أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن15%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77292 / تحميل: 5399
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

عليكم وهو كقوله تعالى( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال وذلك بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدى إلى التلف ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في حال غضب أو ضجر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ) فإنه قيل فيما عاد إليه هذا الوعيد وجوه أحدها أنه عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس بغير حق فيستحق الوعيد بكل واحدة من الخصلتين وقال عطاء في قتل النفس المحرمة خاصة وقيل إنه عائد على فعل كل ما نهى عنه من أول السورة وقيل من عند قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) لأن ما قبله مقرون بالوعيد والأظهر عوده إلى ما يليه من أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة وقيد الوعيد بقوله( عُدْواناً وَظُلْماً ) ليخرج منه فعل السهو والغلط وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام إلى حد التعمد والعصيان وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لأنه يحسن مع اختلاف اللفظ كقول عدى ابن زيد :

وقددت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا

والكذب هو المين وحسن العطف لاختلاف اللفظين وكقول بشر بن حازم :

فما وطئ الحصى مثل ابن سعدى

ولا لبس النعال ولا احتذاها

والاحتذاء هو لبس النعل وكما تقول بعدا وسحقا ومعناهما واحد وحسن لاختلاف اللفظ والله أعلم.

باب النهى عن التمني

قال الله تعالى( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) روى سفيان عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء ويذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزل الله تعالى( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) الآية ونزلت( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ) وروى قتادة عن الحسن قال لا يتمن أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال وقال سعيد عن قتادة في قوله( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) قال كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصبى ويجعلون الميراث لمن يحبون فلما ألحق للمرأة نصيبها وللصبي نصيبه وجعل للذكر مثل حظ

١٤١

الأنثيين قال النساء لو كان انصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فأنزل الله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) يقول المرأة تجزى بحسناتها عشر أمثالها كما يجزى الرجل قال( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) ونهى الله عن تمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض لأن الله تعالى لو علم أن المصلحة له في إعطائه ما أعطى الآخر لفعل ولأنه لا يمنع من بخل ولا عدم وإنما يمنع ليعطى ما هو أكثر منه وقد تضمن ذلك النهى عن الحسد وهو تمنى زوال النعمة عن غيره إليه وهو مثل ما روى أبو هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها فإن الله هو رازقها فنهىصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد ركنت إليه ورضيت به وأن يسوم على سومه كذلك فما ظنك بمن يتمنى أن يجعل له ما قد صار لغيره وملكه وقال لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها يعنى أن تسعى في إسقاط حقها وتحصيله لنفسها وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار قال أبو بكر والتمني على وجهين أحدهما أن يتمنى الرجل أن تزول نعمة غيره عنه فهذا الحسد وهو التمني المنهي عنه والآخر أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يريد زوال النعمة عن غيره فهذا غير محظور إذا قصد به وجه المصلحة وما يجوز في الحكمة ومن التمني المنهي عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا أو تتمنى حال الخلافة والإمامة ونحوها من الأمور التي قد علم أنها لا تكون ولا تقع* وقوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) قيل فيه وجوه أحدها أن لكل واحد حظا من الثواب قد عرض له بحسن التدبير في أمره ولطف له فيه حتى استحقه وبلغ علو المنزلة به فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير فإن لكل منهم حظه ونصيبه غير مبخوس ولا منقوص والآخر إن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمني ما لغيره محبطا لعمله وقيل فيه إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعم الدنيا فعليه أن يرضى بما قسم الله له* وقوله تعالى( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) قيل

١٤٢

فيه إن معناه إن احتجتم إلى ما لغيركم فسلوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله لا بأن تتمنوا ما لغيركم إلا أن هذه المسألة تعنى أن تكون معقودة بشريطة المصلحة والله تعالى أعلم بالصواب.

باب العصبة

قال الله تعالى( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة الموالي هاهنا العصبة وقال السدى الموالي الورثة وقيل إن أصل المولى من ولى الشيء يليه وهو اتصال الولاية في التصرف* قال أبو بكر المولى لفظ مشترك ينصرف على وجوه فالمولى المعتق لأنه ولى نعمه في عتقه ولذلك سمى مولى النعمة والمولى العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لتوجه المطالبة عليه وللزوم الدين إياه والمولى العصبة والمولى الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين والمولى ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما والمولى الولي لأنه يلي بالنصرة وقال تعالى( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) أى يلم بالنصرة للكافرين يعتد بنصرته ويروى للفضل بن العباس.

