أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن10%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77365 / تحميل: 5402
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فذبيحته مذكاة إذا سمى الله عليها وإن سمى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك وقال مالك ما ذبحوه لكنائسهم أكره أكله وما سمى عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء وقال الثوري إذا ذبح وأهل به لغير الله كرهته وهو قول إبراهيم وقال الثوري وبلغني عن عطاء أنه قال قد أحل الله ما أهل به لغير الله لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وقال الأوزاعى إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعيادهم كان مكحول لا يرى به بأسا ويقول هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلها الله تعالى في كتابه وهو قول الليث بن سعد وقال الربيع عن الشافعى لا خير في ذبائح نصارى العرب من بنى تغلب قال ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتقبل منه الجزية عربيا كان أو عجميا ومن دخل عليه إسلام ولم يدن بدين أهل الكتاب فلا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف قال أبو بكر وقد روى عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب لم يفرق أحد منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده ولا نعلم أحدا من السلف أو الخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعى في ذلك فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم* وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) قال كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها ولد فتحلف لأن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار يا رسول الله أبناؤنا فأنزل الله( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) قال سعيد فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده* وروى عبادة بن نسى(١) عن غضيف بن الحارث أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرؤن التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث فما ترى فكتب إليه عمر أنهم طائفة من أهل الكتاب وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب فقال لا تحل ذبائحهم فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر * وروى عطاء بن

__________________

(١) قوله نسى بضم النون وفتح السين وتشديد الياء.

«٢١ ـ أحكام لث»

٣٢١

السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال كلوا من ذبائح بنى تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال في كتابه( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده فهو إجماع منهم* ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قول الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ) وذلك إنما يقع على المستقبل فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولاهم من العرب فهو منهم وذلك يقتضى أن يكون كتابيا لأنهم أهل الكتاب وأن تحل ذبائحهم لقوله تعالى( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون من سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم ولم يفرقوا في ذلك بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده ويحتجون في ذلك بقوله( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل وبحديث عبيدة السلماني عن على أنه قال لا تحل ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر * أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم لأنه إنما أخبر أنه آتى بنى إسرائيل الكتاب ولم ينف بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم وقد قال ابن عباس تحل ذبائحهم لقوله تعالى( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم وقول على رضى الله عنه في ذلك وحظر ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بنى إسرائيل لكن من قبل أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة لأنه قال إنهم لا يتعلقون من دينهم إلا بشرب الخمر ولم يقل لأنهم ليسوا من بنى إسرائيل فقول من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلا من بنى إسرائيل وإن دانوا بدينهم قول ساقط مردود وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى عبيدة عن حذيفة عن عدى بن حاتم قال أتينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عدى بن حاتم أسلم تسلم فقلت له إن لي دينا فقال أنا أعلم بدينك منك قلت أنت أعلم بديني منى قال نعم ألست ركوسيا قال قلت بلى قال ألست ترأس قومك قال قلت بلى قال ألست تأخذ المرباع قال

٣٢٢

قلت بلى قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك قال فكأنى رأيت أن على بها غضاضة وكأنى تواضعت بها وروى عبد السلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدى بن حاتم قال أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) قال قلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله عز وجل فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه قال فتلك عبادتهم وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا أحدها أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نسبه إلى متخذي الأحبار والرهبان أربابا وهم اليهود والنصارى ولم ينف ذلك عنه من حيث كان عربيا وقال في الحديث الأول ألست ركوسيا وهم صنف من النصارى فلم يخرجه عنهم بأخذهم المرباع وهو ربع الغنيمة وليس ذلك من دين النصارى لأن في دينهم أن الغنائم لا تحل فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين ويدل على أن العرب وبنى إسرائيل سواء فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام ولما لم يسأله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دل على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده والله أعلم.

باب تزوج الكتابيات

قال الله تعالى( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال أبو بكر اختلف في المراد بالمحصنات هاهنا فروى عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدى أنهم العفائف وروى عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت ابن بهرام عن شقيق بن سلمة قال تزوج حذيفة بيهودية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه حذيفة أحرام هي فكتب إليه عمر لا ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن قال أبو عبيد يعنى العواهر فهذا يدل على أن معنى الإحصان عنده هاهنا كان على العفة وقال مطرف عن الشعبي في قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها وروى ابن

٣٢٣

أبى نجيح عن مجاهد( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال الحرائر قال أبو بكر الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كن ذميات فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئا يروى عن ابن عمر أنه كرهه حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم قال جعفر وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث قال حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال إن الله حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول ربها عيسى بن مريم أو عبد من عبيد الله* قال أبو عبيد وحدثني على بن معبد عن أبى المليح عن ميمون بن مهران قال قلت لابن عمر إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فقرأ على آية التحليل وآية التحريم قال قلت إنى أقرأ ما تقرأ أفننكح نسائهم ونأكل طعامهم قال فأعاد على آية التحليل وآية التحريم* قال أبو بكر يعنى بآية التحليل( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وبآية التحريم( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ ) فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامها تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات سوى ابن عمر وجعلوا قوله( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) خاصا في غير أهل الكتاب حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن سفيان عن حماد قال سألت سعيد ابن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية قال لا بأس قال قلت فإن الله تعالى قال( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ ) قال أهل الأوثان والمجوس وقد روى عن عمر ما قدمنا ذكره* وروى أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة(١) الكلبية وهي نصرانية وتزوجها على نسائه وروى عن طلحة بن عبيد الله أنه تزوج يهودية من أهل الشام وتروى إباحة ذلك عن عامة التابعين منهم الحسن وإبراهيم والشعبي في آخرين منهم ولا يخلو قوله

__________________

(١) قوله الفرافصة بفتح الفاء الأولى وكسر الفاء الثانية قال ابن الأنبارى كل ما في العرب فرافصة بضم الفاء الأولى إلا فرافصة أبا نائلة امرأة عثمان رضى الله عنه.

