أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن20%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77300 / تحميل: 5399
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

باب الفرائض

قال أبو بكر قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر السبب فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة روى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم إلى أن أنزل الله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ ) إلى قوله تعالى( وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ) وأنزل الله تعالى قوله( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن تقلوا عنه إلى غيره بالشريعة* قال ابنجريج قلت لعطاء أبلغك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر الناس على ما أدركهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طلاق أو نكاح أو ميراث قال لم يبلغنا إلا ذلك وروى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال توارث المهاجرين والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية وقال ابن جريح عن عمرو بن شعيب قال ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقره على ذلك إلا الربا فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبض رد البائع رأس ماله وطرح الربا* وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير فإن بعث الله تعالى محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه وإلأفهم ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم وهو على ما روى عن ابن عباس أنه قال الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم الله تعالى وما سكت عنه فهو عفو فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير من الأشياء المقبحة في العقول وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول فبعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا إلى توحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامى وما كانوا يتقربون به إلى

٢

أوثانهم وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه فكان ذلك جائزا منهم إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاقلة منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث وكان السبب الذي يتوارثون به شيئين أحدهما الحلف والمعاقدة والآخر التبني ثم جاء الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمى دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك قال فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعا له فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء فأنزل الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فكان يعطى من ميراثه وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول ترثني وأرثك وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلا فمات فنزلت( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) فأخبر هؤلاء السلف ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية وقال بعضهم لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله

٣

تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال كان حلفاء في الجاهلية فأمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) قال نزلت هذه الآية في العصبات كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وأرثك فنزلت( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن على بن طلحة عن ابن عباس( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال كان الرجل يقول ترثني وأرثك فنسختها( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) قال إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) وأن قوله تعالى( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث وأولى الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف لأن قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) يقتضى نصيبا ثابتا لهم والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت وهو مثل قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ) المفهوم من ظاهره إثبات نصيب من الميراث كذلك قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا بنصيب فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له والوصية إن لم تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب فتأويل الآية على النصيب المسمى له في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون وهذا عندنا ليس بمنسوخ وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث إلا أن الإبن أولى منه وكذلك أولوا الأرحام أولى من الحليف فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له* وأما الميراث بالدعوة والتبني فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) وقال تعالى( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها

٤

وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) وقال تعالى( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ) وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنى سالما فكان يقال له سالم بن أبى حذيفة إلى أن أنزل الله تعالى( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) رواه الزهري عن عروة عن عائشة فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبني ونسخ ميراثه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرنى سعيد بن المسيب في قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال ابن المسيب إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوى الرحم والعصبة وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليه أمرهم قال أبو بكر وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) منتظما للحلف والتبني جميعا إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله* وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين أحدهما نسب والآخر سبب ليس بنسب فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه من كتابه وبين رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روى نسخه وإن ذلك عندنا ليس بنسخ وإنما جعل وارث أولى من وارث* وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابى ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث

٥

الأعرابى المهاجر فنسختها( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) وقال بعضهم نسخها قوله تعالى( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وكانوا يتواثون بالأخوة التي آخى بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم وروى هشام بن عروة عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك فارتث كعب يوم أحد فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ولو مات كعب عن الضح والريح لورثه الزبير حتى أنزل الله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وروى ابن جريح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فإن كان المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أخيه فلما نزلت هذه الآية( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) نسخت ثم قال تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) من النصر والرفادة فذكر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) أريد به معاقدة الأخوة التي آخى بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى( ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) أن المسلمين كانوا يتواثون بالهجرة والإسلام فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ الله تعالى ذلك بقوله( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) وروى جعفر بن سليمان عن الحسن قال كان الأعرابى المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا قربى ليحثهم بذلك على الهجرة فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) فنسخت هذه الآية تلك( إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) فرخص الله للمسلم أن يوصى لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه( كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) قال مكتوبا فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه ومن الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة وهو عندنا يجرى مجرى الحلف وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السبب والنسب والسبب كان على أنحاء مختلفة

٦

منها المعاقدة بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة فأما إيجاب الميراث بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوى الأرحام وولاء العتاقة والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء ثلاثة ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام وسنبين ذلك في موضعه فأما الآيات الموجبة لميراث ذوى الأنساب من ذوى السهام والعصبات وذوى الأرحام فقوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وقوله تعالى( وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ) نسخ بهما في رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث وقوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) فيه بيان للنصيب المفروض في قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ـ إلى قوله تعالى ـنَصِيباً مَفْرُوضاً ) والنصيب المفروض هو الذي بين مقداره في قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) وقد روى عن ابن عباس أنه قرأ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) فقال قد نسخ هذا قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وقال مجاهد كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحب فجعل للولد الذكر مثل حظ الأنثيين وجعل لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد قال ابن عباس وقد كان الرجل إذا مات وخلف زوجته اعتدت سنة كاملة في بيته ينفق عليها من تركته وهو قوله تعالى( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ) ثم نسخ ذلك بالربع أو الثمن وقوله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) نسخ به التوارث بالحلف وبالهجرة وبالتبني على النحو الذي بينا وكذلك قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) هي آية محكمة غير منسوخة وهي موجبة لنسخ الميراث بهذه الأسباب التي ذكرنا لأنه جعل الميراث للمسلمين فيها فلا يبقى لأهل هذه الأسباب شيء وذلك موجب لسقوط حقوقهم في هذه الحال وروى محمد بن عبد الله بن عقيل عن جابر

٧

ابن عبد الله قال جاءت امرأة من الأنصار ببنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان بنتا ثابت ابن قيس قتل معك يوم أحد ولم يدع لهما عمهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول الله فو الله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقضى الله في ذلك فنزلت سورة النساء( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) الآية فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم ادع إلى المرأة وصاحبها فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك * قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر معاني منها أن العم قد كان يستحق الميراث دون البنتين على عادة أهل الجاهلية في توريث المقاتلة دون النساء والصبيان ولم ينكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك حين سألته المرأة بل أقر الأمر على ما كان عليه وقال لها يقضى الله في ذلك ثم لما نزلت الآية أمر العم بدفع نصيب البنتين والمرأة إليهن وهذا يدل على أن العم لم يأخذ الميراث بديا من جهة التوقيف بل على عادة أهل الجاهلية في المواريث لأنه لو كان كذلك لكان إنما يستأنف فيما يحدث بعد نزول الآية وما قد مضى على حكم منصوص متقدم لا يعترض عليه بالنسخ فدل على أنه أخذه على حكم الجاهلية التي لم ينقلوا عنها وروى سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال مرضت فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني فأتانى وقد أغمى على فتوضأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رش على من وضوئه فأفقت فقلت يا رسول الله كيف تقضى في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية المواريث( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) قال أبو بكر ذكر في الحديث الأول قصة المرأة مع بنتيها وذكر في هذا الحديث أن جابرا سأله عن ذلك وجائز أن يكون الأمر ان جميعا قد كانا سألته المرأة فلم يجبها منتظرا للوحى ثم سأله جابر في حال مرضه فنزلت الآية وهي ثابتة الحكم مثبتة للنصيب المفروض في قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) الآية* ولم يختلف أهل العلم في أن المراد بقوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) أولاد الصلب وإن ولد الولد غير داخل مع ولد الصلب وأنه إذا لم يكن ولد الصلب فالمراد أولاد البنين دون أولاد البنات فقد انتظم اللفظ أولاد الصلب وأولاد الإبن إذا لم يكن ولد الصلب وهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى لولد فلان أنه لولده لصلبه فإن لم يكن له ولد لصلبه فهو لولد ابنه* وقوله تعالى( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) قد أفاد أنه إن كان ذكرا وأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم وأفاد أيضا

