قيل فكيف يكون الملائكة مرسلا إليهم ومنزلا عليهم قيل له هذا جائز شائع لأن الله تعالى قد يرسل الملائكة بعضهم إلى بعض كما يرسلهم إلى الأنبياء كثف أجسامهم وجعلهم كهيئة بنى آدم لئلا ينفروا منهم قال الله تعالى( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) يعنى هيئة الرجل وقوله تعالى( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) معناه والله أعلم أن الله أرسل الملكين ليبينا للناس معاني السحر ويعلموهم أنه كفر وكذب وتمويه لا حقيقة له حتى يجتنبوه كما بين الله على ألسنة رسله سائر المحظورات والمحرمات ليجتنبوه ولا يأتوه فلما كان السحر كفرا وتمويها وخداعا وكان أهل ذلك

٦٩

الزمان قد اغتروا به وصدقوا السحرة فيما ادعوه لأنفسهم به بين ذلك للناس على لسان هذين الملكين ليكشفا عنهم غمة الجهل ويزجراهم عن الاغترار به كما قال تعالى( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) يعنى والله أعلم بينا سبيل الخير والشر ليجتبى الخير ويجتنب الشر وكما قيل لعمر ابن الخطاب فلان لا يعرف الشر قال أجدر أن يقع فيه ولا فرق بين بيان معاني السحر والزجر عنه وبين بيان سائر ضروب الكفر وتحريم الأمهات والأخوات وتحريم الزنا والربا وشرب الخمر ونحوه لأن الغرض لما بينا في اجتناب المحظورات والمقبحات كهو في بيان الخير إذ لا يصل إلى فعله إلا بعد العلم به كذلك اجتباء الطاعات والواجبات فمن حيث وجبت وجب بيان الشر ليجتنبه إذ لا يصل إلى تركه واجتنابه إلا بعد العلم به ومن الناس من يزعم أن قوله( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) معناه أن الشياطين كذبوا على ما أنزل على الملكين كما كذبوا على سليمان وأن السحر الذي يتلوه هؤلاء لم ينزل عليهما وزعم أن قوله تعالى( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ) معناه من السحر والكفر لأن قوله( وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) يتضمن الكفر فرجع الضمير إليهما كقوله تعالى( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ) أى يتجنب الأشقى الذكرى قال وقوله( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ) معناه أن الملكين لا يعلمان ذلك أحدا ومع ذلك لا يقتصران على أن لا يعلماه حتى يبالغا في نهيه فيقولا( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) والذي حمله على هذا التأويل استنكاره أن ينزل الله على الملكين السحر مع ذمه السحر والساحر وهذا الذي ذهب إليه لا يوجب لأن المذموم من يعمل بالسحر لا من بينه للناس ويزجرهم عنه كما أن على كل من علم من الناس معنى السحر أن يبينه لمن لا يعلم وينهاه عنه ليجتنبه وهذا من الفروض التي ألزمنا إياها الله تعالى إذا رأينا من اختدع به وتموه عليه أمره* قوله تعالى( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) فإن الفتنة ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر تقول العرب فتنت الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشه والاختبار كذلك أيضا لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن نفسها والفتنة العذاب في غير هذا الموضع ومنه قوله تعالى( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) فلما كان الملكان يظهران حقيقة السحر ومعناه قالا إنما نحن فتنة وقال قتادة إنما نحن فتنة بلاء وهذا سائغ أيضا لأن أنبياء الله تعالى ورسله فتنته لمن أرسلوا إليهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ويجوز أن يريد أنا فتنة وبلاء لأن من يعلم ذلك منهما يمكنه استعمال ذلك في الشر ولا يؤمن

