أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن10%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77322 / تحميل: 5400
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المذهب الذي حكيناه عن ابن أبى ليلى وأبى يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبى الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبد الملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبى موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك هشام بن عروة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روى عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما فيها* وروى فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن على قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف فقال أبو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوة نجد قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلموا جميعا فكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة * وقد روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثنا أبى قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبى بكرة قال صلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك يحيى ابن أبى كثير عن أبى سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك رواه سليمان

«١٦ ـ أحكام لث»

٢٤١

اليشكري عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم * قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب ابن أبى ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبى عياش الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبى عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبى هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بنى سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبى عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبى عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ) ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبى بكرة

٢٤٢

أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ) وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله* فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة* قيل له جائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن* وأما القول الذي روى عن أبى يوسف في أنه لا تصلى بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) فخص هذه الصلاة بكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشى واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة* قال أبو بكر فأما تخصيص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب بها بقوله( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ) فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) هو الذي قال( فَاتَّبِعُوهُ ) فإذا وجدنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ) لم يوجب كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله( إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ) وكذلك قوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) وقوله( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) فيه تخصيص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها

٢٤٣

من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد ابن العاص وعبد الرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم.

باب الاختلاف في صلاة المغرب

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعى والشافعى يصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعى يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلى بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعى إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازى العدو فيصلى بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء فيصلى بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلى بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلى مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلى كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعى والله أعلم بالصواب.

٢٤٤

ذكر اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلى إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعى لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى(١) من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقديّ أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) وفي ذلك دليل من وجهين على أن

__________________

(١) قوله هوي بفتح الهاء وضمها وكسر الواو وتشديد الياء الحين الطويل من الليل.

٢٤٥

قوله( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) إنما أريد به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله( وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان(١) بعد ما صلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها حملنا عليهم فصلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ) إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم* قوله تعالى( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ) فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلى بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ )

__________________

(١) قوله ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان إلى آخره لأن خالدا رضى الله عنه لم يكن إذ ذاك أسلم وكان قائدا للمشركين في تلك الغزوة كما في صحيح أبى داود.

٢٤٦

قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) يروى أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) فقال إنما يعنى بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروى عن الحسن( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) هذه رخصة من الله للمريض أن يصلى قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ) فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروى عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ) وقوله تعالى( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فإنه روى عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدى وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم.

باب مواقيت الصلاة

قال الله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروى عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن

٢٤٧

زيد بن أسلم مثل ذلك قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى( كِتاباً ) معناه فرضا وقوله( مَوْقُوتاً ) معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روى عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبى عبد الرحمن السلمى نحوه قال أبو بكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالهما لو لا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك هاهنا هو الغروب وغسق الليل هاهنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) والمرافق داخلة فيها وقوله( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى( وَقُرْآنَ

٢٤٨

الْفَجْرِ ) ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبى هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبى جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرنى مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) روى عمر وعن الحسن في قوله تعالى( طَرَفَيِ النَّهارِ ) قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر* وروى ليث عن الحكم عن أبى عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقال( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله( حِينَ تُمْسُونَ ) إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك تصبحون لأن وقت الصبح معلوم وقوله( طَرَفَيِ النَّهارِ ) لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط

٢٤٩

النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا* فهذه الآي دالة* على أعداد الصلوات* وقوله تعالى( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ) الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبى حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض.

وقت الفجر

فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبى عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد إصبعيه السبابتين * وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلوا واشربوا ولا* يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر * وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع ابن جبريل في حديث المواقيت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول

٢٥٠

حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائته إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبد الله بن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وقت الفجر ما لم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وروى أبو هريرة أيضا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبى يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس.