٨

أنهم إذا كانوا جماعة ذكورا وإناثا أن لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهما وأفاد أيضا أنه إذا كان مع الأولاد ذو وسهام نحو الأبوين والزوج والزوجة أنهم متى أخذوا سهامهم كان الباقي بعد السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لأن قوله تعالى( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) اسم للجنس يشتمل على القليل والكثير منهم فمتى ما أخذ ذوو السهام سهامهم كان الباقي بينهم على ما كانوا يستحقونه لو لم يكن ذو سهم* وقوله عز وجل( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فنص على نصيب ما فوق الإبنتين وعلى الواحدة ولم ينص على فرض الإبنتين لأن في فحوى الآية دلالة على بيان فرضهما وذلك لأنه قد أوجب للبنت الواحدة مع الإبن الثلث وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أولى وقد احتجنا إلى بيان حكم ما فوقهما فلذلك نص على حكمه وأيضا لما قال الله تعالى( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فلو ترك ابنا وبنتا كان للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين فدل ذلك على أن نصيب الإبنتين الثلثان لأن الله تعالى جعل نصيب الإبن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان ويدل على أن للبنتين الثلثين أن الله تعالى أجرى الأخوة والأخوات مجرى البنات وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة فقال تعالى( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) ثم قال( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فجعل حظ الأختين كحظ ما فوقهما وهو الثلثان كما جعل حظ الأخت كحظ البنت وأوجب لهم إذا كانوا ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين فوجب أن تكون الإبنتان كالأختين في استحقاق الثلثين لمساواتهما لهما في إيجاب المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم يكن غيرهم كما في مساواة الأخت للبنت إذا لم يكن غيرهم في استحقاق النصف بالتسمية وأيضا البنتان أولى بذلك إذا كانتا أقرب إلى الميت من الأختين وإذا كانت الأخت بمنزلة البنت فكذلك البنتان في استحقاق الثلثين ويدل على ذلك حديث جابر في قصة المرأة التي أعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها البنتين الثلثين والمرأة الثمن والعم ما بقي* ولم يخالف في ذلك أحد إلا شيئا روى عن ابن عباس أنه جعل للبنتين النصف كنصيب الواحدة واحتج بقوله تعالى( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) وليس في ذلك دليل على أن للابنتين النصف وإنما فيه نص على أن ما فوق الإبنتين فلهن

٩

الثلثان فإن كان القائل بأن للابنتين الثلثين مخالفا للآية فإن الله تعالى قد جعل للابنة النصف إذا كانت وحدها وأنت جعلت للابنتين النصف وذلك خلاف الآية فإن لم تلزمه مخالفة الآية حين جعل للابنتين النصف وإن كان الله قد جعل للواحدة النصف فكذلك لا تلزم مخالفيه مخالفة الآية في جعلهم للابنتين الثلثين لأن الله تعالى لم ينف بقوله تعالى( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) أن يكون للابنتين الثلثان وإنما نص على حكم ما فوقهما وقد دل على حكمهما في فحوى الآية على النحو الذي بينا وما ذكرناه من دلالة حكم الأختين على حكم الإبنتين على ما ذكرنا وقد قيل إن قوله تعالى( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) أن ذكر فوق هاهنا صلة للكلام كقوله تعالى( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ) * قوله تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) يوجب ظاهره أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى لأن اسم الولد ينتظمهما إلا أنه لا خلاف إذا كان الولد بنتا لا تستحق أكثر من النصف لقوله تعالى( وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فوجب أن تعطى النصف بحكم النص ويكون للأبوين لكل واحد السدس بنص التنزيل ويبقى السدس يستحقه الأب بالتعصيب فاجتمع هاهنا للأب الاستحقاق بالتسمية وبالتعصيب جميعا وإن كان الولد ذكرا فللأبوين السدسان بحكم النص والباقي للابن لأنه أقرب تعصيبا من الأب* وقال تعالى( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) فأثبت الميراث للأبوين بعموم اللفظ ثم فصل نصيب الأم وبين مقداره بقوله( فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ولم يذكر نصيب الأب فاقتضى ظاهر اللفظ للأب الثلثين إذ ليس هناك مستحق غيره وقد أثبت الميراث لهما بديا وقد كان ظاهر اللفظ يقتضى المساواة لو اقتصر على قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) دون تفصيل نصيب الأم فلما قصر نصيب الأم على الثلث علم أن المستحق للأب الثلثان قوله تعالى( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) قال على وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وسائر أهل العلم إذا ترك أخوين وأبوين فلأمه السدس وما بقي فلأبيه وحجبوا الأم عن الثلث إلى السدس كحجبهم لها بثلاثة أخوة وقال ابن عباس للأم الثلث وكان لا يحجبها إلا بثلاثة من الأخوة والأخوات وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس إذا ترك أبوين وثلاثة أخوة فللأم السدس وللأخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب

١٠

وروى عنه أنه إن كان الأخوة من قبل الأم فالسدس لهم خاصة وإن كانوا من قبل الأب والأم أو من قبل الأب لم يكن لهم شيء وكان ما بعد السدس للأب والحجة للقول الأول أن اسم الأخوة قد يقع على الإثنين كما قال تعالى( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) وهما قلبان وقال تعالى( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) ثم قال تعالى( خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ) فأطلق لفظ الجمع على اثنين وقال تعالى( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال اثنان فما فوقهما جماعة ولأن الإثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد لأن لفظ الجمع موجود فيهما نحو قولك قاما وقعدا وقاموا وقعدوا كل ذلك جائز في الإثنين والثلاثة ولا يجوز مثله في الواحد فلما كان الاثنان في حكم اللفظ أقرب إلى الثلاثة منهما إلى الواحد وجب إلحاقهما بالثلاثة دون الواحد وقد روى عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) وأنت تحجبها بالأخوين فقال إن العرب تسمى الأخوين أخوة فإذا كان زيد بن ثابت قد حكى عن العرب أنها تسمى الأخوين أخوة فقد ثبت أن ذلك اسم لهما فيتناولهما اللفظ وأيضا قد ثبت أن حكم الأختين حكم الثلاث في استحقاق الثلثين بنص التنزيل في قوله تعالى( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ) وكذلك حكم الأختين من الأم حكم الثلاث في استحقاق الثلث دون حكم الواحدة فوجب أن يكون حكمهما حكم الثلاث في حجب الأم عن الثلث إلى السدس إذ كان حكم كل واحد من ذلك حكما متعلقا بالجمع فاستوى فيه حكم الإثنين والثلاث وروى عن قتادة أنه قال إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب لأنه يقوم بنكاحهم والنفقة عليهم دون الأم وهذه العلة إنما هي مقصورة على الأخوة من الأب والأم والأخوة من الأب فأما الأخوة من الأم فليس إلى الأب شيء من أمرهم وهم يحجبون أيضا كما يحجب الأخوة من الأب والأم ولا خلاف بين الصحابة في ثلاثة أخوة وأبوين أن للأم السدس وما بقي فللأب إلا شيئا يروى عن ابن عباس وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن للأم السدس وللأخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وكان لا يحجب بمن

١١

لا يرث فلما حجب الأم بالأخوة ورثهم وهو قول شاذ وظاهر القرآن خلافه لأنه تعالى قال( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ثم قال تعالى( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) عطفا على قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) تقديره وورثه أبواه وله أخوة وذلك يمنع أن يكون للأخوة شيء* قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) الدين مؤخر في اللفظ وهو مبتدأ به في المعنى على الوصية لأن أولا توجب الترتيب وإنما هي لأحد شيئين فكأنه قيل من بعد أحد هذين وقد روى عن على كرم الله وجهه أنه قال ذكر الله الوصية قبل الدين وهي بعده يعنى أنها مقدمة في اللفظ مؤخرة في المعنى* قوله تعالى( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) الآية هذا نص متفق على تأويله كاتفاقهم تنزيله وأن الولد الذكر والأنثى في ذلك سواء يحجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن إذا كان الولد من أهل الميراث ولم يختلفوا أيضا أن ولد الابن بمنزلة ولد الصلب في حجب الزوج والمرأة عن النصيب الأكثر إلى الأقل إذا لم يكن ولد الصلب* قوله تعالى( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) قيل إن معناه لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعا في الدين والدنيا والله يعلمه فاقسموه على ما بينه إذ هو عالم بالمصالح وقيل إن معناه آباؤكم وأبناؤهم متقاربون في النفع حتى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا إذ كنتم تنتفعون بآبائكم في حال الصغر وتنتفعون بأبنائكم عند الكبر ففرض ذلك في أموالكم للآباء والأبناء علما منه بمصالح الجميع وقيل لا يدرى أحدكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله أم الولد أقرب وفاة فينتفع الأب والأم بماله ففرض في مواريثكم ما فرض علما منه وحكما وقد اختلف السلف في الحجب بمن لا يرث وهو أن يخلف الحر المسلم أبوين حرين مسلمين وأخوين كافرين أو مملوكين أو قاتلين فقال على وعمر وزيد للأم الثلث وما بقي فللأب وكذلك المسلمة إذا تركت زواجا وابنا كافرا أو مملوكا أو قاتلا أو الرجل ترك امرأة وابنا كذلك أنهم لا يحجبون الزوج ولا المرأة عن نصيبهما الأكثر إلى الأقل وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعى وقال عبد الله بن مسعود يحجبون وإن لم يرثوا وقال الأوزاعى والحسن بن صالح المملوك والكافر لا يرثان ولا يحجبان والقاتل يرث ويحجب* قال أبو بكر لا خلاف أن الأب الكافر لا يحجب ابنه من ميراث جده وأنه بمنزلة الميت فكذلك في حكم حجب الأم والزوج