٧٠

وقوعه فيه فيكون ذلك محنة كسائر العبادات وقولهما فلا تكفر يدل على أن عمل السحر كفر لأنهما يعلمانه إياه لئلا يعمل به لأنهما علماهما ما السحر وكيف الاحتيال ليجتنبه ولئلا يتموه على الناس أنه من جنس آيات الأنبياء صلوات الله عليهم فيبطل الاستدلال بها وقوله تعالى( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) يحتمل التفريق من وجهين أحدهما أن يعمل به السامع فيكفر فيقع به الفرقة بينه وبين زوجته إذا كانت مسلمة بالردة والوجه الآخر أن يسعى بينهما بالنميمة والوشاية والبلاغات الكاذبة والإغراء والإفساد وتمويه الباطل حتى يظن أنه حق فيفارقها* قوله تعالى( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) الإذن هنا العلم فيكون اسما إذا كان مخففا وإذا كان محركا كان مصدرا كما يقول حذر الرجل حذرا فهو حذر فالحذر الإسم والحذر المصدر ويجوز أن يكون مما يقال على وجهين كشبه وشبه ومثل ومثل وقيل فيه إلا بإذن الله أى تخليته أيضا وقال الحسن من شاء الله منعه فلم يضره السحر ومن شاء خلى بينه وبينه فضره* قوله تعالى( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) قيل معناه من استبدل السحر بدين الله ماله في الآخرة من خلاق وهو النصيب من الخير وقال الحسن ماله من دين وهذا يدل على أن العمل بالسحر وقبوله كفر وقوله( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) قيل باعوا به أنفسهم كقول الشاعر :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة

يعنى بعته وهذا أيضا يؤكد أن قبوله والعمل به كفر وكذلك قوله( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) يقتضى ذلك أيضا*

قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ) قال قطرب هي كلمة أهل الحجاز على وجه الهزء وقيل أن اليهود كانت تقولها كما قال الله في موضع آخر( وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ) وكانوا يقولون ذلك عن مواطأة بينهم يريدون الهزء كما قال الله تعالى( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) لأنهم كانوا يقولون السام عليك يوهمون بذلك أنهم يسلمون عليه فأطلع الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك من أمرهم ونهى المسلمون أن يقولوا مثله وقوله راعنا وإن كان يحتمل المراعاة والانتظار فإنه لما احتمل الهزء على النحو الذي كانت اليهود تطلقه نهوا عن إطلاقه لما فيه من احتمال المعنى المحظور إطلاقه وجائز أن يكون الإطلاق مقتضيا

٧١

لمعنى الهزء وإن احتمل الانتظار ومثله موجود في اللغة ألا ترى أن اسم الوعد يطلق على الخير والشر قال الله تعالى( النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وقال تعالى( ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ومتى أطلق عقل به الخير دون الشر فكذلك قوله راعنا فيه احتمال الأمرين وعند الإطلاق يكون بالهزء أخص منه بالانتظار وهذا يدل على أن كل لفظ احتمل الخير والشر فغير جائز إطلاقه حتى يقيد بما يفيد الخير ويدل على أن الهزء محظور في الدين وكذلك اللفظ المحتمل له ولغيره هو محظور والله أعلم بمعاني كتابه.

باب في نسخ القرآن بالسنة وذكر وجوه النسخ

قال الله تعالى( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) قال قائلون النسخ هو الإزالة وقال آخرون هو الإبدال قال الله تعالى( فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ) أى يزيله ويبطله ويبدل مكانه آيات محكمات وقيل هو النقل من قوله( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وهذا الإختلاف إنما هو في موضوعه في أصل اللغة ومهما كان في أصل اللغة معناه فإنه في إطلاق الشرع إنما هو بيان مدة الحكم والتلاوة والنسخ قد يكون في التلاوة مع بقاء الحكم ويكون في الحكم مع بقاء التلاوة دون غيره* قال أبو بكر زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه إنه لا نسخ في شريعة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب قال لأن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الأنبياء وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة وقد كان هذا الرجل ذا حظ من البلاغة وكثير من علم اللغة غير محظوظ من علم الفقه وأصوله وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره ولكنه بعد من التوفيق بإظهار هذه المقالة إذ لم يسبقه إليها أحد بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ونقل ذلك إلينا نقلا لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل كما عقلت أن في القرآن عاما وخاصا ومحكما ومتشابها فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصه وعامه ومحكمه ومتشابهه إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أمورا خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف المعاني واستكراهها وما أدرى ما الذي ألجأه إلى ذلك وأكثر ظني فيه أنه إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف

٧٢

فيه ونقلته الأمة وكان ممن روى فيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ والله يغفر لنا وله وقد تكلمنا في أصول الفقه في وجوه النسخ وما يجوز فيه وما لا يجوز بما يغنى ويكفى* وأما( أَوْ نُنْسِها ) قيل إنه من النسيان وننسأها من التأخير يقال نسأت الشيء أخرته والنسيئة الدين المتأخر ومنه قوله تعالى( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) يعنى تأخير الشهور فإذا أريد به النسيان فإنما هو أن ينسيهم الله تعالى التلاوة حتى لا يقرءوا ذلك ويكون على أحد وجهين إما أن يؤمروا بترك تلاوته فينسوه على الأيام وجائز أن ينسوه دفعة ويرفع من أوهامهم ويكون ذلك معجزة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما معنى قراءة أو ننساها فإنما هو بأن يؤخرها فلا ينزلها وينزل بدلا منها ما يقوم مقامها في المصلحة أو يكون أصلح للعباد منها ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتى فيأتى بدلا منها لو أنزلها في الوقت المتقدم فيقوم مقامها في المصلحة وأما قوله( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) فإنه روى عن ابن عباس وقتادة بخير منها لكم في التسهيل والتيسير كالأمر بأن لا يولى واحد من عشرة في القتال ثم قال( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ) أو مثلها كالأمر بالتوجه إلى الكعبة بعد ما كان إلى البيت المقدس وروى عن الحسن بخير منها في الوقت في كثرة الصلاح أو مثلها فحصل من اتفاق الجميع أن المراد خير لكم إما في التخفيف أو في المصلحة ولم يقل أحد منهم خير منها في التلاوة إذ غير جائز أن يقال أن بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم إذ جميعه معجز كلام الله* قال أبو بكر وقد احتج بعض الناس في امتناع جواز نسخ القرآن بالسنة لأن السنة على أى حال كانت لا تكون خيرا من القرآن وهذا إغفال من قائله من وجوه أحدها أنه غير جائز أن يكون المراد بخير منها في التلاوة والنظم لاستواء الناسخ والمنسوخ في إعجاز النظم والآخر اتفاق السلف على أنه لم يرد النظم لأن قولهم فيه على أحد المعنيين إما التخفيف أو المصلحة وذلك قد يكون بالسنة كما يكون بالقرآن ولم يقل أحد منهم أنه أراد التلاوة فدلالة هذه الآية على جواز نسخ القرآن بالسنة أظهر من دلالتها على امتناع جوازه بها وأيضا فإن حقيقة ذلك إنما تقتضي نسخ التلاوة وليس للحكم في الآية لأنه ذكر قال تعالى( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) والآية إنما هي اسم للتلاوة وليس في نسخ التلاوة ما يوجب نسخ الحكم وإذا كان كذلك جاز أن يكون معناه ما ننسخ من تلاوة آية أو ننسها نأت بخير منها لكم من محكم من طريق السنة أو غيرها وقد

٧٣

استقصينا القول في هذه المسألة في أصول الفقه بما فيه كفاية فمن أرادها فليطلبها هناك إن شاء الله تعالى* قوله تعالى( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) روى معمر عن قتادة في هذه الآية قال نسختها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال قرئ على أبى عبيد وأنا أسمع قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) وقوله تعالى( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) وقوله تعالى( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) وقوله تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) قال نسخ هذا كله قوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وقوله تعالى( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ ) الآية ومثله قوله تعالى( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) وقوله تعالى( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) وقوله تعالى( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) يعنى والله أعلم متاركة فهذه الآيات كلها أنزلت قبل لزوم فرض القتال وذلك قبل الهجرة وإنما كان الغرض الدعاء إلى الدين حينئذ بالحجاج والنظر في معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أظهره الله على يده وأن مثله لا يوجد مع غير الأنبياء ونحوه قوله تعالى( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) وقوله تعالى( قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ) وقوله تعالى( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) ونحوها من الآي التي فيها الأمر بالنظر في أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أظهره الله تعالى له من أعلام النبوة والدلائل الدالة على صدقه ثم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال بعد قطع العذر في الحجاج وتقريره عندهم حين استقرت آياته ومعجزاته عند الحاضر والبادي والداني والقاصي بالمشاهدة والأخبار المستفيضة التي لا يكذب مثلها وسنذكر فرض القتال عند مصيرنا إلى الآيات الموجبة له إن شاء الله تعالى* وقوله تعالى( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ) روى معمر عن قتادة رضى الله تعالى عنهم قال هو بخت نصر خرب بيت المقدس وأعان على ذلك النصارى وقوله تعالى( أُولئِكَ