مهلا بنى عمنا مهلا موالينا

لا تظهرن لنا ما كان مدفونا

فسمى بنى العم موالي والمولى مالك العبد لأنه يليه بالملك والتصرف والولاية والنصر والحماية فاسم المولى ينصرف على هذه الوجوه وهو اسم مشترك لا يصح اعتبار عمومه ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى لمواليه وله موال أعلى وموال أسفل إن الوصية باطلة لامتناع دخولهما تحت اللفظ في حال واحدة وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت الوصية وأولى الأشياء بمعنى المولى هاهنا العصبة لما روى إسرائيل عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه وروى معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اقسموا المال بين أهل الفرائض فما أبقت السهام فلا ولى رجل ذكر وروى فلا ولى عصبة ذكر وفيما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تسمية الموالي عصبة وقوله فلا ولى عصبة ذكر ما يدل على أن المراد بقوله( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ

١٤٣

وَالْأَقْرَبُونَ ) هم العصبات ولا خلاف بين الفقهاء أن ما فضل عن سهام ذوى السهام فهو لأقرب العصبات إلى الميت والعصبات هم الرجال الذين تتصل قرابتهم إلى الميت بالبنين والآباء مثل الجد والأخوة من الأب والأعمام وأبنائهم وكذلك من بعد منهم بعد أن يكون الذي يصل بينهم البنون والآباء إلا الأخوات فإنهن عصبة مع البنات خاصة وإنما يرث من العصبات الأقرب فالأقرب ولا ميراث للأبعد مع الأقرب ولا خلاف أن من لا يتصل نسبه بالميت إلا من قبل النساء أنه ليس بعصبة* ومولى العتاقة عصبة للعبد المعتق ولا ولادة وكذلك أولاد المعتق الذكور منهم يكونون عصبة للعبد المعتق إذا مات أبوهم ويصير ولاؤه لهم دون الإناث من ولده ولا يكون أحد من النساء عصبة بالولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت وإنما صار مولى العتاقة عصبة بالسنة ويجوز أن يكون مرادا بقوله تعالى( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) إذ كان عصبة ويعقل عنه كما يعقل عنه بنو أعمامه فإن قيل الميت ليس هو من أقرباء مولى العتاقة ولا من والديه قيل له إذا كان معه وارث من ذوى نسبة من الميت نحو البنت والأخت جاز دخوله معهم في هذه الفريضة فيستحق بأصل السهام وإن لم يكن هو من أقرباء الميت إذ كان في الورثة ممن يجوز أن يقال فيه أنه مما ترك الوالدان والأقربون فيكون بعض الورثة قد ورث الوالدين والأقربين* واختلف أهل العلم في ميراث الولي الأسفل من الأعلى فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والشافعى وسائر أهل العلم لا يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى وحكى أبو جعفر الطحاوي عن الحسن بن زياد قال يرث المولى الأسفل من الأعلى وذهب فيه إلى حديث رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد ووهب بن خالد ومحمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ميراثه للغلام المعتق قال أبو جعفر وليس لهذا الحديث معارض فوجب إثبات حكمه قال أبو بكر يجوز أن يكون دفعه إليه لا على وجه الميراث لكنه لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى ذوى الحاجة والفقراء* فإن قيل لما كانت الأسباب التي يجب بها الميراث هي الولاء والنسب والنكاح وكان ذوو الأنساب يتوارثون وكذلك الزوجان وجب أن يكون

١٤٤

الولاء من حيث أوجب الميراث للأعلى من الأسفل أن يوجبه للأسفل من الأعلى* قال أبو بكر هذا غير واجب لأنا قد وجدنا في ذوى الأنساب من يرث غيره ولا يرثه هو إذا مات لأن امرأة لو تركت أختا أو ابنة وابن أخيها كان للبنت النصف والباقي لابن الأخ ولو كان مكانها مات ابن الأخ وخلف بنتا أو أختا وعمته لم ترث العمة شيئا فقد ورثها ابن الأخ في الحال التي لا ترثه هي والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ولاء الموالاة

قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) روى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال كان المهاجر يرث الأنصارى دون ذوى رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم فلما نزلت( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) نسخت ثم قرأ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال من النصر والرفادة ويوصى له وقد ذهب الميراث وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) يقول إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت فذلك المعروف* وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه وقال سعيد بن المسيب هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوى الرحم والعصبة* قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ثم قال قائلون إنه منسوخ بقوله( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) وقال آخرون ليس بمنسوخ من الأصل ولكنه جعل ذوى الأرحام أولى من موالي المعاقدة فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وراث له

«١٠ ـ أحكام لث»

١٤٥

غيره فميراثه له وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعى والشافعى ميراثه للمسلمين وقال يحيى بن سعيد إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه ومن اسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة وقال الليث ابن سعد من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره قال أبو بكر الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام وحكم الله به في نص التنزيل ثم قال( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) فجعل ذوى الأرحام أولى بالمعاقدين الموالي فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوى الأرحام إذا وجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوى الأرحام وقد ورد الأثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوى الأرحام وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قال حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة ابن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يد الرجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته فقوله هو أولى الناس بمماته يقتضى أن يكون أولاهم بميراثه إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث وهو في معنى قوله تعالى( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) يعنى ورثة وقد روى نحو قول أصحابنا في عن عمرو ابن مسعود والحسن وإبراهيم وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس قال لا بأس به قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبى الزبير عن جابر قال كتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز الموالاة لأنه قال إلا بإذنهم فأجاز الموالاة بإذنهم

١٤٦

والثاني أن له أن يتحول بولاية إلى غيره إلا أنه كرهه إلا بإذن الأولين ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب فإن احتج محتج بما حدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة قال فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به قيل له يحتمل أن يريد به نفى الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول هدمي هدمك ودمى دمك وترثني وأرثك وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام وهو أنه كان يشرط أن يحامى عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما وكذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما قال أن ترده عن الظلم فذلك معونة منك له وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله لا حلف في الإسلام التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب فهذا معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وأما قوله وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة فإنه يحتمل أن الإسلام من زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله فكأنه قال إذا لم يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك قال أبو بكر وعلى نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا

١٤٧

فيمن أوصى بجميع ماله ولا وراث له أنه جائز وقد بينا ذلك فيما سلف وذلك لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه عن بيت المال جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها إلا أنها تخالف الوصية من وجه وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من ولى الموالاة ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة فولاء الموالاة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ويفارقها من وجه على نحو ما بينا والله أعلم.

باب ما يجب على المرأة من طاعة زوجها

قال الله تعالى( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) روى يونس عن الحسن أن رجلا جرح امرأته فأتى أخوها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القصاص فأنزل الله تعالى( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) الآية فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم أردنا أمرا وأراد الله غيره وروى جرير بن حازم عن الحسن قال لطم رجل امرأته فاستعدت عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليكم القصاص فأنزل الله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) ثم أنزل الله تعالى( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) قال أبو بكر الحديث الأول يدل على أن لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وكذلك روى عن الزهري والحديث الثاني جائز أن يكون لطمها لأنها نشزت عليه وقد أباح الله تعالى ضربها عند النشوز بقوله( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ ) فإن قيل لو كان ضربه إياها لأجل النشوز لما أوجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القصاص قيل له إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قال ذلك قبل نزول هذه الآية التي فيها إباحة الضرب عند النشوز لأن قوله تعالى( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ـ إلى قوله ـوَاضْرِبُوهُنَ ) نزل بعد فلم يوجب عليهم بعد نزول الآية شيئا فتضمن قوله( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأى وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها* فدلت الآية على معان أحدها

