أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن15%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77303 / تحميل: 5400
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الله عن سبرة الجهني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا ابن ناحية قال حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال حدثنا عمرو بن أبى سلمة قال حدثنا صدقة عن عبيد الله بن على عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال خرج النساء اللاتي استمتعنا بهن معنا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هن حرام إلى يوم القيامة فإن قيل هذه الأخبار متضادة لأن في حديث سبرة الجهني أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أباحها لهم في حجة الوداع وقال بعضهم عام الفتح وفي حديث على وابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمها يوم خيبر وخيبر كانت قبل الفتح وقبل حجة الوداع فكيف تكون مباحة عام الفتح أو في حجة الوداع وقد حرمت قبل ذلك عام خيبر قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن حديث سبرة مختلف في تاريخه فقال بعضهم في حجة الوداع وفي كلا الحديثين أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أباحها في تلك السفرة ثم حرمها فلما اختلفت الرواة في تاريخه سقط التاريخ وحصل الخبر غير مؤرخ فلا يضاد حديث على وابن عمر الذي اتفقا على تاريخه أنه حرمها يوم خيبر والوجه الآخر أنه جائز أن يكون حرمها يوم خيبر ثم أحلها في حجة الوداع أو في فتح مكة ثم حرمها فيكون التحريم المذكور في حديث على وابن عمر منسوخا بحديث سبرة الجهني ثم تكون الإباحة بما في حديث سبرة أيضا لأن ذلك غير ممتنع فإن قيل روى إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن ابن مسعود قال كنا نغزو مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصى فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قال( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) الآية قيل له هذه المتعة هي التي حرمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سائر الأخبار التي ذكرنا ولم ننكر نحن أنها قد كانت أبيحت في وقت ثم حرمت وليس في حديث ابن مسعود ذكر التاريخ فأخبار الحظر قاضية عليها لأن فيها ذكر الحظر بعد الإباحة وأيضا لو تساويا لكان الحظر أولى لما بيناه في مواضع وأما تلاوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية عند إباحة المتعة وهو قوله تعالى( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) فإنه يحتمل أن يريد به النهى عن الاستخصاء وتحريم النكاح المباح ويحتمل المتعة في حال ما كانت مباحة وقد روى عن عبد الله أنها منسوخة بالطلاق والعدة والميراث ويدل عليه أنه قد علم أنها قد كانت مباحة في وقت فلو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضا متواترا لعموم الحاجة

١٠١

إليه ولعرفتها الكافة كما عرفتها بديا ولما اجتمعت الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية فلما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها موجبين لحظرها مع علمهم بديا بإباحتها دل ذلك على حظرها بعد الإباحة ألا ترى أن النكاح لما كان مباحا لم يختلفوا في إباحته ومعلوم أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كبلواهم بالنكاح فالواجب إذا أن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طريق الاستفاضة ولا نعلم أحدا من الصحابة روى عنه تجريد القول في إباحة المتعة غير ابن عباس وقد رجع عنه حين استقر عنده تحريمها بتواتر الأخبار من جهة الصحابة وهذا كقوله في الصرف وإباحته الدرهم بالدرهمين يدا بيد فلما استقر عنده تحريم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه وتواترت عنده الأخبار فيه من كل ناحية رجع عن قوله وصار إلى قول الجماعة فكذلك كان سبيله في المتعة ويدل على أن الصحابة قد عرفت نسخ إباحة المتعة ما روى عن عمر أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وقال في خبر آخر لو تقدمت فيها لرجمت فلم ينكر هذا القول عليه منكر لا سيما في شيء قد علموا إباحته وإخباره بأنهما كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكونوا قد علموا بقاء إباحتها فاتفقوا معه على حظرها وحاشاهم من ذلك لأن ذلك يوجب أن يكونوا مخالفين لأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عيانا وقد وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فغير جائز منهم التواطؤ على مخالفة أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأن ذلك يؤدى إلى الكفر وإلى الانسلاخ من الإسلام لأن من علم إباحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتعة ثم قال هي محظورة من غير نسخ لها فهو خارج من الملة فإذا لم يجز ذلك علمنا أنهم قد علموا حظرها بعد الإباحة ولذلك لم ينكروه ولو كان ما قال عمر منكرا ولم يكن النسخ عندهم ثابتا لما جاز أن يقروه على ترك النكير عليه وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة إذ غير جائز حظر ما أباحه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من طريق النسخ* ومما يدل على تحريم المتعة من طريق النظر أنا قد علمنا أن عقد النكاح وإن كان واقعا على استباحة منافع البضع فإن استحقاق تلك المنافع بعقد النكاح بمنزلة العقود على المملوكات من الأعيان وأنه مخالف لعقود الإجارات الواقعة على منافع الأعيان ألا ترى أن عقد النكاح يصح مطلقا من غير شرط مدة مذكورة له وأن عقود الإجارات لا تصح إلا على مدد معلومة أو على