٧٤

ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ) قال هم النصارى لا يدخلونها إلا مسارقة فإن قدر عليهم عوقبوا لهم في الدنيا خزي قال يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال هم النصارى خربو بيت المقدس* قال أبو بكر ما روى في خبر قتادة يشبه أن يكون غلطا من راويه لأنه لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الأولين أن عهد بخت نصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل والنصارى إنما كانوا بعد المسيح وإليه ينتمون فكيف يكونون مع بخت نصر في تخريب بيت المقدس والنصارى إنما استقاض دينهم في الشام والروم في أيام قسطنطين الملك وكان قبل الإسلام بمائتي سنة وكسور وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أو ثان وكان من ينتحل النصرانية منهم مغمورين مستخفين بأديانهم فيما بينهم ومع ذلك فإن النصارى تعتقد من تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود فكيف أعانوا على تخريبه مع اعتقادهم فيه ومن الناس من يقول إن الآية إنما هي في شأن المشركين حيث منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وأن سعيهم في خرابه إنما هو منعهم من عمارته بذكر الله وطاعته* قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على منع أهل الذمة دخول المساجد من وجهين أحدهما قوله( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) والمنع يكون من وجهين أحدهما بالقهر والغلبة والآخر الإعتقاد والديانة والحكم لأن من اعتقد من جهة الديانة المنع من ذكر الله في المساجد فجائز أن يقال فيه قد منع مسجدا أن يذكر فيه اسمه فيكون المنع هاهنا معناه الحظر كما جائز أن يقال منع الله الكافرين من الكفر والعصاة من المعاصي بأن حظرها عليهم وأوعدهم على فعلها فلما كان اللفظ منتظما للأمرين وجب استعماله على الاحتمالين وقوله( أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ) يدل على أن على المسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها لو لا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها والوجه الثاني قوله( وَسَعى فِي خَرابِها ) وذلك يكون أيضا من وجهين أحدهما أن يخربها بيده والثاني اعتقاده وجوب تخريبها لأن دياناتهم تقتضي ذلك وتوجبه ثم عطف عليه قوله( أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ) وذلك يدل على منعهم منها على ما بينا ويدل على مثل دلالة هذه الآية قوله تعالى( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ) وعمارتها تكون من وجهين أحدهما بناؤها وإصلاحها والثاني حضورها ولزومها كما تقول فلان يعمر مجلس

٧٥

فلان يعنى يحضره ويلزمه وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) وذلك لقوله عز وجل( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) فجعل حضوره المساجد عمارة لها وأصحابنا يجيزون لهم دخول المساجد وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ومما يدل على أنه عام في سائر المساجد وأنه غير مقصور على بيت المقدس خاصة أو المسجد الحرام خاصة إطلاقه ذلك في المساجد فلا يخص شيء منه إلا بدلالة* فإن قيل جائز أن يقال لكل موضع من المسجد مسجد كما يقال لكل موضع من المجلس مجلس فيكون الاسم واقعا على جملته تارة وعلى كل موضع سجود فيه أخرى* قيل له لا تنازع بين أهل اللسان أنه لا يقال للمسجد الواحد مساجد كما لا يقال أنه مسجدان وكما لا يقال للدار الواحدة أنها دور فثبت أن الإطلاق لا يتناوله وإن سمى موضع السجود مسجدا وإنما يقال ذلك مقيدا غير مطلق وحكم الإطلاق فيما يقتضيه ما وصفنا وعلى أنك لا تمتنع من إطلاق ذلك في جميع المساجد وإنما تريد تخصيصه ببعضها دون بعض وذلك غير مسلم لك بغير دلالة قوله تعالى( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) روى أبو أشعث السمان عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى كل رجل منا على حياله ثم أصبحنا فذكرنا ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) وروى أيوب بن عتبة عن قيس بن طلق عن أبيه أن قوما خرجوا في سفر فصلوا فتاهوا عن القبلة فلما فرغوا تبين لهم أنهم كانوا على غير القبلة فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تمت صلاتكم وروى ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن رجل سأل ابن عمر عمن يخطئ القبلة في السفر ويصلّى قال فأينما تولوا فثم وجه الله وحدثنا أبو على الحسين بن على الحافظ قال حدثنا محمد بن سليمان الواسطي قال حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن العنبري قال وجدت في كتاب أبى عبيد الله بن الحسن قال عبد الملك بن أبى سليمان العرزمي عن عطاء بن أبى رباح عن جابر بن عبد الله قال بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا قد عرفنا القبلة هاهنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا وقالت طائفة القبلة هاهنا قبل الجنوب وخطوا خطوطا فلما أصبحنا وطلعت الشمس وأصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فسكت فأنزل الله( فَأَيْنَما