١٤٨

تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها وهذا يدل على أن له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله( وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) وهو نظير قوله( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) وقوله تعالى( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ) وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف * وقوله تعالى( وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) منتظم للمهر والنفقة لأنهما جميعا مما يلزم الزوج لها قوله تعالى( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ ) يدل على أن في النساء الصالحات وقوله( قانِتاتٌ ) روى عن قتادة مطيعات لله تعالى ولأزواجهن وأصل القنوت مداومة الطاعة ومنه القنوت في الوتر لطول القيام وقوله( حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ ) قال عطاء وقتادة حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله وما يجب من رعاية حاله وما يلزم من صيانة نفسها له قال عطاء في قوله( بِما حَفِظَ اللهُ ) أى بما حفظهن الله في مهورهن وإلزام الزوج من النفقة عليهن وقال آخرون( بِما حَفِظَ اللهُ ) أنهن إنما صرن صالحات قانتات حافظات بحفظ الله إياهن من معاصيه وتوفيقه وما أمدهن به من ألطافه ومعونته و

روى أبو معشر عن سعيد المقبري عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها خلفتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) الآية والله الموافق.

باب النهى عن النشوز

قال الله تعالى( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَ ) قيل في معنى تخافون معنيان أحدهما يعلمون لأن خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه فجاز أن يوضع مكان يعلم يخاف كما قال أبو محجن الثقفي :

ولا تدفنني بالفلاة فإننى

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

ويكون خفت بمعنى ظننت وقد ذكره الفراء وقال محمد بن كعب هو الخوف الذي هو خلاف الأمن كأنه قيل تخافون نشوزهن بعلمكم بالحال المؤذنة به وأما النشوز فإن ابن عباس وعطاء والسدى قالوا أراد به معصية الزوج فيما يلزمه من طاعته وأصل النشوز الترفع على الزوج بمخالفته مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها وقوله

١٤٩

تعالى( فَعِظُوهُنَ ) يعنى خوفوهن بالله وبعقابه* وقوله تعالى( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدى هجر الكلام وقال سعيد بن جبير هجر الجماع وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم هجر المضاجعة وقوله( وَاضْرِبُوهُنَ ) قال ابن عباس إذا أطاعته في المضجع فليس له أن يضربها وقال مجاهد إذا نشزت عن فراشه يقول لها اتقى الله وارجعي وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى وعثمان بن أبى شيبة وغيرهما قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف * وروى ابن جريح عن عطاء قال الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه وقال سعيد عن قتادة ضربا غير شائن ذكر لنا أن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مثل المرأة مثل الضلع متى ترد إقامتها تكسرها ولكن دعها تستمتع بهاة وقال الحسن [فاضربوهن] قال ضربا غير مبرح وغير مؤثر وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله( فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) قالا إذا خاف نشوزها وعظها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع فإن قبلت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ثم قال( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) قال لا تعللوا عليهن بالذنوب.

باب الحكمين كيف يعملان

قال الله تعالى( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم فروى عن سعيد بن جبير والضحاك أنه السلطان الذي يترافعان إليه وقال السدى الرجل والمرأة* قال أبو بكر قوله( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ ) هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) وقوله( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها

١٥٠

ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعنى حكمى شقاق قال إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ بعثوا حكمين فأقبلا على الذي جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينها فما حكما من شيء فهو جائز وروى عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها فإن انتهت وإلا هجرها وإلا ضربها فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها يفعل كذا ويفعل كذا ويقول الحكم الذي من أهله تفعل به كذا وتفعل به كذا فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع* قال أبو بكر وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما* وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما فإن كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله ويدل أيضا قوله( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها فهذا يدل على بطلان قول من يقول إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا وإن شاءا فرقا بغير أمرهما* وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبى حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين قال أبو بكر هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعينه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج وكذا روى عن

١٥١

على بن أبى طالب رضى الله عنه وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال على ما شأن هذين قالوا بينهما شقاق قال( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) فقال على هل تدريان ما عليكما عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال على كذبت والله لا تنفلت منى حتى تقركما أقرت فأخبر على أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها فإذا كان كذلك حكمها قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان وإنما الحكمان وكيلان لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى وهذا غلط منه لأن ما ذكر لا ينفى معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه فيما وكل به فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات* قال إسماعيل والوكيل لا يسمى* حكما وليس ذلك كما ظن لأنه إنما سمى هاهنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه* وأما قوله إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا لأنهما وكيلان وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ويعرف

