أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن10%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77313 / تحميل: 5400
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عند عدم الولد وسماهم كلالة وعدم الوالد مشروط فيها وإن لم يكن مذكورا لقوله تعالى في أول السورة( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) فلم يجعل للأخوة ميراثا مع الأب فخرج الوالد من الكلالة كما خرج الولد لأنه لم يورثهم مع الأب كما لم يورثهم مع الابن والبنت أيضا ليست بكلالة فإن ترك ابنة أو ابنتين وإخوة وأخوات لأب وأم أو لأب فالبنات لسن بكلالة ومن ورث معهما كلالة* وقال تعالى في أول السورة( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) فهذه الكلالة هي الأخ والأخت لأم لا يرثان مع والد ولا ولد ذكرا كان أو أنثى وقد روى أن في قراءة سعد بن أبى وقاص [وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لأم] فلا خلاف مع ذلك أن المراد بالأخ والأخت هاهنا إذا كانا لأم دونهما إذا كانا لأب وأم أو لأب وقد روى عن طاوس عن ابن عباس أن الكلالة ما عدا الولد وورث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس وهو السدس الذي حجبت الأم عنه وهو قول شاذ* وقد بينا ما روى عنه أنها ما عدا الوالد والولد ولا خلاف أن الإخوة* والأخوات من الأم يشتركون في الثلث ولا يفضل منهم ذكر على أنثى* وقد اختلفوا في الجد هل يورث كلالة فقال قائلون لم يورث كلالة وقال آخرون بل هو كلالة وهو قول من يورث الأخوة والأخوات مع الجد والأولى أن يكون خارجا من الكلالة لثلاثة أوجه أحدها أنهم لا يختلفون أن ابن الابن خارج عن الكلالة لأنه منسوب إلى الميت بالولاد فواجب على هذا خروج الجد منها إذا كانت النسبة بينهما من طريق الولاد ومن جهة أخرى أن الجد هو أصل النسب كالأب وليس بخارج عنه فوجب أن يكون خارجا عن الكلالة إذا كانت الكلالة ما تكلل على النسب وتعطف عليه ممن ليس أصل النسب متعلقا به والثالث أنهم لا يختلفون أن قوله تعالى( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ) لم يدخل فيه الجد وأنه خارج عنه لا يرث معه الإخوة من الأم كما لا يرثون مع الابن والبنت فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب في خروجه عن الكلالة وهذا يدل على أن الجد بمنزلة الأب في نفى مشاركة الإخوة والأخوات إياه في الميراث* فإن قيل هذا لا يدل على ما ذكرته من قبل

٢١

أن البنت خارجة عن الكلالة ولا يرث معها الإخوة والأخوات من الأم ويرث معها الإخوة والأخوات من الأب والأم فكذلك الجد* قيل له لم نجعل ما ذكرناه علة للمسئلة فيلزمنا ما وصفت وإنما قلنا أنه لما لم يتناوله اسم الكلالة كالأب والابن اقتضى ظاهر الآية أن يكون ميراث الإخوة والأخوات عند عدمه إلا أن تقوم الدلالة على توريثهم معه والبنت وإن كانت خارجة عن الكلالة فقد قامت الدلالة على توريث الإخوة والأخوات من الأب معها فخصصناها من الظاهر وبقي حكم اللفظ فيما سواه ممن يشتمله اسم الكلالة والله أعلم.

باب العول

روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضا قال والله ما أدرى أيكم قدم الله ولا أيكم أخر وكان امرأ ورعا فقال ما أجد شيئا هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص وأدخل على كل ذي حق ما أدخل عليه من عول الفريضة وروى أبو إسحاق عن الحارث عن على في بنتين وأبوين وامرأة قال صار ثمنها تسعا وكذلك رواه الحكم بن عتيبة عنه وهو قول عبد الله وزيد بن ثابت وقد روى أن العباس ابن عبد المطلب أول من أشار على عمر بالعول قال عبيد الله بن عبد الله قال ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب وأيم الله لو قدم من قدم الله لما عالت فريضة فقيل له وأيها التي قدم الله وأيها التي أخر قال كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا إلى فريضة فهي التي قدم الله وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فهي التي أخر الله تعالى فأما التي قدم الله تعالى فالزوج والزوجة والأم لأنهم لا يزولون من فرض إلا إلى فرض والبنات والأخوات نزلن من فرض إلى تعصيب مع البنتين والإخوة فيكون لهن ما بقي مع الذكور فنبدأ بأصحاب السهام ثم يدخل الضرر على الباقين وهم الذين يستحقون ما بقي إذا كانوا عصبة قال عبيد الله بن عبد الله فقلنا له فهلا راجعت فيه عمر فقال إنه كان امرأ مهيبا ورعا قال ابن عباس ولو كلمت فيه عمر لرجع وقال الزهري لو لا أنه تقدم ابن عباس إمام عدل فأمضى أمرا فمضى وكان امرأ ورعا ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم وروى محمد بن إسحاق عن ابن أبى نجيح

٢٢

عن عطاء بن أبى رباح قال سمعت ابن عباس ذكر الفرائض وعولها فقال أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا فهذا النصف وهذا النصف فأين موضع الثلث قال عطاء فقلت لابن عباس يا أبا عباس إن هذا لا يغنى عنك ولا عنى شيئا لو مت أومت قسما ميراثنا على ما عليه القوم من خلاف رأيك ورأيى قال فإن شاءوا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما جعل الله في مال نصفا ونصفا وثلثا* والحجة للقول الأول أن الله تعالى قد سمى للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف وللأخوة من الأم الثلث ولم يفرق بين حال اجتماعهم وانفرادهم فوجب استعمال نص الآية في كل موضع على حسب الإمكان فإذا انفرد واتسع المال لسهامهم قسم بينهم عليها وإذا اجتمعوا وجب استعمال حكم الآية في التضارب بها ومن اقتصر على بعض وأسقط بعضا أو نقص نصيب بعض ووفى الآخرين كمال سهامهم فقد أدخل الضيم على بعضهم مع مساواته للآخرين في التسمية فأما ما قاله ابن عباس من تقديم من قدم الله تعالى وتأخير من أخر فإنما قدم بعضا وأخر بعضا وجعل له الباقي في حال التعصيب فأما حال التسمية التي لا تعصيب فيها فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر ألا ترى أن الأخت منصوص على فرضها بقوله تعالى( وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) كنصه على فرض الزوج والأم والأخوة من الأم فمن أين وجب تقديم هؤلاء عليها في هذه الحال وقد نص الله تعالى على فرضها في هذه الحال كما نص على فرض الدين معها وليس يجب لأن الله أزال فرضها إلى غير فرض في موضع أن يزيل فرضها في الحال التي نص عليه فيها فهذا القول أشنع في مخالفة الآي التي فيها سهام المواريث من القول بإثبات نصف ونصف وثلث على وجه المضاربة بها ولذلك نظائر في المواريث من الأصول أيضا* قال الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) فلو ترك الميت ألف درهم وعليه دين لرجل ألف درهم ولآخر خمس مائة ولآخر ألف كانت الألف المتروكة مقسومة بينهم على قدر ديونهم وليس يجوز أن يقال لما لم يمكن استيفاء ألفين وخمس مائة من ألف استحال الضرب بها وكذلك لو أوصى رجل بثلث ماله لرجل وبسدسه لآخر ولم تجز ذلك الورثة تضاربا في الثلث بقدر وصياهم فيضرب أحدهما بالسدس والآخر بالثلث مع استحالة استيفاء النصف

٢٣

من الثلث وكذلك الابن يستحق جميع المال لو انفرد وللبنت النصف لو انفردت فإذا اجتمعا ضرب الابن بجميع المال والبنت بالنصف فيكون المال بينهما أثلاثا وهكذا سبيل العول في الفرائض عند تدافع السهام والله أعلم.

باب المشركة

اختلف أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسألة المشركة وهي أن تخلف المورثة زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها فقال على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس وأبى بن كعب وأبو موسى الأشعرى للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث وسقط الأخوة والأخوات من الأب والأم وروى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال سئل على عن الأخوة من الأم فقال أرأيتم لو كانوا مائة أكنتم تزيدونهم على الثلث قالوا لا قال فأنا لا أنقصهم منه شيئا وجعل الأخوة والأخوات من الأب والأم عصبة في هذه الفريضة وقد حالت السهام دونهم وقال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث ثم يرجع الأخوة من الأب والأم على الأخوة من الأم فيشاركونهم فيكون الثلث الذي أخذوه بينهم سواء* وروى معمر عن سماك ابن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال شهدت عمر بن الخطاب أشرك الأخوة من الأب والأم مع الأخوة من الأم في الثلث فقال له رجل قضيت عام أول بخلاف هذا قال كيف قضيت قال جعلته للأخوة من الأم ولم تعط الأخوة من الأب والأم شيئا قال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا* وروى أن عمر كان لا يشرك بينهم حتى احتج الأخوة من الأب والأم فقالوا يا أمير المؤمنين لنا أب وليس لهم أب ولنا أم كما لهم فإن كنتم حرمتونا بأبينا فورثونا بأمنا كما ورستم هؤلاء بأمهم واحسبوا أن أبانا كان حمارا أليس قد تراكضنا في رحم واحدة فقال عمر عند ذلك صدقتم فأشرك بينهم وبين الأخوة من الأم في الثلث وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إلى قول على بن أبى طالب رضى الله عنه ومن تابعه في ترك الشركة بينهم * والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ

٢٤

شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) فنص على فرض الأخوة من الأم وهو الثلث وبين أيضا حكم الأخوة من الأب والأم في قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ـ إلى قوله تعالى ـوَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فلم يجعل الله لهم فرضا مسمى وإنما جعل لهم المال على وجه التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين ولا خلاف أنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وأخوة وأخوات لأب وأم أن للزوج النصف وللأم السدس وللأخ من الأم السدس وما بقي وهو السدس بين الأخوة والأخوات من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخلوا مع الأخ من الأم في نصيبه فلما كانوا مع ذوى السهام إنما يستحقون باقى المال بالتعصيب لا بالفرض لم يجز لنا إدخالهم مع الأخوة من الأم في فرضهم لأن ظاهر الآية ينفى ذلك إذ كانت الآية إنما أوجبت لهم ما يأخذونه للذكر مثل حظ الأنثيين بالتعصيب لا بالفرض فما أعطاهم بالفرض فهو خارج عن حكم الآية ويدل على ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلا ولى عصبة ذكر عل للعصبة بقية المال بعد أخذ ذوى السهام سهامهم فمن أشركهم مع ذوى السهام وهم عصبة فقد خالف الأثر* فإن قيل لما اشتركوا في نسب الأم وجب أن لا يحرموا بالأب قيل له هذا غلط لأنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وأخوة وأخوات لأب وأم لأخذ الأخ من أم السدس كاملا وأخذ الأخوة والأخوات من الأب والأم السدس الباقي بينهم وعسى يصيب كل واحد منهم أقل من العشر ولم يكن لواحد منهم أن يقول قد حرمتمونى بالأب مع اشتراكنا في الأم بل كان نصيب الأخ من الأم أوفر من نصيب كل واحد منهم فدل ذلك على معنيين أحدهما انتقاض العلة بالاشتراك في الأم والثاني أنهم لم يأخذوا بالفرض وإنما أخذوا بالتعصيب ويدل على فساد ذلك أيضا أنها لو تركت زوجا وأختا لأب وأم وأختا وأخا لأب أن للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولا شيء للأخ والأخت من الأم لأنهما عصبة فلا يدخل مع ذوى السهام ولم يجز أن يجعل الأخ من الأب بمنزلة من لم يكن حتى تستحق الأخت من الأب سهمها الذي كانت تأخذه في حال الانفراد عن الأخ وإنما التعصيب أخرجها عن السدس الذي كانت تستحقه كذلك التعصيب يخرج الأخوة من الأب والأم عن الثلث الذي يستحقه الأخوة من الأم والله أعلم.