٧٦

تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) أى حيث كنتم قال أبو بكر ففي هذه الأخبار أن سبب نزول الآية كان صلاة هؤلاء الذين صلوا لغير القبلة اجتهادا وروى عن ابن عمر في خبر آخر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلّى على راحلته وهو مقبل من مكة نحو المدينة حيث توجهت وفيه أنزلت( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) وروى معمر عن قتادة في قوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) قال هي القبلة الأولى ثم نسختها الصلاة إلى المسجد الحرام وقيل فيه أن اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّى إلى بيت المقدس فأنزل الله ذلك ومن الناس من يقول إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخيرا في أن يصلّى إلى حيث شاء وإنما كان توجه إلى بيت المقدس على وجه الاختيار لا على وجه الإيجاب حتى أمر بالتوجه إلى الكعبة وكان قوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) في وقت التخيير قبل الأمر بالتوجه إلى الكعبة قال أبو بكر اختلف أهل العلم فيمن صلّى في سفر مجتهدا إلى جهة ثم تبين أنه صلّى لغير القبلة وقال أصحابنا جميعا والثوري إن وجد من يسأله فعرفه جهة القبلة فلم يفعل لم تجز صلاته وإن لم يجد من يعرفه جهتها فصلاها باجتهاده أجزأته صلاته سواء صلاها مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا عنها وروى نحو قولنا عن مجاهد وسعيد بن المسيب وإبراهيم وعطاء والشعبي وقال الحسن والزهري وربيعة وابن أبى سلمة يعيد في الوقت فإذا فات الوقت لم يعد وهو قول مالك رواه ابن وهب عنه وروى أبو مصعب عنه إنما يعيد في الوقت إذا صلاها مستدبر القبلة أو شرق أو غرب وإن تيامن قليلا أو تياسر قليلا فلا إعادة عليه وقال الشافعى من اجتهد فصلّى إلى المشرق ثم رأى القبلة في المغرب استأنف فإن كانت شرقا ثم رأى أنه منحرف فتلك جهة واحدة وعليه أن ينحرف ويعتد بما مضى* قال أبو بكر ظاهر الآية يدل على جوازها إلى أى جهة صلاها وذلك أن قوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) معناه فثم رضوان الله وهو الوجه الذي أمرتم بالتوجه إليه كقوله تعالى( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) يعنى لرضوانه ولما أراده منا وقوله( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) يعنى ما كان لرضاه وإرادته وقد روى في حديث عامر بن ربيعة وجابر اللذين قدمنا أن الآية في هذا أنزلت فإن قيل روى أنها نزلت في التطوع على الراحلة وروى أنها نزلت في بيان القبلة قيل له لا يمتنع أن يتفق هذه الأحوال كلها في وقت واحد ويسئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فينزل الله تعالى الآية ويريد بها بيان حكم جميعها ألا ترى أنه لو نص على كل واحدة