١٠٢

عمل معلوم فلما كان ذلك حكم العقد على منافع البضع أشبه عقود البياعات وما جرى مجراها إذا عقدت على الأعيان فلا يصح وقوعه موقتا كما لا يصح وقوع التمليكات في الأعيان المملوكة موقتة ومتى شرط فيه التوقيت لم يكن نكاحا فلا تصح استباحة البضع به كما لا يصح البيع إذا شرط فيه توقيت الملك وكذلك الهبات والصدقات ولا يملكه بشيء من هذه العقود ملكا موقتا وكذلك منافع البضع لما جرت مجرى الأعيان المملوكة لم يصح فيها التوقيت ومما يحتج به القائلون بإباحة المتعة اتفاق الجميع على أنها كانت مباحة في وقت من الزمان ثم اختلفنا في الحظر فنحن ثابتون على ما حصل الاتفاق عليه ولا نزول عنه بالاختلاف فيقال لهم الأخبار التي بها تثبت الإباحة بها يثبت الحظر ذلك لأن كل خبر ذكر فيه إباحة المتعة ذكر فيه حظرها فمن حيث يثبت الإباحة وجب أن يثبت الحظر وإن لم يثبت الإباحة إذا كانت الجهة التي بها تثبت الإباحة بها ورد الحظر وأيضا فإن قول القائل أنا لما اتفقنا على كذا ثم اختلفنا فيه لم ينزل عن الإجماع بالاختلاف قول فاسد لأن الموضع الذي فيه الخلاف ليس هو موضع الإجماع فإذا لم يكن إجماعا فلا بد من دلالة يقيمها على صحة دعواه وأيضا فإن كون الشيء مباحا في وقت غير موجب بقاء إباحته فيما يجوز فيه النسخ وقد دللنا على ثبوت الحظر بعد الإباحة من ظاهر الكتاب والسنة وإجماع السلف قال أبو بكر قد ذكرنا في المتعة وحكمها في التحريم ما فيه بلاغ لمن نصح نفسه ولا خلاف فيها بين الصدر الأول على ما بينا وقد اتفق فقهاء الأمصار مع ذلك على تحريمها ولا يختلفون فيه واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة أياما معلومة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك بن أنس والثوري والأوزاعى والشافعى إذا تزوج امرأة عشرة أيام فهو باطل ولا نكاح بينهما وقال زفر النكاح جائز والشرط باطل وقال الأوزاعى إذا تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها وليس ثم شرط فلا خير في هذا هذا متعة قال أبو بكر لا خلاف بينهم وبين زفر أن عقد النكاح لا يصح بلفظ المتعة وأنه لو قال أتمتع بك عشرة أيام أن ذلك ليس بنكاح وإنما الخلاف إذا عقده بلفظ النكاح فقال أتزوجك عشرة أيام فجعله زفر نكاحا صحيحا وأبطل الشرط فيه لأن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة كما لو قال أتزوجك على أن أطلقك بعد عشرة أيام كان النكاح جائزا والشرط باطلا وإنما الخلاف بينهم وبين زفر في أن

١٠٣

هذا نكاح أو متعة فقال الجمهور هذا متعة وليس بنكاح والدليل على صحة هذا القول أن النكاح إلى أجل هو متعة وإن لم يلفظ بالمتعة ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق ابن الحسن بن ميمون قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني أن أباه أخبره أنهم خرجوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع حتى نزلوا عسفان وذكر قصة أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بالإحلال بالطواف إلا من كان معه هدى قال فلما أحللنا قال استمتعوا من هذه النساء والاستمتاع التزويج عندنا فعرضنا ذلك على النساء فأبين إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلا فذكرنا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال افعلوا فخرجت أنا وابن عمى وأنا أشب منه ومعى برد ومعه برد فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي فقالت برد كبرد وهذا أشب وكان بيني وبينها عشر فبت عندها ليلة ثم أصبحت فخرجت إلى المسجد فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الركن والمقام يقول يا أيها الناس إنى كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن بقي عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فأخبر سبرة في هذا الحديث أن الاستمتاع كان التزويج وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان رخص لهم في توقيت المدة فيه ثم نهى عنه بعد الإباحة فثبت بذلك أن النكاح إلى أجل هو متعة ويدل على ذلك أيضا حديث إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن عبد الله بن مسعود قال كنا نغزو مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصى فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قرأ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) فأخبر عبد الله بن مسعود أن المتعة كانت نكاحا إلى أجل ويدل على ذلك حديث جابر عن عمر بن الخطاب وقد تقدم سنده في باب المتعة أنه قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله واتقوا نكاح هذه النساء ألا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فأخبر عمر أن النكاح إلى أجل هو متعة وإذا ثبت له هذا الاسم وقد نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المتعة انتظم ذلك تحريم النكاح إلى أجل لدخوله تحت الاسم وأيضا لما كانت المتعة اسما للنفع القليل كما قال تعالى( إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ) يعنى نفعا قليلا وسمى الواجب بعد الطلاق متعة بقوله( فَمَتِّعُوهُنَ ) وقال( وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) لأنه أقل من المهر علمنا أن ما أطلق عليه اسم المتعة أو متاع فقد أريد