١٢

والزوجة واحتج من حجب بظاهر قوله تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) ولم يفرق بين الكافر والمسلم فيقال له فلم حجبت به الأم دون الأب والله تعالى إنما حجبهما جميعا بالولد بقوله تعالى( لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) فإن جاز أن لا يحجب الأب وجعلت قوله تعالى( إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) على ولد يجوز الميراث فكذلك حكمه في الأم* قوله تعالى( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ـ إلى قوله تعالى ـفَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ) قد دل على أنهن إذا كن أربعا يشتركن في الثمن وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم* وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة فقال على وعمر وعبد الله بن مسعود وعثمان وزيد للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وقال ابن عباس للزوج والزوجة ميراثهما وللأم الثلث كاملا وما بقي فللأب وقال لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي وعن ابن سيرين مثل قول ابن عباس وروى أنه تابعه في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لتفضيله الأم على الأب والصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على القول الأول إلا ما حكينا عن ابن عباس وابن سيرين وظاهر القرآن يدل عليه لأنه قال( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) فجعل الميراث بينهما أثلاثا كما جعله أثلاثا بين الابن والبنت في قوله تعالى( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وجعله بين الأخ والأخت أثلاثا بقوله تعالى( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ثم لما سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما وأخذا نصيبهما كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما وكذلك بين الأخ والأخت وجب أن يكون أخذ الزوج والزوجة نصيبهما موجبا للباقي بين الأبوين على ما استحقاه أثلاثا قبل دخولهما وأيضا هما كشريكين بينهما مال إذا استحق منه شيء كان الباقي بينهما على ما استحقاه بديا والله أعلم بالصواب.

باب ميراث أولاد الابن

قال أبو بكر رضى الله عنه قد بينا أن قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) قد أريد به أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب إذ لا خلاف أن من ترك بنى ابن وبنات ابن أن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين بحكم الآية وكذلك لو ترك بنت ابن

١٣

كان لها النصف وإن كن جماعة كان لهن الثلثان على سهام ميراث ولد الصلب فثبت بذلك أن أولاد الذكور مرادون بالآية* واسم الولد يتناول أولاد الابن كما يتناول أولاد الصلب قال الله تعالى( يا بَنِي آدَمَ ) ولا يمتنع أحد أن يقول أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ولد هاشم ومن ولد عبد المطلب فثبت بذلك أن اسم الأولاد يقع على ولد الابن وعلى ولد الصلب جميعا إلا أن أولاد الصلب يقع عليهم هذا الاسم حقيقة ويقع على أولاد الابن مجازا ولذلك لم يردوا في حال وجود أولاد الصلب ولم يشاركوهم في سهامهم وإنما يستحقون ذلك في أحد حالين إما أن يعدم ولد الصلب رأسا فيقومون مقامهم وإما أن لا يجوز ولد الصلب الميراث فيستحقون بعض الفضل أو جميعه* فإما أن يستحقوا مع أولاد* الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه ولد الصلب بعضهم مع بعض فليس كذلك* فإن قيل لما كان الاسم يتناول ولد الصلب حقيقة وولد الابن مجازا لم يجز أن يرادوا* بلفظ واحد لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازا* قيل له إنهم لم يرادوا بلفظ واحد في حال واحدة متى وجد أولاد الصلب فإن ولد الابن لا يستحقون الميراث معهم بالآية وليس يمتنع أن يراد ولد الصلب في حال وجودهم وولد الابن في حال عدم ولد الصلب فيكون اللفظ مستعملا في حالين في إحداهما هو حقيقة وفي الأخرى هو مجاز ولو أن رجلا قال قد أوصيت بثلث مالي لولد فلان وفلان وكان لأحدهما أولاد لصلبه ولم يكن للآخر ولد لصلبه وكان له أولاد ابن كانت الوصية لولد فلان لصلبه ولأولاد أولاد فلان ولم يمتنع دخول أولاد بنيه في الوصية مع أولاد الآخر لصلبه وإنما يمتنع دخول ولد فلان لصلبه وولد ولده معه فأما ولد غيره لغير صلبه فغير ممتنع دخوله مع أولاد الآخر لصلبه فكذلك قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) يقتضى ولد الصلب لكل واحد من المذكورين إذا كان ولا يدخل معه ولد الابن ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن دخل في اللفظ ولد ابنه وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) خطاب لكل واحد من الناس فكان كل واحد منهم مخاطبا به على حياله فمن له منهم ولد لصلبه تناوله اللفظ على حقيقته ولم يتناول ذلك ولد ابنه ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن فهو مخاطب بذلك على حياله فيتناول ولد ابنه* فإن قيل إن اسم الولد يقع على كل واحد من ولد الصلب وولد الابن حقيقة لم يبعد إذ كان الجميع منسوبين إليه من

١٤

جهة ولادته ونسبه متصل به من هذا الوجه فيتناول الجميع كالأخوة لما كان اسما لاتصال النسب بينه وبينه من جهة أحد أبويه شمل الاسم الجميع وكان عموما فيهم جميعا سواء كانوا لأب وأم أو لأب أم لأم* وبدل عليه أن قوله تعالى( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) قد عقل به حليلة ابن الابن كما عقل به حليلة ابن الصلب فإذا ترك بنتا وبنت ابن فللبنت النصف بالتسمية ولبنت الابن السدس وما بقي للعصبة فإن ترك بنتين وبنت ابن وابن ابن فللبنتين الثلثان والباقي لابن الابن وبنت الابن بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وكذلك لو كانت بنتين وبنات ابن وابن ابن ابن أسفل منهن كان للبنات الثلثان وما بقي فبين بنات الابن ومن هو أسفل منهن من بنى ابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين* وهذا قول أهل العلم جميعا من الصحابة والتابعين إلا ما روى عن عبد الله ابن مسعود أنه كان يجعل الباقي لابن الابن وإن سفل ولا يعطى بنات الابن شيئا إذا استكمل البنات الثلثين وإنما كان يجعل لبنات الابن تكملة الثلثين مثل أن يترك بنتا وبنات ابن فيكون للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين فإن كان معهن ابن ابن لم يعط بنات الابن أكثر من السدس وكذلك قوله في الأخوات من الأب مع الأخوات من الأب والأم وذهب في ذلك إلى أن إناث ولد الابن لو كن وحدهن لم يأخذن شيئا بعد استيفاء البنات الثلثين فكذلك إذا كان لهن أخ لم يكن لهن شيء ألا ترى أنه لو كان ابن عم مع إحداهن لم يأخذن شيئا* وليس هذا عند الجماعة كذلك لأن بنات الابن يأخذن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب وأخوهن ومن هو أسفل منهن يعصبهن كبنات الصلب يأخذن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب فلو انفرد البنات لم يأخذن أكثر من الثلثين وإن كثرن ولو كان معهن أخ لهن وهن عشر كان لهن خمسة أسداس المال فيأخذن في حال كون الأخ معهن أكثر مما يأخذن في حال الانفراد فكذلك حكم بنات الابن إذا استوفى بنات الصلب الثلثين لم يبق لهن فرض فإن كان معهن أخ صرن عصبة معه ووجبت قسمة الثلث الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكذلك قالوا في بنتين وبنت ابن وأخت أن للبنتين الثلثين والباقي للأخت ولا شيء لبنت الابن لأنها لو أخذت في هذه الحال التي ليس معها ذكر كانت مستحقة بفرض البنات والبنات قد استوعبن الثلثين فلم يبق من فرض البنات شيء تأخذه فكانت الأخت أولى لأنها عصبة مع البنات

١٥

فما تأخذه الأخت في هذه الحال فإنما تأخذه بالتعصيب فإذا كان مع بنت الابن أخ لها كان الباقي بعد الثلثين بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شيء للأخت* وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة قال حدثنا على بن مسهر عن الأعمش عن أبى قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال جاء رجل إلى أبى موسى الأشعرى وسلمان بن ربيعة فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم فقالا للبنت النصف وللأخت النصف ولم يورثا بنت الابن شيئا وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ولكن أقضى فيها بقضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنته النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت من الأب والأم * فهذا السدس تأخذه بنت الابن بالفرض لا بالتعصيب لم يختلفوا فيه إلا ما روى عن أبى موسى الأشعرى وسلمان بن ربيعة وهو الآن اتفاق ثم لم يخالفهم عبد الله لو كان معها أخ أن للبنت النصف وما بقي فبين بنت الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين وأنها لا تعطى السدس في هذه الحال كما أعطيت إذا لم يكن معها أخ ففي هذا دليل على أن بنت الابن تستحق تارة بالفرض وتارة بالتعصيب مع أخواتها كفرائض بنات الصلب ومن قول عبد الله في بنت وبنات ابن وابن ابن أن للبنت النصف وما بقي فبين بنات لابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تزد أنصباء بنات الابن على السدس فلا يعطيهن أكثر من السدس فلم يعتبر الفرض على حدة في هذه الحال ولا التعصيب على حدة ولكنه اعتبر التسمية في منع الزيادة على السدس واعتبر المقاسمة في النقصان وهو خلاف القياس والله أعلم بالصواب.