وقت الظهر

وأما أول وقت الظهر فهو من حين نزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى( وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) وقال( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبى سعيد وجابر وعبد الله بن عمر وبريدة الأسلمى وأبى هريرة وأبى موسى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة* وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروى عن أبى حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شيء مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعى هو أن يصير ظل كل شيء مثله وحكى عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى

٢٥١

غروب الشمس ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) وذلك يقتضى فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلى المثلين بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء لالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر فإن قيل إنما

٢٥٢

أراد أن وقتى الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبى مسعود عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبى سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي حديث أبى قتادة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضى أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبى موسى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم

٢٥٣

مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبى بكر بن عمرو بن حزم عن عروة فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة * وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وروى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر بالمدينة ثم أمشى إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة ابن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبى مسعود عن أبيه قال كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروى عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر لم يفيء الفيء بعد * وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شيء مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلى في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفيء الفيء فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل* وأما ما حكى عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في

٢٥٤

اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبى سعيد وأبى موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبد الله بن عمر وأبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبى هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا بتوقيفهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبى قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلى العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها* فإن احتجوا بقوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روى في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب* قيل له ظاهره يقتضى إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس* وقد وافق الشافعى مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبى إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أو يجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت

٢٥٥

وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر.

وقت العصر

قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روى عن أبى حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الواردة في أن وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبى قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبى حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر* واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلى الغروب فإن احتج محتج بحديث عبد الله بن عمر وأبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس * فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روى في حديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالاحتلام أو الإسلام

٢٥٦

يلزمه فرضها وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إن الرجل ليصلى الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا له من أهله وماله.

وقت المغرب

أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال الله عز وجل( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ ) قيل فيه إنه وقت المغرب وفي أخبار المواقيت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق ابن عباس وجابر وأبى سعيد وغيرهم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلى المغرب مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تواترت بالحجاب * وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبى بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتى أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روى ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبد الله وعثمان وأبى هريرة* ويحتمل أن يكون خبر أبى بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل الغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل

«١٧ ـ أحكام لث»

٢٥٧

الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد* وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعى ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبى ليل ومالك والثوري والحسن ابن صالح والشافعى الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر* قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس* وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى ابن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيد الله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخرسانى عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمرى عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة* قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روى عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيد الله قال حدثنا الوليد ابن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعى قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض* قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول الشفق البياض.

(فصل) وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وقد ذكرنا من

٢٥٨

قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) غاية وقد روى عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضى ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبى بكرة عن أبى موسى عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان ابن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبى أيوب عن عبد الله بن عمرو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وقت المغرب ما لم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطوال وهي( المص ) وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ( المص ) قد أخرها عن وقتها فإن قيل روى في حديث ابن عباس وأبى سعيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها

٢٥٩

مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعى في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاوز الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب.

ذكر القول في الشفق والاحتجاج له

قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لو لا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى القرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفى فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن أصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبى النجم.

حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلى

بين سماطي شفق مهول(١)

فهي على الأفق كعين الأحول

ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله( وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ) فأقسم

__________________

(١) قوله مهول هو الذي فيه تهاويل وهي الألوان المختلفة من حمرة وصفرة وغيرهما.

٢٦٠

بالليل والنهار فهذا يوجب أن يكون الشفق البياض لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر وهذا يدل على أن الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد البياض قوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وقد بينا أن الدلوك هو اسم يقع على الغروب ثم جعل غسق الليل غايته وروى عن ابن عباس في غسق الليل أنه اجتماع الظلمة وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض مادام باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة البياض فثبت أن المراد البياض فإن قيل روى عن ابن مسعود وأبى هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس قيل له المشهور عن ابن مسعود أن دلوك الشمس هو غروبها ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا لأن الله تعالى قال( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) فجعل الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوى عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته ومع ذلك فقد روى عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال أخبرنى مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته وهذا ينفى أن يكون غسق الليل وقت الغروب من قبل أن وقت الغروب لا تكون ظلمة مجتمعة وقد روى عن أبى جعفر في غسق الليل أنه انتصافه وعن إبراهيم غسق الليل العشاء الآخرة وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب فيصير تقدير الآية أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد ما لم يفدناه لو قال إلى الليل عاريا من اجتماعها ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير ابن أبى مسعود عن أبيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق

٢٦١

وربما أخرها حتى يجتمع الناس فأخبر عن صلاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوائل أوقاتها وأخبر عنها في أواخرها وذكر في أول الوقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض ومن يأبى هذا القول يقول إن قوله حين اسود الأفق لا ينفى بقاء البياض لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها ولو أراد غيبوبة البياض لقال حين اسودت الآفاق وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة ويحتج القائلون بالبياض أيضا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العشاء الآخرة حين يستوي الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول حين اسود الأفق ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبى رباح عن جابر بن عبد الله قال سأل رجل نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الصلاة فقال صل معى فصلى في اليوم الأول العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق قالوا ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة فوجب أن يكون أراد البياض ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعد ما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا من قبل ما غاب الشفق الذي هو الحمرة إذا كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روى في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى الظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق وفي بعض أخبار عبد الله بن عمر إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق وفي لفظ آخر وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق(1) قالوا فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة ومن يقول البياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضى غيبوبة جميعه وهو بالبياض فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها ولمن قال بالحمرة أن يقول إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقتان فيتناول الاسم أولهما غيبوبة كما أن

__________________

(1) قوله ثور الشفق بالثاء المثلثة أى انتشاره وثوران حمرته من ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع في النهاية.