١٠٤

به التقليل وأنه نزر يسير بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد ويوجبه فسمى ما يعطى بعد الطلاق مما لا يوجب بنفس العقد متاعا ومتعة لقلته بالإضافة إلى المهر المستحق بالعقد وسمى النكاح الموقت متعة لقصر مدته وقلة الانتفاع به بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد من بقائه مؤبدا إلى أن يفرق بينهما الموت أو سبب حادث يوجب التفريق فوجب أن لا يختلف على ذلك في إطلاق اسم المتعة أن يكون بلفظ المتعة أو بلفظ النكاح بعد أن يكون موقتا لأن اسم المتعة يتناولهما من الوجه الذي ذكرنا وأيضا لا يخلو العاقد عقد النكاح على عشرة أيام من أن يجعله موقتا على ما شرط أو يبطل الشرط ويجعله مؤبدا لم يصح ذلك من قبل أن ما بعد الوقت ليس عليه عقد فلا يجوز له أن يستبح بضعها بلا عقد ألا ترى أن من اشترى صبرة من طعام على أنها عشرة اقفزة أو قال قد اشتريت منك عشرة اقفزة من هذه الصبرة أن العقد واقع على عشرة اقفزة دون ما عداها فكذلك إذا عقد النكاح على عشرة أيام فما بعد العشرة ليس عليه عقد النكاح فغير جائز استباحة بضعها فيه بالعقد ولا يجوز أن يجعله موقتا فيكون صريح المتعة فوجب بذلك إفساد العقد وليس هذا بمنزلة قوله قد تزوجتك على أن أطلقك بعد عشرة أيام فيجوز النكاح ويبطل الشرط لأنه عقد النكاح مؤبدا وشرط فيه قطعه بالطلاق ألا ترى أنه إذا لم يطلق كان النكاح باقيا فعلمت أن النكاح قد وقع على وجه التأبيد وإنما شرط قطعه بالطلاق وذلك شرط فاسد والنكاح لا تفسده الشروط فيبطل الشرط ويجوز العقد وليس كذلك إذا تزوجها عشرة أيام لأن ما بعد العشرة ليس عليه عقد ألا ترى أنه لو استأجر دارا عشرة أيام كان العقد واقعا على عشرة أيام وما بعدها ليس عليها عقد ولو سكنها بعد العشرة كان غاصبا ساكنا لها على غير وجه العقد ولا أجر عليه ولو قال آجرتك هذه الدار على أن أفسخ العقد بعد عشرة أيام كانت إجارة فاسدة مؤبدة ما سكن منها من المدة في العشرة وبعدها يلزمه أجر المثل فكذلك النكاح إذا عقد على عشرة فليس على ما بعد العشرة عقد* فإن قيل فلو قال قد تزوجتك على أنك طالق بعد عشرة أيام كان النكاح* موقتا لأنه يبطل بعد مضى العشرة* قيل له ليس هذا نكاحا موقتا بل هو مؤبدا وإنما قطعه بالطلاق ولا فرق بين ذكر الطلاق مع العقد وإيقاعه بعد المدة لأن النكاح قد وقع بديا مؤبدا وإنما أوقع طلاقا لوقت مستقبل فلا يوجب ذلك توقيت العقد* قوله

١٠٥

تعالى( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) معناه المهور فسمى المهر أجرا لأنه بدل منافع البضع ويدل على أن المراد المهر أنه ذكره لمن كان محصنا بالنكاح في قوله( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) وكقوله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) فذكر الإحصان عقيب ذكر النكاح وسمى المهر أجرا وقوله( فَرِيضَةً ) تأكيد لوجوبه وإسقاط للظن وتوهم التأويل فيه إذ كان الفرض ما هو في أعلى مراتب الإيجاب والله أعلم بالصواب.

باب الزيادة في المهور

قال الله تعالى بعد ذكر المهر( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) والفريضة هي التسمية والتقدير كفرائض المواريث والصدقات وقد بينا ذلك فيما سلف وروى عن الحسن في قوله تعالى( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) أنه ما تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره أو هبة جميعه وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر لقوله تعالى( فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) وهو عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء وهو بالزيادة أخص منه بغيرها لأنه علقه بتراضيهما والبراءة والحط والتأخير لا يحتاج في وقوعه إلى رضى الرجل والزيادة لا تصح إلا بقبولهما فلما علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد الزيادة ولا يجوز الاقتصار به على البراءة والحط والتأجيل لأن عموم اللفظ يقتضى جواز الجميع فلا يخص بغير دلالة ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذكر تراضيهما جميعا وإضافة ذلك إليهما وغير جائز إسقاط حكم اللفظ والاقتصار به على ما يجعل وجوده وعدمه سواء وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال زفر بن الهزيل والشافعى الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا وإن لم تقبضها بطلت وقال مالك بن أنس تصح الزيادة فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي بمنزلة مال وهبة لها يقوم به عليه وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شيء لها منه لأنها عطية لم تقبض قال أبو بكر قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة ومما يدل على جواز الزيادة

١٠٦

أن عقد النكاح في ملكهما والدليل على ذلك أنه جائز له أن يخلعها على البضع فيأخذ منها بدله فهما ما لكان للتصرف في البضع فلما كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد النكاح من حيث كانا مالكين للعقد إذا كان الملك هو التصرف وتصرفهما جائز فيه ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها جاز فلا يخلو بعد الإقباض من أن تكون هبة مستقبلة على ما قال زفر والشافعى أو زيادة في المهر لا حقه بالعقد على ما ذكرنا وغير جائز أن تكون هبة مستقبلة لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوجبناها على أنها بدل من البضع لاحقة بالعقد ولا يجوز لنا أن نلزمهما عقدا لم يعقداه على أنفسهما لقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمون عند شروطهم فإذا عقدا على أنفسهما عقدا لم يجز لنا إلزامهما عقدا غيره بظاهر الآية والسنة إذ كانت الآية إنما اقتضت إيجاب الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره لأن إلزامه عقدا غيره لا يكون وفاء بالعقد الذي عقده وكذلك قوله المسلمون عند شروطهم يقتضى الوفاء بالشرط وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره الوفاء بالشرط* فدلت الآية والسنة معا على بطلان قول المخالف من وجهين أحدهما اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط والآخر ما انتظمتا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه ولما بطل إلزامهما الهبة بعد القبض وصح التمليك دل على أنها ملكت من جهة الزيادة* ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة على المرأة بالقبض لأنها بدل من البضع وإذا كانت هبة لم تكن مضمومة عليها وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول وإذا كانت هبة لم يؤثر الطلاق فيها وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يجز لنا إلزامهما عقدا لا ضمان فيه ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عقد بيع لم يجز إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستقبل وفي ذلك دليل على أنه غير جائز إثبات الهبة بعقد الزيادة إذا لم تكن هبة وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلا من البضع مع التسمية وأما قول مالك في جعله إياها هبة ثم قوله أنه إذا طلقها قبل الدخول رجع إليه نصف الزيادة فإنه قول غير منتظم لأنها إن كانت هبة فلا تعلق لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شيء منها إليه وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت* وإنما