باب الكلالة

قال الله عز وجل( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) قال أبو بكر الميت نفسه يسمى كلالة وبعض من يرثه يسمى كلالة وقوله تعالى( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) يدل على أن الكلالة هاهنا اسم الميت والكلالة حاله وصفته ولذلك انتصب وروى السميط بن عمير أن عمر رضى الله عنه قال أتى على زمان وما أدرى ما الكلالة وإنما الكلالة ما خلا الولد والوالد وروى عاصم الأحول عن الشعبي قال قال أبو بكر رضى الله عنه الكلالة ما خلا الولد والوالد فلما طعن عمر رضى

١٦

الله عنه قال رأيت أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وإنى لأستحيى الله أن أخالف أبا بكر هو ما عدا الوالد والولد وروى طاوس عن ابن عباس قال كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب فسمعته يقول القول ما قلت قلت وما قلت قال الكلالة من لا ولد له وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال سألت ابن عباس عن الكلالة فقال من لا ولد له ولا والد قال قلت فإن الله تعالى يقول في كتابه( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ ) فغضب وانتهرني* فظاهر الآية وقول من ذكرناهم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمى كلالة لأنهم قالوا الكلالة من لا والد له ولا ولد وقال بعضهم الكلالة من لا ولد له وهذه صفة الموروث الميت لأنه معلوم أنهم لم يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي لا ولد له ولا والد إذ كان وجود الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من موروثه وإنما يتغير حكم الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث والذي يدل على أن اسم الكلالة قد يقع على بعض الوارثين ما رواه شعبة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال أتانى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني وأنا مريض فقلت يا رسول الله كيف الميراث فإنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض وهذا الحرف تفرد به شعبة في رواية محمد بن المنكدر فأخبر أن الكلالة ورثته ولم ينكر عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال حدثنا رجل من بنى سعد أن سعدا مرض بمكة فقال يا رسول الله ليس لي وارث إلا كلالة فأخبر أيضا أن الكلالة هم الورثة وحديث سعد متقدم لحديث جابر لأن مرضه كان بمكة وليس فيه ذكر الآية فقال قوم كان في حجة الوداع وقال قوم كان في عام الفتح ويقال إن الصحيح أنه كان في عام الفتح وحديث جابر كان بالمدينة في آخر أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى شعبة عن أبى إسحاق عن البراء قال آخر آية نزلت( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) وآخر سورة نزلت براءة قال يحيى بن آدم وقد بلغنا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال للذي سأله عن الكلالة يكفيك آية الصيف وهي قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) لأنها نزلت في الصيف ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجهز إلى مكة ونزلت عليه آية الحج( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) وهي آخر آية نزلت بالمدينة ثم خرج إلى مكة فنزلت عليه بعرفة يوم عرفة( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) الآية ثم نزلت عليه من الغد يوم النحر( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ

«٢ ـ أحكام لث»

١٧

فِيهِ إِلَى اللهِ ) هذه الآية ثم لم ينزل عليه شيء بعدها حتى قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها هكذا سمعنا قال يحيى وفي حديث آخر أن رجلا سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكلالة فقال من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة قال أبو بكر ولم يذكر تاريخ الأخبار والآي لأن الحكم يتغير فيما ذكرنا بالتاريخ ولكنه لما جرى ذكر الآي والأخبار اتصل ذلك بها وإنما أردنا بذلك أن نبين أن اسم الكلالة يتناول الميت تارة وبعض الورثة تارة أخرى* وقد اختلف السلف في الكلالة فروى جرير عن أبى إسحاق الشيباني عن عمرو ابن مرة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يورث الكلالة قال أو ليس قد بين الله تعالى ذلك ثم قرأ( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ) إلى آخر الآية فأنزل الله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) إلى أخرها قال فكان عمر لم يفهم فقال لحفصة إذا رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم طيب نفس فسليه عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فقال أبوك كتب لك هذا ما أرى أباك يعلمها أبدا قال فكان عمر يقول ما أرانى أعلمها أبدا وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال قال عمر ثلاث لا يكون بينهن لنا أحب إلى من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا وروى قتادة عن سالم بن أبى الجعد عن معدان بن أبى طلحة قال قال عمر ما سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري ثم قال يكفيك آية الصيف وروى عن عمر أنه قال عند موته اعلموا أنى لم أقل في الكلالة شيئا* فهذه الأخبار التي ذكرنا تدل على أنه لم يقطع فيها بشيء وأن معناها والمراد بها كان ملتبسا عليه قال سعيد بن المسيب كان عمر كتب كتابا في الكلالة فلما حضرته الوفاة محاه وقال ترون فيه رأيكم فهذه إحدى الروايات عن عمر وروى عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد وروى عنه أن الكلالة من لا ولد له وروى عن أبى بكر الصديق وعلى وابن عباس في إحدى الروايتين أن الكلالة ما عدا الوالد والولد وروى محمد بن سالم عن الشعبي عن ابن مسعود أنه قال الكلالة ما خلا الوالد والولد وعن زيد ابن ثابت مثله وروى عن ابن عباس رواية أخرى أن الكلالة ما خلا الوالد* قال أبو بكر اتفقت الصحابة على أن الولد ليس من الكلالة واختلفوا في الوالد فقال الجمهور الوالد خارج من الكلالة وقال ابن عباس في

١٨

إحدى الروايتين مثله وفي رواية أخرى أن الكلالة ما عدا الولد* فلما اختلف السلف فيها على هذه الوجوه وسأل عمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معناها فوكله إلى حكم الآية وما في مضمونها وهي قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) وقد كان عمر رجلا من أهل اللسان لا يخفى عليه ما طريق معرفته اللغة ثبت أن معنى اسم الكلالة غير مفهوم من اللغة وأنه من متشابه الآي التي أمرنا الله تعالى بالاستدلال على معناه بالحكم ورده إليه ولذلك لم يجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ووكله إلى استنباطه والاستدلال عليه وفي ذلك ضروب من الدلالة على المعاني أحدها أن بمسئلته إياه لم يلزمه توقيفه على معناها من طريق النص لأنه لو كان واجبا عليه توقيفه على معناها لما أخلاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيانها وذلك أنه لم يكن أمر الكلالة في الحال التي سأل عنها حادثة تلزمه تنفيذ حكمها في الحال ولو كان كذلك لما أخلاه من بيانها وإنما سأله سؤال مستفهم مسترشد لمعنى الآية من طريق النص ولم يكن عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف الناس على جليل الأحكام ودقيقها لأن منها ما هو مذكور باسمه وصفته ومنها ما هو مدلول عليه بدلالة مفضية إلى العلم به لا احتمال فيه ومنها ما هو موكولا إلى اجتهاد الرأى فرد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر إلى اجتهاده وهذا يدل على أنه رآه من أهل الاجتهاد وأنه ممن قال الله تعالى( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وفيه الدلالة على تسويغ اجتهاد الرأى في الأحكام وأنه أصل يرجع إليه في أحكام الحوادث والاستدلال على معاني الآي المتشابهة وبنائها على المحكم واتفاق الصحابة أيضا على تسويغ الاجتهاد في استخراج معاني الكلالة يدل على ذلك ألا ترى أن بعضهم قال هو من لا ولد له ولا والد وقال بعضهم من لا ولد له وأجاب عمر بأجوبة مختلفة ووقف فيها في بعض الأحوال ولم ينكر بعضهم على بعض الكلام فيها بما أداه إليه اجتهاده وفي ذلك دليل على اتفاقهم على تسويغ الاجتهاد في الأحكام ويدل على أن ما روى أبو عمران الجونى عن جندب قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ إنما هو فيمن قال فيه بما سنخ في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول وأن من استدل على حكمه واستنبط معناه فحمله على المحكم المتفق على معناه فهو ممدوح مأجور ممن قال الله تعالى( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وقد تكلم أهل اللغة في معنى الكلالة قال أبو عبيدة معمر بن المثنى الكلالة كل من لم يرثه أب ولا ابن فهو