١٥٢

أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم أن ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا وينهى الظالم منهما عن ظلمه فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحرى الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه فسميا حكمين من هذا الوجه فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحرى الخير والصلاح سميا حكمين ويكونان مع ذلك وكيلين لهما إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما* وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله قال ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله وليس هذا على ما ذكر لأن الرجل لما قال أما الفرقة فلا قال على كذبت أما والله لا تنفلت منى حتى تقر كما أقرت فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها* قال ولما قال( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم* قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به والذي ذكره لا ينفى معنى الوكالة لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحرى الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك وأخبر الله أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحرى الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به* قال وقد روى عن ابن عباس ومجاهد وأبى سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم إن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز وكيف

١٥٣

يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ويخرجا المال عن ملكها وقد قال الله تعالى( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) وقال الله تعالى( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) وهذا الخوف المذكور هاهنا هو المعنى بقوله تعالى( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله فأباح حينئذ أن تفتدى بما شاءت وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدى به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب وقال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه وقال الله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ) فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحذ ودفعه إلى غيره وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار فثبت بذلك أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ) الآية قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا فإن أعياهما أن يصلحا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روى عن عطاء* قال أبو بكر وفي فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) ولم يقل إن يريدا فرقة وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه وقالا لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك وإن كانت هي الظالمة قالا لها قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما ظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل

١٥٤

كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق وأما قول من قال إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة والله أعلم بالصواب.

باب الخلع دون السلطان

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والشافعى يجوز الخلع بغير سلطان وروى مثله عن عمر وعثمان وابن عمر رضى الله عنهم وقال الحسن وابن سيرين لا يجوز الخلع إلا عند السلطان والذي يدل جوازه عند غير سلطان قوله تعالى( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) اقتضى ظاهره جواز أخذه ذلك منهما على وجه الخلع وغيره وقال تعالى( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ولم يشترط ذلك عند السلطان وكما جاز عقد النكاح وسائر العقود عند السلطان وعند غيره كذلك يجوز الخلع إذ لا اختصاص في الأصول لهذه العقود بكونها عند السلطان والله تعالى أعلم.

باب بر الوالدين

قال الله تعالى( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) فقرن تعالى ذكره إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما كما قرن شكرهما بشكره في قوله تعالى( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) وكفى بذلك دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما وقال تعالى( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) إلى آخر القصة وقال تعالى( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) وقال في الوالدين الكافرين( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) وروى عبد الله بن أنيس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس والذي نفس محمد بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة قال أبو بكر

١٥٥

فطاعة الوالدين واجبة في المعروف لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرنى عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبى الهيثم عن أبى سعيد الخدري أن رجلا من اليمن هاجر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال هل لك أحد باليمن قال أبواى قال أذنا لك قال لا قال ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز أن يجاهد إلا بإذن الأبوين إذا قام بجهاد العدو من قد كفاه الخروج قالوا فإن لم يكن بإزاء العدو من قد قام بفرض الخروج فعليه الخروج بغير إذن أبويه وقالوا في الخروج في التجارة ونحوها فيما ليس فيه قتال لا بأس به بغير إذنهما لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما منعه من الجهاد إلا بإذن الأبوين إذا قام بفرض غيره لما فيه من التعرض للقتل وفجيعة الأبوين به فأما التجارات والتصرف في المباحات التي ليس فيها تعرض للقتل فليس للأبوين منعه منها فلذلك لم يحتج إلى استئذانهما ومن أجل ما أكد الله تعالى من تعظيم حق الأبوين قال أصحابنا لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربا للمسلمين لقوله تعالى( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) وقوله تعالى( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف في الحال التي يجاهدانه فيها على الكفر ومن المعروف أن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله فحينئذ يجوز قتله لأنه إن لم يفعل ذلك قد قتل نفسه بتمكنه غيره منه وهو منهى عن تمكين غيره من قتله كما هو منهى عن قتل نفسه فجاز له حينئذ من أجل ذلك قتله وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى حنظلة بن أبى عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران أنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمر الله بها* فإن قال قائل ما معنى قوله تعالى( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) وما ضميره قيل له يحتمل استوصوا بالوالدين إحسانا ويحتمل وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله تعالى( وَبِذِي الْقُرْبى ) أمر بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة على نحو ما ذكره في أول السورة في قوله تعالى( وَالْأَرْحامَ ) فبدأ تعالى في أول الآية بتوحيده وعبادته إذ كان ذلك هو الأصل الذي به يصح سائر الشرائع والنبوات وبحصوله يتوصل إلى