١٠٧

قال أصحابنا إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها من قبل أن الزيادة لما لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت ملحقة به وجب أن يكون بقاؤها موقوفا على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ألا ترى أن الزيادة في البيع إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة فكذلك الزيادة في المهر فإن قيل التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل الدخول فهلا كانت الزيادة كذلك إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها فيه فلا فرق بينهما وبين المسمى فيه قيل له عندنا أن المسمى في العقد يبطله كله أيضا إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمى فيها كهلاك المبيع قبل القبض وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة وقد روى عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سمى لها أن نصف المسمى هو متعتها وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وعلى هذا المعنى قالوا في شاهدين شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم رجعا أنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف ألزماه بشهادتهما فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما بالطلاق قبل الدخول فإن قيل هذا التأويل يؤدى إلى مخالفة قوله تعالى( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) لأنك قلت إن الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستئناف* قيل له ليس في الآية نفى لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهرا على وجه الاستيناف وإنما فيه وجوب نصف المفروض غير مقيد بوصف ولا شرط ونحن نوجب النصف أيضا فليس فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستئناف على أنه متعتها مخالفة للآية ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة إنا قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل إذ غير جائز أن يملك البضع بلا بدل ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه إذ لم يكن مسمى في العقد وكذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد والله أعلم.

١٠٨

باب النكاح الإماء

قال الله تعالى( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) قال أبو بكر الذي اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول إلى الحرائر المؤمنات لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات هاهنا الحرائر وليس فيها حظر لغيرهن لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداها كقوله تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحال وقوله تعالى( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) لا يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة وقوله تعالى( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع الله إلها آخر تعالى الله عن ذلك وقد بينا ذلك في أصول الفقه فإذا ليس في قوله تعالى( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) الآية إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله ولا دلالة فيه على حكم من وجد طولا إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة* واختلف السلف في معنى الطول فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدى أنهم قالوا هو الغنى وروى عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم قالوا إذا هوى الأمة فله أن يتزوجها وإن كان موسرا إذا خاف أن يزنى بها فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها فأباحوا له في هذه الحال نكاحها والطول يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل قال الله تعالى( شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ ) قيل فيه ذو الفضل وقيل ذو القدرة والفضل والغنى يتقاربان في المعنى فاحتمل الطول المذكور في الآية الغنى والقدرة واحتمل الفضل والسعة فإذا كان معناه الغنى واحتمل وجهين أحدهما حصول الغنى له بكون الحرة تحته والثاني غنى المال وقدرته على تزوج حرة وإذا كان معناه الفضل احتمل إرادة الغنى لأن الفضل يوجب ذلك والثاني اتساع قلبه لتزوج الحرة والانصراف عن الأمة وإنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسرا على ما روى عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم هذه الوجوه كلها تحتملها الآية وقد اختلف السلف في ذلك فروى عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي ومكحول لا يتزوج الأمة إلا أن لا يجد

١٠٩

طولا إلى الحرة وروى عن مسروق والشعبي قال نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا لمضطر وروى عن على وأبى جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد ابن المسيب رواية وإبراهيم والحسن رواية والزهري قالوا ينكح الأمة وإن كان موسرا وعن عطاء وجابر بن زيد أنه إن خشي أن يزنى بها تزوجها وروى عن عطاء أنه يتزوج الأمة على الحرة وعن عبد الله بن مسعود قال لا يتزوج الأمة على الحرة إلا المملوك وقال عمر وعلى وسعيد بن المسيب ومكحول في آخرين لا يتزوج الأمة على الحرة وقال إبراهيم يتزوج الأمة على الحرة إذا كان له منها ولد وقال إذا تزوج أمة وحرة في عقد واحد بطل نكاحهما جميعا وقال ابن عباس ومسروق إذا تزوج حرة فهو طلاق الأمة وقال إبراهيم رواية يفرق بينه وبين الأمة إلا أن يكون له منها ولد وقال الشعبي إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة ويقسم للحرة يومين وللأمة يوما* قال أبو بكر وهذا* يدل على أنه كان لا يرى تزويج الأمة على الحرة جائزا إن لم ترض الحرة* واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء فروى ابن عباس أنه قال لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة وقال إبراهيم ومجاهد والزهري يجمع أربع إماء أن شاء فاختلف السلف في نكاح الأمة على هذه الوجوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد للرجل أن يتزوج أمة إذا لم تكن تحته حرة وإن وجد طولا إلى الحرة ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة وقال سفيان والثوري إذا خشي على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسرا ومالك والليث والأوزاعى والشافعى الطول المال فإذا وجد طولا إلى الحرة لا يتزوج أمة وإن لم يجد طولا لم يتزوجها أيضا حتى يخشى العنت على نفسه واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعى والشافعى أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها وقال ابن وهب عن مالك لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة والحرة بالخيار وقال ابن القاسم عنه في الأمة تنكح على الحرة أرى أن يفرق بينهما ثم رجع وقال تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت قال وسئل مالك عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طولا إلى الحرة قال أرى أن يفرق بينهما فقيل له إنه يخاف العنت قال

