أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن15%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77351 / تحميل: 5400
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة ، ولو أردوا اغتنام الفرصة لاستطاعوا حتما إصلاح ماضيهم وحاضرهم ، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب ، بل بدّلوا أمر الله ، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضا ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59) وقد أوردنا تفسيرا أكثرا تفصيلا هناك.

والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا ، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا :( بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) ، وقال هناك :( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأجل أن الذنوب لها جانبان : أحدهما الجانب المرتبط بالله ، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله ، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».

ما هي «حطّة» وماذا تعني؟

الجدير بالذكر أن بني إسرائيل كانوا مكلّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المغفرة لكل تلك الجرائم التي ارتكبوها ، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.

وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس ، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا ، لأنّ «حطّة» معناها إنزال

٢٦١

الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان ، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان ، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيرا من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي ، وجعلوه وسيلة للهو والاستهزاء والسخرية.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) )

التّفسير

قصّة فيها عبرة :

في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول له : اسأل يهود

٢٦٣

عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.

إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.

في البداية تقول الآية :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ) . أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية :( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.

و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.

ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت

٢٦٤

تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجا ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ

٢٦٥

مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) (1) .

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم( قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.

والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.

ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.

__________________

(1) التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).

٢٦٦

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1) .

ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.

ثمّ يشرح العقوبات هكذا :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) .

وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

* * *

بحوث

وهنا نقاط عديدة يجب الالتفات إليها :

1 ـ كيف ارتكبوا هذه المعصية؟

وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.

__________________

(1) بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.

(3) سورة يس ، 28.

٢٦٧

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فقد أحدثوا أحواضا إلى جانب البحر ، وفتحوا لها أبوابا إلى البحر ، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها ، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض ، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها ، وأخذها من الأحواض ، وكانوا يقولون : إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك ، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1) .

ويقول بعض المفسّرين : إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت ، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك ، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبت ولكن بصورة ما كرة.

ويظهر من بعض الرّوايات الأخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبت من دون مبالاة بالنهي الإلهي ، وليس بواسطة أية حيلة.

ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية ، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر ، أو إلقاء الكلاليب والصنارات ، ثمّ لما صغرت هذه المعصية في نظرهم ، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته ، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجا وعلنا ، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جدا.

2 ـ من هم الذين نجوا؟

الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقا واحدا من الفرق الثلاثة (العصاة ، المتفرجون ، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإلهي وهم افراد الفريق

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد 2 ، الصفحة 22 ، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.

٢٦٨

الثّالث.

وكما جاء في الرّوايات ، فإنّه عند ما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا : سنخرج من المدينة ، فخرجوا إلى الصحراء ليلا ، واتفق أن أصاب العذاب الإلهي كلا الفريقين الآخرين.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط ، ونجى الساكتون أيضا ، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.

3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد

يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة ، لأنّه تعالى يقول :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْه ) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضا ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب ، لأنّه تعالى يقول :( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) .

من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين ، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط ، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء ، بالرغم من أن العصاة أيضا هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)

4 ـ هل المسخ كان جسمانيا أو روحانيا؟

«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدث على خلاف العادة والطبيعة.

على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة ، وتغيير الشكل

__________________

(1) وإذا كان يستفاد من بعض الرّوايات خلاف هذا الموضوع ، فإنّه مضافا إلى أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضا ، ويحتمل أن يكون الراوي قد أخطأ في نقل الرواية.

٢٦٩

والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أخرى ، وقد شكّلت أسس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.

ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية ، لا الصفات الكليّة ، يعني أنّه لم يشاهد إلى الآن نوعا من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال «موتاسيون» إلى نوع آخر ، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان ، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل ، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أمّه.

وعلى هذا الأساس ، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمرا خارقا للعادة.

ولكن تقدم أنّ هناك أمورا تحدث على خلاف العادة والطبيعة ، وهذه الأمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، وأحيانا تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص ، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعا).

وبناء على هذا ، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة ، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.

ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو استثناء وخرق لقانون العلية ، ولا هو خلاف العقل ، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد ، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1) .

__________________

(1) لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائيّة ، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب ، ومن جملة ذلك : إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه ، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين ، وفي كل مرة ولدت ولدا ، أو طفلا كان قلبه خارج صدره ، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها ، وما شابه ذلك.

٢٧٠

بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى ، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضا.

ولكن بعض المفسّرين ـ وهم الأقليّة ـ قالوا : إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والانقلاب في الصفات الأخلاقية ، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين ، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة ، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الاحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.

وما أخذه البعض على مسألة المسخ ، وأنّه خلاف التكامل ، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح ، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل ، لا أولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل ، وخرجوا عن دائره هذا القانون.

فعلى سبيل المثال : الإنسان السليم ينمو نموا منتظما في أعوام الطفولة ، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص ، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب ، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجا.