١٥٦

سائر مصالح الدين ثم ذكر تعالى ما يجب للأبوين من الإحسان إليهما وقضاء حقوقهما وتعظيمهما ثم ذكر الجار ذا القربى وهو قريبك المؤمن الذي له حق القرابة وأوجب له الدين الموالاة والنصرة ثم ذكر الجار الجنب وهو البعيد منك نسبا إذا كان مؤمنا فيجتمع حق الجار وما أوجبه له الدين بعصمة الملة وذمة عقد النحلة وروى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك قالوا الجار ذو القربى القريب في النسب وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق الجوار المشرك من أهل الكتاب وقوله تعالى( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) روى فيه عن ابن عباس في إحدى الروايتين وسعيد ابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدى والضحاك أنه الرفيق في السفر وروى عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم وابن أبى ليلى أنه الزوجة ورواية أخرى عن ابن عباس أنه المنقطع إليك رجاء خيرك وقيل هو جار البيت دانيا كان نسبه أو نائيا إذا كان مؤمنا قال أبو بكر لما كان اللفظ محتملا لجميع ذلك وجب حمله عليه وأن لا يخص منه شيء بغير دلالة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبى شريح الخزاعي قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وروى عبيد الله الوصافي عن أبى جعفر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما آمن من أمسى شبعان وجاره جائعا وروى عمر بن هارون الأنصارى عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة سوء الجوار وقطيعة الأرحام وتعطيل الجهاد وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الجوار وتحافظ على حفظه وتوجب فيه ما توجب في القرابة قال زهير :

وجار البيت والرجل المنادى

أمام الحي عقدهما سواء

يريد بالرجل المنادى من كان معك في النادي وهو مجالس الحي وقال بعض أهل العلم معنى الصاحب بالجنب أنه الذي يلاصق داره داره وإن الله خصه بالذكر تأكيدا لحقه على الجار غير الملاصق وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عمر ومحمد بن عثمان

١٥٧

القرشي وراق أحمد بن يونس قال حدثنا إسماعيل بن مسلم قال حدثنا عبد السلام بن حرب عن خالد الدالاني عن أبى العلاء الأزدى عن حميد بن عبد الرحمن الحميرى عن رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا وإذا سبق أحدهما فابدأ بالذي سبق وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أربعين دارا جوار وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن شبيب المعمري قال حدثنا محمد بن مصفى قال حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعى عن يونس عن الزهري قال حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال إنى نزلت بمحلة بنى فلان وإن أشدهم لي إذا أقربهم من جواري فبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر وعمر وعليا أن يأتوا باب المسجد فيقوموا على بابه فيصيحوا ثلاثا ألا إن أربعين دارا جوار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه قال قلت للزهري يا أبا بكر أربعين دارا قال أربعين هكذا وأربعين هكذا وقد جعل الله الاجتماع في مدينة جوارا قال الله تعالى( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ) فجعل تعالى اجتماعهم معه في المدينة جوارا* والإحسان الذي ذكره الله تعالى يكون من وجوه منها المواساة للفقير منهم إذا خاف عليه الضرر الشديد من جهة الجوع والعرى ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه وما يتبع ذلك من مكارم الأخلاق وجميل الفعال ومما أوجب الله تعالى من حق الجوار الشفعة لمن بيعت دار إلى جنبه والله الموافق.