٣٢٤

تعالى( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) من أحد معنيين إما أن يكون إطلاقه مقتضيا لدخول الكتابيات فيه أو مقصورا على عبدة الأوثان غير الكتابيات فإن كان إطلاق اللفظ يتناول الجميع فإن قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يخصه ويكون قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) مرتبات عليه لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاص وجب استعمالهما ولم يجز لنا نسخ الخاص بالعام إلا بيقين وإن كان قوله( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) إنما يتناول إطلاقه عبدة الأوثان على ما بيناه في غير هذا الموضع فقوله تعالى( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ثابت الحكم إذ ليس في القرآن ما يوجب نسخه فإن قيل قوله تعالى( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) إنما المراد به اللاتي كن كتابيات فأسلمن كما قال تعالى في آية أخرى( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ ) وقوله تعالى( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) والمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم كذلك قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) المراد به من كان من أهل الكتاب فأسلم* قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ولا يطلق أحد على المسلمين أنهم أهل الكتاب كما لا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى والله تعالى حين قال( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ) فإنه لم يطلق الاسم عليهم إلا مقيدا بذكر الإيمان عقيبه وكذلك قال( مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) فذكر إيمانهم بعد وصفهم أنهم أهل الكتاب ولست واجدا في شيء من القرآن إطلاق أهل الكتاب من غير تقييد إلا وهو يريد به اليهود والنصارى والثاني أنه قد ذكر المؤمنات في قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ) فانتظم ذلك سائر المؤمنات مما كن مشركات أو كتابيات فأسلمن وممن نشأ منهن على الإسلام فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كن كتابيات فوجب أن يكون قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وأيضا فإن ساغ التأويل الذي ادعاه من خالف في ذلك فغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلا بدلالة وليس معناه دلالة

٣٢٥

توجب صرفه عن الظاهر وأيضا فلو حمل على ذلك لزالت فائدته إذ كانت مؤمنة وقد تقدم في الآية ذكر المؤمنات* وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله تعالى( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب وأن المراد به اليهود والنصارى كذلك قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) هو على الكتابيات دون المؤمنات ويحتج للقائلين بتحريمهن بقوله تعالى( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) قيل له إنما ذلك في الحربية إذا خرج زوجها مسلما أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ألا ترى إلى قوله( وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) وأيضا فلو كان عموما لخصه قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقد اختلف في نكاح الكتابيات من وجه آخر فقال ابن عباس لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا وتلا هذه الآية( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إلى قوله( وَهُمْ صاغِرُونَ ) قال الحكم حدثت بذلك إبراهيم فأعجبه ولم يفرق في غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات والذميات وظاهر الآية يقتضى جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن قال أبو بكر ومما يحتج به لقول ابن عباس قوله تعالى( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى( خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا لأن قوله تعالى( يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) إنما يقع على أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة وأصحابنا يكرهون مناكحات أهل الحرب من أهل الكتاب* وقد اختلف السلف في نكاح المرأة من بنى تغلب فروى عن على أنه لا يجوز لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وهو قول إبراهيم وجابر بن زيد وقال ابن عباس لا بأس بذلك لأنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم واختلف أيضا في نكاح الأمة الكتابية وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه في سورة النساء ومن تأول قوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) على الحرائر جعل الإباحة مقصورة على نكاح الحرائر من الكتابيات ومن تأوله على العفة أباح نكاح الإماء الكتابيات* واختلف في المجوس فقال جل السلف وأكثر الفقهاء ليسوا أهل الكتاب وقال آخرون هم أهل الكتاب والقائلون بذلك شواذ والدليل

٣٢٦

على أنهم ليسوا أهل الكتاب قوله تعالى( وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف ألا ترى أن من قال إنما لي على فلان جبتان لم يكن له أن يدعى أكثر منه وقول القائل إنما لقيت اليوم رجلين ينفى أن يكون قد لقى أكثر منهما فإن قيل إنما حكى الله ذلك عن المشركين وجائز أن يكونوا قد غلطوا قيل له إن الله لم يحك هذا القول عن المشركين ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فهذا إنما هو قول الله واحتجاج منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن وأيضا فإن المجوس لا ينتحلون شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه وإنما يقرؤن كتاب زرادشت وكان متنبيا كذابا فليسوا إذا أهل كتاب ويدل عل أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى ابن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال عمر ما أدرى كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يخالفه عبد الرحمن ولا غيره من الصحابة وروى عبد الرحمن بن عوف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلو كانوا أهل الكتاب لما قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولقال هم من أهل الكتاب وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب * فإن قيل إن لم يكونوا أهل كتاب فقد جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب قيل له إنما قال ذلك في الجزية خاصة وقد روى ذلك في غير هذا الخبر وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال كتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام قال فإن أسلمتم فلكم مالنا وعليكم ما علينا ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وقد روى النهى عن صيد المجوس عن على وعبد الله وجابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن المسيب وأبى رافع وعكرمة وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى صاحب الروم يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب وروى في قوله تعالى( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) أن المسلمين أحبوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب

٣٢٧

وأحبت قريش غلبة فارس لأنهم جميعا ليسوا بأهل الكتاب فخاطرهم أبو بكر رضى الله عنه والقصة في ذلك مشهورة وأما من قال إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب فإن هذا لا يصح ولا يعلم ثبوته وإن ثبت أوجب أن لا يكونوا من أهل الكتاب لأن الكتاب قد ذهب منهم وهم الآن غير منتحلين لشيء من كتب الله تعالى وقد اختلف في الصابئين هم من أهل الكتاب أم لا فروى عن أبى حنيفة أنهم أهل كتاب وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئون الذين هم عنده من أهل الكتاب قوم ينتحلون دين المسيح ويقرؤن الإنجيل فأما الصابئون الذين يعبدون الكواكب وهم الذين بناحية حران فإنهم ليسوا بأهل كتاب عندهم جميعا* قال أبو بكر الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعنى الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في سواد واسط وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة وعبادتها واتخاذها آلهة وهم عبدة الأوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق مملكة الصابئين وكانوا نبطا لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا لأنهم منعوهم من ذلك وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ودخلوا في عمار النصارى في الظاهر وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان فلما ظهر الإسلام دخلوا في جملة النصارى ولم يميز المسلمين بينهم وبين النصارى إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان كاتمين لأصل الاعتقاد وهم أكتم الناس لاعتقادهم ولهم أمور وحيل في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم وأصل الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها واتخاذها أصناما على أسمائها لا خلاف بينهم في ذلك وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران وبين الذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب في ظني في قول أبى حنيفة في الصابئين أنه شاهد قوما منهم أنهم يظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرؤن الإنجيل وينتحلون دين المسيح تقية لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون إقرار معتقدي مقالهم بالجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ومن كان اعتقاده من الصابئين

٣٢٨

ما وصفنا فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.