١١٠

السوط يضرب به ثم خففه بعد ذلك قال وقال مالك إذا تزوج العبد أمة على حرة فلا خيار للحرة لأن الأمة من نسائه وقال عثمان البتى لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة* والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته قول الله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح الحرة أحدهما إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد المذكور من غير تخصيص لحرة من أمة والثاني قوله تعالى في نسق الخطاب( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) ومعلوم أن قوله( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وهو عقد النكاح فكان تقديره فاعقدوا نكاحا على ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم وغير جائز إضمار الوطء فيه إذ لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو الحرة* فإن قيل قوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) إباحة معقودة بشرط وهي أن تكون مما طاب لنا فدل على أنه مما طاب حتى يجوز العقد وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان* قيل له قوله تعالى( ما طابَ لَكُمْ ) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معناه ما استطبتموه فيكون مفيدا للتخيير كقول القائل اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكل ما طاب لك من هذا الطعام فيفيد تخييره في فعل ما شاء منه والوجه الآخر ما حل لكم فإن كان المراد الوجه الأول فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في الحرائر والإماء وإن كان معناه ما حل لكم فإنه قد عقبه ببيان ما طاب لكم منها وهو قوله تعالى( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) فقد خرج بذلك عن حيز الإجمال إلى حيز العموم واستعمال العموم واجب كيف تصرفت الحال وعلى أنها لو كانت محتملة للعموم والإجمال جميعا لكان حملها على معنى العموم أولى لإمكان استعماله ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجه فعلينا استعماله ويدل عليه قوله تعالى( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) وذلك عموم في الحرائر والإماء ويدل عليه قوله تعالى( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ

١١١

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) والإحصان اسم يقع على الإسلام وعلى العقد يدل عليه قوله تعالى( فَإِذا أُحْصِنَ ) روى عن بعض السلف فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن ومعلوم أنه لم يرد به التزويج في هذا الموضع فثبت أنه أراد العفاف وذلك عموم في الحرائر والإماء وقوله تعالى( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) هو عموم أيضا في تزويج الإماء الكتابيات ويدل عليه قوله تعالى( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح الحرائر ويدل عليه أيضا قوله تعالى( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) ومحال أن يخاطب بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة ومن وجد طولا إلى الحرة المشركة فهو يجد طولا إلى الحرة المسلمة فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة المشركة* ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى كالقدرة على تزويج البنت لا يحرم تزويج الأم والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم نكاح أختها فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج الأمة بل الأمة أيسر أمرا في ذلك من الأختين والأم والبنت والدليل عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع اجتماع الأم والبنت والأختين تحته فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي هو أغلظ حكما مانعا من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج الحرة تأثير في منع نكاح الأمة* واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ـ إلى قوله تعالى ـذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وأنه أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطول إلى الحرة وخشية العنت فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعا وهذه الآية قاضية على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج* قيل له ليس في هذه الآية حظر نكاح الأمة في حال وجود الطول إلى الحرة وإنما فيها إباحته في حال عدم الطول إليها وسائر الآي التي تلونا يقتضى إباحة نكاحها في سائر الأحوال فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى لورودهما جميعا في حكم الإباحة وليس في واحدة منهما حظر فلا يجوز أن يقال إن هذه مخصصة لها والجميع وارد في حكم واحد* فإن قيل

١١٢

هذا كقوله تعالى( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) فكان مقتضى جميع ذلك امتناع جوازه مع وجود ما قبله* قيل له لأنه جعل الفرق بديا عتق رقبة فاقتضى ذلك أن يكون الفرض هو العتق لا غير فلما نقله عند عدم الرقبة إلى الصيام اقتضى ذلك أن لا يجزى غيره إذا عدم الرقبة فلما قال( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) كان حكم الكفارة مقصورا على المذكور في الآية على ما اقتضته من الترتيب وليس معك آية تحظر نكاح الإماء حتى إذا ذكرت إباحتهن بشرط وحال كان عدم الشرط والحال موجبا لحظرهن بل سائر الآي الواردة في إباحة النكاح ليس فيها فرق بين الحرائر والإماء فليس إذا في قوله( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ) دلالة على حظرهن عند وجود الطول إلى الحرة* وذكر إسماعيل بن إسحاق هذه الآية وذكر اختلاف السلف فيها ثم ذكر قول أصحابنا في تجويزهم نكاح الأمة مع القدرة على تزويج الحرة فقال وهذا قول تجاوز فساده ولا يحتمل التأويل لأنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت* قال أبو بكر قوله لا يحتمل التأويل خلاف الإجماع وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا فيه وقد حكينا أقاويلهم ولو لا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها ولو كان لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف إذ غير جائز لأحد تأويل آية على معنى لا تحتمله وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها ولو كان هذا القول غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه فإذا كان هذا القول مستفيضا فيهم من نكير ظهر من أحد منهم على قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل الذي تأولته فقد بأن بما وصفنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح وأما قوله إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت فإنه لا يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصا أو دليلا فإن ادعى نصا طولب بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك وإن ادعى على ذلك دليلا طولب بإيجاده وذلك معدوم فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه والتعجب من قول خصمه اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال والشرط دليل على حظر ما عداه فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج إلى دليل وما نعلم أحدا استدل بمثله قبل الشافعى ولو كان هذا دليلا لكانت