٢٦٢

الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق ومما يحتج به القائلين بالبياض حديث النعمان بن بشير أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة وظاهر ذلك يقتضى غيبوبة البياض قال أبو بكر وهذا لا يعتمد عليه لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه قال أبو بكر وحكى(1) ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال راعيت البياض فرأيته لا يغيب البتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر قال أبو بكر وهذا غلط والمحنة بيننا وبينهم وقد راعيته في البوادي في ليالي الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضى من الليل ربعه بالتقريب ومن أراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض أنا وجدنا قبل طلوع الشمس حمرة وبياضا قبلها وكان جميعا من وقت صلاة واحدة إذ كانا جميعا من ضياء الشمس دون ظهور جرمها كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد غروبها من وقت صلاة واحدة للعلة التي ذكرناها.

وقت العشاء الآخرة

وأول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق على اختلافهم فيه إلى أن يذهب نصف الليل في الوقت المختار وفي رواية أخرى حتى يذهب ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر الثاني وقال الثوري والحسن بن صالح وقت العشاء إذا سقط الشفق إلى ثلث الليل والنصف أبعده قال أبو بكر ويحتمل أن يكونا أرادا الوقت المستحب لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر

__________________

(1) قوله قال أبو بكر وحكى إلى آخره ذكر القرطبي في تفسير سورة الانشقاق عن الخليل بن أحمد أنه قال صعدت منارة الاسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب وقال ابن أبى أويس رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر انتهى وبهذا تعلم أن ما ذكره المصنف لا يدفع ما ذكر الخليل لأن الخليل رمقه من مكان عال جدا وهو منارة الاسكندرية والمصنف رآه في أرض البوادي ولا يلزم من مغيبه عن نظر الرامق له من أرض البادية مغيبه عن نظر الرامق من تلك المنارة العالية لما بين المكانين من التباين الكلى في الارتفاع والانحطاط وقد نقل لزيلعى في كتاب تبين الحقائق أن الشمس لا تغيب عن نظر الرامق لها من منارة الاسكندرية إلا بعد غيابها بزمن طويل عن البلدة.

٢٦٣

وإن من أدرك أو أسلم قبل طلوع الفجر أنه تلزمه العشاء الآخرة وكذلك المرأة إذا طهرت من الحيض قوله تعالى( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ) الآية هو حث على الجهاد وأمر به ونهى عن الضعف عن طلبهم ولقائهم لأن الابتغاء هو الطلب يقال بغيت وابتغيت إذا طلبت والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان عند لقاء العدو واستدعاهم إلى نفى ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم بقوله( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ) فأخبر أنهم يساوونكم فيما يلحق من الألم بالقتال وإنكم تفضلونهم فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون فأنتم أولى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة قوله تعالى( وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ ) قيل فيه وجهان أحدهما ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه والآخر ثواب الآخرة ونعيم الجنة فدواعى المسلمين على التصبر على القتال واحتمال ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار وقيل فيه( تَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ ) تؤملون من ثواب الله ما لا يؤملون روى ذلك عن الحسن وقتادة وابن جريح وقال آخرون وتخافون من الله ما لا يخافون كما قال تعالى( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) يعنى لا تخافون لله عظمة وبعض أهل اللغة يقول لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة قوله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) الآية فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد* قوله تعالى( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) روى أنه أنزل في رجل سرق درعا فلما خاف أن تظهر علية رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق* وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه وهذه الآية وما بعدها من النهى عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهى عن معونة من لا يعلمه حقا* وقوله تعالى( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) ربما احتج