باب الطهارة للصلاة

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضى وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة وحكم الجزاء أن يتأخر عن الشرط ألا ترى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما يقع الطلاق بعد الدخول وإذا قيل إذا لقيت زيدا فأكرمه أنه موجب للإكرام بعد اللقاء وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته ولا خلاف بين السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة وأن وجوب الطهارة متعلق بسبب آخر غير قيام فليس إذا هذا اللفظ عموما في إيجاب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة إذ كان الحكم فيه متعلقا بضمير غير مذكور وليس في اللفظ أيضا ما يوجب تكرار وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة من وجهين أحدهما ما ذكرنا من تعلق الحكم بضمير غير مذكور يحتاج فيه إلى طلب الدلالة عليه من غيره والثاني أن إذا لا توجب التكرار في لغة العرب ألا ترى أن من قال لرجل إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فدخلها مرة أنه يستحق درهما فإن دخلها مرة أخرى لم يستحق شيئا وكذلك من قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مرة طلقت فإن دخلتها مرة أخرى لم تطلق فثبت بذلك أنه ليس في الآية دلالة على وجوب تكرار الطهارة لتكرار القيام بها* فإن قيل فلم يتوضأ أحد بالآية إلا مرة واحدة* قيل له قد بينا أن الآية غير مكتفية بنفسها في إيجاب الطهارة دون بيان مراد الضمير بها فقول القائل إنه لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة خطأ لأن الآية في معنى المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد به البيان فهو المراد الذي به تعلق الحكم على وجه الإفراد أو التكرار على حسب ما اقتضاه بيان المراد ولو كان لفظ الآية عموما مقتضيا للحكم فيما ورد غير مفتقر إلى البيان لم يكن أيضا موجبا لتكرار الطهارة عند القيام إليها من جهة اللفظ وإنما كان يوجب التكرار من جهة المعنى الذي علق به وجوب الطهارة وهو الحدث دون القيام إليها* وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا أبو مسلم الكرخي قال حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن علقمة

٣٢٩

ابن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال عمدا فعلته وحدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال قلت له أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمن هو قال حدثتنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر الغسيل حدثها أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا فلما شق ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات* فقد دل الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة إذ لم يجدد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل صلاة طهارة فثبت بذلك أن فيه ضميرا به يتعلق إيجاب الطهارة وبين في الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله ووضع عنه الوضوء إلا من حدث* ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما روى سفيان الثوري عن جابر عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتى أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية فأخبر أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا محمد بن على بن زيد أن سعيد بن منصور حدثهم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبى مليكة عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه الطعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء قال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة قال أبو بكر سألوه عن الوضوء من الحدث عند الطعام فأخبر أنه أمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وروى أبو معشر المدني عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا أن أشق على أمتى لأمرت في كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك وهذا يدل على أن الآية لم تقض إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين أحدهما أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال لأمرت في كل صلاة بوضوء والثاني إخباره بأنه لو أمر به لكان

٣٣٠

واجبا بأمره دون الآية وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) قال إذا قمتم من المضجع يعنى النوم وقد كان رد السلام محظورا إلا بطهارة وروى قتادة عن الحسن عن حضين أبى ساسان عن المهاجر قال أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتوضأ فسلمت عليه فلما فرغ من وضوئه قال ما منعني أن أرد عليك السلام إلا أنى كنت على غير وضوء وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى ابن منصور قال أخبرنى محمد بن ثابت العبدري قال حدثنا نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذ قال بينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول فخرج عليه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه ثم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين ثم رد على الرجل السلام وقال لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنى لم أكن على وضوء أو قال على طهارة فهذا يدل على أن رد السلام كان مشروطا فيه الطهارة وجائز أن يكون ذلك كان خاصا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يرو أنه نهى عن رد السلام إلا على طهارة ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فوت الرد لأن رد السلام إنما يكون على الحال فإذا تراخى فات فكان بمنزلة من خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ فيجوز له التيمم وجائز أن يكون قد نسخ ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقيا إلى أن قبضه الله تعالى وقد روى عن أبى بكر وعمر وعثمان وعلى أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة وهذا محمول على أنهم فعلوه استحبابا وقال سعد إذا توضأت فصل بوضوئك ما لم تحدث وقد روى ابن أبى ذئب عن شعبة مولى ابن عباس أن عبيد بن عمير كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) فأنكر ذلك عليه ابن عباس وقد روى نفى إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عمر وأبى موسى وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبى العالية وسعيد ابن المسيب وإبراهيم والحسن ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك.

باب فضل تجديد الوضوء

وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار في فضيلة تجديد الوضوء منها ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن زيد قال حدثنا سعيد قال حدثنا سلام الطويل عن زيد العمى عن

٣٣١

معاوية بن قرة عن ابن عمر قال دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بماء فتوضأ مرة مرة وقال هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ به ضاعف الله له الأجر مرتين ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي وروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الوضوء على الوضوء نور على نور وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا وعلى هذا يحمل ما روى عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة وقد روى عن على رضى الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ورواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبت بما قدمنا أن قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) غير موجب للوضوء لكل صلاة وثبت أنه غير مستعمل على حقيقته وإن فيه ضميرا به يعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده* وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء لأنه إذا وجب من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك موجبا ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حدث آخر وضوء آخر إذا لم يكن توضأ من النوم فلو كان القيام إلى الصلاة موجبا للوضوء لما وجب من النوم عند إرادة القيام إليها كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجبا للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني وهذا يدل على أن من النوم هو الضمير الذي في الآية فكان تقديره إذا قمتم من النوم على ما روى عن زيد بن أسلم ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه أنه قام من النوم ومن نام قاعدا أو ساجدا أو راكعا لا يقال إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع ومن قال إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية دالة على وجوب الطهارة من الريح وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجاب الوضوء من النوم ومن الريح وقد أريد به أيضا إيجاب الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية لأنه مذكور في قوله( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) والغائط هو المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه

٣٣٢

لقضاء حوائجهم فيه وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسلس البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سلس البول والمذي ودم الاستحاضة فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نفى إيجاب الوضوء على من نام قاعدا غير مستند إلى شيء روى عطاء عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا فجاءه عمر فقال الصلاة يا رسول الله فخرج وصلى ولم يذكر أنهم توضئوا * وروى عن أنس قال كنا نجيء إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ننتظر الصلاة فمنا من نعس ومنا من نام ولا نعيد وضوء وروى نافع عن ابن عمر قال لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في ذلك في غير هذا الموضع وروى أبو يوسف عن محمد بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يصلى الصبح ولا يتوضأ فسئل عن ذلك فقال إنى لست كأحدكم إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي لو أحدثت لعلمته وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث وأن إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال العين وكاءا له فإذا نامت العين استطلق الوكاء فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه حكم له بحكم الحدث وهذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير علم منه بما يكون منه فإذا كان جالسا أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها محتفظا وإن كان منه حدث علم به وقد روى يزيد بن عبد الرحمن عن قتادة عن أبى العالية عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله.