«٨ ـ أحكام لث»

١١٣

الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من أحكام الحوادث التي لم يخل كثير منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات وفي تركهم الاستدلال بمثله دليل على أن ذلك لم يكن عندهم دليلا على شيء فإذا لم يحصل إسماعيل من قوله هو محظور في الكتاب على حجة ولا شبهة* وقد حكى داود الأصبهانى أن إسماعيل سئل عن النص ما هو فقال النص ما اتفقوا عليه فقيل له فكل ما اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنص فقال القرآن كله نص فقيل له فلم اختلف أصحاب محمد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن كله نص فقال داود ظلمه السائل ليس مثله يسئل عن هذه المسألة هو أقل من أن يبلغ علمه هذا الموضع فإن كانت حكاية دواد عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره على القائلين بإباحة نكاح الأمة مع إمكان تزوج الحرة لأنه حكى عنه أنه قال مرة ما اتفقوا عليه فهو نص وقال مرة القرآن كله نص وليس في القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمة أيضا على خلافه وفي حكاية داود هذا عن إسماعيل عهدة وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم وما أظن تعجب إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة على حظر ما عدا المذكور وقد بينا أن ذلك ليس بدليل واستقصينا القول فيه أصول الفقه ومما يدل على صحة قولنا أن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة لأن الضرورة ما يخاف فيها تلف النفس وليس في فقد الجماع تلف النفس وقد أبيح له نكاح الأمة فإذا جاز نكاح الأمة في غير ضرورة فلا فرق بين وجود الطول وعدمه إذ عدم الطول ليس بضرورة في التزوج إذ لا تقع لأحد ضرورة إلى التزوج إلا أن يكره عليه بما يوجب تلف النفس أو بعض الأعضاء ويدل على أن الإباحة المذكورة في الآية غير معقودة بضرورة قوله في نسق الخطاب( أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وما اضطر إليه الإنسان من ميتة أو لحم خنزير أو نحوه لا يكون الصبر عليه خيرا له لأنه لو صبر عليه حتى مات كان عاصيا وأيضا فليس النكاح بفرض حتى تعتبر فيه الضرورة وأصله تأديب وندب وإذا كان كذلك وقد جاز في غير الضرورة وجب أن يجوز في حال وجود الطول كما أجاز في حال عدمه وقوله تعالى( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) في نسق التلاوة قيل فيه إن كلكم من آدم وقيل فيه كلكم مؤمنون يدل على

١١٤

أنه أراد المساواة بينهم في النكاح وهذا يدل على وجوب التسوية بين الحرة والأمة إلا فيما تقوم فيه دلالة التفضيل وأما من قال إن نكاح الحرة طلاق للأمة فقوله واه ضعيف لا مساغ له في النظر لأنه لو كان كما ذكر لوجب أن يكون الطول إلى الحرة فاسخا لنكاح الأمة كما قال الشعبي كالمتيمم إذا وجد الماء ينتقض تيممه توضأ أو لم يتوضأ وقد روى عن أبى يوسف أنه تأول قوله تعالى( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) على عدم الحرة في ملكه وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته وهذا التأويل سائغ لأن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها إذ لا يصل إليها ولا يقدر على وطئها فكان وجود الطول عنده هو ملك وطء الحرة وهو أولى بمعنى الآية من تأول من تأوله على القدرة على تزوجها لأن القدرة على المال لا توجب له ملك الوطء إلا بعد النكاح فوجود الطول بحال ملك الوطء أخص منه بوجود المال الذي به يتوصل إلى النكاح ويدل عليه أنا وجدنا لملك وطء الزوجة تأثيرا في منع نكاح أخرى ولم نجد هذه المزية لوجود المال فإذا لا حظ لوجود المال في منع نكاح الأمة فتأويل أبى يوسف الآية على ملك وطء الحرة أصح من تأويل من تأولها على ملك المال فإن قيل وجود ثمن رقبة الظهار كوجود الرقبة في ملكه فهلا كان وجود مهر الحرة كوجود نكاحها* قيل له هذا خطأ منتقض من وجوه أحدها أنك لم تعقده بمعنى يوجب الجمع بينهما وبدلالة يدل بها على صحة المعنى وما خلا من ذلك من دعوى الخصم فهو ساقط غير مقبول والثاني أن ذلك يوجب أن يكون وجود مهر امرأة في ملكه كوجود نكاحها في منع تزويج أمها أو أختها فلما لم يكن ذلك بأن به فساد ما ذكرت وعلى أن الرقبة ليست عروضا للنكاح لأن الرقبة فرض عليه عتقها وغير جائز له الانصراف عنها مع وجودها وجائز للرجل أن لا يتزوج مع الإمكان فلما كان كذلك كان وجود ثمن الرقبة في ملكه كوجودها إذ كانت فرضا هو مأمور بعتقها على حسب الإمكان وليس النكاح بفرض فيلزمه التوصل إليه لوجود المهر فليس إذا لوجود المهر في ملكه تأثير في منع نكاح الأمة وكان واجده بمنزلة من لم يجد وإنما قال أصحابنا إنه لا يتزوج الأمة على الحرة لما روى الحسن ومجاهد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا تنكح الأمة على الحرة ولو لا ما ورد من الأثر لم يكن تزويج الأمة على الحرة محظورا إذ ليس في القرآن ما يوجب حظره والقياس يوجب إباحته ولكنهم اتبعوا

١١٥

الأثر في ذلك والله تعالى أعلم.

