أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 388
المشاهدات: 73025
تحميل: 4773


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73025 / تحميل: 4773
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

الآية يقتضى أن يكون المقتول المذكور في الآية كافرا ذا عهد وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ويدل عليه أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) فوصفه بالإيمان لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لنا ويدل عليه أن الكافر المعاهد تجب على قاتله الدية وذلك مأخوذ من الآية فوجب أن يكون المراد الكافر المعاهد والله أعلم.

باب القتل العمد هل فيه كفارة

قال الله تعالى( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) فنص على إيجاب الكفارة في قتل الخطأ وذكر قتل العمد في قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) وقال( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وخصه بالعمد فلما كان كل واحد من القتيلين مذكورا بعينه ومنصوصا على حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى علينا فيهما إذ غير جائز قياس المنصوصات بعضها على بعض وهذا قول أصحابنا جميعا* وقال الشافعى على قاتل العمد الكفارة ومع ذلك ففي إثبات الكفارة في العمد زيادة في حكم النص وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فغير جائز إثبات الكفارات قياسا وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لما نص الله على حكم كل واحد من القتيلين وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد فموجب الكفارة على العامد مدخل في أمره ما ليس منه* فإن قيل لما وجبت الكفارة في الخطأ فهي في العمد أوجب لأنه أغلظ قيل له ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيعتبر عظم المأثم فيها لأن المخطئ غير آثم فاعتبار المأثم فيه ساقط وأيضا قد أوجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سجود السهو على الساهي ولا يجب على العامد وإن كان العمد أغلظ فإن احتجوا بحديث ضمرة عن إبراهيم بن أبى عبلة عن العريف بن الديلي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعنى النار بالقتل فقال أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار قيل له رواه ابن المبارك وهانئ ابن عبد الرحمن ابن أخى إبراهيم بن أبى عبلة هذا الحديث عن أبى عبلة فلم يذكر أنه أوجب بالقتل وهؤلاء أثبت من ضمرة بن ربيعة ومع ذلك لو ثبت الحديث على ما رواه ضمرة لم يدل على قول المخالف من وجوه أحدها

٢٢١

أنه تأويل من الراوي في قوله أوجب النار بالقتل لأنه قال يعنى بالقتل والثاني أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنة فلما لم يشرط لهم الإيمان فيها دل على أنها ليست من كفارة القتل وأيضا فإنما أمرهم بأن يعتقوا عنه ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) جعل الله من صفة رقبة القتل الإيمان ولا خلاف أنها لا تجزى إلّا بهذه الصفة وهذا يدل على أن عتق الرقبة المؤمنة أفضل من الكافرة لأن هذه الصفة قد صارت شرطا في الفرض وكذلك من نذر أن يعتق رقبة مؤمنة لم تجزه الكافرة لأنه أوجبها مقرونة بصفة هي قربة وفي ذلك دليل على أن الصدقة على المسلمين أفضل منها على الكفار الذميين وإن كانت تطوعا وكذلك جعل الله التتابع في صوم كفارة القتل صفة زائدة ولا خلاف أنه لا يجزى إلا بهذه الصفة مع الإمكان وكذلك قال أصحابنا فيمن أوجب صوم شهر متتابع أنه لا يجزيه التفريق لإيجابه إياه بصفة هي قربة فوجبت حين أوجبها كما وجب المنذور من الصوم قوله تعالى( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ) قال أبو بكر لم يختلف الفقهاء أنه إذا صام بالأهلة أنه لا يعتبر فيه النقصان وأنها إن كانت ناقصة أو تامة أجزأته وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فأمر باعتبار الشهور بالأهلة وأمر عند عدم الرؤية باعتبار الثلاثين وإن ابتدأ صيام الشهرين من بعض الشهر اعتبر الشهر الثاني بالهلال وبقية الشهر الأول بالعدد تمام ثلاثين وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وروى أبو يوسف عن أبى حنيفة أنه لا يعتبر الأهلة إلا أن يكون ابتداء صومه بالهلال وروى نحوه عن الحسن البصري والأول أصح لأنه قد روى في معنى قوله( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) أنها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وبقية من ربيع الآخر فاعتبر الكسر بالأيام على التمام وسائر الشهور بالأهلة وقوله( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ) معلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٢٢

لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وكانت المرأة إذا كان عليها صوم شهرين متتابعين لم يكن في وسعها في العادة أن تصوم شهرين لا حيض فيهما سقط حكم أيام الحيض ولم يقطع حكم التتابع وصارت أيام الحيض بمنزلة الليل الذي لا يقطع التتابع وهو قول الشافعى وروى عن إبراهيم أنها تستقبل وقال أصحابنا إذا مرض في الشهرين فأفطر استقبل وقال مالك يصل ويجزيه وفرقوا بين الحيض والمرض لأنه يمكنه في العادة صيام شهرين متتابعين بلا مرض ولا يمكنها ذلك بلا حيض ووجه آخر وهو أن حدوث المرض لا يوجب الإفطار بفعله والحيض ينافي الصوم لا يفعلها فأشبه الليل ولم يقطع التتابع* قوله تعالى( تَوْبَةً مِنَ اللهِ ) قيل فيه إن معناه اعملوا بما أوجبه الله للتوبة من الله أى ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم وقيل إنه خاص في سبب القتل فأمر بالتوبة منه وقيل معناه توسعة ورحمة من الله كما قال( فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ) والمعنى وسع عليكم وسهل عليكم* قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ ) الآية روى أن سبب نزول هذه الآية أن سرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لقيت رجلا ومعه غنيمات له فقال السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فقتله رجل من القوم فلما رجعوا أخبروا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال لم قتلته وقد أسلم فقال إنما قالها متعوذا من القتل فقال هلا شققت عن قلبه وحمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته قال ابن عمر وعبد الله بن أبى حدرد القاتل محلم بن جثامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعى وروى أن القاتل مات بعد أيام فلما دفن لفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده ثم أمر أن يلقى عليه الحجارة وهذه القصة مشهورة لمحلم بن جثامة وقد ذكرنا حديث أسامة بن زيد أنه قتل في سرية رجل قال لا إله إلا الله فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها تعوذا فقال هلا شققت عن قلبه من لك بلا إله إلا الله وذكرنا أيضا حديث عقبة بن مالك الليثي في هذا المعنى وأن الرجل قال إنى مسلم فقتله فأنكره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال إن الله أبى على أن أقتل مؤمنا * وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا

٢٢٣

الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيد الله بن عدى بن الخيار عن المقداد ابن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلنى فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقتله فقلت يا رسول الله قطع يدي قال لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها * وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة قال حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم قال حدثنا المسعودي عن أبى مجلز عن أبى عبيدة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرجع منه الرمح وقال أبو عبيدة جعل الله تعالى هذه الكلمة أمنة المسلم وعصمة ماله ودمه وجعل الجزية أمنة الكافر وعصمة ماله ودمه وهو نظير ما روى في آثار متواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله وفي بعضها وأن محمدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله رواه عمر وجرير بن عبد الله وابن عمر وأنس ابن مالك وأبو هريرة وقالوا لأبى بكر الصديق حين أراد قتل العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم فقال أبو بكر إلا بحقها وهذا من حقها فاتفقت الصحابة على صحة هذا الخبر وهو معنى قوله تعالى( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) فحكم الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المغيب على خلافه وهذا مما يحتج به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام وهو يوجب أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قال إنى مسلم أنه يحكم له بحكم الإسلام لأن قوله تعالى( لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ ) إنما معناه لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دعى إليه من الإسلام وإذا قرئ السلام فهو إظهار تحية الإسلام وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول في الإسلام وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل الذي قتل الرجل الذي أسلمت والذي قال لا إله إلا الله قتلته بعد ما أسلم فحكم له بالإسلام بإظهار هذا القول وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير لو أن يهوديا أو نصرانيا قال أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلما لأن كلهم

٢٢٤

يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام فليس في هذا دليل على الإسلام منهم وقال محمد ولو أن رجلا من المسلمين حمل على رجل من المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان هذا مسلما وإن رجع عن هذا ضرب عنقه لأن هذا هو الدليل على الإسلام قال أبو بكر لم يجعل اليهودي مسلما بقوله أنا مسلم أو مؤمن لأنهم كذلك يقولون ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه فليس في هذا القول دليل على إسلامه وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم كانوا عبدة أوثان فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إنى مسلم وإنى مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الإسلام فكان يقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم وأنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود لأن اليهود قد كانوا يقولون لا إله إلا الله وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيثبتونه ثلاثة فعلمنا أن قول لا إله إلا الله إنما كان علما لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقا له فيما دعاهم إليه ألا ترى إلى قوله تعالى( إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمتى أظهر منهم مظهر الإيمان بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مسلم* وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقل إنى داخل في الإسلام ولا برىء من اليهودية ولا من النصرانية لم يكن بذلك مسلما وأحسب إنى قد رأيت عن محمد مثل هذا لأن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم ومنهم من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه لم يبعث بعد وسيبعث فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إنى داخل الإسلام أو يقول إنى برىء من اليهودية أو النصرانية فقوله عز وجل( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً )

«15 ـ أحكام لث»

٢٢٥

لو خلينا وظاهره لم يدل على أن فاعل ذلك محكوم له بالإسلام لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الإسلام ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك ألا ترى أنه قال( إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهى عن نفى سمة الإيمان عنه وليس في النهى عن نفى سمة الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجل لا نعرف حاله لم يجز لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم حاله وكذلك لو أخبرنا مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقا منا له كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد أوجبت له الحكم بالإيمان لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقتلت مسلما وقتلته بعد ما أسلم وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها فأثبت لهم حكم الإسلام بإظهار كلمة التوحيد وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي إن الله تعالى أبى على أن أقتل مؤمنا فجعله مؤمنا بإظهار هذه الكلمة وروى أن الآية نزلت في مثل ذلك فدل ذلك على أن مراد الآية إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة وقد كان المنافقون يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع علم الله تعالى باعتقادهم الكفر وعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفاق كثير منهم فدل ذلك على أن قوله( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام قوله تعالى( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) يعنى به الغنيمة وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه على ما روى في الرجل الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه* قوله تعالى( إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) يعنى به السير فيها وقوله تعالى( فَتَبَيَّنُوا ) قرئ بالتاء والنون وقيل إن الاختيار التبين لأن التثبت إنما هو للتبين والتثبت إنما هو سبب له وقوله تعالى( كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) قال الحسن كفارا مثلهم وقال سعيد بن جبير كنتم مستخفين بدينكم بين قومكم كما استخفوا* وقوله تعالى( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ) يعنى بإسلامكم كقوله تعالى( بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ) وقيل فمن الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم* قوله تعالى( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) الآية يعنى به تفضيل

٢٢٦

المجاهدين على القاعدين والحض على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل فذكر بديا أنهما غير متساويين ثم بين التفضيل بقوله( فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) وقد قرئ غير بالرفع والنصب فالرفع على أنها نعت للقاعدين والنصب على الحال ويقال إن الاختيار فيها الرفع لأن الصفة أغلب على غير من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائز أو الفرق بين غير إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل نحو جاءني القوم غير زيد وليست كذلك في الصفة لأنك تقول جاءني رجل غير زيد فغير هاهنا صفة وفي الأول استثناء وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي* وقوله تعالى( وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) يعنى والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين وهذا دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحا إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه* وقوله تعالى( وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ ) ذكر هاهنا( دَرَجاتٍ مِنْهُ ) وذكر في أول الآية( دَرَجَةً ) فإنه روى عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرر فضلوا عليهم درجة واحدة والثاني على غير أهل الضرر فضلوا عليهم درجات كثيرة وأجرا عظيما وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففضلوا درجة واحدة والآخر الجهاد بالنفس والمال ففضلوا درجات كثيرة وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين وأراد بالآخر درجات الجنة* فإن قيل هل في الآية دلالة على مساواة أولى الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها قيل له لا دلالة فيها على التساوي لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضا على الجهاد وحثا عليه فاستثنى أولى الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين قوله عز وجل( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) الآية قيل فيه تقبض أرواحهم عند الموت وقال الحسن تحشرهم إلى النار وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولا

٢٢٧

يهاجرون إلى المدينة فبين الله تعالى بما ذكر أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم الهجرة وهذا يدل على فرض الهجرة في ذلك الوقت لو لا ذلك لما ذمهم على تركها ويدل أيضا على أن الكفار مكلفون بشرائع الإسلام معاقبون على تركها لأن الله قد ذم هؤلاء المنافقين على ترك الهجرة وهذا نظير قوله تعالى ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ) فذمهم على ترك اتباع سبيل المؤمنين كما ذمهم على ترك الإيمان ودل بذلك على صحة حجة الإجماع لأنه لو لا أن ذلك لازم لما ذمهم على تركه ولما قرنه إلى مشاقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا يدل على النهى عن المقام بين أظهر المشركين لقوله تعالى( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) وهذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أى أرض كانت من أرض الإسلام وروى عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدى إن الآية نزلت في قوم من أهل مكة تخلفوا عن الهجرة وأعطوا المشركين المحبة وقتل قوم منهم ببدر على ظاهر الردة ثم استثنى منهم الذين أقعدهم الضعف بقوله( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) يعنى طريقا إلى المدينة دار الهجرة وقوله تعالى( فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) قال الحسن عسى من الله واجبة وقيل إنها بمنزلة الوعد لأنه لا يخبر بذلك عن شك وقيل إنما هذا على شك العباد أى كونوا أنتم على الرجاء والطمع قوله تعالى( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ) قيل في المراغم أنه أراد متسعا لهجرته لأن الرغم أصله الذل تقول فعلت ذلك على الرغم من فلان أى فعلته على الذل والكره والرغام التراب لأنه يتيسر لمن رامه مع احتقاره وأرغم الله أنفه أى ألصقه بالتراب إذ لا لا له فقال تعالى( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ) أى يجد في الأرض متسعا سهلا كما قال تعالى( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) فمراغم وذلول متقاربان في المعنى وقيل في المراغم إنه ما يرغم به من كان يمنعه من الهجرة* وأما قوله تعالى( وَسَعَةً ) فإنه روى عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك أنه السعة في الرزق وروى عن قتادة أنه السعة في إظهار الدين لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره وقوله عز وجل( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ

٢٢٨

فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتم هجرته وهذا يدل على أن من خرج متوجها لفعل شيء من القرب إن الله يجازيه بقدر نيته وسعيه وإن اقتطع دونه كما أوجب الله أجر من خرج مهاجرا وإن لم تتم هجرته وفيه ما يدل على صحة قول أبى يوسف ومحمد فيمن خرج يريد الحج ثم مات في بعض الطريق وأوصى أن يحج عنه من الموضع الذي مات فيه وكذلك الحاج عن الميت أو عمن ليس عليه فرض الحج بنفسه أنه يحج عنه من حيث مات الذي قصد للحج لأن الله قد كتب له من الخروج والنفقة فلما كان ذلك محتسبا للأول كان الذي وجب أن يقضى عنه ما بقي وفيه الدلالة على أن من قال إن خرجت من دار إلا إلى الصلاة أو إلى الحج فعبدي حر فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحج وتوجه إلى حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه لأن خروجه بديا كما كان للصلاة أو للحج لمقارنة النية له كما كان خروج من خرج مهاجرا قربة وهجرة لمقارنه النية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج على الوجه الذي وجد بديا عليه ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة بالنيات فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجرا وإذا كان على نية الغزو كان غازيا واستدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة لورثته وهذه الآية لا تدل على ما قالوا لأن كونها غنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة وقال الله تعالى( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) فمن مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئا فلا سهم له وقوله تعالى( فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) لا دلالة فيه على وجوب سهمه لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازيا من بيته فمات في دار الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سهم له وقد وجب أجره على الله كما وجب أجر الذي خرج مهاجرا ومات قبل بلوغه دار هجرته والله أعلم.

باب صلاة السفر

قال الله تعالى( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فأباح الله تعالى القصر المذكور في هذه الآية بمعنيين

٢٢٩

أحدهما السفر وهو الضرب في الأرض والآخر الخوف واختلف السلف في معنى القصر المذكور فيها ما هو فروى عن ابن عباس قال فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى يزيد الفقير عن جابر قال صلاة الخوف ركعة ركعة وروى مجاهد أنه قصر العدد من أربع إلى ثنتين وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال قال قصرها في الخوف والقتال الصلاة في كل حال راكبا وماشيا فأما صلاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقصر وروى عن ابن عباس رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر وهي أنه قال إنما هو قصر حدود الصلاة وأن تكبر وتخفض رأسك وتومي إيماء قال أبو بكر وأولى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما روى عن ابن عباس وطاوس في أنه قصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوب وجائز أن يسمى المشي في الصلاة قصرا إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها وما روى عن ابن عباس وجابر في أن صلاة الخوف ركعة فمحمول على أن الذي يصليه المأموم مع الإمام ركعة لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلى بها بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاه العدو ثم تأتى الطائفة الثانية فيصلى بها ركعة ويسلم بتلك فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ثم يقضون ركعة ركعة فيكون ما روى عن ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة غير مخالف لقوله إن صلاة الخوف ركعة لأن الآثار قد تواترت في فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لصلاة الخوف مع اختلافها وكلها موجبة للركعتين وليس في شيء منها أنه صلاها ركعة إلا أنها طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم المأمومين فيها فلما نقل ابن عباس وغيره أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى ركعتين علمنا أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما روى من أنه كان للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما روى في سائر الأخبار والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب ابن عباس في القصر ما وصفنا دون نقصان عدد الركعات ما روى مجاهد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال إنى وصاحب لي خرجنا في سفر فكنت