٢٥

ذكر اختلاف السلف في ميراث الأخت مع البنت

لم يختلف عن على وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل في رجل خلف بنتا وأختا لأب وأم وعصبة أن للبنت النصف وما بقي فللأخت فجعلوها عصبة مع البنات وقال عبد الله بن عباس وابن الزبير للبنت النصف وما بقي فللعصبة وإن بعد نسبه ولاحظ للأخت في الميراث مع البنت وروى أن ابن الزبير رجع عن ذلك بعد أن قضى به وروى أنه قيل لعبد الله بن عباس أن عليا وعبد الله وزيدا كانوا يجعلون الأخوات مع البنات عصبة فيورثونهن فاضل المال فقال أأنتم أعلم أم الله يقول الله( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) وأنتم تجعلون لها مع الولد النصف* قال أبو بكر مما يحتج به للقول الأول قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) فظاهره يقتضى توريث الأخت مع البنت لأن أخاها الميت هو من الأقربين وقد جعل الله ميراث الأقربين للرجال والنساء ويحتج فيه بحديث أبى قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم أن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأعطى للأخت بقية المال بعد السهام وجعلها عصبة مع البنت وأما احتجاج من يحتج في ذلك بأن الله تعالى إنما جعل لها النصف إذا لم يكن ولد ولا يجوز أن يجعل لها النصف مع الولد فإنه غير لازم من قبل أن الله تعالى نص على سهمها عند عدم الولد ولم ينف ميراثها مع وجوده وتسميته لها النصف عند عدم الولد لا دلالة فيه على سقوط حقها إذا كان هناك ولد إذ لم يذكر هذه الحال بنفي الميراث ولا بإيجابه فهو موقوف على دليله ومع ذلك فإن معناه إن امرؤ هلك وليس له ولد ذكر بدلالة قوله تعالى في نسق التلاوة( وَهُوَ يَرِثُها ) يعنى الأخ يرث الأخت( إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) معناه عند الجميع أن لم يكن لها ولد ذكر إذ لا خلاف بين الصحابة أنها إذا تركت ولدا أنثى وأخا أن للبنت النصف والباقي للأخ والولد المذكور هاهنا هو المذكور بديا في أول الآية وأيضا قال الله تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) ومعناه عند الجميع إن كان له ولد ذكر لأنه لا خلاف بين الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء أنه لو ترك

٢٦

ابنة وأبوين أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي للأب فيأخذ الأب في هذه الحال مع الولد الأنثى أكثر من السدس وإن قوله تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) على أنه ولد ذكر وكذلك لو ترك أبا وبنتا كان للبنت النصف وللأب النصف فقد أخذ في هاتين المسألتين أكثر من السدس مع الولد قال أبو بكر وشذت طائفة عن الأمة فزعمت أنه إذا ترك بنتا وأختا كان المال كله للبنت وكذلك البنت والأخ وهذا قول خارج عن ظاهر التنزيل واتفاق الأمة قال الله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فنص على سهم البنت وسهم ما فوق الثنتين وجعل لها إذا انفردت النصف وإذا ضامها غيرها الثلثين لهما جميعا فغير جائز أن تعطى أكثر منه إلا بدلالة* فإن قيل إذا كان ذكر النصف والثلثين غير دال على ما ذكرت فليس إذا في الظاهر نفى ما زاد وإنما تحتاج إلى أن تطالب خصمك بإقامة الدلالة على أن الزيادة مستحقة* قيل له لما كان قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) أمرا باعتبار السهام المذكورة إذ كانت الوصية أمرا أوجب ذلك اعتبار كل فرض مقدر في الآية على حياله ممنوعا من الزيادة والنقصان فيه فاقتضى ذلك وجوب الاقتصار على المقادير المذكورة لمن سميت له غير زائدة ولا ناقصة ولم يقل بذلك من حيث خصه بالذكر دون ما تقدم من الأمر باعتبارها في ابتداء الخطاب فلذلك منعنا الزيادة عليها إلا بدلالة* وقوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) يدل على وجوب توريث الأخ مع البنت ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلا ولى عصبة ذكر فواجب بمجموع الآية والخبر أنا إذا أعطينا البنت النصف أن نعطى الباقي الأخ لأنه أولى عصبة ذكر واختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم فقال على وزيد للأخ من الأم السدس وما بقي فبينهما نصفان وهو قول فقهاء الأمصار وقال عمر وعبد الله المال للأخ من الأم وقالا ذو السهم أحق ممن لا سهم له وإليه كان يذهب شريح والحسن ولم يختلفوا في أخوين لأم أحدهما ابن عم أن لهما الثلث بنسب الأم وما بقي فلابن العم خاصة ولم يجعلوا ابن العم أحق بجميع الميراث لاجتماع السهم والتسمية له دون الآخر كذلك حكم ابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم فغير جائز أن يجعل أولى

٢٧

بالميراث من أجل اختصاصه بالسهم والتعصيب وشبه عمر وعبد الله ذلك بالأخ لأب وأم وأخ لأب أنه أولى بالميراث وليس هذا عند الآخرين مشبها لهذه المسألة من قبل أن نسبهما من جهة واحدة وهي الأخوة فاعتبر فيها أقربهما إليه وهو الذي اجتمع له قرابة الأب والأم ولا يستحق بقرابته من الأم سهم الأخ من الأم بل إنما يؤكد ذلك حكم الأخوة وليس كذلك ابنا العم إذا كان أحدهما أخا لأم لأنك تريد أن تؤكد بالأخوة من جهة الأم ما ليس بأخوة وإنما هو سبب آخر غيرها فلم يجز أن تؤكده بها ويدل لك على هذا أن نسبته من جهة أنه ابن العم لا يسقط سهمه من جهة أنه أخ لأم بل يرث بأنه أخ لأم سهم الأخ من الأم وإن كان ابن عم ألا ترى أن الميتة لو تركت أختين لأب وأم وزوجا وأخا لأم هو ابن عم أن للأختين الثلثين وللزوج النصف وللأخ من الأم السدس ولم يسقط سهمه من جهة أنه ابن عم ولو تركت زوجا وأما وأختا لأم وأخوة لأب وأم كان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت من الأم السدس وما بقي فللإخوة من الأب والأم ولم يستحق أخوة من الأب والأم سهم الأخوة من الأم لمشاركتهم للأخ من الأم في نسبها بل إنما استحقوا بالتعصيب فكانت قرابتهم بالأب والأم مؤكدة لتعصيبهم فلا يستحقون بها أن يكونوا من ذوى السهام وقرابة ابن العم بنسبه من جهة الأم لا تخرجه من أن يكون من ذوى السهام فيما يستحقه من سهم الأخ من الأم وليس لهذا تأثير في تأكيد التعصيب لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يستحق أبدا إلا بالتعصيب كما لا يؤخذ الأخوة من الأب والأم إلا بالتعصيب ولا يأخذون بقرابتهم من الأم سهم الأخوة من الأم والله أعلم.

باب الرجل يموت وعليه دين ويوصى بوصية

قال الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وروى الحارث عن على قال تقرءون الوصية قبل الدين وأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدين قبل الوصية * قال أبو بكر وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين وذلك لأن معنى قوله( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أن الميراث بعد هذين وليست أو في هذا الموضع لأحدهما بل قد تناولهما جميعا وذلك لأن قوله( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) مستثنى عن الجملة المذكورة في قسمة المواريث ومتى دخلت أو على النفي صارت في معنى الواو كقوله تعالى( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ

٢٨

كَفُوراً ) وقال تعالى( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) فكانت أو في هذه المواضع بمنزلة الواو فكذلك قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) لما كان في معنى الاستثناء كأنه قال إلا أن تكون هناك وصية أو دين فيكون الميراث بعدهما جميعا وتقديم الوصية على الدين في الذكر غير موجب للتبدئة بها على الدين لأن أو لا توجب الترتيب وإنما ذكر الله تعالى ذلك بعد ذكر الميراث إعلاما لنا أن سهام المواريث جارية في التركة بعد قضاء الدين وعزل حصة الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كانت سهام الورثة معتبرة بعد الثلث فيكون للزوجة الربع أو الثمن في الثلثين وكذلك سهام سائر أهل الميراث جارية في الثلثين دون الثلث الذي فيه الوصية فجمع تعالى بين ذكر الدين والوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين وإن كانت الوصية مخالفة للدين من جهة الاستيفاء لأنه لو هلك من المال شيء لدخل النقصان على أصحاب الوصايا كما يدخل على الورثة وليس كذلك الدين لأنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه وبطل حق الموصى له والورثة جميعا فالموصى له شريك الورثة من وجه ويأخذ شبها من الغريم من وجه آخر وهو أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كاعتبارها بعد الدين وليس المراد بقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أن الموصى له يعطى وصيته قبل أن يأخذ الورثة أنصباءهم بل يعطون كلهم معا كأنه أحد الورثة في هذا الوجه وما هلك من المال قبل القسمة فهو ذاهب منهم جميعا.