٢٦٤

به من يقول أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وأن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص وأنه كقوله تعالى( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) وليس في الآيتين دليل على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وذلك لأنا نقول ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله فليس في الآية دلالة على نفى الاجتهاد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأحكام وقد قيل في قوله تعالى( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) أنه جائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دفع عنهم وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا منه إلى المسلمين دون اليهودي إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين وإذا كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة والمسلم أولى ببراءة الساحة فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا فصار ذلك أصلا في أن الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وان كان أحدهما ذا حرمة له والآخر على خلافه وهذا يدل أيضا على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده لأنه إنما حكم عليهم مما كان عندهم أنه جائز وكانوا يسترقون السارق فاحتبسه عنده وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يسترقه ولا قال أنه سرق وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا وقد نهى الله عن الحكم بالظن والهوى بقوله( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) وقوله( وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ) جائز أن يكون صادف ميلا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره وجائز أن يكون هم بذلك فاعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادعى عليه فجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أظهر معاونته لما ظهر من الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) بمسئلتهم معونة هذا الخائن وقد قيل

٢٦٥

أن هذه الطائفة التي سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا على يقين من أمر الخائن وسرقته ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره* فإن قيل كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا* كان في الباطن خلافه وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن* قيل له لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلال وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى* قوله تعالى( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ) فإنه قد قيل في الفرق بين الخطيئة(1) والإثم أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد والإثم ما كان عن عمد فذكرهما جميعا ليبين حكمهما وأنه سواء كان تعمد أو غير تعمد فإنه إذا رمى به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا إذ غير جائز له رمى غيره بما لا يعلمه منه* قوله تعالى( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ) الآية قال أهل اللغة النجوى هو الإسرار فأبان تعالى أنه لا خير في كثير مما يستارون به إلا أن يكون ذلك أمرا بصدقة أو أمرا بمعروف أو إصلاح بين الناس وكل أعمال البر معروف لاعتراف العقول بها لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له وتنكر الباطل من جهة زجرها عنه وتبريها منه ومن جهة أخرى سمى أعمال البر معروفا وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه وعلمهم به ولا يعرفون الشر بمثل معرفتهم بالخير لأنهم لا يلابسونه ولا يعلمون به فسمى أعمال البر معروفا والشر منكرا* حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا عبد السلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال قال أبو جرى(2) جابر بن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس عليه بردان من صوف فيها طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها فقال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد على فأعدت عليه فقال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل

__________________

(1) قوله في الفرق بين الخطيئة إلى آخرة ذكر في الكشاف غير هذا ففسر الخطيئة بالصغيرة والإثم بالكبيرة.

(2) قوله أبو جرى بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء مصغرا جابر بن سليم.

٢٦٦

دلوك في إناء المستسقى وإن امرؤ سبك بما يعلم منك(1) فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله قال أبو جرى والذهب ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد ابن محمد المسلم الدقاق قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله * وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا أبو ذكريا يحيى بن محمد الحماني والحسين بن إسحاق قالا حدثنا شيبان قال حدثنا عيسى بن شعيب قال حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى أمامة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل معروف صدقة وأول أهل الجنة دخولا أهل المعروف صنائع المعروف تقى مصارع السوء وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابى قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبى سعيد المقبري يعنى عبد الله عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق وأما الصدقة فعلى وجوه منها الصدقة بالمال على الفقراء فرضا تارة ونفلا أخرى ومنها معونة المسلم بالجاه والقول كما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال كل معروف صدقة وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل سلامى من ابن آدم صدقة وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبى ضمضم قالوا أو من أبو ضمضم قال رجل ممن كان قبلكم كان إذا خرج من بيته قال اللهم أنى قد تصدقت بعرضي على من شتمه فجعل احتماله أذى الناس صدقة بعرضه عليهم * قوله عز وجل( أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) هو نظير قوله تعالى( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) وقوله( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) وقال( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) وقال تعالى( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال قال

__________________

(1) قوله بما يعلم منك ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ هو فيك وفي نسخة شرج عليها المناوى بأمر ليس فيك قال العزيزي وهو أبلغ.