٢٣٠

أتم وكان صاحبي يقصر فقال ابن عباس أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتم فأخبر ابن عباس أن القصر ليس في عدد الركعات وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر ويدل على ذلك ما روى سفيان عن زبير اليامى عن عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر أنها تمام غير قصر على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصفنا دون أعداد ركعات الصلاة فإن قيل روى عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب كيف تقصر وقد أمنا وقال الله تعالى( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية قيل له لما كان اللفظ محتملا للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة ومن صفتها على الوجه الذي بينا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمرو يعلى بن أمية ما ذكر وأن عمر سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ولكنه جائز أن يكون قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف نقصر وقد أمنا من غير أن ذكر له تأويل الآية لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يقصر في مغازيه ثم قصر في الحج في حال الأمن وزوال القتال فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يعنى إن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعا وقد روى عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة السفر أنها تمام غير قصر فجائز أن يكون ظن بديا أن قصر الخوف هو في عدد الركعات فلما سمعه يقول صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات وإذا صح بما وصفنا أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخير بين الإتمام والقصر إذ لا ذكر له في الآية* وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الاثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلى الفجر أربعا بتسليمة وهو قول

٢٣١

الثوري وقال حماد بن أبى سليمان إذا صلى أربعا أعاد وقال الحسن بن صالح إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإذا طال في سفره وكثر لم يعد قال وإذا افتتح الصلاة على أن يصلى أربعا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين وتشهد ثم بدا له أن يتم فصلى أربعا أعاد وإن نوى أن يصلى أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزته وقال مالك إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد مادام في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه قال ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوى أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم أنه لا يجزيه ولو صلى المسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه وقال الأوزاعى يصلى المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو وقال الشافعى ليس للمسافر أن يصلى ركعتين إلا أن ينوى القصر مع الإحرام فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا* قال أبو بكر قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات ولم يختلف الناس في قصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيانه لمراد الله تعالى قال عمر بن الخطاب سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القصر في حال الأمن فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا فدل ذلك على أن الفرض ركعتان وقوله فاقبلوا صدقته يوجب ذلك لأن الأمر للوجوب فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهى عنه وقال عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم فأخبر أن الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار ذلك بمنزلة قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وذلك ينفى التخيير بين القصر والإتمام وروى عن ابن عباس قال كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين حتى يرجع وروى على بن زيد عن أبى نضرة عن عمران بن حصين قال حججت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يصلى ركعتين حتى يرجع إلى المدينة وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلى إلا ركعتين وقال لأهل مكة صلوا أربعا فإنا قوم سفر وقال ابن عمر صحبت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى وقد قال الله تعالى( لَقَدْ

٢٣٢

كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) وروى بقية بن الوليد قال حدثنا أبان بن عبد الله عن خالد بن عثمان عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال صلاة المسافر ركعتان حتى يؤب إلى أهله أو يموت وقال عبد الله بن مسعود صليت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى ركعتين ومع أبى بكر ركعتين ومع عمر ركعتين وقال مورق العجلى سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر فهذه أخبار متواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر أحدهما أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضى الإيجاب وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات والوجه الثاني لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر فلما ورد البيان إلينا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم ورد البيان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تارة بالإفطار وتارة بالصوم وأيضا لما صلى عثمان بمنى أربعا أنكرت عليه الصحابة ذلك فقال عبد الله بن مسعود صليت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين ومع أبى بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن حظى من أربع ركعتان متقبلتان وقال ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر وقال عثمان أنا إنما أتممت لأنى تأهلت بهذا البلد وسمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من تأهل ببلد فهو من أهله فلم يخالفهم عثمان في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهل بمكة فصار من أهلها وكذلك قولنا في أهل مكة أنهم لا يقصرون وقال ابن عباس فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا وقالت عائشة أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المقيم أربع كفرض صلاة الفجر وصلاة الظهر فغير جائز الزيادة عليها كما لا تجوز الزيادة على سائر الصلوات ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن للمسافر ترك الأخريين