٧٧

منها بأن يقول إذا كنتم عالمين بجهة القبلة ممكنين من التوجه إليها فذلك وجه الله فصلوا إليها وإذا كنتم خائفين أو في سفر فالوجه الذي يمكنكم التوجه إليه فهو وجه الله وإذا اشتبهت عليكم الجهات فصليتم إلى أى جهة كانت فهي وجه الله وإذا لم تتناف إرادة جميع ذلك وجب حمل الآية عليه فيكون مراد الله تعالى بها جميع هذه المعاني على الوجه الذي ذكرنا لا سيما وقد نصر حديث جابر وعامر بن ربيعة أن الآية نزلت في المجتهد إذا أخطأ وأخبر فيه أن المستدبر للقبلة والمتياسر والمتيامن عنها سواء لأن فيه بعضهم صلّى إلى ناحية الشمال والآخر إلى ناحية الجنوب وهاتان جهتان متضادتان ويدل على جوازها أيضا حديث رواه جماعة عن أبى سعيد مولى بنى هاشم قال حدثنا عبد الله بن جعفر عن عثمان ابن محمد عن سعيد المقبري عن أبى هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما بين المشرق والمغرب قبله وهذا يقتضى إثبات جميع الجهات قبلة إذ كان قوله ما بين المشرق والمغرب كقوله جميع الآفاق ألا ترى أن قوله رب المشرق والمغرب أنه أراد به جميع الدنيا وكذلك هو في معقول خطاب الناس متى أريد الإخبار عن جميع الدنيا ذكر المشرق والمغرب فيشمل اللفظ جميعها وأيضا ما ذكرنا من قول السلف يوجب أن يكون إجماعا لظهوره واستفاضته من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليهم ويدل عليه أيضا أن من غاب عن مكة فإنما صلاته إلى الكعبة لا تكون إلا عن اجتهاد لأن أحدا لا يوقن بالجهة التي يصلّى إليها في محاذاة الكعبة غير منحرف عنها وصلاة الجميع جائزة إذ لم يكلف غيرها فكذلك المجتهد في السفر قد أدى فرضه إذ لم يكلف غيرها ومن أوجب الإعادة فإنما يلزم فرضا آخر وغير جائز إلزامه فرضا بغير دلالة فإن ألزمونا عليه بالثوب يصلّى فيه ثم تعلم نجاسته أو الماء يتطهر به ثم يعلم أنه نجس قيل لهم لا فرق بينهم في أن كلا منهم قد أدى فرضه وإنما ألزمناه بعد العلم فرضا آخر بدلالة قامت عليه ولم تقم دلالة على إلزام المجتهد في جهة القبلة فرضا آخر لأن الصلاة تجوز إلى غير جهة القبلة من غير ضرورة وهي صلاة النفل على الراحلة ومعلوم أنه لا ضرر به لأنه ليس عليه فعلها فلما جازت إلى غير القبلة من غير ضرورة فإذا صلّى الفرض إلى غير جهتها على ما كلف لم يكن عليه عند التبين غيرها ولما لم تجز الصلاة في الثوب النجس إلا لضرورة ولم تجز الطهارة بماء نجس بحال لزمته الإعادة ومن جهة أخرى وهي أن المجتهد بمنزلة صلاة المتيمم إذا عدم الماء فلا يلزمه

٧٨

الإعادة لأن الجهة التي توجه إليها قد قامت له مقام القبلة كالتيمم قائم مقام الوضوء ولم يوجد للمصلّى في الثوب النجس والمتطهر بماء نجس ما يقوم مقام الطهارة فهو بمنزلة المصلّى بغير تيمم ولا ماء ويدل على ذلك وهو أصل يرد إليه مسألتنا صلاة الخائف لغير القبلة ويبنى عليها من وجهين أحدهما أنها جهة لم يكلف غيرها في الحال والثاني قيام هذه الجهة مقام القبلة فلا إعادة عليه كالمتيمم ويدل على أن المراد من قوله تعالى( فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) الصلاة لغير القبلة أنه معلوم أن مقدار مساحة الكعبة لا يتسع لصلاة الناس الغائبين عنها حتى يكون كل واحد منهم مصليا لمحاذاتها ألا ترى أن الجامع مساحته أضعاف مساحة الكعبة وليس جميع من يصلّى فيه محاذيا لسمتها وقد أجيزت صلاة الجميع فثبت أنهم إنما كلفوا التوجه إلى الجهة التي هي في ظنهم أنها محاذية الكعبة لا محاذاتها بعينها وهذا يدل على أن كل جهة قد أقيمت مقام جهة الكعبة في حال العذر* فإن قيل إنما جازت صلاة الجميع في الأصل الذي ذكرت لأن كل واحد منهم يجوز أن يكون هو المحاذي للكعبة دون من بعد منه ولم يظهر في الثاني توجه إلى غير جهة الكعبة فأجزأته صلاته من أجل ذلك وليست هذه نظير مسألتنا من قبل أن المجتهد في مسألتنا قد تبين أنه صلّى إلى غيرها* قيل له لو كان هذا الإعتبار سائغا في الفرق بينهما لوجب أن لا تجيز صلاة الجميع لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار عشرين ذراعا إذا كان مسامتها ثم قد رأينا أهل الشرق والغرب قد أجزأتهم صلاتهم مع العلم بأن الذي حاذوهاهم القليل الذين يقصر عددهم عن النسبة إلى الجميع لقلتهم وجائز مع ذلك أن يكون ليس فيهم من يحاذى الكعبة حين لم يغادروها ثم أجزأت صلاة الجميع ولم يعتبر حكم الأعم الأكثر مع تعلق الأحكام في الأصول بالأعم الأكثر ألا ترى أن الحكم في كل من في دار الإسلام ودار الحرب يتعلق بالأعم الأكثر دون الأخص الأقل حتى صار من في دار الإسلام محظورا قتله مع العلم بأن فيها من يستحق القتل من مرتد وملحد وحربى ومن في دار الحرب يستباح قتله مع ما فيها من مسلم تاجر أو أسير وكذلك سائر الأصول على هذا المنهاج يجرى حكمها ولم يكن للأكثر الأعم حكم في بطلان الصلاة مع العلم بأنهم على غير محاذاة الكعبة ثبت أن الذي كلف كل واحد منهم في وقته هو ما عنده أنه جهة الكعبة وفي اجتهاده في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها وأن لا إعادة على واحد منهم في الثاني* فإن قيل فأنت