٢٦٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة * وإنما قيد الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترؤس على الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد قوله تعالى( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ) الآية فإن مشاقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مباينته ومعاداته بأن يصير في شق غير الشق الذي هو فيه وكذلك قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) هو أن يصير في حد غير حد الرسول وهو يعنى مباينته في الاعتقاد والديانة وقال( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ) تغليظا في الزجر عنه وتقبيحا لحاله وتبيينا للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيلهم وقوله( نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ) إخبار عن براءة الله منه وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان واعتضد به ولا يتولى الله نصره ومعونته قوله تعالى( وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ) التبتيك التقطيع يقال بتكه يبتكه تبتيكا والمراد به في هذا الموضع شق أذن البحيرة روى ذلك عن قتادة وعكرمة والسدى وقوله( وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ) يعنى والله أعلم أنه يمنيهم طول البقاء في الدنيا ونيل نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا الدنيا على الآخرة ويأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم وعلى الناس بذلك أكلها وهي البحيرة التي كانت العرب تحرم أكلها وقوله( وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ) فإنه روى فيه ثلاثة أوجه أحدها عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهدو الحسن والضحاك والسدى دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام ويشهد له قوله تعالى( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) والثاني ما روى عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب وعكرمة وأبى صالح أنه الخصاء والثالث ما روى عن عبد الله والحسن أنه الوشم وروى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بإخصاء الدابة وعن طاوس وعروة مثله وروى عن ابن عمر أنه نهى عن الإخصاء وقال ما أنهى إلا في الذكور وقال ابن عباس إخصاء البهيمة مثلة ثم قرأ( وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ) وروى عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إخصاء الجمل قوله تعالى( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ) هو نظير قوله( ثُمَّ أَوْحَيْنا

٢٦٨

إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتباعه فإن قيل فواجب أن تكون شريعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هي شريعة إبراهيم عليه السلام قيل له إن ملة إبراهيم داخلة في ملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي ملة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على ملة إبراهيم فوجب من أجل ذلك اتباع ملة إبراهيم إذ كانت داخلة في ملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان متبع ملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم متبعا لملة إبراهيم وقيل في الحنيف أنه المستقيم فمن سلك طريق الاستقامة فهو على الحنيفية وإنما قيل للمعوج الرجل أحنف تفاؤلا كما قيل للمهلكة مفازة وللديغ سليما وقوله( وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ) فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالأسرار دون من ليس له تلك المنزلة والثاني أنه من الخلة وهي الحاجة فخليل الله المحتاج إليه المنقطع إليه بحوائجه فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم وإذا أريد به الوجه الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم بأنه خليل الله وقوله تعالى( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ ) قال أبو بكر روى أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق* وقوله تعالى( وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ ) يعنى به ما ذكر في أول السورة من قوله تعالى( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وقد بيناه في مواضعه والله الموفق.

باب مصالحة المرأة وزوجها

قال الله تعالى( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ) قيل في معنى النشوز أنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة وقوله( أَوْ إِعْراضاً ) يعنى لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح فروى عن على وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها وقال عمر ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال خشيت سودة أن يطلقها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومى لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ) الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وقال هشام

٢٦٩

ابن عروة عن أبيه عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول أمسكنى ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) إلى قوله تعالى( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم به لها قال أبو بكر فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمرو وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه وعموم الآية يقتضى جواز اصطلاحا على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه لأنه لا يسقط مع وجوب السبب الموجب له وهو عقد النكاح وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة قيل له لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه وقوله تعالى( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) قال بعض أهل العلم يعنى خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل ويدل على جواز الصلح عن إنكار والصلح من

٢٧٠

المجهول وقوله تعالى( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير الشح على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن وقال الحسن تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قبل صاحبه والشح البخل وهو الحرص على منع الخير قوله تعالى( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) الآية روى عن أبى عبيدة قال يعنى المودة وميل الطباع وكذلك روى عن ابن عباس والحسن وقتادة* وقوله تعالى( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ) يعنى والله أعلم إظهاره بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها يدل عليه قوله( فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة لا أيم ولا ذات زوج وقد روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط وهذا الخبر يدل أيضا على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أولى لقوله تعالى( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها( وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ) تسلية لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يجريه منه على أيدى عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه وبالله التوفيق.

باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) الآية روى قابوس عن أبى ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ) قال هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن الآخر وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مهران الدينوري قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا عباد بن كثير ابن أبى عبد الله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر قال أبو بكر قوله تعالى( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) قد

٢٧١

أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه لأن جميع ذلك من القيام بالقسط ثم أكد ذلك بقوله( شُهَداءَ لِلَّهِ ) يعنى والله أعلم فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وأيضا له إليه وهو مثل قوله تعالى( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه بقوله تعالى( وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق وقوله تعالى( أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) فيه أمر بإقامة الشهادة على الوالدين والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه وهو مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك* وقوله تعالى( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ) أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم* وقوله تعالى( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) يعنى لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء وهو نظير قوله تعالى( إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه* وقوله تعالى( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) فإنه يحتمل ما روى عن ابن عباس أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون

٢٧٢

ليه وإعراضه على أحدهما واللي هو الدفع ومنه قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يعنى مطله ودفع الطالب عن حقه فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا لاحتمال اللفظ لهما فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار أحدهما والخلوة به كما روى عن على كرم الله وجهه قال نهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نضيف أحد الخصمين دون الآخر * وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) قيل فيه يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء آمنوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله لأنهم من حيث آمنوا بالمتقدمين من الأنبياء لما كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذه العلة بعينها ومن جهة أخرى أن في كتب الأنبياء المتقدمين البشارة بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن حيث آمنوا بهم وصدقوا بما أخبروا به عن الله تعالى وقد أخبروهم نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعليهم الإيمان به وهم محجوجون بذلك وقيل إنه خطاب للمؤمنين بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر لهم بالمداومة على الإيمان والثبات عليه والله أعلم.

باب استتابة المرتد

قال الله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ) قال قتادة يعنى به أهل الكتابين من اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال مجاهد هي في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به وقد بين الله أمرهم في قوله( وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) قال أبو بكر هذا يدل على أن المرتد متى تاب تقبل توبته وإن توبة الزنديق مقبولة إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد

«18 ـ أحكام لث»

٢٧٣

أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان واختلف الفقهاء في استنابة المرتد والزنديق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب ومن قتل مرتدا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه وذكر بشر بن الوليد عن أبى يوسف في الزنديق الذي يظهر الإيمان قال أبو حنيفة أستتيبه كالمرتد فإن أسلم خليت سبيله وإن أبى قتلته وقال أبو يوسف كذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال أرى إذا أتيت بزنديق آمر بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله خليته وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبى يوسف قال إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته حتى أعلم توبته وذكر محمد في السير عن أبى يوسف عن أبى حنيفة إن المرتد يعرض عليه السلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ولم يحك خلافا* قال أبو جعفر الطحاوي وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبى يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال قال أبو حنيفة أقتل الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف ولم يحك أبو يوسف خلافه وقال ابن القاسم عن مالك المرتد يعرض عليه الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما يقتل الزنادقة وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك يقتل الزنادقة ولا يستتابون فقيل لمالك فكيف يستتاب القدرية قال يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وإن أقر القدرية بالعلم لم يقتلوا* وروى مالك عن زيد بن أسلم قال قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير دينه فاضربوا عنقه قال مالك هذا فيمن ترك الإسلام ولم يقربه لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية قال مالك وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضرب عليه وحسن أن يترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني وقال الحسن بن صالح يستتاب المرتد وإن تاب مائة مرة وقال الليث الناس لا يستتيبون من ولد في الإسلام إذا شهد عليه بالردة ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البنية العادلة وقال الشافعى يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق وإن لم يتب قتل وفي الاستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال أبو بكر روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال يستتاب المرتد ثلاثا ثم قرأ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) الآية وروى

٢٧٤

عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من بدل دينه فاقتلوه ولم يذكر فيه استتابته إلا أنه يجوز أن يكون محمولا على أنه قد استحق القتل وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) الآية وقال تعالى( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرق بين المرتد وبين غيره فظاهره يقتضى دعاء المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة وقال تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ويحتج بذلك أيضا في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له وكذلك قوله( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره فظاهره يقتضى قبول إسلامه فإن قيل قوله تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) لا دلالة فيه على زوال القتل عنه لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائبا ويقتل قاتل النفس مع التوبة* قيل له قوله تعالى( إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) يقتضى غفران ذنوبه وقبول توبته لو لم تكن مقبولة لما كانت ذنوبه مغفورة وفي ذلك دليل على صحة استنابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة وأيضا فإن قتل الكافر إنما هو مستحق بإقامته على الكفر فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وجب قتله وعاد إلى حظر دمه ألا ترى أن المرتد ظاهرا متى أظهر الإسلام حقن دمه كذلك الزنديق وقد روى عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه سلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لي من توبة فأنزل الله( كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ـ إلى قوله تعالى ـإِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا ) فكتبوا بها إليه فرجع فأسلم فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله فوجب استعمال ذلك والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه* وقول من قال إنى لا أعرف توبته إذا كفر سرا فإنا لا نؤاخذ باعتبار حقيقة اعتقاده لأن ذلك لا نصل إليه وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقال تعالى( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقال( إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ ) ومعلوم أنه لم يرد حقيقة العلم بضمائرهن