٢٣٣

لا إلى بدل ومتى فعلهما فإنما يفعلهما على وجه الابتداء فدل على أنهما نفل لأن هذه صورة النفل وهو أن يكون مخيرا بين فعله وتركه وإذا تركه تركه لا إلى بدل* واحتج من خيره بين القصر والإتمام بما روى عن عائشة قالت قصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتم وهذا صحيح ومعناه أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم كقول عمر صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وسلم * واحتج أيضا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام فدل على أنه مخير في الأصل وهذا فاسد لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبنا* واختلفوا أيضا في المسافر يدخل في صلاة المقيم فقال أصحابنا والشافعى والأوزاعى يصلى صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري وقال مالك إذا لم يدرك معه ركعة صلى ركعتين والذي يدل على القول الأول قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وفي بعض الألفاظ وما فاتكم فاقضوا فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقضاء الفائت من صلاة الإمام والذي فاته أربع ركعات فعليه قضاؤها وأيضا قد صح له الدخول في آخر صلاته ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام وأيضا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام كذلك دخوله مع الإمام ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها كما كانت نية الإقامة في التشهد كهي في أولها والله أعلم.

فصل قال أبو بكر وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة سائر المسافرين ركعتان في أى شيء كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شيء من الأسفار وقد روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى الحرين فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كم أصلى فقال ركعتين وعن ابن عباس وابن عمر أنهما خرجا إلى الطائف فقصر الصلاة وروى عن عبد الله بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وعن عطاء قال لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله* فإن قيل لم يقصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا في حج أو جهاد قيل له لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص بالحج والجهاد وقول عمر صلاة السفر ركعتان على

٢٣٤

لسان نبيكم عموم في سائر الأسفار وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عام أيضا في سائر الأسفار وكذلك قوله لأهل مكة أتموا فإنا قوم سفر ولم يقل في حج دليل على أن حكم القصر عام في جميع المسافرين ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا ومن يتأول قوله تعالى( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان خائفا من العدو ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة القربة وجب مثله في سائر الأسفار لأن أحدا لم يفرق بينهما وقد بينا أن القصر ليس هو في عدد الركعات والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسف بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول أصحابنا والثوري والأوزاعى وقال مالك إن خرج إلى الصيد وهو معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم استحب له أن يقصر وقال الشافعى إذا سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر قال أبو بكر قد بينا أن ذلك في شأن المضطر في سورة البقرة وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة فقال أصحابنا يقصر إذا كان في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم وهو قول مالك والشافعى وقال الأوزاعى إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهى إلى أكراها فإذا انتهى أتم الصلاة وقال الحسن بن صالح إذا كانت السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم* قال أبو بكر كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر كالجمال مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم السفر وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح وقال مالك ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم وليلة للقفل وهو قول الليث وقال الأوزاعى يوم تام وقال الشافعى ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وروى عن ابن عمر ثلاثة أيام وروى عن ابن عباس يوم وليلة واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة فقال أصحابنا والثوري إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر وقال مالك والليث والشافعى إذا نوى إقامة أربع أتم وقال الأوزاعى إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر وقال الحسن بن صالح إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة ما لم

٢٣٥

يقم به عشرا أو إن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة قال أبو بكر وروى عن ابن عباس وجابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم مكة صبيحة الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر الصلاة فدل على سقوط اعتبار الأربع وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها وإن كنت لا تدرى متى تظعن فاقصرها ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته فإن قيل روى الخراساني عن سعيد بن المسيب قال من أجمع على أربع وهو مسافر أتم الصلاة قيل له روى هشيم عن داود بن أبى هند عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما وليلة أتم الصلاة وما كان من دون ذلك فليقصر وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار كأنه لم يرو عنه شيء ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر وأيضا مدة الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وقد حصل الاتفاق في في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف فيه فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها وكذلك السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت والله أعلم.