باب مقدار الوصية الجائزة

قال الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) ظاهره يقتضى جواز الوصية بقليل المال وكثيره لأنها منكورة لا تختص ببعض دون بعض إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد بها الوصية ببعض المال لا بجميعه وهو قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية فلو اقتضى قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها ) الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) منسوخا بجواز الوصية بجميع المال فلما كان حكم هذه الآية

٢٩

ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها مع آية الوصية فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي للورثة حتى تكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) يعنى في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من بيان تأويله فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار تلقتها الأمة بالقبول والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث منها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة وابن أبى خلف قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض أبى مرضا شديدا قال ابن أبى خلف بمكة مرضا شفى منه فعاده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين قال لا قال فبالشطر قال لا قال فبالثلث قال الثلث والثلث كثير وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قلت يا رسول الله أتخلف عن هجرتي قال إنك أن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ثم قال اللهم امض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثى له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مات بمكة * قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد منها أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث والثاني أن المستحب النقصان عن الثلث ولذلك قال بعض الفقهاء أستحب النقصان عنه لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والثلث كثير والثالث أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن لا يوصى بشيء لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأنه أخبر أن الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث لأن سعد قال أتصدق بجميع مالي فقال لا إلى أن رده إلى الثلث وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن سعد قال عادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض فقال أوصيت قلت نعم قال بكم قلت بمالي كله في

٣٠

سبيل الله قال فما تركت لولدك قال هم أغنياء قال أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصنى حتى قال أوص بالثلث والثلث كثير قال أبو عبد الرحمن فنحن نستحب أن تنقص من الثلث لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والثلث كثير فذكر في هذا الحديث أنه قال أوصيت بمالي كله وهذا لا ينفى ما روى في الحديث الأول من الصدقة في المرض لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن حكم الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث وهو نظير حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وفيه أن الرجل مأجور في النفقة على أهله وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة لم يجز له الرجوع فيها لأنها بمنزلة الصدقة لأنه قد استوجب بها الثواب من الله تعالى وهو نظير ما روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة * وقول سعد أتخلف عن هجرتي عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى المهاجرين أن يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث فأخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضربه آخرين وكذلك كان فإنه بقي بعدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به ملك الأكاسرة وذلك من علوم الغيب الذي لا يعلمه غير الله تعالى* حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن حاتم العجلى قال حدثني عبد الأعلى ابن واصل قال حدثنا إسماعيل بن صبيح قال حدثنا مبارك بن حسان قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال يا ابن آدم اثنتان ليست لك واحدة منهما جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثنا عثمان قال سمعت طلحة بن عمرو قال حدثنا عطاء عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم * قال أبو بكر فهذه الأخبار الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم لتلقى الناس إياها بالقبول وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية المذكورة في الكتاب أنها مقصورة على الثلث* وقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) يدل على أن

٣١

من ليس عليه دين لآدمى ولم يوص بشيء أن جميع ميراثه لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصى به وكذلك الكفارات والنذور* فإن قيل إن الحج دين وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء * قيل له أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله الإطلاق وقول الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به على الإطلاق فلا ينطوى تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء مقيدة فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق فإذا لم تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا اقتضى قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أنه إذا لم يوص ولم يكن عليه دين لآدمى أن يستحق الوارث جميع تركته وحديث سعد يدل على ذلك أيضا لأنه قال أتصدق بمالي وفي لفظ آخر أوصى بمالي فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الثلث والثلث كثير ولم يستئن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ولا الزكاة ونحوها من حقوق الله تعالى ومنع الصدقة والوصية إلا بثلث المال فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث ويدل عليه أيضا حديث أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم وحديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حاكيا عن الله تعالى جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك يدل جميع ذلك على أن وصيته بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث والله أعلم.

باب الوصية للوارث

حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة قال حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وروى عمرو بن خارجة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا وصية لوارث إلا أن تجيزها الورثة ونقل أهل السير خطبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع وفيها أن لا وصية لوارث فورد نقل ذلك مستفيضا كاستفاضة وجوب الاقتصار بالوصية على الثلث دون ما زاد لا فرق بينهما من طريق نقل الاستفاضة

٣٢

واستعمال الفقهاء له وتلقيهم إياه بالقبول وهذا عندنا في حيز المتواتر الموجب للعلم والنافى للريب والشك وقوله في حديث عمرو بن خارجة إلا أن تجيزها الورثة يدل على أنها إذا أجازتها فهي جائزة وتكون وصية من قبل الموصى لا تكون هبة من قبل الوارث لأن الهبة من قبل الوارث ليست بإجازة من قبل الموروث وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن عبد الصمد قال حدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا يونس بن راشد عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة * قال أبو بكر وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الباقون في حياته فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن ابن صالح وعبيد الله بن الحسن والشافعى لا يجوز ذلك حتى يجيزها بعد الموت وقال ابن أبى ليلى وعثمان البتى ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة عليهم وقال ابن القاسم عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله فإنه ليس لهم أن يرجعوا فأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن وكل من في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا وكذلك العم وابن العم ومن خاف منهم أنه إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح فلهم أن يرجعوا وقول الليث في هذا كقول مالك* قال أبو بكر وإن أجازوها بعد الموت جازت عند* جميع الفقهاء* قال أبو بكر لما لم يكن لهم فسخها في الحياة كذلك لا تعمل إجازتهم لأنهم لم يستحقوا بعد شيئا والله أعلم.

باب الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا لم يكن له وارث فأوصى بجميع ماله جاز وهو قول شريك بن عبد الله وقال مالك والأوزاعى والحسن ابن صالح لا تجوز وصيته إلا من الثلث* قال أبو بكر قد بينا دلالة قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) وأنهم كانوا يتوارثون بالحلف وهو أن يحالفه على أنه إن مات ورثه ما يسمى له من ميراثه من ثلث أو أكثر وقد كان ذلك حكما ثابتا في صدر الإسلام وفرضه الله تعالى بقوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) ثم أنزل الله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وقوله تعالى( يُوصِيكُمُ

«٣ ـ أحكام لث»

٣٣

اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وقوله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) فجعل ذوى الأرحام أولى من الحلفاء ولم يبطل بذلك ميراث الحلفاء أصلا بل جعل ذوى الأنساب أولى منهم كما جعل الابن أولى من الأخ فإذا لم يكن ذوو الأنساب جاز له أن يجعل ماله على أصل ما كان عليه حكم التوارث لحلف وأيضا فإن الله تعالى أوجب سهام المواريث بعد الوصية بقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وقال( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وقد بينا أن ظاهر قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) يقتضى جواز الوصية بجميع المال لو لا قيام دلالة الإجماع والسنة على منع ذلك ووجوب الاقتصار بها على الثلث وإيجاب نصيب الرجال والنساء من الأقربين فمتى عدم من وجب به تخصيص الوصية في بعض المال وجب استعمال اللفظ في جواز الوصية بجميع المال على ظاهره ومقتضاه ويدل عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث سعد إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر أن منع الوصية بأكثر من الثلث إنما هو لحق الورثة ويدل عليه حديث الشعبي وغيره عن عمرو بن شرحبيل قال قال عبد الله بن مسعود ليس من حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب ولا يعلم له مخالف من الصحابة وأيضا فإنه لا يخلو من لا وارث له إذا مات من أن يستحق المسلمون ماله من جهة الميراث أو من جهة أنه مال لا مالك له فيضعه الإمام حيث يرى فلما جاز أن يستحقه الرجل مع ابنه ومع أبيه والبعيد مع القريب علمنا أنه غير مستحق لهم على وجه الميراث لأن الأب والجد لا يجتمعان في استحقاق ميراث واحد من جهة الأبوة وأيضا لو كان ميراثا لم يجز حرمان واحد منهم لأن سبيل الميراث أن لا يخص به بعض الورثة دون بعض وأيضا لو كان ميراثا لوجب أن يكون لو كان الميت رجلا من همدان ولا يعرف له وارث أن يستحق ميراثه أهل قبيلته لأنهم أقرب إليه من غيرهم فلما كان إنما يستحقه بيت المال للمسلمين وللإمام أن يصرفه إلى من شاء من الناس ممن يراه أهلا له دل ذلك على أن المسلمين لا يأخذونه ميراثا وإذا لم يأخذوه ميراثا وإنما كان للإمام صرفه إلى حيث يرى لأنه مالك له فمالكه أولى بصرفه إلى من يرى ومن جهة أخرى أنهم إذا لم يأخذوه ميراثا أشبه الثلث الذي يوصى به الميت

٣٤

ولا ميراث فيه فله أن يصرفه إلى من شاء فكذلك بقية المال إذا لم يستحقه الوارث كان له صرفه إلى من شاء ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا أيوب قال سمعت نافعا عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حق امرئ مسلم له مال يوصى فيه تمر عليه الليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة فلم يفرق بين الوصية ببعض المال أو بجميعه وظاهره يقتضى جواز الوصية بجميع المال وقد قامت الدلالة على وجوب الاقتصار على بعضه إذا كان له وارث فإذا لم يكن له وارث فهو على ظاهر مقتضاه في جوازها بالجميع والله أعلم.

باب الضرار في الوصية

قال الله تعالى( غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ) قال أبو بكر الضرار في الوصية على وجوه منها أن يقر في وصيته بماله أو ببعضه لأجنبى أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له زيا للميراث عن وارثه ومستحقه ومنها أن يقر باستيفاء دين له على غيره في مرضه لئلا يصل إلى وارثه ومنها أن يبيع ماله من غيره في مرضه ويقر باستيفاء ثمنه ومنها أن يهب ماله في مرضه أو يتصدق بأكثر من ثلثه في مرضه إضرارا منه بورثته ومنها أن يتعدى فيوصي بأكثر مما تجوز له الوصية به وهو الزيادة على الثلث فهذه الوجوه كلها من المضارة في الوصية وقد بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك في فحوى قوله لسعد الثلث والثلث كثير إنك لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن المصرى قال حدثنا عبد الصمد بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن داود يعنى ابن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قال حدثنا حميد بن زنجويه قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا عمر بن المغيره عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الإضرار في الوصية من الكبائر وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إسحاق القاضي قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى

٣٥

حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة قال أبو بكر ومصادقه في كتاب الله فيما تأوله ابن عباس في قوله تعالى( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية.

باب من يحرم الميراث مع وجود النسب

قال أبو بكر لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) وما عطف عليه من قسمة الميراث خاص في بعض المذكورين دون بعض فبعض ذلك متفق عليه وبعضه مختلف فيه فما اتفق عليه أن الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العمد لا يرث وقد بينا ميراث هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه واختلف في ميراث المسلم الكافر وميراث المرتد فأما ميراث المسلم من الكافر فإن الأمة من الصحابة متفقون على نفى التوارث بينهما وهو قول عامة التابعين وفقهاء الأمصار وروى شعبة عن عمرو بن أبى حكيم عن ابن(١) باباه عن يحيى بن يعمر عن أبى الأسود الدؤلي قال كان معاذ بن جبل باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما فقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الإسلام يزيد ولا ينقص وروى ابن شهاب عن داود بن أبى هند قال قال مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية قال كان يورث المسلم من اليهودي والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم قال فقضى بها أهل الشام قال داود فلما قدم عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي أن معاوية كتب بذلك إلى زياد يعنى توريث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك وكان شريح قبل ذلك لا يورث المسلم من الكافر فلما أمره زياد بما أمره قضى بقوله فكان شريح إذا قضى بذلك قال هذا قضاء أمير المؤمنين وقد روى الزهري عن على بن الحسين عن عمرو ابن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى وفي لفظ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملتين فهذه الأخبار تمنع توريث المسلم من الكافر

__________________

(١) قوله : ابن باباه ـ اسمه عبد الله واسم أبيه باباه كما في خلاصة تهذيب الكمال.

٣٦

والكافر من المسلم ولم يرو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلافه فهو ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما وأما حديث معاذ فإنه لم يعن هذه المقالة وإنما تأول فيها قوله الإيمان يزيد ولا ينقص والتأول لا يقضى به على النص والتوقيف وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه يحمل على موافقته دون مخالفته وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان يزيد ولا ينقص يحتمل أن يرد به من أسلم ترك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رد إليه وإذا احتمل ذلك واحتمل ما تأوله معاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث إذ غير جائز رد النص بالتأويل والاحتمال أيضا لا تثبت به حجة لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره فسقط الاحتجاج به وأما قول مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر فإنه يدل على بطلان هذا المذهب لإخباره أنها قضية محدثة في الإسلام وذلك يوجب أن يكون قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وإذا ثبت أن من قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافا عليهم بل هو ساقط القول معهم ويؤيد ذلك أيضا قول داود بن أبى هند أن عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول والله أعلم.