١٩

عند العرب كلالة مصدر من تكلله النسب أى تعطف النسب عليه قال أبو عبيدة من قرأها يورث بالكسر أراد من ليس بولد ولا والد* قال أبو بكر والذي قرأه بالكسر* الحسن وأبو رجاء العطاردي* قال أبو بكر وقد قيل إن الكلالة في أصل اللغة هو الإحاطة فمنه الإكليل لإحاطته بالرأس ومنه الكل لإحاطته بما يدل عليه فالكلالة في النسب من أحاط بالولد والوالد من أخوة والأخوات وتكللهما وتعطف عليها والولد والوالد ليس بكلالة لأن أصل النسب وعموده الذي إليه ينتهى هو الولد والوالد ومن سواهما فهو خارج عنهما وإنما يشتمل عليهما بالانتساب عن غير جهة الولادة ممن نسب إليه كالإكليل المشتمل على الرأس وهذا يدل على صحة قول من تأولها على ما عدا الوالد والولد وإن الولد إذا لم يكن من الكلالة فكذلك الولد لأن نسبة كل واحد منهما إلى الميت من طريق الولادة وليس كذلك الأخوة والأخوات لأن نسب كل واحد منهما لا يرجع إلى الميت من طريق ولاد بينهما ويشبه أن يكون من تأوله على من عدا الوالد وأخرج الولد وحده من الكلالة إن الولد من الوالد وكأنه بعضه وليس الوالد من الولد كما ليس الأخ والأخت ممن ينسب إليه بالأخوة فاعتبر من قال ذلك الكلالة بمن لا ينسب إليه بأنه منه وبعضه فأما من كانت نسبته إلى الميت من حيث هو منه فليس بكلالة وقد كان اسم الكلالة مشهورا في الجاهلية قال عامر بن الطفيل.

فإنى وإن كنت ابن فارس عامر

وفي السر منها والصريح المهذب

فما سودتني عامر عن كلالة

أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

وهذا يدل على أنه رأى الجد الذي انتسبوا إليه كلالة وأخبر مع ذلك أن سيادته ليست من طريق النسب والكلالة لكنه بنفسه ساد ورأس وقال بعضهم كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد والكلالة هو الإعياء لأنه قد يبعد عليه تناول ما يريده وأنشد الفرزدق :

ورثتم قناة الملك غير كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

يعنى : ورثتموها بالآباء لا بالأخوة والعمومة* وذكر الله تعالى الكلالة في موضعين من كتابه أحدهما قوله تعالى( قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) إلى آخر الآية فذكر ميراث الأخوة والأخوات

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بدرجة يطيعون اوامره وينفذون وصاياه الىٰ هذا الحدّ !

فأنظر ـ والكلام لابن سينا ـ الفارق الىٰ ايّ مستوىٰ ! اجل يا بهمنيار ، فلا يمكن الادعاء بما للعظماء كذباً.

الاصدقاء جميعهم : الحقيقة عين ما اشرت إليه.

السبب الحقيقي لنفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

العقيد : اصدقائي ارجو ان لا تستعجلوا الحكم ، مع ان كلام الشيخ لا يمكن انكاره الى حدّ ما ، فنفوذ الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس عادياً ، لكني اتصور ان جزءاً من نفوذ قدرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الذين عاصروا ذلك العظيم هي الاعمال التي كانوا يرونها منه والتي كانوا يتصورونها معاجز ، في حين ان المعجزة والامر الذي ليس له اسباب وعلل طبيعية وعادية ، مشكوك فيه في عالمنا المعاصر ، والجزء الآخر من نفوذه والذي يرتبط بعصرنا فهو محصور بين المسلمين غير العلماء ، وطبيعي فالنفوذ الىٰ قلوب مثل هذه النماذج من الناس ليس امراً عجيباً أو صعباً.

طالب الطب ، حسن : انا اوافق سيادة العقيد في هذا الرأي.

الشيخ : اشكركم أيُّها السادة ، علىٰ طرحكم ما ترونه موضع اشكال بحرية تامة ودون مجاملات ، وهدفنا من طرح هذه المواضيع هو دراسة الاشكالات التي يراها الاصدقاء في مواجهة الدين الاسلامي المقدس ، والاجابة عليها.

٨١

الاصدقاء جميعهم : نحن مسرورون لهذا اللقاء ، وهذا اليوم الذي تعرّفنا فيه عليك لهو من اجمل ايام حياتنا ، فكلامك جميل ، واجوبتك وافية ، كما ان سفرنا يمضي بسرور ونحن مستفيدون من وقتنا.

الشيخ : تتلخص اشكالات سيادة العقيد في ثلاثة محاور :

الأول : ايمان اهل ذلك العصر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالمعجزة الىٰ حدّ ما.

الثاني : من الصعب اليوم القبول بالمعجزة.

الثالث : نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم ، غالباً ما نجده بين غير المتعلمين وغير العلماء.

وسنتكلم في المواضيع الثلاثة ـ ان شاء الله ـ حسب طريقتنا ، اي بشكل مختصر ومفيد.

أمّا الموضوع الأوّل :

خلافاً لما قاله سيادة العقيد ، فأن اغلب اهالي الجزيرة العربية والمسلمون الذين عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تأثروا بقوانين الاسلام التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( طبعاً بالحد الذي كان المستوىٰ الفكري لذلك العصر يسمح به ) وبالاعجاز القرآني من حيث الفصاحة والبلاغة وكذلك بحياة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت غريبة عنهم ، وليست بسائر المعجزات.

لأنه : إذا كان ايمان العرب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدث بالمعاجز فقط ، كان لابدّ ان يكون تقدم الاسلام وانتشاره سريعاً في السنوات الثلاثة عشرة التي قضاها

٨٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد البعثة ، لان اكبر واعظم معجزاته كانت في مكة ، في حين ان نمو الاسلام في مكة وقياساً للسنوات العشرة التي قضاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة يعد لاشيء ، بل اصبحت الحياة له لا تطاق في مكة وهو مهدد بالقتل فيها مما اضطره للخروج منها ليلاً والهجرة الىٰ المدينة بأمر من الله تبارك وتعالىٰ ، اما المدينة فقد استقبلته واحتضنته وعاهدته في الدفاع عنه بكل ما تستطيع ، وقد وفو بعهدهم اليه حقاً ، لكن ما الذي دعىٰ أهل المدينة لاستقبال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضانه والدفاع عنه بالغالي والرخيص ؟

لم تكن المعجزات هي التي جعلتهم يقومون بذلك ، لأنهم لم يروا أية معجزة منه يوم تعهدوا له بالدفاع عنه ، بل كان موسم الحج وقد جاؤا الىٰ مكة فسمعوا كلمات القرآن المحيرة ، وسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام وقوانينه واحكامه وما يدعوا اليه ، وبعد ان تعرفوا عليه آمنوا به طوعاً ، وسبب افتتانهم به هو ان قبيلتين منهم ( الأوس والخزرج ) كانتا تتقاتلان لقرن من الزمن ، وكانت بينهما دماء ومآسي ، فكم من الشباب قتلوا وكم من النساء ترمّلن وكم من الاطفال تيتموا وكم من الآباء ثكلوا.

كان اهل المدينة قد عانوا الكثير ، كانوا يعيشون حالة من التوحش الكامل ، وقد ملّوا من الجرائم والدماء ، وكان انحطاطهم الاخلاقي بمستوىٰ جعلهم يستشرون ضرورة وجود مصلح وقوانين عادلة تنقذهم من شقائهم ، كانوا بحاجة الىٰ قوة تستبدل البغض والحقد الذي في قلوبهم بالعاطفة والمحبة ، لقد فهموا ان عليهم ايقاف حمامات الدم تلك ونبذ حياة التوحش والظلم والجريمة.