ذكر الخلاف في الشفعة بالجوار

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشريك في المبيع أحق من الشريك في الطريق ثم الشريك في الطريق أحق من الجار الملازق ثم الجار الملازق بعدهما وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح وقال الشافعى لا شفعة إلا في مشاع ولا شفعة في بئر لا بياض لها ولا تحتمل القسم وقد روى وجوب الشفعة للجار عن جماعة من السلف روى عن عمرو عن أبى بكر بن أبى حفص بن عمر قال قال شريح كتب إلى عمر أن اقضى بالشفعة للجار وروى عاصم عن الشعبي عن شريح قال الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الجار والجار أحق ممن سواه وروى أيوب عن محمد قال كان يقال

١٥٨

الشريك أحق من الخليط والخليط أحق ممن سواه وقال إبراهيم إذا لم يكن شريك فالجار أحق بالشفعة وقال طاوس مثل ذلك وقال إبراهيم بن ميسرة كتب إلينا عمر بن عبد العزيز إذا حدت الحدود فلا شفعة قال طاوس الجار أحق والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما روى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار فقال الجار أحق بسبقه ما كان وروى سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبى رافع عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الجار أحق بسبقه وروى أبو حنيفة قال حدثنا عبد الكريم عن المسور بن مخرمة عن رافع بن خديج قال عرض سعد بيتا له فقال خذه فإنى قد أعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحق به لأنى سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الجار أحق بسبقه وروى أبو الزبير عن جابر قال قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشفعة بالجوار وروى عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء عن جابر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الجار أحق بسبقه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وروى ابن أبى ليلى عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الجار أحق بسبقه ما كان وروى قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال جار الدار أحق بشفعة الجار وقتادة عن أنس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال جار الدار أحق بالدار وروى سفيان عن منصور عن الحكم قال حدثني من سمع عليا وعبد الله يقولان قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجوار ويونس عن الحسن قال قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجوار فاتفق هؤلاء الجماعة على الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما نعلم أحدا دفع هذه الأخبار مع شيوعها واستفاضتها في الأمة فمن عدل عن القول بها كان تاركا للسنة الثابتة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم * واحتج من أبى ذلك بما روى أبو عاصم النبيل قال حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبد الملك ابن عبد العزيز الماجشون وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولا عن أبى هريرة وأصله عن سعيد بن المسيب مقطوع رواه معن ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذكر أبى هريرة وكذلك هو في موطأ مالك ولو ثبت موصولا لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحو عشرة من الصحابة

١٥٩

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيجاب الشفعة للجار لأنها في حيز المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفى أخبار إيجاب الشفعة للجار وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم ثم قال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فأما قوله قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك ومع ذلك فهو حكاية قضية من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بها وليس بعموم لفظ ولا حكاية قول منه وأما قوله فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فإنه يحتمل أن يكون من كلام الراوي إذ ليس فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ولا أنه قضى به وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث كما وجد ذلك في كثير من الأخبار لم يجز لنا إثباته عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ غير جائز لأحد أن يعزى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالة بالشك والاحتمال فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا* واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد المردف قال حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال حدثنا عبد الواحد ابن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وهذا لا دلالة فيه على نفى الشفعة بالجوار من وجهين أحدهما أنه إنما نفى وجوب الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فأفاد بذلك نفى الشفعة لغير الجار الملاصق لأن صرف الطرق ينفى الملاصقة لأن بينه وبين جاره طريقا والثاني أنا متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفى الشفعة عند وقوع الحدود وصرف الطرق ووقوع الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة فكأنه إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها كما قال أصحابنا أنه لا شفعة في قسمة وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضا وأيضا فقد روى عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الجار أحق بصقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا فهذا الخبر ان قد رويا عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير جائز أن نجعلهما متعارضين مع إمكان استعمالهما جميعا وقد يمكننا استعمالهما على الوجه الذي ذكرنا ومخالفونا يجعلونهما متعارضين ويسقطون أحدهما بالآخر وأيضا جائز أن يكون ذلك كلاما خرج على سبب فنقل الراوي لفظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

1 ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

2 ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

3 ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

1 ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

2 ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

3 ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من 90% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

1 ـ الايمان بالله.

2 ـ الالتزام والمسؤولية.

3 ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

4 ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

6 ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

7 ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(1) .

________________

(1) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ 2 / 1 / 1960 الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة 1959 ، هو 362665 في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ 444391 ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً 3600 سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(1) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(1) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388