باب صلاة الخوف

قال الله تعالى( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) الآية قال أبو بكر قد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف على ضروب مختلفة واختلف فقهاء الأمصار فيها فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلى بهم ركعة وسجدتين ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتى الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلى بهم ركعة وسجدتين ويسلم وينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتى الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون ركعة بغير قراءة وتشهدوا ويسلموا ويذهبوا إلى وجه العدو ثم تأتى الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة وقال ابن أبى ليلى إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين فيكبر ويكبرون وبركع ويركعون جميعا معه وسجد الإمام والصف الأول ويقوم الصف الآخر في وجوه العدو فإذا قاموا من السجود

٢٣٦

سجد الصف المؤخر فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم فيصلى بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر مستقبل العدو فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون جميعا ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ثم يجيء الآخرون ويصلى بهم الإمام جميعا الركعة الثانية فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه ثم ينقلبون إلى وجه العدو ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون ثم يسلم الإمام وهم جميعا* قال أبو بكر وروى عن أبى يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات إحداها مثل قول أبى حنيفة ومحمد والأخرى مثل قول ابن أبى ليلى إذا كان العدو في القبلة وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبى حنيفة والثالثة أنه لا تصلى بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى بإمامين كسائر الصلوات وروى عن سفيان الثوري مثل قول أبى حنيفة وروى أيضا مثل قول ابن أبى ليلى وقال إن فعلت كذلك جاز وقال مالك يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلى بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ثم يتشهدون ويسلمون ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصل فيقومون مكانهم وتأتى الطائفة الأخرى فيصلى بهم ركعة وسجدتين ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت قال ابن القاسم كان مالك يقول لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم لحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى حديث القاسم(1) وفيه إن الإمام يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون وقال الشافعى مثل قول مالك إلا أنه قال الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم وقال الحسن بن صالح مثل قول أبى حنيفة إلا أنه قال الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام ثم تنصرف وتجيء الطائفة الأولى فتقضى بقية صلاتها قال أبو بكر أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبى حنيفة ومحمد ذلك لأنه تعالى قال

__________________

(1) قوله رجع إلى حديث القاسم يعنى القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق قال ابن عبد البر هذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن المأموم إنما يقضى بعد سلام الامام كذا في الزرقانى على الموطأ.

٢٣٧

( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو لأنه قال( وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى الطائفة التي بإزاء العدو لأنها تحرس هذه المصلية وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يكونون جميعا معه وذلك خلاف الآية ثم قال تعالى( فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ) وعلى مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء وفي هذه الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم وذلك موافق لقولنا* ثم قال( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) فدل ذلك على معنيين أحدهما أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل طائفة معه وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة لأنه قال( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى ) ونون مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه والثاني قوله( لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) وذلك يقتضى نفى كل جزء من الصلاة ومخالفنا يقول يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكون على حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة وذلك خلاف الآية فهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبى حنيفة ومحمد وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللأصول وذلك لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وقال إنى امرؤ قد بدنت فلا تبادرونى بالركوع ولا بالسجود ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضى صلاتها وتخرج منها قبل الإمام وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الافتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول فإن قيل جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها قيل له المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلى وهو سائر

٢٣٨

بالاتفاق فكان لما ذكرنا أصل متفق عليه فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبنى قد وردت به السنة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم روى عن ابن عباس وعائشة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته والرجل يركع ويمشى إلى الصف فلا تبطل صلاته وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره باستيناف الصلاة فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير فلم يجز فعله وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعى ولما قامت به الدلالة سلمناه لها وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم قال أبو داود كذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أبو داود وكذلك قول مسروق ويوسف بن مهران عن ابن عباس وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبى موسى أنه فعله* وقول ابن عمر فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت* وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبى عبيدة عن عبد الله أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في حرة بنى سليم صلاة الخوف قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصف الذي معه ثم ركع وركع الصف الذي معه ثم تحول الصف الذين صفوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذوا السلاح وتحول الآخرون فقاموا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فركع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وركعوا وسجد وسجدوا ثم سلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب الذين صلوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح وتحول الآخرون وصلوا ركعة فكان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان

٢٣٩

وللقوم ركعة ركعة فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه وقد روى في حديث عبد الله بن مسعود من رواية ابن فضل عن خصيف عن أبى عبيدة عن عبد الله أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها والصحيح ما ذكرناه أولا لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاة والثانية لم تدرك فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلى الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها واحتج مالك بحديث رواه عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لم يروه أحد إلا يزيد بن رومان وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبى حثمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلاته وهذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول عليه وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذات الرقاع وقد روى يحيى بن كثير عن أبى سلمة عن جابر قال كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذات الرقاع فصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين فصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعا وكل طائفة ركعتين وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد ابن رومان وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف على وجوه أخر فاتفق ابن مسعود وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن ثابت أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون العدو ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة وإن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته قبل فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فيه مما قدمنا ذكره وروى أبو عياش الزرقي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الخوف نحو

٢٤٠