٨٣

ولكن ، من هو الشخص الذي يقوم بذلك العمل الجبار ويبلغهم تلك الآمال ؟ من هو الرجل الذي يرفع لواء العدل ويجمع هؤلاء المظلومين تحت رايته ؟ وهل يمكن ان يجدوا مثل ذلك الشخص وبتلك المواصفات في بلاد مثل الجزيرة العربية ؟

اجل ، لقد رأىٰ اهل المدينة ذلك الرجل الذي ينشدونه في سفر حجهم وادركوا انه الوحيد الذي يستطيع انهاء وضعهم المأساوي ، ولهذا اجتمعوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه في الشدائد والمشكلات ، ولماذا لا يفتتنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولماذا لايفتدوه بأموالهم وانفسهم ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه ذو قلب سليم وشاهد صفاته التي لا تجتمع لأحد ، إلّا وخضع امامه واستسلم له ! فأي صخرة صماء ذلك الذي يرىٰ جميع تلك الفضائل : الوفاء والتواضع ، حسن الخلق ، نصرة المظلوم ، الرأفة ، الشجاعة ، الشهامة ، العفو ، الأدب ، الصدق ، الامانة ، عدم الاعتناء بالدنيا ومئات الفضائل الأخرىٰ ، ولا يمتلىء قلبه بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل يمكن لبشر عادي ان يكون هكذا ؟

اجل صفاته واخلاقه مع الناس ومع ابنائه وازواجه ومع اتباعه ومع العبيد والصغار و الخ هي التي جعلت الناس تفتتن به ويكون له نفوذ في قلوبها ، وليست المعجزات التي جاء بها.

٨٤

سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المليئة بالفخر

سيادة العقيد ! من أجل أن يتّضح الموضوع بشكل جيد ، ولكي تعرفوا هل معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اسلوبه اخلاقي هو الذي سخر قلوب اهل زمانه له ، سأضطر الىٰ بحث مختصر حول اخلاق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضائله وملكاته الفاضلة.

بلع العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبتسم علىٰ الدوام مع اهل بيته ، ولم يكن فظَّاً غليظاً معهم ، فقد كان يحنو عليهم ويعاملهم برأفة ، كان يحاول جهد الامكان ان لا يغتمّوا ولا يحزنوا ، وكان عادلاً بينهم حتىٰ انه لم يشتكي منه احد مدىٰ حياته ، يساعدهم في اعمال البيت ، وكان يقول : مساعدة الزوجة في عملها بالبيت صدقة ، ومع ان بعض نساءه كنّ يتجرأن عليه ويعاملنه وكأنه رجل عادي كسائر الرجال وكنّ يؤذينه ويغضبنه ويتعرضنّ عليه ويتدخلن في اعماله ، مع ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله محافظاً علىٰ عدالته بينهنّ ، ويجب ان لا نتصور ان جميع وسائل الراحل كانت متوفرة لتلك النساء ، لانهنّ نساء امبراطور الاسلام ، أبداً فلا

٨٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان امبراطوراً ، ولا نساءه كنّ مثل حريم الاباطرة.

فلم يكن لهنّ قصور ولا غلمان وجواري ، وفي بعض الاحيان لم تتوفر لهنّ ابسط ضروريات الحياة ، لكن ثغر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك ووجهه البَشر وقلبه الرحيم العطوف ، كان بلسماً لكل وضنك ذلك العيش.

تقول اُمّ سلمة : احدىٰ نساء النبي :

في ليلة زفافي،حيث دخلت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنت اسكن في غرفة لم يكن فيها الّا قليل من الشعير ومطحنة يدوية ووعاء للعجين وقدر لعمل الخبز وكوز ماء ، فطحنت الشعير وعجنته وصنعت اقراصاً من الخبز ، اكلتها. وهكذا كانت حياة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ في ليلة زفافهنَّ.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبنائه

لا يمكن وصف المحبة والعطف الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغدقه علىٰ ابناءه ، لقد كان يحب ابناءه واحفاده كثيراً جداً ، كان يجلسهم علىٰ ركبتيه ويداعبهم ويقبل وجوههم ، حتىٰ انه كان يلاعبهم احياناً ، ومحبته لابنته الزهراءعليها‌السلام وابنائهاعليهم‌السلام معروفة ومشهورة.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه ومحبيه ، تشبه معاملته لابنائه ، ولهذا السبب كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله محبوباً عند اصدقائه ، الى حدّ يفوق التصوّر.

٨٦

وفي حادثة وقعت بعد معركة احد ، كانت مكة قد اعدّتها ودبّرتها ، حيث جاءت مجموعة من الاعراب الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وطلبت ان يذهب معهم جماعة من المسلمين لتبليغ الدين وبيان الاحكام ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم جماعة من المسلمين برئاسة عاصم بن ثابت ، لكن الأعراب قاموا بقتل المسلمين غيلة إلّا اثنين منهم اسروهم وارسلوهم الىٰ مكة وباعوهم علىٰ المشركين ، وكان زيد بن دثية احد الاسيرين ، فأشتراه صفوان بن اُمية ، لكي يقتله ثأراً لأبيه ، وبعد ان سجنه لفترة ، تقرر ان يُقتل في يوم معين.

وفي ذلك اليوم اجتمع اهل مكة جميعهم ، ليشاهدوا قتل ذلك الشاب المسلم ، انتقاماً لقتلاهم في بدر.

وفي النهاية ، حانت ساعة الاعدام ، فجاءوا ب‍ « زيد » وقد اجتمعت جميع طبقات مكة من كبارها ورؤساء قريش من التجار والمزارعين والنساء والفتيات والاطفال ، اجتمعوا اطرف المشنقة ، في تلك اللحظات التفت أبو سفيان وهو زعيم قريش الىٰ زيد وقال : أتحبُّ ان يكون محمداً مكانك هنا حتىٰ يعدم وترجع انت سالماً الىٰ اهلك ، اقسم عليك بمن تعبد ان تقول الصدق ؟

فأجابه زيد : يا أبا سفيان ، أقسم باللهِ ، أحبُّ ان اُقتل هنا ولا تصيب قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شوكة فتؤذيه ! إفصاح أبو سفيان بعد تلك الاجابة : لم أرَ احداً اعزّ من محمد عند اصحابه.

أجل ، كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ودوداً مع اصحابه للحد الذي جعلهم يهيمون بحبه ، فلم يحملهم في حياته شيئاً ، ومع انه كان القائد وزعيم المسلمين الذي

٨٧

فتح الجزيرة العربية واخضع الجميع للاسلام ، لكنه وفي احدىٰ اسفاره ارادوا ان يذبحوا شاة للأكل ، فتعهد كل واحد بعمل ، فقال احدهم : انا أذبحها ، وقال الآخر : انا اسلخها وقال الثالث : أنا اطبخها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانا اجمع الحطب للطبخ.

واضح ان العمل الذي تكفّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله به اشقّ من أعمال الآخرين ، لأنه كان يحتاج الىٰ كمية كبيرة من حطب الصحراء ! لكي تطبخ شاة ، لذلك قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن نجمع الحطب ولا تؤذي نفسك انت.

لم يقل المسلمون ذلك مجاملة منهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم بذلوا كل ما يملكون من اجله ، هؤلاء الناس لا يتحدثوان زيفاً وتملّقاً وانما لم يحبوا ان يتعب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : اعلم انكم لا تحبون ان اتعب ، لكني لا اُريد ان افضل علىٰ اصحابي ، والله لا يحب الذين يميزون انفسهم عن الآخرين.

وهكذا عندما بنىٰ المسلمون مسجد المدينة ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل معهم الحجارة والتراب ، وعندما حفروا الخندق(1) اختص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لنفسه حصة من العمل كسائر المسلمين ، بل انه كان يعمل اكثر من الآخرين.

________________

(1) هو الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد الاعداء في معركة الاحزاب.

٨٨

اصدقائي !

ألم يكن اهل الجزيرة العربية محقّون في الخضوع لهذا الرجل والافتتنان به ؟! وهل رأيتم رجلاً في العالم يتعامل بهذه الروح السمحة والمحبة للخير مع اتباعه والذين يأتمرون بأوامره وهو في قمة هرم السلطة ؟! هذه التصرفات والمعاملة الاخلاقية لا توجد الّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه

لقد عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعداءه كما كان يعامل اصدقاءه واصحابه ، فأي شخص لم ينتقم بشدة في اليوم الذي يتسلط فيه علىٰ اعدائه وينتصر عليهم ؟! لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان رؤوفاً بأعدائه ، ينظر اليهم بعين العطف ، وكان متسامحاً للحد الذي وصفوه ـ الاعداء ـ بالعظيم والكريم.

ففي غزوة ذات الرقاع ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفاً الىٰ جانب نهر ، وفجأة جاء سيل وحال بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ، فرأىٰ احد جنود العدو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده وبعيداً عن معسكره ، فجاءه شاهراً سيفه ظاناً ان اللحظة مؤاتية لقتل الرسول ، وقال : يا محمد ، من سينجيك مني ؟

قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ربي.