باب ميراث المرتد

اختلف السلف في ميراث المرتد الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الردة على أنحاء ثلاثة فقال على وعبد الله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وحماد بن الحكم وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعى وشريك يرثه ورثته من المسلمين إذا مات أو قتل على ردته وقال ربيعة بن عبد العزيز وابن أبى ليلى ومالك والشافعى ميراثه لبيت المال وقال قتادة وسعيد بن أبى عروبة إن كان له ورثة على دينه الذي ارتد إليه فميراثه لهم دون ورثته من المسلمين ورواه قتادة عن عمر بن عبد العزيز والصحيح عن عمر أن ميراثه لورثته من المسلمين ثم اختلفوا فيما اكتسبه بعد الردة إذا قتل أو مات مرتدا فقال أبو حنيفة والثوري ما اكتسبه بعد الردة فهو فيء وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعى في إحدى الروايتين ما اكتسبه بعد الردة أيضا فهو لورثته

٣٧

المسلمين قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) يقتضى توريث المسلم من المرتد إذ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد فإن قيل يخصه حديث أسامة بن زيد لا يرث المسلم الكافر كما خص توريث الكافر من المسلم وهو وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم فصار في حيز المتواتر ولأن آية المواريث خاصة بالاتفاق وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها قيل له في بعض ألفاظ حديث أسامة لا يتوارث أهل ملتين لا يرث المسلم الكافر فأخبر أن المراد إسقاط التوارث بين أهل ملتين وليست الردة بملة قائمة لأنه وإن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فغير مقر عليها فليس هو محكوما له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها ألا ترى أنه وإن انتقل إلى ملة الكتابي أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها فثبت بذلك أن الردة ليست بملة وحديث أسامة مقصور في منع التوارث بين أهل ملتين وقد بين ذلك في حديث مفسر وهو ما رواه هشيم عن الزهري قال حدثنا على بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فدل ذلك على أن مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك هو منع التوارث بين أهل ملتين وأيضا فإن أبا حنيفة من أصله أن ملك المرتد يزول بالردة فإذا قتل أو مات انتقل إلى التوارث ومن أجل ذلك لا يجيز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام وإذا كان هذا أصله فهو لم يورث مسلما من كافر لأن ملكه زال عنه في آخر الإسلام وإنما ورث مسلما ممن كان مسلما* فإن قبل فإذا يكون قد ورثته منه وهو حي* قيل له ليس يمتنع توريث الحي قال الله تعالى( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) وكانوا أحياء وعلى أنا إنما نقلنا المال إلى الورثة بعد الموت فليس فيه توريث الحي ويقال للسائل عن ذلك وأنت إذا جعلت ماله لبيت المال فقد ورثت منه جماعة المسلمين وهو كافر وورثتهم منه وهو حي إذا لحق بدار الحرب مرتد وأيضا فإن المسلمين إذا كانوا إنما يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام وجب أن يكونوا أولى بماله لاجتماع السببين لهم وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر والسببان اللذان اجتمعا للورثة هو الإسلام وقرب النسب فأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقا للمسلمين كان من اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أولى ممن بعد نسبه منه وإن

٣٨

كان له إسلام فإن قال قائل هذه العلة توجب توريثه من مال الذمي قيل له لا يجب ذلك لأن مال الذمي بعد موته غير مستحق بالإسلام لاتفاق الجميع على أن ورثته من أهل الذمة أولى به من المسلمين واتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن مال المرتد مستحق بالإسلام فمن قائل يقول يستحقه جماعة المسلمين وآخرين يقولون يستحقه ورثته من المسلمين فلما كان ماله مستحقا بالإسلام أشبه مال المسلم الميت لما كان مستحقا بالإسلام كان من اجتمع له الإسلام وقرب النسب أولى من جماعة المسلمين فإن قيل فلو مات ذمي وترك مالا ولا وارث له من أهل دينه وله قرابة مسلمون كان ماله لجماعة المسلمين ولم يكن أقاربه من المسلمين أولى به لاجتماع السببين لهم من الإسلام والنسب قيل له إن مال الذمي غير مستحق بالإسلام والدليل عليه أنه لو كانت له ورثة من أهل الذمة لم يستحق المسلمون ماله وما استحق من مال الذمي بالإسلام لا يكون ورثته من أهل الذمة أولى به منهم بل يكونون هم أولى كمواريث المسلمين فدل ذلك على أن مال الذمي وإن جعل لبيت المال إذا لم يكن له وارث فليس هو مستحقا بالإسلام وإنما هو مال لا مالك له وجده الإمام في دار الإسلام كاللقطة التي لا يعرف مستحقها فتصرف في وجوه القرب إلى الله تعالى فإن قيل فقد قال أبو حنيفة فيما اكتسبه المرتد في حال ردته أنه فيء لبيت المال وهذا ينقض الاعتلال ويدل على أصل المسألة للمخالف قيل له لا يلزم ذلك ولا دلالة فيه على قول المخالف وذلك لأن ما اكتسبه في حال الردة هو بمنزلة مال الحربي ولا يملكه ملكا صحيحا ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته أو قبله فإنما يصير ذلك المال مغنوما كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس بمستحق لبيت المال لأجل الإسلام لأن الغنائم ليست بمستحقة لغانميها بالإسلام والدليل عليه أن الذمي متى شهد القتال استحق أن يرضخ له من الغنيمة فثبت بذلك أن مال الحربي ومال المرتد الذي اكتسبه في الردة مغنوم غير مستحق بالإسلام فلم يعتبر فيه قرب النسب والإسلام كما اعتبرناه في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام لأن ذلك المال كان ملكه فيه صحيحا إلى أن ارتد ثم زال ملكه عنه بالردة فمن يستحقه من الناس فإنما يستحقه بالميراث والمواريث يعتبر فيها الإسلام وقرب النسب إذا كان ملكا لمسلم إلى أن زال عنه بالردة الموجبة لزوال ملكه كما يزول بالموت فلم يلزم عليه حكم ماله المكتسب في حال الردة ولا يجوز

٣٩

أيضا أن يكون أصلا للمال المكتسب في حال الإسلام لأن ملكه فيه كان صحيحا إلى أن زال عنه بالموت والمال المكتسب في حال الردة بمنزلة مال الحربي ملكه فيه غير صحيح لأنه اكتسبه وهو مباح الدم فمتى حصل في يد المسلمين صار مغنوما بمنزلة حربى دخل إلينا بغير أمان فأخذناه مع ماله أن ماله يكون غنيمة فكذلك مال المرتد الذي اكتسبه في حال الردة* فإن احتج محتج بحديث البراء بن عازب قال مربى خالي أبو بردة ومعه الراية فقلت إلى أين تذهب فقال أرسلنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وهذا يدل على أن مال المرتد فيء* قيل له إنما فعل ذلك لأن الرجل كان محاربا مع استحلاله لذلك حربيا فكان ماله مغنوما لأن الراية إنما تعد للمحاربة وقد روى معاوية بن قرة عن أبيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة ولذلك أخذ منه الخمس* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مال المرتد مغنوما* قيل له أما ما اكتسبه في حال الردة فهو كذلك وأما ما اكتسبه في حال الإسلام فغير جائز أن يكون مغنوما من قبل أن ما كان يغنم من الأموال سبيله أن يكون ملك مالكه غير صحيح فيه قبل الغنيمة كمال الحربي ومال المرتد قبل الردة قد كان ملكه فيه صحيحا فغير جائز أن يغنم كما لا يغنم أموال سائر المسلمين إذ كانت أملاكهم فيه صحيحة وزواله عن المرتد بالردة كزواله بالموت فمتى انقطع حقه عنه بالقتل أو بالموت أو اللحاق بدار الحرب استحقه ورثته دون سائر المسلمين لأن سائر المسلمين إن استحقوه بالإسلام لا على أنه غنيمة كانت ورثته أولى به لاجتماع الإسلام والقرابة لهم وإن استحقوه بأنه غنيمة لم يصح ذلك لما بينا من أن شرط الغنيمة أن يكون مال المغنوم غير صحيح الملك في الأصل واختلف السلف فيمن أسلم قبل قسمة الميراث فقال على بن أبى طالب في مسلم مات فلم يقسم ميراثه حتى أسلم ابن له كافرا وكان عبدا فأعتق أنه لا شيء له وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وأبى الزناد وأبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعى والشافعى وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قالا من أسلم على ميراث قبل أن يقسم شارك في الميراث وهو مذهب الحسن وأبى الشعثاء وشبهوا ذلك بالمواريث التي كانت في الجاهلية ما طرأ عليه الإسلام منها قبل القسمة قسم على حكم الإسلام ولم يعتبر وقت الموت وليس هذا عند الأولين كذلك لأن حكم

٤٠

المواريث قد استقر في الشرع على وجوه معلومة وقال الله تعالى( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) وقال( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) فأوجب لها الميراث بالموت وحكم لها بالنصف وللزوج بالنصف بحدوث الموت من غير شرط القسمة والقسمة إنما تجب فيما قد ملك فلاحظ للقسمة في استحقاق الميراث لأن القسمة تبع للملك ولما كان ذلك كذلك وجب أن لا يزول ملك الأخت عنه بإسلام الابن كما لا يزول ملكها عنه بعد القسمة وأما مواريث الجاهلية فإنها لم تقع على حكم الشرع فلما طرأ الإسلام حملت على أحكام الشرع إذا لم يكن ما وقع قبل ورود الشرع مستقرا ثابتا فعفى لهم عما قد اقتسموه وحمل ما لم يقسم منها على حكم الشرع كما عفى لهم عن الربا المقبوض وحمل بعد ورود تحريم الربا ما لم يكن مقبوضا على حكم الشرع فأبطل وأوجب عليهم رد رأس المال ومواريث الإسلام قد ثبتت واستقر حكمها ولا يجوز ورود النسخ عليها فلا اعتبار فيها بالقسمة ولا عدمها كما أن عقود الربا لو أوقعت في الإسلام بعد تحريم الربا واستقرار حكمه لا يختلف فيه حكم المقبوض منها وغير المقبوض في بطلان الجميع وأيضا لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثا فمات قبل القسمة أن نصيبه من الميراث لورثته وكذلك لو ارتد لم يبطل ميراثه الذي استحقه وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدا وقت الموت فكذلك من أسلم أو أعتق بعد الموت قبل القسمة فلاحظ له في الميراث والله أعلم.