باب نكاح الأمة الكتابية

قال أبو بكر اختلف أهل العلم فيه فروى عن الحسن ومجاهد وسعيد بن عبد العزيز وأبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم كراهة ذلك وهو قول الثوري وقال أبو ميسرة في آخرين يجوز نكاحها وهو قول أبى حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وروى عن أبى يوسف أنه كرهه إذا كان مولاها كافرا والنكاح جائز ويشبه أن يكون ذهب إلى أن ولدها يكون عبدا لمولاها وهو مسلم بإسلام الأب كما يكره بيع العبد المسلم من الكافر وقال مالك والأوزاعى والشافعى والليث بن سعد لا يجوز النكاح والدليل على جوازه جميع ما ذكرنا من عموم الآي في الباب الذي قبله الموجبة لجواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة ودلالتها على جواز نكاح الأمة الكتابية كهي على إباحة نكاح المسلمة ومما يختص منها بالدلالة على هذه المسألة قوله عز وجل( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وروى جرير عن ليث عن مجاهد في قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال العفائف وروى هشيم عن مطرف عن الشعبي( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتحصن فرجها من الزنا فثبت بذلك أن اسم الإحصان قد يتناول الكتابية قال تعالى( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) فاستثنى ملك اليمين من المحصنات فدل على أن الاسم يقع عليهن لو لا ذلك لما استثناهن وقال تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ) فأطلق اسم الإحصان في هذا الموضع على الإماء ولما ثبت أن اسم المحصنات يقع على الكتابيات من الحرائر والإماء وأطلق الله نكاح الكتابيات المحصنات بقوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) كان عاما في الحرائر والإماء منهن فإن احتجوا بقوله( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ ) وكانت هذه مشركة وقال في آية أخرى( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) فكانت إباحة نكاح الإماء مقصورة على المسلمات منهن دون الكتابيات وجب أن يكون نكاح الإماء الكتابيات باقيا في حكم الحظر قيل له إطلاق اسم المشركات لا يتناول الكتابيات وإنما يقع على عبدة الأوثان دون غيرهم لأن الله تعالى

١١٦

قد فرق بينهما في قوله( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ) فعطف المشركين على أهل الكتاب وهذا يدل على أن إطلاق الاسم إنما يتناول عبدة الأوثان دون غيرهم فلم يعم الكتابيات فغير جائز الاعتراض به في حظر نكاح الإماء الكتابيات وأيضا فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قاض على قوله( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) وذلك لأنهم لا يختلفون في جواز نكاح الحرائر الكتابيات فليس يخلو حينئذ قوله( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) من أن يكون عاما في إطلاقه للكتابيات والوثنيات أو أن يكون إطلاقه مقصورا على الوثنيات دون الكتابيات فإن كان الإطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة ساقط فيه إذ ليس بناف فيه لنكاح الكتابيات وإن كان الإطلاق ينتظم الصنفين جميعا لو حملنا على ظاهره فقد اتفقوا أنه مرتب على قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) لاتفاق الجميع على استعماله معه في الحرائر منهن وإذا كان كذلك لم يخل من أن تكون الآيتان نزلتا معا أو أن تكون إباحة نكاح الكتابيات متأخرا عن حظر نكاح المشركات أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات فإن كانتا نزلتا معا فهما مستعملتان جميعا على جهة ترتيب حظر نكاح المشركات على إباحة نكاح الكتابيات أو أن يكون نكاح الكتابيات نكاح الكتابيات فإن كان كذلك فإنه ورد مرتبا على إباحة نكاح الكتابيات فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرفت الحال على الحال على أنه ولا خلاف أن قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) نزل بعد تحريمه نكاح المشركات لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة وإباحة نكاح الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها فهي قاضية على تحريم المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات ثم لما تفرق الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى عمومها الفريقين منهن وجب استعمالها فيهما جميعا وأن لا يعترض بتحريم نكاح المشركات عليهن كما لم يجز الاعتراض به على الحرائر منهن وأما تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) فقد بينا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر

١١٧

لا يدل على أن ما عدا المخصوص حكمه بخلافه* فإن قيل لا يصح الاحتجاج بقوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) في إباحة النكاح وذلك لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معاني مختلفة وليس بعموم فيجري على مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان فما ورد به البيان من توقيف أو اتفاق صرنا إليه وكان حكم الآية مقصورا عليه وما لم يرد به بيان فهو على إجماله لا يصح الاحتجاج بعمومه فلما اتفق الجميع على أن الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهن ولما لم تقم الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احتجنا في إثباتها إلى دليل من غيرها* قيل له لما روى عن جماعة من السلف في قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إنهن العفائف منهن إذا كان اسم الإحصان يقع على العفة وجب اعتبار عموم اللفظ في جميع العفائف إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان وما عدا ذلك من ضروب الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع أنه مراد أثبتناه وما عداه يحتاج مثبته شرطا في الإباحة إلى دلالة فإن قيل اسم الإحصان يقع على الحرية فما أنكرت أن يكون المراد بقوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) الحرائر منهن قيل له لما كان معلوما أنه لم يرد بذكر الإحصان في هذا الموضع استيفاء شرائطه لم يجز لأحد أن يقتصر بمعنى الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض بل إذا تناوله الاسم من وجه وجب اعتبار عمومه فيه فلما كانت الأمة قد يتناولها اسم الإحصان على الإطلاق في بعض الوجوه من طريق العفة أو غيرها جاز اعتبار عموم اللفظ فيه وإذا جاز لك أن تقتصر باسم الإحصان على الحرية دون غيرها فجائز لغيرك أن يقتصر به على العفاف دون غيره وغير جائز لنا إجمال حكم اللفظ مع إمكان استعماله على العموم وقد أطلق الله اسم الإحصان على الأمة فقال تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) فقال بعضهم أراد فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن فكان اعتبار هذا العموم سائغا في إيجاب الحد عليهن وقد قال في الآية( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ) ولم يرد به حصول جميع شرائط الإحصان وإنما أراد به العفائف منهن وحرم ذوات الأزواج بقوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) فكان عموما في تحريم الأزواج إلا