ضحك الرجل مستهزءاً ، وهوىٰ بسيفه بقوة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الله وقىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شره ، فوقعت به فرسه قبل ان يضرب ضربته ، ووقع علىٰ الارض ، فوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فوق رأسه وأعاد عليه كلامه ، قال : من سينجيك

٨٩

مني ؟!

فقال الرجل وعيناه تبرق املاً : جودك وكرمك يامحمد !!

فما هو اساس ذلك الكلام في تلك اللحظات الحرجة ؟ هل قال الرجل كلامه تملّقاً ؟! بالتأكيد ، لم يقله تملّقاً.

لقد رأىٰ الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهراً سيفه فوق رأسه ، وتذكر اللحظات السابقة ، كان والوضح حرجاً بالنسبة له في الظاهر ، لانه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله كان قد فعل ماكان هو يريد فعله قبل لحظات ، الاّ انه لم يوفق لذلك ، والأمل الوحيد لذلك المشرك هو أن الذي يريد قتله ليس انساناً عادياً كسائر الناس بل هو رجل الحق ، كريم بمعنىٰ الكرم ، عفوّ ورؤوف ، لقد تكلّم الرجل المشرك بكلامه استناداً الىٰ تاريخ ذلك الرجل الذي يريد قتله ، فحياته مليئة بالكرم والبذل والعمل الصالح والمحبة ، ولا بدّ أنَّ المشرك تذكر تلك السنة التي اصاب القحط فيها مكة ، فكان ذلك الرجل الذي شهر سيفه الآن عليه ، مثل الأب الرحيم علىٰ ابناءه ، يشتري الطعام بأمواله واموال خديجة ( بعد الاستأذان منها ) ، كان يشتري القمح والشعير والابل ويقدمها الىٰ الضعفاء في مكة واطرافها ، وبذلك نجّاهم من الموت جوعاً.

كان المشرك يعلم ان هذا الرجل يحمل بين جنبيه قلباً عطوفاً رحيماً ، فكان محقاً بأن يأمل ويرجو في تلك اللحظات الحرجة تماماً ، لذلك قرر الاجابة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعرفه عن ماضيه وعطفه واحسانه ، لكن الوقت كان ضيقاً واللحظة خطرة ، فليس هناك مجال للأسهاب في الكلام ، ولهذا اجاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موجزاً ، وقال : « جودك وكرمك يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » ، أي عظمتك

٩٠

ومقامك وعفوك ورأفتك يمكن ان تنجيني.

أجل ، لقد فكّر ذلك الرجل بشكل صحيح ، وكان رجاءه في محله ، لقد انجاه كرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عندما سمع تلك العبارة ، انزل السيف جانباً ، وقال للرجل : انهض واسرع الىٰ جيشك(1) .

أيُّها السادة !

ألا يستطيع هذا الرجل ان يسخر قلوب الناس بهذه الاخلاق والمكارم الالهية التي هي بذاتها من اكبر المعجزات ؟! هل ان تأثير هذه التصرفات في جذب قلوب الناس اقل من بيان سائر المعجزات ؟

اعجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخلاقي عند فتح مكة

اشرنا من قبل أن اهل مكة شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ ثلاثة عشرة سنة من بداية البعثة ، تلك المعجزات التي لو رآها أي انسان لأعترف بالنبوة والرسالة ، إلّا انهم كانوا اصم من الصخر فلم تؤثر فيهم ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن اولئك الناس عندما شاهدوا عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم عند فتح مكة لانت قلوبهم وآمنوا بالدين.

لقد كان لمعاملة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في ذلك اليوم اكبر الاثر في اسلامهم ، وهو بنفس الوقت خير دليل علىٰ ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه :

________________

(1) روضة الكافي ، تأليف ثقة الاسلام الكلينيقدس‌سره

٩١

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

كما انه نموذج كامل لأسلوبه الاخلاقي في التعامل مع اعدائه.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة دون قتال ( سوىٰ مقاومة صغيرة من بعض المشركين ابيدت علىٰ يد جيش الاسلام ).

ومكّة هي مسقط رأسه التي يهفو إليها قلبه علىٰ الدوام ، حتىٰ في الليلة التي اراد ان يهاجر فيها الىٰ المدينة ، نظر الىٰ اطرافها بحسرة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، فنزل عليه الامين جبرائيل ووعده من جانب الله بأن يرجعه اليها. وكانت سنوات تمرّ علىٰ ذلك الوعد الالهي ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر ، فمضت اشهر وسنين ببطء وحان الوقت الذي ينجز فيه الوعد.

* * *

عقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً مع كفار قريش وأهل مكة في الحديبية ، إلّا ان الكفار لم يعملوا بمفاد الصلح ، فكانت النتيجة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عزم علىٰ فتح مكة بأمر من الله ، وسار نحوا بعشرة آلاف مسلم ، وقد علم اهل مكة من خلال ابي سفيان « الذي ذكرناه تفاصيل لقاءه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب مكة » بالتعبئة العامة للمسلمين.

طوىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق بين المدينة ومكة ، حتىٰ وصل الىٰ« ذي طوىٰ »(1) . نظر الىٰ ما حوله ، فوجد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل مستعدون

________________

(1) مكان مشرف علىٰ مكة.

٩٢

لنصرته وقلوبهم تطفح بالمحبة. فتذكّر يوم هجرته ، ذلك اليوم الذي خرج فيه خائفاً يريد الحفاظ علىٰ نفسه من مكة هذه. لكنه يعود اليها اليوم ومعه عشرة آلاف مقاتل من المسلمين الشجعان ، فمن الذي منحه تلك القوة ؟!

أهو غير ربّه الذي يدعوه ؟! بالتأكيد لا.

فلا احد يستطيع ان يحببه الىٰ قلوب الناس بهذا الشكل سوىٰ الله القادر والمهيمن ، اذن ، فاليوم هو اليوم الذي وعده به الله ، وقريب ما يتحقق الوعد الالهي.

نعم ، جميع ما حدث كان بنصر الله ، فلماذا لا يسجد له ، لماذا لا يعبده ؟ وكان ان صاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا إله الّا الله ، وحده وحده ، انجز وعده ، ونصر عبده ، واعزّ جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نِعَم الله ، تلك النِعَم التي يعجز عن شكرها ، واتقدت شعلة الحب الالهي في قلبه اكثر من ذي قبل ، يريد ان يسجد لربه ، لكنه لا يزال على ظهر الناقة ، تجسم العشق الالهي ورأفة الله به بحيث لم يستطع الصبر لينزل من علىٰ ظهر الناقة كي يسجد ، فسجد شكراً لله وهو علىٰ الناقة ، ثم رفع رأسه من السجود ، فوقعت عيناه علىٰ مكة ، تلك المدينة التي تتوسطها الكعبة ، حيث بناها جده ابراهيم الخليلعليه‌السلام ، موطن آباءه والمكان الذي يهفو اليه قلبه.

جميع تلك الاسباب جعلته يناجي مكة ويظهر لها حبه ، فقال : الله يعلم احبك ، ولو لا ان اهلك اخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت بك بدلاً ، اني لمغتم على مفارقتك.

٩٣

فلماذا خاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بهذا الكلام ؟!

وكأنما كان يسمع مسقط رأسه ، أي مكة هذه ، تعاتبه وتقول له : لماذا هجرتني ، وفارقتني ثمان سنوات ، ياحبيب الله ، انا ايضاً أحبك ، فلماذا تركتني الىٰ المدينة التي اخترتها بدلاً مني ، فهل كنت سيئة معك ؟!

وبعد أن أتمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، تحرك من ذي طوىٰ ودخل الحجون(1) ، فأغتسل هناك وركب ناقته حتىٰ يدخل مكة.

مكّة في انتظار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

اجتمع اهل مكة ووقفوا مع زعماء قريش ورؤساء القبائل الىٰ جانب الكعبة ، لكي ينظروا دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يريدون بذلك أمرين :

الأول : رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : معرفة مصيرهم.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة واستسلم الحجر الاسود من علىٰ الناقة ، ثم ارتفع صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكبير :

الله اكبر الله اكبر

فتعالت معه حناجر عشرة آلاف مسلم الله اكبر ، كان صوت التكبير يملأ سماء مكة وينعكس في جبالها ، لكن تأثيره في قلوب المشركين كان اشدّ.

________________

(1) محل اقرب الىٰ مكة من ذي طوىٰ.

٩٤

لقد خاف زعماء قريش من ذلك الصوت ، وكأنما سمعوا صيحة من السماء ، فأضطربت قلوبهم واخذت تخفق بشدّة.