باب حد الزانيين

قال الله تعالى( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) الآية* قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن ذلك كان حد الزانية في بدء الإسلام وأنه منسوخ غير ثابت الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريح وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ـ إلى قوله تعالى ـسَبِيلاً ) قال وقال في المطلقات( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال هذه الآيات قبل أن تنزل سورة النور في الجلد نسختها هذه الآية( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) قال والسبيل

٤١

الذي جعله لهن الجلد والرجم قال فإذا جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج وترجم بالحجارة قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) قال كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت وكان الرجل إذا زنى أوذى بالتعيير وبالضرب بالنعال قال فنزلت( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) قال وإن كانا محصنين رجما بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فهو سبيلها الذي جعله الله لها يعنى قوله تعالى( حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) قال أبو بكر فكان حكم الزانية في بدء الإسلام ما أوجب من حدها بالحبس إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ولم يكن عليها في ذلك الوقت شيء غير هذا وليس في الآية فرق بين البكر والثيب فهذا يدل على أنه كان حكما عاما في البكر والثيب وقوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) فإنه روى عن الحسن وعطاء أن المراد الرجل والمرأة وقال السدى البكرين من الرجال والنساء وروى عن مجاهد أنه أراد الرجلين الزانيين وهذا التأويل الأخير يقال أنه لا يصح لأنه لا معنى للتثنية هاهنا إذ كان الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم وقول الحسن صحيح وتأويل السدى محتمل أيضا فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حد المرأة كان الأذى والحبس جميعا إلى أن تموت وحد الرجل التعيير والضرب بالنعال إذ كانت المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمر ان جميعا ولم يذكر للرجال إلا الأذى فحسب ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معا فأفردت المرأة بالحبس وجمعا جميعا في الأذى وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل وجمعت مع الرجل في الأذى لاشتراكهما فيه ويحتمل أن يكون إيجاب الحبس للمرأة متقدما للأذى ثم زيد في حدها وأوجب على الرجل الأذى فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد الرجل بالأذى دونها فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو السبيل قد كان حدها فإذا ألحق به الأذى صار منسوخا لأن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ إذ كان الحبس في ذلك الوقت جميع حدها ولما وردت الزيادة صار بعض حدها فهذا

٤٢

يوجب أن يكون كون الإمساك حدا منسوخا وجائز أن يكون الأذى حدا لهما جميعا بديا ثم زيد في حد المرأة الحبس إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها فيوجب ذلك نسخ الأذى في المرأة أن يكون حدا لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس فهذه الوجوه كلها محتملة* فإن قيل هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخا بإسقاط حكمه والاقتصار* على الأذى إذا كان نازل بعده* قيل له لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه رأسا إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفى الحبس لجواز اجتماعهما ولكنه يكون نسخه من طريق أنه يصير بعض الحد بعد أن كان جميعه وذلك ضرب من النسخ* وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان أحدهما ما روى عن الحسن أن قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) نزلت قبل قوله تعالى( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) ثم أمر أن توضع في التلاوة بعده فكأن الأذى حدا لهما جميعا ثم الحبس للمرأة مع الأذى وذلك يبعد من وجه لأن قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) الهاء التي في قوله تعالى( يَأْتِيانِها ) كناية لا بد لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو معهود معلوم عند المخاطب وليس في قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) دلالة من الحال على أن المراد الفاحشة فوجب أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أول الآية إذا لو لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام المراد وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) وقوله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن وفي مفهوم قوله تعالى( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) أنها الأرض فاكتفى بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد المكنى عنه فالذي يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيب معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ فإما أن تكونا نزلتا معا وإما أن يكون الأذى نازلا بعد الحبس إن كان المراد بالأذى من أريد بالحبس من النساء والوجه الثاني ما روى عن السدى أن قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) إنما كان حكما في البكرين خاصة والأولى في الثيبات دون الأبكار إلا أن هذا قول يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال اللفظين على حقيقة مقتضاهما وعلى أى وجه تصرفت وجوه الاحتمال في حكم الآيتين وترتيبهما فإن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين* وقد اختلف السلف في معنى السبيل المذكور في هذه الآية

٤٣

فروى عن ابن عباس أن السبيل الذي جعله الجلد لغير المحصن والرجم للمحصن وعن قتادة مثل ذلك وروى عن مجاهد في بعض الروايات( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) أو يضعن ما في بطونهن وهذا لا معنى له لأن الحكم كان عاما في الحامل والحائل فالواجب أن يكون السبيل مذكورا لهن جميعا* واختلف أيضا فيما نسخ هذين الحكمين فقال قائلون نسخ بقوله تعالى( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) وقد كان قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) في البكرين فنسخ ذلك عنهما بالجلد المذكور في هذه الآية وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم وقال آخرون نسخ بحديث عبادة ابن الصامت وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو النصر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم وهذا هو صحيح وذلك لأن قوله خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا يوجب أن يكون بيانا للسبيل المذكور في الآية ومعلوم أنه لم يكن بين قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الحبس والأذى واسطة حكم وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدما لقوله خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ولما صح أن يقول ذلك فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عبادة بن الصامت وأن آية الجلد نزلت بعده وفي ذلك دليل على نسخ القرآن بالسنة إذ نسخ بقوله خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ما أوجب الله من الحبس والأذى بنص التنزيل* فإن قيل فقوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) وما ذكر في الآيتين من الحبس والأذى كان في البكرين دون الثيبين* قيل له لم يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس وإنما قال السدى إن الأذى كان في البكرين خاصة وقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثيب فأوجب أن يكون منسوخا بقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم فلم يخل الحبس من أن يكون منسوخا في جميع الأحوال بغير القرآن وهي الأخبار التي فيها إيجاب رجم المحصن فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا وحديث عبد الله وعائشة وعثمان حين كان محصورا فاستشهد أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال

٤٤

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس وقصة ما عز والغامدية ورجم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه فإن قيل هذه الخوارج بأسرها تنكر الرجم ولو كان ذلك منقولا من جهة الاستفاضة الموجبة للعلم لما جهلته الخوارج* قيل له إن سبيل العلم بمخبر هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرفه من جهتهم والخوارج لم تجالس فقهاء المسلمين ونقلة الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابلين لأخبارهم فلذلك شكوا فيه ولم يثبتوه وليس يمتنع أن يكون كثير من أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جحدوه محاملة منهم على ما سبقوا إلى اعتقاده من رد أخبار من ليس على مقالتهم وقلدهم الاتباع ولم يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به أو الذين عرفوه كانوا عددا يسيرا يجوز على مثلهم كتمان ما عرفوه وجحدوه ولم يكونوا صحابة فيكونوا قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له فلما خلوا من ذلك لم يعرفوه ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواش تكثر بلواه بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها ومثله أيضا إذا كثر سماعه وقع له العلم بها وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اختص أهل العدل بنقله دون الخوارج والبغاة وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاما منها استشهاد أربعة من الشهداء على الزنا ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعا ومنها سقوط الأذى والتعبير عنهما بالتوبة لقوله تعالى( فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في إسقاط الأذى دون الحبس وأما الحبس فكان موقوفا على ورود السبيل وقد بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك السبيل وهو الجلد والرجم ونسخ جميع ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود فإن اعتبار عدد الشهود باق في الحد الذي نسخ به الحدان الأولان وهو الجلد والرجم وقد بين الله ذلك في قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) وقال تعالى( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد

٤٥

أيضا وهذا يوجب جواز إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليها لأن الله تعالى أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر فدل ذلك على أن تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما لا يسقط شهادته وكذلك فعل أبو بكر مع شبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة وذلك موافق لظاهر الآية وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) الآية روى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من ولى نفسها إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك وقال الحسن ومجاهد كان الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه ورثت امرأته كما ورثت ماله فإن شاء تزوجها بالصداق الأول وإن شاء زوجها وأخذ صداقها قال مجاهد وذلك إذا لم يكن ابنها قال أبو مجلز فكان بالميراث أولى من ولى نفسها وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل يقوم أقرب الناس منه فيلقى على امرأته ثوبا فيرث نكاحها فمات أبو عامر زوج كبشة بنت معن فجاء ابن عامر من غيرهما وألقى عليها ثوبا فلم يقربها ولم ينفق عليها فشكت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) أن تؤتوهن الصداق الأول وقال الزهري كان يحبسها من غير حاجة إليها حتى تموت فيرثها فنهوا عن ذلك وقوله تعالى( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) قال ابن عباس وقتادة والسدى والضحاك هو أمر للأزواج تخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ولا يمسكها إضرار بها حتى تفتدى ببعض مالها وقال الحسن هو نهى لولى الزوج الميت أن يمنعها من التزويج على ما كان عليه أمر الجاهلية وقال مجاهد هو نهى لوليها أن يعضلها قال أبو بكر الأظهر هو التأويل تأويل ابن عباس لأن قوله تعالى( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) وما ذكر بعده يدل عليه لأن قوله( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) يريد به المهر حتى تفتدى كأنه يعضلها أو يسيء إليها لتفتدى منه ببعض مهرها وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال الحسن وأبو قلابة والسدى هو الزنا وإنه إنما تحل له الفدية إذا اطلع منها على ريبة وقال ابن عباس والضحاك وقتادة هي النشوز فإذا نشزت حل له أن يأخذ منها الفدية وقد بينا في سورة البقرة أمر الخلع وأحكامه

٤٦

وقوله تعالى( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب جرى مجرى ذلك نظير قوله تعالى( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) وقوله تعالى( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) يدل على أنه مندوب إلى إمساكها مع كراهته لها وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق معنى ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن خالد بن يزيد النيلي قال حدثنا مهلب بن العلاء قال حدثنا شعيب بن بيان عن عمران القطان عن قتادة عن أبى تميمة الهجيمي عن أبى موسى الأشعرى قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجوا ولا تطلقوا فإن الله لا يحب الذواقين والذوقات فهذا القول من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم موافق لما دلت عليه الآية من كراهة الطلاق والندب إلى الإمساك بالمعروف مع كراهته لها واخبر الله تعالى أن الخيرة ربما كانت لنا في الصبر على ما نكره بقوله تعالى( فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) وهو كقوله تعالى( وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ) وقوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) الآية قد اقتضت هذه الآية إيجاب المهر لها تمليكا صحيحا ومنع الزوج أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها وأخبر أن ذلك سالم لها سواء استبدل بها أو أمسكها وأنه محظور عليه أخذ شيء منه إلا بما أباح الله تعالى به أخذ مال الغير في قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وظاهره يقتضى حظر أخذ شيء منه بعد الخلوة فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلق بعد الخلوة لعموم اللفظ في حظر الأخذ في كل حال إلا ما خصه الدليل وقد خص قوله تعالى( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) إذا طلق قبل الخلوة في سقوط نصف المهر لأنه لا خلاف أن ذلك مراد إذا طلق قبل الخلوة وقد اختلف في الخلوة هل هي المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع واللفظ محتمل للأمرين لأن عليا وعمرو غيرهما من الصحابة قد تأولوه

٤٧

عليها وتأوله عبد الله بن مسعود على الجماع فلا يخص عموم قوله تعالى( فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) بالاحتمال وقوله تعالى( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) يدل على أن من وهب محله مراته هبة لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها وعموم اللفظ قد حظر أخذ شيء مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره ويحتج فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها أنه لا يرجع عليها بشيء من الصداق الذي أعطاها عينا كان أو عرضا ما قاله أبو حنيفة في ذلك ويحتج به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحال فإن قيل لما عقب ذلك قوله تعالى( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ) دل على أن المراد بأول الخطاب فيما أعطاها هو المهر دون غيره إذ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما سواه قيل له ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما انتظمه الاسم ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول وقد بينا نظائر ذلك في مواضع وهذه الآية أيضا تدل على أنه إذا دخل بها ثم وقعت الفرقة من قبلها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا يبطله وقوع الفرقة من قبلها وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال بالنهى عن أخذ شيء مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهم من يظن أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أولى بالمهر الذي أعطاها فنص على حظر الأخذ في هذه الحال ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح له أخذ شيء مما أعطاها في الحال التي يسقط حقه عن بعضها فهو أولى أن لا يأخذ منها شيئا مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أملك بها من نفسها وأكد الله تعالى حظر أخذ شيء مما أعطى بأن جعله ظلما كالبهتان وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه فشبه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتانا وإثما قوله عز وجل( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال أبو بكر ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول وقول الفراء حجة فيما يحكيه من اللغة فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة فقد منعت