فصل قال أبو بكر قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) لما كان ضميره ما وصفنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث فأوجب ذلك تقديم الطهارة من

٣٣٣

الأحداث للصلاة وكانت الصلاة اسما للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاة الطهارة أى صلاة إذ لم تفرق الآية بين شيء منها وقد أكد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بقوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور * قوله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) يقتضى إيجاب الغسل والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه فقوله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها فإذا ليس عليه ذلك الموضع بيده وإنما عليه إمرار الماء حتى يجرى على الموضع* وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه فقال مالك بن أنس عليه إمرار الماء وذلك الموضع بيده وإلا لم يكن غسلا وقال آخرون وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه بيده وروى هشام عن أبى يوسف أنه إن مسح الموضع بالماء كما يمسح بالدهن أجزأه والدليل على بطلان قول موجبى ذلك الموضع إن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنة نجاسة فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها سمى بذلك غاسلا وإن لم يدلكه بيده فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه وقال الله تعالى( فَاغْسِلُوا ) فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها فمن شرط فيه ذلك الموضع بيده فقد زاد فيه ما ليس منه وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك وأيضا فليس لذلك الموضع بيده حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه فإن قال قائل إذا لم يكن الغسل مأمورا به لإزالة شيء هناك علمنا أنه عبادة فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطا وإلا فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه قيل له قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكم في غسل النجاسات ولم يثبت لدلك الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أولى فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث وأما من أجاز مسح هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالف لظاهر الآية فإن الله

٣٣٤

تعالى شرط في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح فما أمر بغسله لا يجزى فيه المسح لأن الغسل يقتضى إمرار الماء على الموضوع وإجراءه عليه ومتى لم يفعل ذلك لم يسم غاسلا والمسح لا يقتضى ذلك وإنما يقتضى مباشرته بالماء دون إمراره عليه فغير جائز ترك الغسل إلى المسح ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به* ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء إبلاغ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر فلو كان المسح والغسل واحدا لأجزى في غسل الجنابة مسحه كما يجزى في الوضوء وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح فإن قيل إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح قيل له هذا يدل على صحة ما ذكرنا وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب عبادة ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره فإن قيل لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض* قيل له هذا غلط لأن اللمعة إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز بالإجماع ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل وقيل له لو لزم منا هذا في الوضوء للزمك في غسل الجنابة مثله والله أعلم.

باب الوضوء بغير نية

قوله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) يقتضى جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة وهو إمرار الماء على الموضع وليس هو عبارة عن النية فمن شرط فيه النية فهو زائد في النص وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه يوجب نسخ الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية فمن حظر الصلاة ومنعها إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها

٣٣٥

وذلك لا يجوز إلا بنص مثله والوجه الآخر أن النص له حكمه ولا يجوز أن يلحق به ما ليس منه كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه فإن قيل فقد شرطت في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ قيل له إنما جاز ذلك فيها من وجهين أحدهما أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يرد فيه وقد ورد فيه البيان بإيجاب إليه فلذلك أوجبناها وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بين المراد فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النص ولا يجوز ذلك إلا بنص مثله والوجه الآخر اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها فلو كان اسم الصلاة عموما ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق فهي إذا كانت مجملا أحرى بإثبات النية فيها من جهة الإجماع.

ذكر اختلاف الفقهاء في فرض النية

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزى التيمم إلا بنية وهو قول الثوري وقال الأوزاعى يجزى الوضوء بغير نية ولم تحفظ عنه في التيمم وقال مالك والليث والشافعى لا يجزى الوضوء ولا الغسل إلا بالنية وكذلك التيمم وقال الحسن بن صالح يجزى الوضوء والتيمم جميعا بغير نية قال أبو جعفر الطحاوي ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره قال أبو بكر قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية وقوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) دل على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية كذلك قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) على النحو الذي بينا ويدل عليه أيضا قوله تعالى( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون مطهرا ولو شرطنا فيه النية كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله بها من كونه طهورا لأنه حينئذ لا يكون طهورا إلا بغيره والله تعالى جعله طهورا من غير شرط معنى آخر فيه فإن قيل إيجاب شرط النية فيه لا يخرجه من أن يكون طهورا كما وصفه الله تعالى كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء ولم يمنع ذلك إيجاب النية شرطا فيه قيل له إنما سماه طهورا على وجه المجاز تشبيها له بالماء في باب إباحة الصلاة والدليل عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس فعلمنا أنه سماه طهورا استعارة ومجازا ومن

٣٣٦

جهة أخرى أن إثبات النية شرطا في التيمم جائز مع قوله التراب طهور المسلم ولا يجوز مثله في الوضوء وذلك لأن قوله( فَتَيَمَّمُوا ) يقتضى إيجاب النية إذ كان التيمم هو القصد في اللغة وقوله التراب طهور المسلم وارد من طريق الآحاد فواجب أن يكون الخبر مرتبا على الآية إذ غير جائز ترك حكم الآية بالخبر وتجوز الزيادة في حكم الخبر بالآية وليس ذلك كقوله( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) لأنه غير جائز أن يزاد في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به نسخه ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) فأبان تعالى عن وقوع التطهير بالماء من غير شرط النية فيه* فإن قيل لما كان قوله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية مقتضيا لفرض الطهارة فمن حيث كان فرضا وجب أن تكون النية شرطا في صحته لاستحالة وقوع الفعل موقع الفرض إلا بالنية وذلك لأن الفرض يحتاج في صحة وقوعه إلى نيتين أحدهما نية التقرب به إلى الله تعالى والأخرى نية الفرض فإذا لم ينوه لم توجد صحة الفرض فلم يجز عن الفرض إذ هو غير فاعل المأمور به قيل له إنما يجب ما ذكرت في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقاربه فلما جعل الله الطهارة شرطا لصحة الصلاة ولم تكن مفروضة لنفسها لأن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة كالمريض المغمى عليه أياما وكالحائض والنفساء وقال تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقال( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فجعله شرطا في غيره ولم يجعله مأمورا به لنفسه فاحتاج موجب النية شرطا فيه إلى دلالة من غيره ألا ترى أن كثيرا مما هو شرط في الفرض وليس بمفروض بعينه فجائز أن يكون من فعل غيره نحو الوقت الذي هو شرط في صحة أداء الصلاة ولا صنع للمصلي ونحو البلوغ والعقل اللذين هما شرط في صحة التكليف وليسا بفعل المكلف فبان بما وصفنا أن ورود لفظ الأمر بما جعل شرطا في غيره لا يقتضى وقوعه طاعة منه ولا إيجاب النية فيه ألا ترى أن قوله تعالى( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) وإن كان أمرا بتطهير الثوب من النجاسة فإنه لم يوجب كون النية شرطا في تطهيره إذا لم تكن إزالة النجاسة مفروضة لنفسها وإنما هي شرط في غيرها وإنما تقديره لا تصل إلا في ثوب طاهر ولا تصل إلا مستور العورة ويدل على ذلك أيضا أن الشافعى قد وافقنا على أن رجلا لو قعد في المطر ينوى الطهارة

«٢٢ ـ أحكام لث»