٢٧٥

واعتقادهن وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علما فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول وقال تعالى( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) وذلك عموم في جميع الكفار وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة ابن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها متعوذا قال هلا شققت عن قلبه * وروى الثوري عن أبى إسحاق عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله فقال ما بيني وبين أحد من العرب أحنة وأنى مررت بمسجد بنى حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجاء بهم واستتابهم غير ابن النواحة قال له سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول أبن ما كنت تظهر من الإسلام قال كنت أتقيكم به فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق فهذا مما يحتج به من لم يقبل توبة الزنديق وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم وأما ابن النواحة فلم يستتبه لأنه أقر أنه كان مسرا للكفر مظهرا للإيمان على وجه التقية وقد كان قتله إياه بحضرة الصحابة لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال أخذ بالكوفة رجال يؤمنون بمسيلمة الكذاب فكتب فيهم إلى عثمان فكتب عثمان أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن قالها وتبرأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه ومن لزم دين مسيلمة فاقتله فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا* قوله تعالى( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) قيل في معنى قوله( أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) إنهم اتخذوهم أنصارا واعتضادا لتوهمهم أن لهم القوة والمنعة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلا منهم بدين الله وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب وبذلك قال أصحابنا* وقوله( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) يدل على صحة هذا الاعتبار وأن الاستعانة بالكفار لا تجوز إذ كانوا متى غلبوا كان الغلبة والظهور للكفار وكان حكم الكفر هو الغالب* فإن قيل إذا كانت الآية في شأن المنافقين وهم كفار فكيف يجوز الاستدلال به على المؤمنين قيل له لأنه قد ثبت أن هذا الفعل محظور فلا يختلف

٢٧٦

حكمه بعد ذلك أن يكون من المؤمنين أو من غيرهم لأن الله تعالى متى ذم قوما على فعل فذلك الفعل قبيح لا يجوز لأحد من الناس فعله إلا أن تقوم الدلالة عليه وقيل إن أصل العزة هو الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز وقيل قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه ومنه قول القائل عز على كذا إذا اشتد عليه وعز الشيء إذا قل لأنه يشتد مطلبه وعازه في الأمر إذا شاده فيه وشاة عزوز إذا كانت تحلب بشدة لضيق أحاليلها والعزة القوة منقولة عن الشدة والعزيز القوى المنيع فتضمنت الآية النهى عن اتخاذ الكفار أولياء وأنصار أو الاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم* وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الدوري قال حدثنا يعقوب بن حميد ابن كاسب قال حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموى عن الحسن بن الحر عن يعقوب بن عتبة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من اعتز بالعبيد أذله الله تعالى وهذا محمول على معنى الآية فيمن اعتز بالكفار والفساق ونحوهم فأما أن يعتز بالمؤمنين فذلك غير مذموم قال الله تعالى( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) وقوله تعالى( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) تأكيد للنهى عن الاعتزاز بالكفار وإخبار بأن العزة لله دونهم وذلك منصرف على وجوه أحدها امتناع إطلاق العزة لله عز وجل لأنه لا يعتد بعزة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته والآخر أنه المقوى لمن له القوة من جميع خلقه فجميع العزة له إذ كان عزيزا لنفسه معزا لكل من نسب إليه شيء من العزة والآخر أن الكفار أذلاء في حكم الله فانتفت عنهم صفة العزة وكانت لله ومن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمنعة فغير مستحق لإطلاق اسم العزة لهم* قوله تعالى( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها ) فيه نهى عن مجالسة من يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال تعالى( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) وحتى هاهنا تحتمل معنيين أحدهما أنها تصير غاية لحظر القعود معهم حتى إذا تركوا إظهار الكفر والاستهزاء بآيات الله زال الحظر عن مجالستهم والثاني أنهم كانوا إذا رأوا هؤلاء أظهروا الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال لا تقعدوا معهم لئلا يظهروا ذلك ويزدادوا كفرا واستهزاء بمجالستكم لهم والأول أظهر وروى عن الحسن أن ما اقتضته الآية من