٤٨

الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ ) قد أفاد الفرقة والطلاق والإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول ومن الناس من يقول إن الفضاء السعة وأفضى إذا صار المتسع مما يقصده وجائز على هذا الوضع أيضا أن تسمى الخلوة إفضاء لوصوله بها إلى مكان الوطء واتساع ذلك بالخلوة وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة فسميت الخلوة إفضاء لهذا المعنى فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شيء مما أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض وهو الوصول إلى مكان الوطء وبذلها ذلك له وتمكينها إياه من الوصول إليها فظاهر هذه الآية تمنع الزوج أخذ شيء مما أعطاها إذا كان النشوز من قبله لأن قوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) يدل على أن الزوج هو المريد للفرقة دونها ولذلك قال أصحابنا إن النشوز إذا كان من قبله يكره له أن يأخذ شيئا من مهرها وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله تعالى( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) فقيل عن ابن عباس إن الفاحشة هي النشوز وقال غيره هي الزنا ولقوله تعالى( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ومن الناس من يقول إنها منسوخة بقوله( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) وذلك غلط لأن قوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) قد أفاد حال كون النشوز من قبله وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ) إنما فيه ذكر حال أخرى غير الأولى وهي الحال التي يكون النشوز منها وافتدت فيها المرأة منه فهذه حال غير تلك وكل واحد من الحالين مخصوصة بحكم دون الأخرى وقوله تعالى( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدى هو قوله( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) قال قتادة وكان يقال للناكح في صدر الإسلام الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان وقال مجاهد كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج وقال غيره هو قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى والله أعلم بالصواب.

باب ما يحرم من النساء

قال الله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قال أبو بكر أخبرنا أبو عمر

«4 ـ أحكام لث»

٤٩

غلام ثعلب قال الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين تقول العرب أنكحنا الفرافسنرى هو مثل ضربوه للأمر يتشاورون فيه ويجتمعون عليه ثم ينظر عما ذا يصدرون فيه معناه جمعنا بين الحمار وأتانه* قال أبو بكر إذا كان اسم النكاح في حقيقة اللغة موضوعا للجمع بين الشيئين ثم وجدناهم قد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد كما قال الأعشى :

ومنكوحة غير ممهورة

وأخرى يقال له فادها

يعن المسبية الموطوأة بغير مهر ولا عقد وقال الآخر :

ومن أيم قد أنكحتها رماحنا

وأخرى على عم وخال تلهف

وهو يعنى المسبية أيضا ومنه قول الآخر أيضا :

فنكحن أبكارا وهن بأمة

أعجلنهن مظنة الأعذار

وهو يعنى الوطء أيضا ولا يمتنع أحد من إطلاق اسم النكاح على الوطء وقد تناول الاسم العقد أيضا قال الله تعالى( إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ ) والمراد به العقد دون الوطء وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا من نكاح ولست من سفاحلا فدل بذلك على معنيين أحدهما أن اسم النكاح يقع على العقد والثاني دلالته على أنه قد يتناول الوطء من غير عقد لولا ذلك لاكتفى بقوله أنا من نكاح إذ كان السفاح لا يتناول اسم النكاح بحال فدل قوله ولست من سفاح بعد تقديم ذكر النكاح أن النكاح يتناول له الأمرين فبينصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من العقد الحلال لا من النكاح الذي هو سفاح ولما ثبت بما ذكرنا أن الاسم ينتظم الأمرين جميعا من العقد والوطء وثبت بما ذكرنا من حكم هذا الاسم في حقيقة اللغة وأنه اسم للجمع بين الشيئين والجمع إنما يكون بالوطء دون العقد إذ العقد لا يقع به جمع لأنه قول منهما جميعا لا يقتضى جمعا في الحقيقة ثبت أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز للعقد وأن العقد إنما سمى نكاحا لأنه سبب يتوصل به إلى الوطء تسمية الشيء باسم غيره إذا كان منه بسبب أو مجاورا له مثل الشعر الذي يولد الصبى وهو على رأسه يسمى عقيقة ثم سميت الشاة التي تذبح عنه عند حلق ذلك الشعر عقيقة وكالرواية التي هي اسم للجمل الذي يحمل المزادة ثم سميت المزادة راوية لاتصالها به وقربها منه وقال أبو النجم :

٥٠

تمشى من(1) الردة مشى الحفل

مشى الروايا بالمزاد الأثقل

ونحوه الغائط هو اسم للمكان المطمئن من الأرض ويسمى به ما يخرج من الإنسان مجازا أنهم كانوا يقصدون الغائط لقضاء الحاجة ونظائر ذلك كثيرة فكذلك النكاح اسم للوطء حقيقة على مقتضى موضوعه في أصل اللغة ويسمى العقد باسمه مجازا لأنه يتوصل به إليه وهو سببه ويدل على أنه سمى باسم العقد مجازا أن سائر العقود من البياعات والهبات لا يسمى منها شيء نكاح وإن كان قد يتوصل به إلى استباحة وطء الجارية إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطء لأن هذه العقود تصح فيمن يحظر عليه وطؤها كأخته من الرضاعة ومن النسب وأم امرأته ونحوها وسمى العقد المختص باباحة الوطء نكاحا لأن من لا يحل له وطؤها لا يصح نكاحها فثبت بذلك أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز في العقد فوجب إذا كان هذا على ما وصفنا أن يحمل قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) على الوطء فاقتضى ذلك تحريم من وطئها أبوه من النساء عليه لأنه لما ثبت أن النكاح اسم للوطء لم يختص ذلك بالمباح منه دون المحظور كالضرب والقتل والوطء نفسه لا يختص عند الإطلاق بالمباح منه دون المحظور بل هو على الأمرين حتى تقوم الدلالة على تخصيصه وكان أبو الحسن يقول إن قوله تعالى( ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) مراده الوطء دون العقد من حيث اللفظ حقيقة فيه ولم يرد به العقد لاستحالة كون لفظ واحد مجازا حقيقة في حال واحدة وإنما أوجبنا التحريم بالعقد بغير الآية* وقد اختلف أهل العلم في إيجاب تحريم الأم والبنت بوطء الزنا فروى سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته حرمت عليه امرأته وهو قول الحسن وقتادة وكذلك قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله ومجاهد وعطاء وإبراهيم وعامر وحماد وأبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعى ولم يفرقوا بين وطء الأم قبل التزوج أو بعده في إيجاب تحريم البنت وروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزنى بأم امرأته بعد ما يدخل بها قال تخطى حرمتين ولم تحرم عليه امرأته وروى عنه أنه قال لا يحرم الحرام الحلال وذكر الأوزاعى عن عطاء أنه كان

__________________

(1) قوله الردة بكسر الراء وتشديد الدال ورم يصيب الناقة في أخلاقها والحفل جمع حافل وهي الناقة الممتلئ ضرعها لبنا.

٥١

يتأول قول ابن عباس لا يحرم حرام حلالا على الرجل يزنى بالمرأة ولا يحرمها عليه زناه وهذا يدل على أن قول ابن عباس الذي رواه عكرمة في أن الزنا بالأم لا يحرم البنت لم يكن عند عطاء كذلك لأنه لو كان ثابتا عنده لما احتاج إلى تأويل قوله لا يحرم الحرام الحلال وقال الزهري وربيعة ومالك والليث والشافعى لا تحرم أمها ولا بنتها بالزنا وقال عثمان البتي في الرجل يزنى بأم امرأته قال حرام لا يحرم حلالا ولكنه إن زنى بالأم قبل أن يتزوج البنت أو زنى بالبنت قبل أن يتزوج الأم فقد حرمت ففرق بين الزنا بعد التزويج وقبله* واختلف الفقهاء أيضا في الرجل يلوط بالرجل هل تحرم عليه أمه وابنته فقال أصحابنا لا تحرم عليه وقال عبد الله بن الحسين هو مثل وطء المرأة بزنا في تحريم الأم والبنت وقال من حرم بهذا من النساء حرم من الرجال* وروى إبراهيم بن إسحاق قال سألت سفيان الثوري عن الرجل يلعب بالغلام أيتزوج أمه قال لا وقال كان الحسن بن صالح يكره أن يتزوج الرجل بامرأة قد لعب بابنها وقال الأوزاعى في غلامين يلوط أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال لا يتزوجها الفاعل* قال أبو بكر قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قد أوجب تحريم نكاح امرأة قد وطئها أبوه بزنا أو غيره إذ كان الاسم يتناوله حقيقة فوجب حمله عليها وإذا ثبت ذلك في وطء الأب ثبت مثله في وطء أم المرأة أو ابنتها في إيجاب تحريم المرأة لأن أحدا لم يفرق بينها ويدل على ذلك قوله تعالى( وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) والدخول بها اسم للوطء وهو عام في جميع ضروب الوطء من مباح أو محظور ونكاح أو سفاح فوجب تحريم البنت بوطء كان منه قبل تزويج الأم لقوله تعالى( اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) ويدل على أن الدخول بها اسم للوطء وأنه مراد بالآية وأن اسم الدخول لا يختص بوطء نكاح دون غيره أنه لو وطئ الأم بملك اليمين حرمت عليه البنت تحريما مؤبدا بحكم الآية وكذلك لو وطئها بنكاح فاسد فثبت أن الدخول لما كان اسما للوطء لم يختص فيما علق به من الحكم بوطء بنكاح دون ما سواه من سائر ضروب الوطء ويدل عليه من جهة النظر أن الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت ولو وطئها حرمت فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم

٥٢

فكيفما وجد ينبغي أن يحرم مباحا كان الوطء أو محظورا لوجود الوطء لأن التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا فلما اشتركا في هذا المعنى وجب أن يقع به تحريم وأيضا لا خلاف أن الوطء بشبهة وبملك اليمين يحرمان مع عدم النكاح وهذا يدل على أن الوطء يوجب التحريم على أى وجه وقع فوجب أن يكون وطء الزنا محرما لوجود الوطء الصحيح* فإن قيل إن الوطء بملك اليمين وبشبهة إنما تعلق بهما التحريم لما يتعلق بهما من* ثبوت النسب والزنا لا يثبت به النسب فلا يتعلق به حكم التحريم* قيل له ليس لثبوت النسب تأثير في ذلك لأن الصغير الذي لا يجامع مثله لو جامع امرأته حرمت عليه أمها وبنتها ولم يتعلق بوطئه ثبوت النسب ومن عقد على امرأة نكاحا تعلق بعقد النكاح ثبوت النسب قبل الوطء حتى لو جاءت بولد قبل الدخول وبعد العقد بستة أشهر لزمه ولم يتعلق بالعقد تحريم البنت فإذ كنا وجدنا الوطء مع عدم ثبوت النسب به يوجب التحريم والعقد مع تعلق ثبوت النسب به لا يوجب التحريم علمنا أنه لاحظ لثبوت النسب في ذلك وإن الذي يجب اعتباره هو الوطء لا غير وأيضا لا خلاف بيننا وبينهم أنه لو لمس أمته لشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وليس للمس حظ في ثبوت النسب فدل على أن حكم التحريم ليس بموقوف على النسب وأنه جائز ثبوته مع ثبوت النسب وجائز ثبوته أيضا مع عدم ثبوت النسب* ويدل على صحة قول أصحابنا أنا وجدنا الله تعالى قد غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة وبإيجاب الجلد أخرى وأوعد عليه بالنار ومنع إلحاق النسب به وذلك كله تغليط لحكمه فوجب أن يكون بإيجاب التحريم أولى إذ كان إيجاب التحريم ضربا من التغليظ ألا ترى أن الله تعالى لما حكم ببطلان حج من جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة كان الزاني أولى ببطلان الحج لأن بطلان الحج تغليظ لتحريم الجماع فيه كذلك لما حكم الله بإيجاب تحريم الأم والبنت بالوطء الحلال وجب أن يكون الزنا أولى بإيجاب التحريم تغليظا لحكمه* وقد زعم الشافعى أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ كان قاتل العمد أولى إذ كان حكم العمد أغلظ من حكم الخطأ ألا ترى أن الوطء لم يختلف حكمه أن يكون بزنا أو غيره فيما تعلق به من فساد الحج والصوم ووجوب الغسل فكذلك ينبغي أن يستويا في حكم التحريم* فإن قيل الوطء المباح يتعلق به حكم* في إيجاب المهر ولا يتعلق ذلك بالزنا* قيل له قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد

٥٣

ما هو أغلظ من إيجاب المال وعلى أن المال والحد يتعاقبان على الوطء لأنه متى وجب الحد لم يجب المهر ومتى وجب المهر لم يجب الحد فكل واحد منهما يخلف الآخر فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم فلا فرق بينهما من هذا الوجه فإن احتج محتج بما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن الليث الجزري قال حدثنا إسحاق بن بهلول قال حدثنا عبد الله بن نافع المدني قال حدثنا المغيرة بن إسماعيل بن أيوب ابن سلمة الزهري عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح أمها أو يتبع الأم حراما أينكح ابنتها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح وبما رواه إسحاق بن محمد الفروى عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يحرم الحرام الحلال وروى عمر بن حفص عن عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفسد الحرام الحلال * فإن هذه الأخبار باطلة عند أهل المعرفة ورواتها غير مرضيين أما المغيرة بن إسماعيل فمجهول لا يعرف لا يجوز ثبوت شريعة بروايته لا سيما في اعتراضه على ظاهر القرآن وإسحاق بن محمد الفروى مطعون في روايته وكذلك عمر بن حفص ولو ثبت لم يدل على قول المخالف لأن الحديث الأول إنما ذكر فيه الرجل ويتبع المرأة وليس فيه ذكر الوطء فكان قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحرم إلا ما كان بنكاح جوابا عما سأله من اتباع المرأة وذلك إنما يكون بأن يتبعها نفسه فيكون منه نظرا إليها مراودتها على الوطء وليس فيه إثبات الوطء فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مثل ذلك لا يوجب تحريما وأنه لا يقع بمثله التحريم إلا أن يكون بينهما عقد نكاح وليس فيه للوطء ذكر وقوله لا يحرم الحرام الحلال إنما هو فيما سئل عنه من اتباع المرأة من غير وطء وأما حديث ابن عمر وقوله لا يحرم الحرام الحلال فجائز أن يكون في هذه القصة بعينها إن صحت فكان جوابا لما سئل عنه من النظر والمراودة من غير جماع وتكون فائدته إزالة توهم من يظن أن النظر بانفراده يحرم لما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال زنا العينين النظر وزنا الرجلين المشي فكان جائز أن يظن ظان أن النظر بانفراده يحرم كما يحرمالوطء لتسمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه زنا فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك لا يحرم وإن التحريم إذا لم تكن ملامسة إنما يتعلق بالعقد وإن لم يكن مسيس وإذا

٥٤

احتمل هذا الخبر ما وصفنا زال الاعتراض به وعلى أنهم متفقون أن التحريم غير مقصور على النكاح ولا على الوطء المباح لأنه لا خلاف أن من وطئ أمته حائضا أن هذا وطء حرام في غير نكاح وأنه يوجب التحريم فبطل أن يكون حكم التحريم مقصورا على النكاح ولا على وطء مباح وكذلك لو وطئ جارية بينه وبين غيره أو جاريته وهي مجوسية كان واطئا وطأ حراما في غير نكاح موجب للتحريم وهذا يدل على أن الحديث إن ثبت فليس بعموم في نفى إيجاب التحريم بوطء حرام وأيضا قد حرم الله تعالى امرأة المظاهر عليه بالظهار وقد سماه منكرا من القول وزورا ولم يكن هذا القول محرما مانعا من وقوع تحريم الوطء به وأيضا فإن قوله الحرام لا يحرم الحلال لا يصح الاحتجاج به لوروده مطلقا من وجه صحيح غير متعلق بسبب من وجهين أحدهما أن الحرام والحلال إنما هو حكم الله تعالى بالتحريم والتحليل وقد علمنا حقيقة أن حكم الله تعالى بالتحريم في شيء وبالتحليل في غيره ليس يتعلق به حكم آخر في إيجاب تحريم أو تحليل إلا بدلالة فهذا اللفظ إذا حمل على حقيقته لم يكن له تعلق بمسئلتنا لأنا كذلك نقول أن حكم الله تعالى بالتحريم لا يوجب تحريم مباح بنفس ورود الحكم إلا أن يقوم الدليل على إيجاب تحريم غيره من حيث حرم هو وفائدته حينئذ أن ما قد حكم الله تعالى بتحليله نصا فهو مقر على ما حكم به من تحليله وإذا حكم بتحريم شيء آخر لم يجز الاعتراض على المحكوم بتحليله بديا بتحريم غيره من طريق القياس فمنع تحريم المباح بالقياس ودل ذلك على بطلان قول من يجيز النسخ بالقياس هذا الذي تقتضيه حقيقة اللفظ إن صح فهذا أحد الوجهين اللذين ذكرنا والوجه الآخر أن يكون المراد بقوله الحرام لا يحرم الحلال أن فعل الحرام لا يحرم الحلال فإن كان هذا أراد فلا محالة أن في اللفظ ضميرا يجب اعتباره دون اعتبار حقيقة معنى اللفظ فلا يصح له الاحتجاج به من وجهين أحدهما أن الضمير ليس بمذكور يعتبر عمومه فيسقط الاحتجاج بعمومه إذ الضمير ليس بمذكور حتى يكون لفظ عموم فيما تحته من المسميات فلا يصح لأحد الاحتجاج بعموم ضمير غير مذكور والوجه الآخر أنه لا يصح اعتبار العموم فيه من قبل أن لا يصح اعتقاد العموم في مثله لاتفاق المسلمين على إيجاب تحريم الحرام الحلال وهو الوطء بنكاح فاسد ووطء الأمة الحائض والطلاق الثلاث في الحيض والظهار والخمر إذا

٥٥

خالطت الماء والردة تبطل النكاح وتحرمها على الزوج وغير ذلك من الأفعال المحرمة للحلال فقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرام لا يحرم الحلال لو ورد بلفظ عموم لما صح اعتقاد العموم فيه وكان مفهوما مع وروده أنه أراد بعض الأفعال المحرمة لا يحرم الحلال فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه كسائر الألفاظ المجملة وأيضا لو نص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ادعيت من ضميره فقال إن فعل الحرام لا يحرم الحلال لما دل على ما ذكرت لأنا كذلك نقول إن فعل الحرام لا يحرم الحلال فيكون ذلك محمولا على حقيقة ولا دلالة فيه أن الله لا يحرم الحلال عند وقوع فعل حرام* فإن قيل معناه أن الله لا يحرم الحلال بفعل الحرام* قيل له فإذا قوله الحرام لا يحرم الحلال إذا كان المراد به ما ذكرت مجاز ليس بحقيقة فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه إذ لا يجوز استعمال المجاز إلا عند قيام الدلالة عليه.

وذكر الشافعى أن مناظرة جرت بينه وبين بعض الناس فيها أعجوبة لمن تأملها قال الشافعى قال لي قائل لم قلت إن الحرام لا يحرم الحلال قلت قال الله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وقال( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) وقال( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـاللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) أفلست تجد التنزيل إنما يحرم ما سمى بالنكاح أو الدخول والنكاح قال بلى قال قلت أفيجوز أن يكون الله حرم بالحلال شيئا وحرمه بالحرام والحرام ضد الحلال والنكاح مندوب إليه مأمور به وحرم الزنا فقال( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) قال أبو بكر تلا الشافعى آية التحريم بالنكاح والدخول وآية تحريم الزنا وهذان الحكمان غير مختلف فيهما أعنى إباحة النكاح والدخول وتحريم الزنا وليس في ذلك دلالة على موضع الخلاف في المسألة لأن إباحة النكاح والدخول وإيجاب التحريم بهما ليس فيه أن التحريم لا يقع بغيرهما كما لم ينف إيجاب التحريم بالوطء بملك اليمين وتحريم الله تعالى للزنا لا يفيد أن التحريم لا يقع إلا به فإذا ليس في ظاهر تلاوة الآيتين نفى لتحريم النكاح بوطء الزنا لأن الآية الزنا إنما فيها تحريم الزنا وليس تحريم الزنا عبارة عن نفى إيجابه لتحريم النكاح ولا في إيجاب التحريم بالنكاح والدخول نفى لإيجابه بغيرهما فإذا لا دلالة فيما تلاه من الآيتين على موضع الخلاف ولا جوابا للسائل الذي سأله عن الدلالة على صحة قوله* ثم قال الحرام ضد الحلال فلما قال له السائل فرق بينهما قال قلت قد فرق الله بينهما لأن الله ندب إلى النكاح وحرم الزنا