بعد التكبير ، ترجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناقة ، ودخل الكعبة كي يطهرها من رجز الاوثان ، فلا يجدر ببيت بُنيَ فيه الله ان يكون مأوىٰ الاثم ومركز الاصنام ، وكان علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطهر البيت من تلك الاصنام والآلهه المصنوعة من الخشب أو الحجر.

وقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاطاحة بالاصنام الواحدة بعد الاُخرىٰ ، بعصاه ، وهو يقول :

( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1) .

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) (2) .

أجل ، لقد انتهىٰ زمان الاصنام وعبادتها ، انتهى عصر الانحناء والخضوع امام آلهة صنعت من معدن أو خشب علىٰ هيئة البشر ، لقد حان الوقت الذي يعبد فيه الناس الله سبحانه وتعالىٰ ، ويخرجوا من ذلّ عبادة هذه الاوثان ، الىٰ عزّ عبادة رب العالمين.

وبعد ان فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الاطاحة بالاوثان ، توجه الىٰ اهل مكة ، فوجدهم قد اصطفوا مثل التماثيل التي صنعت من حجر ، وكأن علىٰ رؤوسهم الطير ، لا يتحركون ولا يحركون ساكناً ، ووجوهم المصفرة تعبر عن اضطرابهم الداخلي ( بعد ان شاهدوا قوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ) ، كانت عيونهم

________________

(1) سورة الاسراء : 81.

(2) سورة سبأ : 49.

٩٥

تريد الخروج من حدقاتها من شدة الخوف ، كانوا غارقين في افكارهم ، ويتصورون المصير الذي ينتظرهم ، بعد تلك الحروب التي خاضوها ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاذية التي آذوه ، لكنهم في نفس الوقت يرجون شيئاً من شخص الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن اهل مكة يعرفون جيداً ، ان الرجل الذي دخل مكة اليوم ظافراً منتصراً ، هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو القلب العطوف والرحيم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من شيمه العفو عند المقدرة والصفح عمن اساء له ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يظلم حتىٰ اعتىٰ اعدائه واقساهم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالآخرين الذي لا يفكرون عند انتصارهم سوىٰ بالانتقام ، فهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالىٰ في القرآن ، فقال :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1)

فلماذا لا يرجوا أهل مكة فيه الخير ؟! ولماذا لا يمتزج خوفهم واضطرابهم بالامل ؟! لقد رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخوف والرجاء في وجوههم ، لكنه اراد ان يسمعه منهم ، فقال لهم : ماذا تقولون وتظنون ؟

فأجابه اهل مكة : نقول خيراً ونظن خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم وقد قدرت.

كان جواب اهل مكة مزيج من الخوف والامل ، فعبارة « قد قدرت » استخدمت للتعبير عن الخوف ، لكن العبارات التي سبقت ذلك كانت مفعمة بالرجاء لكن كفة الامل والرجاء كانت تفوق احتمال الانتقام.

ومن حقِّ أهل مكة ان يأملوا العفو والمسح من مثل ذلك الرجل العظيم ،

________________

(1) سورة الانبياء : 107.

٩٦

لأنه لو كان يريد الانتقام منهم ، لما اعطىٰ أبا سفيان الامان ، وجعل بيته مأمناً لأهل مكة ، فلماذا لا يأملوا بعد ذلك ، في حين ان ابا سفيان في خارج مكة عندما التقىٰ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شاهد جيش المسلمين وهو واقف مع العباس عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قد سمع سعد بن عباد رئيس قبيلة الخزرج ، يقول بصوت عال :

اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبىٰ الحرمة ، اليوم تذل قريش.

فخاف أبو سفيان بعد سماعة ذلك الكلام ، واخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف يا ابا سفيان ، سعد مخطيء ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ، اليوم تعزّ قريش.

ألم يكن اهل مكة محقّون في رجائهم ؟ لذلك اجابوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً.

أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعندما سمع جوابهم ذلك ، اغرورقت عيناه المباركة بالدمع ، وعندما رأىٰ ذلك أهل مكة تجلت امام اعينهم جميع اعمالهم السيئة السابقة ، فتذكروا التهم التي كالوها له ، والسباب والرمي بالحجارة والحصار في شعب ابي طالب ومهاجمة بيته ليلاً لقتله واجباره علىٰ ترك وطنه الىٰ يثرب ، ومئات الاعمال الاخرىٰ التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف النادم اليوم ، وشاهدوا ايضاً ذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قاسىٰ ماقاساه منهم ، لكنه يقف اليوم ويعاملهم بلطف ورأفة وهو المنتصر والفاتح الذي يستطيع الانتقام.

فالخجل الذي اعتراهم من مواقفهم تلك من جهة ، والرأفة والحب الذي شاهدوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرىٰ ، اهاجتهم وجعلت اصواتهم ترتفع

٩٧

بالبكاء ، لقد كان الجميع يذرفون الدموع ، النادمون من سوء اعمالهم ، والمنتصرون الذين عادوا الىٰ وطنهم وحرروا قبلتهم ، حتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذرف الدمع ، وبعد لحظات من تلك الحالة ، قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأقول لكم ما قاله أخي يوسفعليه‌السلام لأخوته الذين غدروا به :

( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

صحيح انكم لم تنظروا فيّ انكم قومي وعشيرتي ، فأستبحتم ايذائي والوقوف بوجهي ، ولكن لا تخافوا « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولا يحق لاحد ان يتعرض لكم ولأموالكم.

وبهذه الكلمات المتقطبة ، خطّ علىٰ اعمالهم السيئة وغفر لهم اخطاء عشرين سنة بحقه.

اصدقائي الاعزاء !

أي واحدة من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطيع ان تسخر قلوب اعتىٰ الاعداء مثل هذا الحدّ الذي يفوق تصور البشر ؟ ألم يكن هؤلاء الناس ، هم انفسهم الذين شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ عشرين سنة ولم يأمنوا ولم تتغير نفوسهم ، بل كلما جاءهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعجزة وآية جديدة ، كانوا يزدادون غضباً وغيضاً وتتحد صفوفهم اكثر في عدائه ، في حين ان العفو العام الذي أعلنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحقيقة من معجزاته الاخلاقية التي ليس لها ________________

(1) سورة يوسف : 92.

٩٨

مثيل ، استطاع ان يحرك عواطفهم ، للحد الذي تعالىٰ فيه صوت البكاء من تلك القلوب القاسية حتىٰ ملأ ارجاء مكة.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعو بالسوء

وفي معركة اُحد ، بعد ان دحر جيش الاسلام قوىٰ المشركين ، وعلىٰ اثر غفلة المسلمين وعدم اطاعتهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استفاد جيش المشركين من تلك الفرصة ، وهجم من جديد علىٰ المسلمين ، فكانت نتيجة حملاته المتكررة والشديدة ان فرّ المسلمون الّا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونفر من المجاهدين الذين صمدوا رغم شدة البلاء ، وقد جرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر سنّة وكان الخطر محيط به من كل جانب ، في تلك اللحظات ، قال له بعض اصحابه الذين صمدوا معه : ادعو يا رسول الله علىٰ اعدائك بالهلاك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بعثت لذلك ، وانما بعثت لأكون رحمة للعالمين.

اجل هذه النماذج قليلة من معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغلمانه

المعاملة التي كانت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غلمانه ، لا يوجد مثيل لها الّا في عترته الطاهرة ، فلم يكن يُحسن إليهم فقط ، ويعاملهم كأفراد الاسرة ، بل وصىٰ المسلمين بهم كثيراً ، فقال : اطعموهم مما تطعمون والبسوهم مما تلبسون. ولم يطلب منهم يوماً القيام بعمل يذلّهم أو يكون لهم عاراً ، ولم يكن يشكل علىٰ

٩٩

اعمالهم.

يقول أنس الذي لازم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنوات عديدة : خدمت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة سنوات ، فلم يزجرني بكلمة ابداً خلال تلك الفترة ، ولم يشكل علىٰ ايّ عمل قمت به لرأفته ، ولم يؤاخذني علىٰ شيء لم افعله أو عمل قصرّت فيه.

ورأفته كانت بحيث يقول أنس : طلب مني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً ان انجز له عمل ، لكني شغلت في الطريق بمشاهدة لعب الاطفال ، فمضىٰ علىٰ ذلك وقت كثير ، وانا لازلت انظر الاطفال في لعبهم ، وفجأة رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسك بقميصي من الخلف ، ويقول لي وهو يبتسم : اذهب الىٰ ما أرسلتك اليه.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388