٧٩

توجب الإعادة على من صلّى باجتهاده مع إمكان المسألة عنها إذا تبين له خلافها قيل له ليس هذا موضع الاجتهاد مع وجود من يسئله عنها وإنما أجزنا فيما وصفنا صلاة من اجتهد في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها وإذا وجد من يسئله عن جهة الكعبة لم يكلف فعل الصلاة باجتهاده وإنما كلف المسألة عنها ويدل على ما ذكرنا أنه معلوم من غاب عن حضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنما يؤدى فرضه باجتهاده مع تجويزه أن يكون ذلك الفرض فيه نسخ وقد ثبت أن أهل قبا كانوا يصلون إلى بيت المقدس فأتاهم آت فأخبرهم أن القبلة قد حولت فاستداروا في صلاتهم إلى الكعبة وقد كانوا قبل ذلك مستدبرين لها لأن من استقبل بيت المقدس وهو بالمدينة فهو مستدبر للكعبة ثم لم يؤمروا بالإعادة حين فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس مع ورود النسخ إذ الأغلب أنهم ابتدءوا الصلاة بعد النسخ لأن النسخ نزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالمدينة ثم سار المخبر إلى قبا بعد النسخ وبينهما نحو فرسخ فهذا يدل على أن ابتداء صلاتهم كان بعد النسخ لامتناع أن يطول مكثهم في الصلاة هذه المدة ولو كان ابتداؤها قبل النسخ كانت دلالته قائمة لأنهم فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس بعد النسخ* فإن قيل إنما جاز ذلك لأنهم ابتدءوها قبل النسخ وكان ذلك فرضهم ولم يكن* عليهم فرض غيره* قيل له وكذلك المجتهد فرضه ما أداه إليه اجتهاده ليس عليه فرض* غيره* فإن قيل إذا تبين أنه صلّى إلى غير الكعبة كان بمنزلة من اجتهد في حكم حادثة ثم* وجد النص فيه فيبطل اجتهاده مع النص* قيل له ليس هذا كما ظننت لأن النص في جهة الكعبة إنما هو في حال معاينتها أو العلم بها وليست للصلاة جهة واحدة يتوجه إليها المصلّى بل سائر الجهات للمصلين على حسب اختلاف أحوالهم فمن شاهد الكعبة أو علم بها وهو غائب عنها ففرضه الجهة التي يمكنه التوجه إليها وليست الكعبة جهة فرضه ومن اشتبهت عليه الجهة ففرضه ما أداه إليه اجتهاده فقولك أنه صار من الاجتهاد إلى النص خطأ لأن جهة الكعبة لم تكن فرضه في حال الاجتهاد وإنما النص في حال إمكان التوجه إليها والعلم بها وأيضا فقد كان له الاجتهاد مع العلم بالكعبة والجهل بجهتها فلو كان بمنزلة النص لما ساغ الاجتهاد مع العلم بأن لله تعالى نصا على الحكم كما لا يسوغ الاجتهاد مع العلم بأن لله تعالى نصا على الحكم في حادثة وقوله تعالى( وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) قال أبو بكر فيه دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه

٨٠