٥٦

فجعل فرق الله بينهما في التحليل والتحريم دليلا على السائل والسائل لم يشكل عليه إباحة النكاح وتحريم الزنا وإنما سأله عن وجه الدلالة من الآية على ما ذكر فلم يبين وجهها واشتغل بأن هذا محرم وهذا حلال فإن كان هذا السائل من عمى القلب بالمحل الذي لم يعرف بين النكاح وبين الزنا فرقا من وجه من الوجوه فمثله لا يستحق الجواب لأنه مؤوف العقل إذ العاقل لا ينزل نفسه بهذه المنزلة من التجاهل وإن كان قد عرف الفرق بينهما من جهة أن أحدهما محظور والآخر مباح وإنما سأله أن يفرق بينهما في امتناع جواز اجتماعهما في إيجاب تحريم النكاح فإن الشافعى لم يجبه عن ذلك ولم يزده على تلاوة الآيتين في الإباحة والحظر وإن الحلال ضد الحرام إذ ليس في كون الحلال ضد الحرام ما يمنع اجتماعهما في إيجاب التحريم ألا ترى أن الوطء بالنكاح الفاسد هو حرام ووطء الحائض حرام بنص التنزيل واتفاق المسلمين وهو ضد الوطء الحلال وهما متساويان في إيجاب التحريم والطلاق في الحيض محظور وفي الطهر قبل الجماع مباح وهما متساويان فيما يتعلق بهما من إيجاب التحريم فإن كان عند الشافعى أن القياس ممتنع في الضدين فواجب أن لا يجتمعا أبدا في حكم واحد ومعلوم أن في الشريعة اجتماع الضدين في حكم واحد وإن كونهما ضدين لا يمنع اجتماعهما في أحكام كثيرة ألا ترى أن ورود النص جائز بمثله وما جاز ورود النص به ساغ فيه القياس عند قيام الدلالة عليه فإذا لم يكن ممتنعا في العقل ولا في الشرع اجتماع الضدين في حكم واحد فقوله إن الحلال ضد الحرام ليس بموجب للفرق بينهما من حيث سأله السائل ويدل على أن ذلك غير ممتنع أن الله تعالى قد نهى المصلى عن المشي في الصلاة وعن الاضطجاع فيها من غير ضرورة والمشي والاضطجاع ضدان وقد اجتمعا في النهى ولا يحتاج في ذلك إلى الإكثار إذ ليس يمتنع أحد من أجازته فلم يحصل من قول الشافعى أنهما ضدان معنى يوجب الفرق بينهما ثم حكى عن السائل أنه قال أجد جماعا وجماعا فأقيس أحدهما بالآخر قال قلت وجدت جماعا حلالا حمدت به ووجدت جماعا حراما رجمت به أفرأيته يشبهه قال ما يشبهه فهل توضحه بأكثر من هذا قال أبو بكر فقد سلم له السائل أنه ما يشبهه فإن كان مراده أنه لا يشبهه من حيث افترقا فهذا ما لا ينازع فيه وإن كان أراد لا يشبهه من حيث رام الجمع بينهما من جهة إيجاب التحريم فإنه لم يأت بدليل ينفى الشبه بينهما من هذه الجهة وليس في الدنيا

٥٧

قياس إلا وهو تشبيه للشيء بغيره من بعض الوجوه دون جميعها فإن كان افتراق الشيئين من وجه يوجب الفرق بينهما من سائر الوجوه فإن في ذلك إبطال القياس أصلا إذ ليس يجوز وجود القياس فيما اشتبها فيه من سائر الوجوه فقد بان أن ما قاله الشافعى وما سلمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه ثم قال له السائل هل توضحه بأكثر من هذا قال نعم أفتجعل الحلال الذي هو نعمة قياسا على الحرام الذي هو نقمة وهذا هو تكرار للمعنى الأول بزيادة النعمة والنقمة والسؤال قائم عليه لم يجب بما تقتضيه مطالبة السائل ببيان وجه الدلالة في منع هذا القياس وهو قد جعل هذا الحرام الذي هو نقمة وهو وطء الحائض والجارية المجوسية والوطء بالنكاح الفاسد الحلال الذي هو نعمة في إيجاب التحريم فانتقض ما ذكره وادعاه من غير دلالة أقامها عليه وحكى عن السائل أنه قال إن صاحبنا قال يوجدكم أن الحرام يحرم الحلال قال قلت له أفيما اختلفنا فيه من النساء قال لا ولكن في غيره من الصلاة والمشروب والنساء قياس عليه قال قلت أفتجيز لغيرك أن يجعل الصلاة قياسا على النساء قال أما في شيء فلا قال أبو بكر فمنع الشافعى بهذا أن يقيس تحريم الحرام والحلال من غير النساء على النساء مع إطلاقه القول بديا أنه إنما لم يجز قياس الزنا على الوطء المباح لأنه حرام وهو ضد الحلال والحلال نعمة والحرام نقمة من غير تقييد لذلك بأن هذه القضية في منع القياس مقصورة على النساء دون غيرهن وإطلاقه الاعتلال بالفرق الذي ذكر يلزمه إجراؤه في سائر ما وجد فيه فإذا لم يفعل ذلك فقد ناقض ثم يقال له فإذا جاز تحريم الحرام الحلال في غير النساء هلا جاز مثله في النساء مع كون أحدهما ضد الآخر وكون أحدهما نعمة والآخر نقمة كما كان الوطء بملك اليمين مثل الوطء بالنكاح في إيجاب التحريم مع كون ملك اليمين ضد للنكاح ألا ترى أن ملك اليمين والنكاح لا يجتمعان لرجل واحد وحكى عن السائل أنه قال له إن الصلاة حلال والكلام فيها حرام فإذا تكلم فيها فسدت عليه صلاته فقد أفسد الحلال بالحرام قال قلت له زعمت أن الصلاة فاسدة الصلاة لا تكون فاسدة ولكن الفاسد فعله لا هي ولكن لا تجزى عنك الصلاة لأنك لم تأت بها كما أمرت قال أبو بكر ما ظننت أن أحدا ممن ينتدب لمناظرة خصم يبلغ به الإفلاس من الحجاج إلى أن يلجأ إلى مثل هذا مع سخافة عقل السائل وغباوته وذلك لأن أحدا لا يمتنع من إطلاق القول

٥٨

بفساد صلاته إذا فعل فيها ما يوجب بطلانها كما لا يمتنع من إطلاق القول بفساد النكاح إذا وجد فيه ما يبطله فإن كان الذي أوجب الفرق بينهما أنه لا يطلق اسم الفساد على الصلاة مع بطلانها مع إطلاق الناس كلهم ذلك فيها فإنه لا يعوز خصمه أن يقول مثل ذلك في النكاح أنى لا أقول أن نكاحه يفسد والنكاح لا يكون فاسدا وإنما فعله وهو الزنا هو الفاسد فأما النكاح فلم يفسد ولكن المرأة بانت منه وخرجت من حباله فهما سواء من هذا الوجه ثم يقال له أحسب أنا قد سلمنا لك ما ادعيت من امتناع اسم الفساد على الصلاة التي قد بطلت أليس السؤال قائما عليك في المعنى إذا سلمنا لك الاسم وهو أن يقال لك ما أنكرت أنه لما جاز خروج المتكلم من الصلاة ولم تجز عنه لأجل الكلام المحظور وجب أن يكون كذلك حكم المرأة فلا يبقى نكاحها بعد وطء أمها بزنا كما لم تبق الصلاة بعد الكلام فتبين منه امرأته وتخرج من حباله كما خرج من الصلاة ويلزم الشافعى على هذا أن لا يطلق في شيء من البيوع أنه فاسد وكذلك سائر العقود وإنما يقال فيها أنها غير مجزية ولا موجبة للملك وهذا إنما هو منع للعبارة وإنما الكلام على المعاني لا على العبارات والأسامى* وذكر الشافعى عن سائله أنه قال إن صاحبنا قال الماء حلال والخمر حرام فإذا صب الماء في الخمر حرم الماء قال قلت له أرأيت إن صببت الماء في الخمر أما يكون الماء الحلال مستهلكا في الحرام قال بلى قلت أتجد المرأة محرمة على كل أحد كما تجد الخمر محرمة على كل أحد قال لا قلت أتجد المرأة وبنتها مختلطتين كاختلاط الماء والخمر قال لا قلت أفتجد القليل من الخمر إذا صب في كثير الماء نجس قال لا قلت أفتجد قليل الزنا والقبلة واللمس للشهوة لا يحرم ويحرم كثيره قال لا قال فلا يشبه أمر النساء الخمر والماء* قال أبو بكر وهذا أيضا من طريق الفروق والذي ذكر في تحريم الخمر للماء يحكى عن الشافعى أنه احتج به على يحيى بن معين حين قال الحرام لا يحرم الحلال وهو إلزام صحيح على من ينفى التحريم لهذه العلة لوجودها فيه إذ لم تكن العلة في منع تحريم الحرام الحلال أنهما غير مختلطين وإن قيل الزنا يحرم وإنما كانت علته أن الحرام ضد الحلال وإن الحلال نعمة والحرام نقمة ولم نره احتج بغيره في جميع ما ناظر به السائل والفروق التي ذكرها إنما هي فروق من وجوه أخر تزيد علته انتقاضا لوجودها مع عدم الحكم وعلى أنه إن كان التحريم مقصورا على الاختلاط وتعذر تمييز المحظور من المباح فينبغي أن

٥٩

لا يحرم الوطء المباح لعدم الاختلاط وكذلك الوطء بالنكاح الفاسد وسائر ضروب الوطء الذي علق به التحريم إذ كانت المرأة متميزة عن أمها فهما غير مختلطتين فإذا جاز أن يقع التحريم بهذه الوجوه مع عدم الاختلاط فما أنكر مثله في الزنا وقد بينا في صدر المسألة دلالة قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وقوله تعالى( اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) على وقوع التحريم بالزنا فلم يحصل من كلام الشافعى دلالة في هذه المسألة ولا شبهة على ما سئل عنه* ثم حكى الشافعى عن سائله هذا لما فرق له بين الماء والخمر وبين النساء بما ذكر أنه لا يشبهه أمر النساء الخمر والماء قال الشافعى فقلت له وكيف قبلت هذا منه فقال ما بين لنا أحد بيانك لنا ولو علم صاحبنا به لظننت أنه لا يقيم على قوله ولكن غفل وضعف عن كلامه* قال فرجع عن قولهم وقال الحق عندي في قولكم ولم يصنع صاحبنا شيئا ولا ندري من كان هذا السائل ولا من صاحبهم الذي قال لو علم صاحبنا بهذه الفروق لظن أنه لا يقيم على قوله وقد بان عمى قلب هذا السائل بتسليمه للشافعي جميع ما ادعاه من غير مطالبة له بوجه الدلالة على المسألة فيما ذكر وجائز أن يكون رجلا عاميا لم يرتض بشيء من الفقه إلا أنه قد انتظم بذلك شيئين أحدهما الجهل والغباوة بما وقفنا عليه من مناظرته وتسليمه ما لا يجوز تسليمه ومطالبته للمسئول بالفروق التي لا توجب فرقا في معاني العلل والمقايسات ثم انتقاله بمثل ذلك إلى مذهبه على ما زعم وتركه لقول أصحابه والآخر قلة العقل وذلك أنه ظن أن صاحبه لو سمع بمثل ذلك رجع عن قوله فقضى بالظن على غيره فيما لا يعلم حقيقته* وسرور الشافعى بمناظرة مثله وانتقاله إلى مذهبه يدل على أنهما كانا متقاربين في المناظرة وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدئ والمغفل العامي لما أثبت مناظرته إياه في كتابه ولو كلم بذلك المبتدؤن من أحداث أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذا الحجاج وضعف السائل والمسئول فيه* وقد ذكر الشافعى أنه قال لمناظره جعلت الفرقة إلى المرأة بتقبيلها ابن زوجها والله لم يجعل الفرقة إليها قال فقال فأنت تزعم أنها تحرم على زوجها إذا ارتدت قال قلت وأقول إن رجعت وهي في العدة فهما على النكاح أفتزعم أنت في التي تقبل ابن زوجها مثله قال لا* قال أبو بكر فأنكر على خصمه وقوع التحريم من قبل المرأة ثم قال هو بها وجعل إليها الرجعة كما جعل إليها التحريم ثم قال الشافعى فأقول إن مضت العدة فرجعت إلى الإسلام كان لزوجها أن

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388