٣٣٧

فأصاب جميع أعضائه أنه يجزيه من غير فعل له فيه ولو كان ذلك مفروضا لنفسه لما أجزأه دون أن يفعله هو أو يأمر به غيره لأن هذا حكم المفروض* فإن قيل فالتيمم غير مفروض لنفسه ولا يصح مع ذلك إلا بالنية فليس إيجاب النية مقصورا على ما كان مفروضا لنفسه قيل له هذا غير لازم لأنا لم نخرج هذا القول مخرج الاعتلال فتلزمنا عليه المناقضة وإنما بينا أن لفظ الأمر إذا ورد فيما كان وصفه ما ذكرنا فإنه لا يقتضى إيجاب النية شرطا فيه إلا بدلالة أخرى من غيره فإنما أسقطنا بذلك احتجاج من احتج بظاهر ورود الأمر في إيجاب النية وفي مضمون لفظ التيمم إيجاب النية إذ كان التيمم في اللغة اسما للقصد قال الله تعالى( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) يعنى لا تقصدوا وقال الشاعر :

ولن يلبث العصر ان يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقال آخر :

فإن تلى خيلى قد أصيب صميمها

فعمدا على عين تيممت مالكا

وقال الأعشى :

تيممت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شزن

يعنى قصدته فلما كان في لفظ الآية إيجاب القصد والقصد هو النية لفعل ما أمر به جعلنا النية شرطا ولم يكن في إيجاب النية لحاق زيادة بالآية غير مذكورة فيها وأما الغسل فلا تنطوى تحته النية وفي إيجابها فيه إثبات زيادة فيها ليست منها وذلك غير جائز ووجه آخر في الفصل بين التيمم والوضوء وهو أن التيمم قد يقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء وهو على صفة واحدة في الحالين فاحتيج إلى النية للفصل بين حكميهما لأن النية إنما شرطت لتمييز أحكام الأفعال فلما كان حكم التيمم قد يختلف فيقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء احتيج إلى النية فيه لتمييز ما يقع منه عن الغسل عما يقع منه عن الوضوء وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز إذ كان المقصد منه إيقاع الفعل كما قبل لا تصل حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك ولا تصل إلا مستور العورة وليس يقتضى شيء من ذلك إيجاب النية فيه* ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع وأبى هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تعليمه الأعرابى

٣٣٨

الصلاة وقوله لا تتم صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فقوله حتى يضع الطهور مواضعه يقتضى جوازه بغير نية لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن فصار كقوله حتى يغسل هذه الأعضاء وقوله فيغسل وجهه ويديه يوجب ذلك أيضا إذ لم يشرط فيه النية فظاهره يقتضى جوازه على أى وجه غسله ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابى كان جاهلا بأحكام الصلاة والطهارة فلو كانت النية شرطا فيها لما أخلاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوقيف عليها وفي ذلك أوضح دليل على أنها ليست من فروضها* ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في غسل الجنابة لأم سلمة إنما يكفيك أن تحتي على رأسك ثلاث حثيات على سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت ولم يشرط فيه النية وروى ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فأشار إلى الفعل المشاهد دون النية هي ضمير لا تصح الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به وقال إذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال إن تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة بالماء كغسل النجاسة وأيضا هو سبب يتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره فأشبه غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره فإن احتجوا بقوله تعالى( وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ذلك يقتضى إيجاب النية له لأن ذلك أقل أحوال الإخلاص قيل له ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادة أو أنه من الدين إذ جائز أن يقال إن العبادات هي مقصودة لعينه في التعبد فأما ما أمر به لأجل غيره أو جعل شرطا فيه أو سببا له فليس يتناوله هذا الاسم ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة فلما لم يجز أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأمورا به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة وأيضا فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلص لله تعالى فيما يفعله من العبادات إذ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره لأن ضد الإخلاص هو الإشراك فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يشرك غيره فيه واحتجوا بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعمال بالنيات وهذا لا يصح الاحتجاج به في موضع الخلاف من قبل أن حقيقة اللفظ تقتضي كون العمل موقوفا على النية والعمل موجود

٣٣٩

مع فقد النية فعلمنا أنه لم يرد به حقيقة اللفظ وإنما أراد معنى مضمرا فيه غير مذكور فالمحتج بعموم الخبر في ذلك مغفل فإن قيل مراده حكم العمل قيل له الحكم غير مذكور فالاحتجاج بعمومه ساقط فإن ترك الاحتجاج بظاهر اللفظ وقال لما لم يجز أن يخلو كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فائدة وقد علمنا أنه لم يرد نفس العمل وجب أن يكون مراده حكم العمل قيل له يحتمل أن يريد به فضيلة العمل لا حكمه وإذا احتمل الأمرين احتيج إلى دلالة من غيره في إثبات المراد وسقط الاحتجاج به فإن قيل هو على الأمرين قيل له هذا خطأ لأن الضمير المحتمل للمعنيين غير ملفوظ به فيقال عمومه شامل للجميع فأما ما ليس بمذكور وهو ضمير ليس اللفظ عبارة عنه فقول القائل أحمله على العموم خطأ وأيضا فغير جائز إرادة الأمرين لأنه إن أريد به فضيلة العمل صار بمنزلة قوله لا فضيلة للعمل إلا بالنية وذلك يقتضى إثبات حكم العمل حتى يصح نفى فضيلته لأجل عدم النية ومتى أراد به حكم العمل لم يجز أن يريد به الفضيلة والأصل منتف فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد إذ غير جائز أن يكون لفظ واحد لنفى الأصل ونفى الكمال وأيضا غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الآحاد على ما بينا وهذا من أخبار الآحاد.

(فصل) قوله عز وجل( وُجُوهَكُمْ ) قال أبو بكر قد قيل فيه إن حد الوجه من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الإذن حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبى سعيد البردعي ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى وكذلك يقتضى ظاهر الاسم إذ كان إنما سمى وجها لظهوره ولأنه يواجه الشيء ويقابل به وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه الإنسان ويقابله من غيره فإن قيل فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى قيل له لا يجب ذلك لأن الأذنين تستران بالعمامة والقلنسوة ونحوهما كما يستر صدره وإن كان متى ظهر كان مواجها لمن يقابله وهذا الذي ذكرناه من معنى الوجه يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما وإذا لم تقتض الآية إيجاب غسلهما وإنما اقتضت غسل ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه فإن قيل قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين توضأ مرة مرة هذا وضوء لا يقبل

٣٤٠

الله الصلاة إلا به يوجب فرض المضمضة والاستنشاق قيل له أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب والوضوء هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزى غيره فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يراد في حكم الآية وكذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد وقد حدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال حدثنا ابن جريج عن عطاء قال سئلت عائشة عن وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإناء فيه ماء فتوضأ وكفا على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا ثم أعاد ذلك فقال من ضاعف ضاعف الله له ثم أعاد الثالثة فقال هذا وضوؤنا معشر الأنبياء فمن زاد فقد أساء فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق لأنه قصد بيان المفروض منه ولو كان فرضا فيه لفعله.