٢٧٧

إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) قيل إنه يعنى مشركي العرب وقيل أراد به المنافقين الذين ذكروا في هذه الآية وقيل بل هي عامة في سائر الظالمين* وقوله( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) قد قيل فيه وجهان أحدهما في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر والثاني إنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفر ولكن من قعد معهم ساخطا لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهى ويصير إلى حال غيرها فإن قيل فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه قيل له قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي وترك حضور الجنازة لما معها من النوح وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أولى وإذا كان هناك حق يقوم به ولم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته وقال قائلون إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجرى في مجلسهم وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب أنه لا ينبغي له أن يخرج وقال لقد ابتليت به مرة وروى عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبد الله الغدانى قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا فقلت لا فرفع إصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمع

٢٧٨

مثل هذا فصنع مثل هذا وهذا هو اختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره فأما أن يكون واجبا فلا قوله تعالى( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) روى عن على وابن عباس قالا سبيلا في الآخرة وعن السدى ولن يجعل الله لهم عليهم حجة يعنى فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح كما قال تعالى( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) فاقتضى قوله تعالى( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) وقوع الفرقة بردة الزوج وزوال سبيله عليها لأنه مادام النكاح باقيا فحقوقه ثابته وسبيله باق عليها* فإن قيل إنما قال( عَلَى* الْمُؤْمِنِينَ ) فلا تدخل النساء فيه* قيل له إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر كقوله( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) وقد أراد به الرجال والنساء وكذلك قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) ونحوه من الألفاظ ويحتج بظاهره أيضا في الكافر الذمي إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما إن لم يسلم وفي الحربي كذلك أيضا فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبدا ويحتج به أصحاب الشافعى في إبطال شرى الذمي للعبد المسلم لأنه بالملك يستحق السبيل عليه وليس ذلك كما قالوا لأن الشرى ليس هو المنفي بالآية لأن الشرى ليس هو الملك والملك إنما يتعقب الشرى وحينئذ يملك السبيل عليه فإذا ليس في الآية نفى الشرى وإنما فيها نفى السبيل* فإن قيل إذا كان الشرى هو المؤدى إلى حصول السبيل وجب أن يكون منتفيا كما كان السبيل منتفيا قيل له ليس الأمر كذلك لأنه ليس يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفيا ويكون الشرى المؤدى إلى حصول السبيل جائزا وإنما أردت نفى الشرى بالآية نفسها فإن ضممت إلى الآية معنى آخر في نفى الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير مانعة صحة الشرى وأيضا فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه لأنه ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه فلم يحصل له هاهنا سبيل عليه وقوله تعالى( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) قيل فيه وجهان أحدهما يخادعون نبي الله والمؤمنين بما يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائهم والله تعالى يخادعهم بالعقاب على خداعهم فسمى الجزاء

٢٧٩

على الفعل باسمه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) والآخر أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما يظهرون من الإيمان ويبطنون خلافه وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من قبول إيمانهم من علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم* وقوله تعالى( وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً ) قيل فيه إنما سماه قليلا لأنه لغير وجهه فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل منهم وقال قتادة إنما سماه قليلا لأنه على وجه الرياء فهو حقير غير متقبل منهم بل هو وبال عليهم وقيل إنه أراد إلا يسيرا من الذكر نحو ما يظهرونه للناس دون ما أمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به المؤمنين في قوله تعالى( فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ) وأخبر أيضا أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراءاة للناس والكسل هو التثاقل عن الشيء للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه فلما لم يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراءاة للناس خوفا منهم.

قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) فإن الولي هو الذي يتولى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على أمره والمؤمن ولى الله بما يتولى من إخلاص طاعته والله ولى المؤمنين بما يتولى من جزائهم على طاعته واقتضت الآية النهى عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة يهم وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدا كان أو غيره ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية وهو نظير قوله( لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشرى والبيع ودفع المال إليه مضاربة وهذه الآية دالة على صحة هذا القول* قوله تعالى( وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) يدل على أن كل ما كان من أمر الدين على منهاج القرب فسبيله أن يكون خالصا لله سالما من شوب الرياء أو طلب عرض من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي وهذا يدل على امتناع جواز أخذ شيء من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج* قوله عز وجل( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال ابن عباس وقتادة إلا أن يدعو على ظالمه وعن مجاهد رواية إلا أن يخبر بظلم ظالمه له وقال الحسن والسدى إلا أن ينتصر من ظالمه وذكر الفرات بن سليمان قال سئل عبد الكريم عن قول الله( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388