١١٨

ما استثناهن فكذلك قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) لا يمنع ذكر الإحصان فيه من اعتبار عمومه فيمن يقع عليه الاسم من جهة العفاف على ما روى عن السلف* ومن جهة النظر أنه لا خلاف بين الفقهاء في إباحة وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وكل من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح على الوجه الذي يجوز عليه نكاح الحرة المنفردة الا ترى أن المسلمة لما جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بالنكاح وأن الأخت من الرضاعة وأم المرأة وحليلة الابن وما نكح الآباء لما لم يجز وطؤهن بملك اليمين حرم وطؤهن بالنكاح فلما اتفق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وجب جواز وطئها بالنكاح على الوجه الذي يجوز فيه وطء الحرة المنفردة فإن قيل قد يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين ولا يجوز بالنكاح كما إذا كانت تحته حرة قيل له لم نجعل ما ذكرنا علة لجواز نكاحها في سائر الأحوال وإنما جعلناه علة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها ألا ترى أن الأمة المسلمة يجوز نكاحها منفردة ولو كانت تحته حرة لما جاز نكاحها لأنه لم يجز نكاحها من طريق جمعها إلى الحرة كما لا يجوز نكاحها لو كانت أختها تحته وهي أمة فعلنا صحيحة مستمرة جارية في معلولاتها غير لازم عليها ما ذكرت إذ كانت منصوبة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها وبالله التوفيق.

باب نكاح الأمة بغير إذن مولاها

قال الله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) قال أبو بكر قد اقتضى ذلك بطلان نكاح الأمة إلا أن يأذن سيدها وذلك لأن قوله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) يدل على كون الإذن شرطا في جواز النكاح وإن لم يكن النكاح واجبا وهو مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم أن السلم ليس بواجب ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وإن لم يكن حتما فعليه إذا أراد أن يتزوج الأمة أن لا يتزوجها إلا بإذن سيدها وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المعنى في نكاح العبد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فهو عاهر حدثنا عبد

١١٩

الباقي قال حدثنا محمد بن الخطابي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال سمعت جابر بن عبد الله يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيما عبد تزوج بغير إذن سيده زنا وروى هشيم عن يونس عن نافع أن مملوكا لابن عمر تزوج بغير إذنه فضربهما وفرق بينهما وأخذ كل شيء أعطاها وقال الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فالأمر إلى المولى إن شاء أجاز وإن شاء رد وقال عطاء نكاح العبد بغير إذن سيده ليس بزنا لكنه أخطأ السنة وروى قتادة عن خلاس أن غلاما لأبى موسى تزوج بغير إذنه فرفع ذلك إلى عثمان ففرق بينهما وأعطاها الخمسين وأخذ ثلاثة أخماس قال أبو بكر واتفق من ذكرنا قوله من السلف أنه لاحد عليهما وإنما روى الحد عن ابن عمر وجائز أن يكون جلدهما تعزيرا لا حدا فظن الراوي أنه حد واتفق على وعمر في المتزوجة في العدة أنه لاحد عليها ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفهما في ذلك والعبد الذي تزوج بغير أذن مولاه أيسر أمرا من المتزوجة في العدة لأن ذلك نكاح تلحقه الإجازة عند عامة التابعين وفقهاء الأمصار ونكاح المعتدة لا تلحقه إجازة عند أحد وتحريم نكاح المعتدة منصوص عليه في الكتاب في قوله تعالى( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) وتحريم نكاح العبد من جهة خبر الواحد والنظر* فإن قيل قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في العبد يتزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقد قال*صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللعاهر الحجر * قيل له لا خلاف أن العبد غير مراد بقوله وللعاهر الحجر لأنه لا يرجم إذا زنى وإنما سماه عاهرا على المجاز والتشبيه بالزاني لإقدامه على وطء محظور وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم العينان تزنيان والرجلان تزنيان وذلك مجاز فكذلك قوله في العبد وأيضا فقد قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ولم يذكر الوطء ولا خلاف أنه لا يكون عاهرا بالتزوج فدل أن إطلاقه ذلك كان على وجه المجاز تشبيها له بالعاهر* وقوله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) يدل على أن للمرأة أن تزوج أمتها لأن قوله( أَهْلِهِنَ ) المراد به الموالي لأنه لا خلاف أنه لا يجوز لها أن تتزوج بغير مولاها وأنه لا اعتبار بإذن غير المولى إذا كان المولى بالغا عاقلا جائز التصرف في ماله وقال الشافعى لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها وإنما توكل غيرها بالتزويج وهو قول يرده ظاهر الكتاب لأن الله تعالى لم يفرق بين عقدها التزويج وبين عقد غيرها بإذنها ويدل على أنها إذا أذنت لامرأة أخرى في

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388