باب غسل اللحية وتخليلها

قال الله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه وقد يقال أيضا خرج وجهه إذا خرجت لحيته فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضى ظاهر ذلك وجوب غسلها ويحتمل أن يقال ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعد ما كانت البشرة ظاهرة دونه ولمن قال بالقول الأول أن يقول نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه كما أن شعر الرأس من الرأس وقد قال الله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه

٣٤١

ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبى حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها فلذلك لم يكن من الوجه وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها فروى إسرائيل عن جابر قال رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم وكذلك روى عن طاوس وروى جرير عن زيد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضى الله عنه توضأ وقال يونس رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا وروى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها وكذلك روى عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير فهؤلاء كلهم روى عنهم غسل اللحية ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه وقد كان ابن عمر متقضيا في أمر الطهارة كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب* وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خلل لحيته وروى عن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلل لحيته وقال بهذا أمرنى ربي وروى عثمان وعمار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء وروى الحسن عن جابر قال وضأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط قال أبو بكر وروى أخبار أخر في صفة وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية منها حديث عبد خير عن على وحديث عبد الله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم كلهم ذكر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه والوجه ما واجهك منه وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب فإن ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد وجميع ما روى من أخبار التخليل إنما هي أخبار

٣٤٢

آحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية ولما ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها* فروى المعلى عن أبى يوسف عن أبى حنيفة قال سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها قال فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء وبه قال ابن أبى ليلى قال أبو يوسف وأنا أخلل وقال بشر بن الوليد عن أبى يوسف في نوادره يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك وإن كان أقل من ذلك لم يجزه وهو قول أبى حنيفة وبه أخذ الحسن وقال أبو يوسف يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشيء من الماء وقال ابن شجاع لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الرأس إذ لم يجب غسله فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزى منه الربع كما قالوا في مسح الرأس قال أبو بكر لا تخلوا الحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها لأن فيه إثبات زيادة في الآية كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب وأيضا لوجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة وذلك خلاف الأصول فإن قيل قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقى العضو قيل له إنما يجب للضرورة والعذر وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ويقتضى ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها قوله تعالى( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) قال أبو بكر اليد اسم يقع على هذا العضو إلى المنكب

٣٤٣

والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال تيممنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المناكب وكان ذلك لعموم قوله( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب وإذا كان الإطلاق يقتضى ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها إذ لم تقم الدلالة على سقوطها والثاني أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) ووجود الطهر شرط في الإباحة وقال( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) ووجوده شرط فيه وإلى وحتى جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) والليل خارج منه فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجود غسل المرفقين إذ كانت الغاية مشكوكا فيها وأيضا روى جابر بن عبد الله أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان لأن قوله تعالى( إِلَى الْمَرافِقِ ) لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا إلا زفر فإنه يقول إن المرافق غير داخلة في الوضوء وكذلك الكعبان على هذا الخلاف* وقوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) قال أبو بكر اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس فروى عن أصحابنا فيه روايتان إحداهما ربع الرأس والأخرى مقدار ثلاثة أصابع ويبدأ بمقدم الرأس وقال الحسن بن صالح يبدأ بمؤخر الرأس وقال الأوزاعى والليث يمسح مقدم الرأس وقال مالك الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز وقال الشافعى الفرض مسح بعض رأسه ولم يحد شيئا وقوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) يقتضى مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني فمتى أمكننا استعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة نحو من هي مستعملة على معان منها التبعيض ثم قد تدخل في الكلام وتكون

٣٤٤

ملغاة وجودها وعدمها سواء ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها فقلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام على أنها ملغاة ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ولو قلت مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة فوجب إذا كان ذلك كذلك أن نحمل قوله( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقوله كتبت بالقلم ومررت بزيد فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فنكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته* ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن على بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) قال إذا مسح ببعض الرأس أجزأه قال ولو كانت امسحوا رؤسكم كان مسح الرأس كله فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده* فإن قيل لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول مسحت رأسى كله* كما لا تقول مسحت ببعض رأسى كله* قيل له قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة فإذا قال مسحت برأسى كله علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة الكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) ـ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة* وقد روى نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف منهم ابن عمر روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه وعن عائشة مثل ذلك وقال الشعبي أى جانب رأسك مسحت أجزأك وكذلك قال

٣٤٥

إبراهيم* ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا هشيم قال حدثنا يونس عن ابن سيرين قال أخبرنى عمرو بن وهب قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول خصلتان لا أسأل عنهما أحدا بعد ما شهدت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا كنا معه في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته وروى سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة وحدثنا عبيد الله بن الحسين قال حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال حدثنا كردوس بن أبى عبد الله قال حدثنا المعلى بن عبد الرحمن قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال توضأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه(1) فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس فإن قيل يحتمل أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث قيل له إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط لأن في حديث المغيرة ابن شعبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث* واحتج من قال بمسح الجميع بما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره قال فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جميعه ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال من زاد فقد اعتدى وظلم * فيقال له لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاثا فلا يكون الزائد على المفروض معتديا إذا أصاب السنة وكما أن المفروض من المسح على الخفين هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن معتديا وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق والمفروض مسح

__________________

(1) قوله وقرنه أى جانب رأسه.

٣٤٦

الرأس والمسنون مسح الأذنين معه وكما يقول مخالفنا إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا كذلك نقول إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع وإنما قال أصحابنا إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل وفي رواية لحسن بن زياد الربع فإن وجه تقدير ثلاث أصابع أنه لما ثبت أن المفروض البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واراد مورد البيان وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها فقدروا الناصية بثلاث أصابع وقد روى عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه* فإن* قيل فقد روى أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا* قيل له معلوم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يترك المفروض وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون فلما روى عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروى عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض فإن قيل لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقداره قيل له قد كان ظاهر فعله يقتضى ذلك لو لا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله فإن قيل لما كان قوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) مقتضيا مسح بعضه فأى بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر قيل له إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ألا ترى أن قوله تعالى( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) وقوله( وَآتُوا الزَّكاةَ ) وقوله( يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ

٣٤٧

اللهِ ) كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها فكذلك قوله تعالى( بِرُؤُسِكُمْ ) وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعل فيه فهو بيان مراد الله به ودليل آخر وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدار وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء وهذا يحتج به على مالك والشافعى جميعا لأن مالكا يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار والشافعى يقول كل ما وقع عليه اسم المسح جاز وذلك مجهول القدر وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية وذلك بأن نقول لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات* قيل له هذا محال لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع وبه وردت السنة وهو مسح بالماء وجب أن يكون مسح الرأس مثله وأما وجه رواية من روى الربع فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزى وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجرى على الشخص وهو الربع لأنك تقول رأيت فلانا والذي يليك منه الربع فيطلق عليه الاسم فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه فلذلك يوجبون به ما إذا حلقه في الإحرام* واختلف الفقهاء في مسح الرأس بإصبع واحدة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع وإن مسحه بإصبع أو إصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز وقال الثوري وزفر والشافعى يجزيه إلا أن زفر يعتبر الربع والأصل في ذلك أنه لا يجزى في

٣٤٨

مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه فإذا وضع إصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به فغير جائز مسح موضع غيره به وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو وأما المسح فلو اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جرى لجاز فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره فإن قيل فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره فهلا أجزته أيضا إذا مسح بإصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره وأما إذا وضع إصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره وأيضا فإن الماء الذي يجرى عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله وما على إصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض وإنما يكفى لمقدار الأصبع فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره فلا يجوز له ذلك.

باب غسل الرجلين

قال الله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قال أبو بكر قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالخفض وتأولوها على المسح وقرأ على وعبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب وكانوا يرون غسلها واجبا والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض وقال قوم يجوز مسح البعض ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلتهما الأمة تلقيا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء وذلك لأن قوله( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم ويحتمل أن يكون

٣٤٩

معطوفا على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفا على المعنى لا على اللفظ لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر.

معاوية إننا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضا بالمجاورة كقوله تعالى( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) ثم قال( وَحُورٌ عِينٌ ) فخفضهن بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان لأنهن يطفن ولا يطاف بهن وكما قال الشاعر :

فهل أنت إن ماتت أتانك راكب

إلى آل بسطام بن قيس فخاطب

فخفض خاطبا بالمجاورة وهو معطوف على المرفوع من قوله راكب والقوافي مجرورة ألا ترى إلى قوله :

فنل مثلها في مثلهم أو فلمهم

على دارمى بين ليلى وغالب

فثبت بما وصفنا احتمال كل واحد من القراءتين للمسح والغسل فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة إما أن يقال إن المراد هما جميعا مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير وغير جائز أن يكونا هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع فيظل التخيير بما وصفنا وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح* فثبت أن المراد الغسل وأيضا فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد فيه من البيان عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى وقد ورد البيان عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغسل قولا وفعلا فأما وروده من جهة

٣٥٠

الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل رجليه في الوضوء ولم يختلف الأمة فيه فصار فعله ذلك وأراد مورد البيان وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية وأما من جهة القول فما روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وغيرهم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم بصبها الماء فقال ويل للأعقاب من النار اسبغوا الوضوء وتوضأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة مرة فغسل رجليه وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به فقوله ويل للأعقاب من النار وعيد لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض فهذا يوجب استيعاب الرجل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اسبغوا الوضوء وقوله بعد غسل الرجلين هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به يوجب استيعابهما بالغسل لأن الوضوء اسم للغسل يقتضى إجراء الماء على الموضع والمسح لا يقتضى ذلك وفي الخبر الآخر أخبار أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيانه إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأمر بالغسل فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتى على المسح والمسح لا ينتظم الغسل وأيضا لما حدد الرجلين بقوله تعالى( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) كما قال( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) دل على استيعاب الجميع كما دل ذكر الأيدى إلى المرافق على استيعابهما بالغسل* فإن قيل قد روى على وابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ* ومسح على قدميه ونعليه * قيل له لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين أحدهما لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه والثاني أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه وقد روى عن على أنه قرأ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب وقال المراد الغسل فلو كان عنده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال إن مراد الله الغسل وأيضا فإن الحديث الذي روى عن على في ذلك قال

٣٥١

فيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وضوء من لم يحدث وهو حديث شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه وقال هكذا رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل وقال هذا وضوء من لم يحدث ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث وأيضا لما احتملت الآية الغسل والمسح استعملناها على الوجوب في أن الحالين الغسل في حال ظهور الرجلين والمسح في حال لبس الخفين* فإن قيل لما سقط فرص الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس دل على أنها ممسوحة غير مغسولة قيل له فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مرادا ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض ولم تختلف الأمة أيضا في نقل الغسل عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها.

فصل وقد اختلف في الكعبين ما هما فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم الناتئان بين مفصل القدم والساق وحكى هشام عن محمد أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم والصحيح هو الأول لأن الله تعالى قال( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فدل ذلك أن في كل رجل كعبين ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال إلى الكعاب كما قال تعالى( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إليهما بلفظ الجميع فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دل على أن في كل رجل كعبين ويدل عليه أيضا ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال حدثنا إسحاق ابن راهويه قال حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبى الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذا فقلت من هذا فقالوا ابن عبد المطلب قلت فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة قالوا هذا عبد العزى أبو لهب وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتئ في جانب القدم لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم قال وحدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال أخبرنا

٣٥٢

وكيع قال حدثنا زكريا ابن أبى زائدة عن القاسم الجدلي قال سمعت النعمان بن بشير يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم أو وجوهكم قال فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا والله أعلم.

ذكر الخلاف في المسح على الخفين

قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعى والشافعى يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها وروى عن مالك والليث أنه لا وقت للمسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له قال مالك والمقيم والمسافر في ذلك سواء وأصحابه يقولون هذا هو الصحيح من مذهبه وروى عنه ابن القاسم أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه المسح على الخفين* قال أبو بكر قد ثبت المسح على الخفين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ولذلك قال أبو يوسف إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ولم يشك أحد منهم في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مسح وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها فروى المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمر وعلى وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة ورواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير موقت سعد بن أبى وقاص وجرير بن عبد الله البجلي وحذيفة ابن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصارى وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبد الله قال قال رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش قال إبراهيم كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها وجب استعمالها مع حكم الآية وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور

«23 ـ أحكام لث»

٣٥٣

الرجلين فلا فرق بين أن يكون مسح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الآية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت* فإن احتج المخالف في ذلك بما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة أصبت السنة وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال كنا نسافر مع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يوقتون * قيل له قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبد الله حين أنكر على سعد المسح على الخفين يا بنى عمك أفقه منك للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة وسويد بن غفلة عن عمر أنه قال ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه فاحتمل أن يكون قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعقبة حين مسح على خفيه جمعة أصبت السنة يعنى أنك أصبت السنة في المسح وقوله إنه مسح جمعة إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح كما يقول القائل مسحت شهرا على الخفين وهو يعنى على الوجه الذي يجوز فيه المسح لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح وكما تقول صليت الجمعة شهرا بمكة والمعنى في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة وأما قول الحسن أن أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس إنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعون ثلاثا فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث فإن قيل في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المسح على

٣٥٤

الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ولو استزدناه لزادنا وفي حديث أبى ابن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوما قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت وفي حديث آخر قال حتى بلغ سبعا * قيل له أما حديث خزيمة وما قيل فيه ولو استزدناه لزادنا فإنما هو ظن من الراوي والظن لا يغنى من الحق شيئا وأما حديث أبى بن عمارة فقد قيل إنه ليس بالقوى وقد اختلف في سنده ولو ثبت كان قوله وما شئت على أنه يمسح بالثلاث ما شاء وغير جائز الاعتراض على أخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتملة للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوقيت فإن قيل لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس* قيل له لاحظ للنظر مع الأثر فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط وإن كانت غير ثابتة فالكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق النظر وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره والمسح على الخفين يدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة فلم يجز إثباته بدل إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت فإن قيل قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل قيل له أما على مذهب أبى حنيفة فهذا السؤال ساقط لأنه لا يوجب المسح على الجبائر وهو عنده مستحب تركه لا يضر وعلى قول أبى يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة فلذلك اختلفا فإن قيل ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه وأن لا يجوز في الحضر لما روى أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر لأن مثله لا يخفى على عائشة* قيل له يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على على رضى الله عنه وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم* فإن قيل تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله ويل للعراقيب من النار * قيل له إنما ذلك في حال ظهور الرجلين* فإن قيل جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف* دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار* قيل له لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر

٣٥٥

قياسا وإنما أبحناه بالآثار وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر فلا معنى للمقايسة واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر فقال أصحابنا إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث وهو قول الثوري وروى عن مالك مثله وذكر الطحاوي عن مالك والشافعى أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ودليل أصحابنا عموم قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فأهويت إلى خفيه لأنزعهما فقال مه فإنى أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء كما يقال غسل رجليه وكما يقال صلى ركعة وإن لم يتم صلاته وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه* واختلف في المسح على الجور بين فلم يجزه أبو حنيفة والشافعى إلا أن يكونا مجلدين وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسح على الخفين لما أجزنا المسح فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجور بين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه* فإن قيل روى المغيرة ابن شعبة وأبو موسى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على جوربيه ونعليه قيل له يحتمل أنهما كانا مجلدين فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم حاله وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث كما مسح على رجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ومن جهة النظر اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة إذ ليس في العادة المشي فيها كذلك الجوربان وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشى فيهما وبمنزلة

٣٥٦

الجرموقين ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف واختلف في المسح على العمامة فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعى لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار وقال الثوري والأوزاعى يمسح على العمامة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين أحدهما أن الآية تقتضي مسح الرأس فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم والثاني عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار وأيضا حديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ومعلوم أنه مسح برأسه لأن مسح العمامة لا يسمى وضوء ثم نفى جواز الصلاة إلا به وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزى الصلاة إلا به* وإن احتجوا بما روى بلال والمغيرة بن شعبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على الخفين والعمامة وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين * قيل لهم هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته وفي بعضها على جانب عمامته وفي بعضها وضع يده على عمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة وأما حديث ثوبان فمحمول على معنى حديث المغيرة أيضا بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة والله أعلم.

باب الوضوء مرة مرة

قال الله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة

٣٥٧

واحدة إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل فمن غسل مرة فقد أدى الفرض وبه وردت الآثار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منها حديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا وروى ابن عباس وجابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة وقال أبو رافع توضأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا ثلاثا ومرة مرة * قال أبو بكر فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه وفيه أشياء مسنونة سنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ما حدثنا عبد الله بن الحسن قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبد الخير قال دخل على الرحبة بعد ما صلى الفجر فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبد الخير ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفاه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ثم مسح رأسه بيده كلتيهما ثم صب بيديه اليمنى على قدمه اليمنى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال من سره أن ينظر إلى طهور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا طهوره وهذا الذي رواه على في صفة وضوء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة ويروى عن الحسن البصري أنه قال من غمس يده في إناء قبل الغسل أهراق الماء وتابعه على ذلك من لا يعتد به ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ولا ينكشف في نوم النهار* قال أبو بكر والذي في حديث على من صفة وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسقط هذا الاعتبار ويقتضى أن يكون ذلك سنة الوضوء لأن عليا كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فغسل يديه قبل إدخالهما في

٣٥٨

الإناء وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده قال محمد بن الحسن كانوا يستنجون بالأحجار فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها فأمر بالاحتياط مع تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء* وقد اتفق الفقهاء على الندب ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ وظاهر الآية ينفى إيجابه وهو قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره* وعلى أنه قد روى أن الآية نزلت فيمن قام من النوم وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه وقد روى عطاء ابن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم أتحبون أن أريكم كيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى وذكر الحديث فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده الإناء قبل أن يغسلها وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وإن ما في حديث على وحديث أبى هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب وحديث أبى هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء وهو قوله فإنه لا يدرى أين باتت يده فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم فهي على أصل طهارتها كمن كان على يقين من الطهارة فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الشك أن يبنى على يقين من الطهارة ويلغى الشك فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبد الله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبى هريرة في أمر المستيقظ من نومه يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس(1) وقال الأشجعى لأبى هريرة فما تصنع بالمهراس فقال أعوذ بالله من شرك

__________________

(1) قوله بالمهراس هو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء كما في النهاية.

٣٥٩

والذي أنكره أصحاب عبد الله من قول أبى هريرة اعتقاده الإيجاب فيه لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده فلم ينكره أحد ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه فاستنكر أصحاب عبد الله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب* واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس فقال أصحابنا هما من الرأس تمسحان معه وهو قول مالك والثوري والأوزاعى ورواه أشهب عن مالك وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد وأنهما تمسحهما بماء جديد وقال الحسن بن صالح يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه وقال الشافعى يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس* والدليل على أنهما من الرأس وتمسحان معه ما حدثنا عبيد الله بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبى أمامة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه وقال الأذنان من الرأس * وأخبرنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال حدثنا عامر بن سنان قال حدثنا زياد بن علاقة عن عبد الحكم عن أنس بن مالك قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر وروى ابن عباس وأبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله أيضا* أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين أحدهما قوله أنه مسح رأسه وأذنيه وهذا يقتضى أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية والثاني قوله الأذنان من الرأس لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة وكلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلو من الفائدة فثبت أن المراد الوجه الثاني* فإن قيل يجوز أن* يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس* قيل له لا يجوز ذلك لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه فثبت أن قوله الأذنان من الرأس إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له ووجه آخر وهو أن من بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388