ولكن يجب الانتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص ، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة ، وجماعة أخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى ، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.

على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجر أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية

٢٧١

حسبما قال بعض المفسّرين : نزلت حول أصحاب السبت ، فالكبار منهم الذين أطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير ، والشباب المقلد لهم تقليدا أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.

ولكن على كل حال يجب الالتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ، ولم يتولد منهم نسل أبدا.

5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية ، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض ، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت ، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا تكون العقوبة الإلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبدا بانقلاب ظاهره ، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فالحرام حرام سواء أتي به صريحا ، أو تحت لفافات كاذبة ، ومعاذير واهية.

إنّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة ، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين ، ويكرّهه إليهم بشدّة.

إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافا إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه ، ويجرّئ الإنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئا فشيئا لارتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة

٢٧٢

أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام قال : «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربّهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (الخطبة 156).

ويجب الانتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل ، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حسن أمام الناس ، وإمّا خداع الضمير ، واكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.

6 ـ أنواع الابتلاء الإلهي المختلفة

صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة ، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقّتة ، وبهدف الاختبار والامتحان عن مثل هذا العمل ، ليرى مدى تفانيهم ، ويختبر مدى إخلاصهم ، وهذا هو أحد أشكال الامتحان الإلهي.

هذا مضافا إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوما مقدسا ، وكانوا قد كلّفوا ـ احتراما لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإشتغال بالأعمال اليومية ، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلّ هذه الاعتبارات والمسائل ، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.

* * *

__________________

(1) كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء ، عدّة أيّام ، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراما شرعا ، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.

٢٧٣

الآيتان

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) )

التّفسير

تفرق اليهود وتشتتهم :

هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى ، وسحقت الحق والعدل والصدق.

فيقول في البداية : واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقا يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «تأذّن» و «أذّن» كلاهما بمعنى الإخبار والإعلام ، وكذا جاء بمعنى الحلف والقسم ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل

٢٧٤

هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبدا ، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة ، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر ، إلّا أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها ، وتكفّ عن الظلم والفساد.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا :( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب ، وبالنسبة للمذنبين التائبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحا أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول :( وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون ، ولهذا عند ما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنوا به ، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهريا ، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة أخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي ، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن ، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن ، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر ، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر ، ويقفوا على عجزهم ، لعلهم يستيقظون

٢٧٥

ويعودون إلى الله ، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار ، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة ، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) )

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود ، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم ، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا ، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه ، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و «خلف» على وزن «حرف» يأتي غالبا في الأولاد غير الصالحين ـ كما

٢٧٧

ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ، في حين أنّ «الخلف» على وزن «شرف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1) .

ثمّ يضيف قائلا : وعند ما وقعوا بين مفترق طريقين : بين ضغط الوجدان من جهة ، والرغبات والمنافع المادية من جهة أخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا : لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواء من حلال أو حرام ، والله سيرحمنا ويغفر لنا( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ) .

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية ، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم ، ولهذا يقول تعالى :( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .

و «عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لاثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض ، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب ، فهو يقصد الإنسان يوما ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإنسان حسابه ولا يعود قادرا على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره ، يوما آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلّا الحسرة والتذكر المؤلم ، هذا مضافا إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساسا غير دائمة ، وغير ثابته(2) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الارتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية ، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير ابن الفتوح الرازي ، في ذيل الآية الحاضرة.

(2) يجب الانتباه ، إلى أن «عرض» على وزن «غرض» يختلف عن «عرض» على وزن (فرض) فالأول بمعنى كل رأس مال دنيوي ، والثاني بمعنى المال النقدي.

٢٧٨

يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) أي أنّهم أخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذبا ، ولا يحرفوا كلماته ، ولا يقولوا إلّا الحق.

ثمّ يقول : لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية ، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذارا ، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مرارا وفهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها ، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم( وَدَرَسُوا ما فِيهِ ) . و «الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء ، وحيث أن الإنسان عند المطالعة ، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع ، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على انمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية ، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول : إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأمور ، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعا( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقا يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب ، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفا بحرف ، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم ، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم ، ويقول عنهم :( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل ، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين ، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر

٢٧٩

بظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينفصل عن الإيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر ، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته ، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة ، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص ، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقا من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة ، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف ، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب ، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية ، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية ، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أخرى ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة ، وبدار الآخرة ، بل هو برنامج للحياة البشرية ، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر ، وإجراء مبادئ العدل والسلام والرفاه والاستقرار ، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإلهية ، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضرا وناظرا لجميع أعماله وبرامجه ، ومراقبا لجميع أفعاله وأقواله ، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وارتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الله الصلاة إلا به يوجب فرض المضمضة والاستنشاق قيل له أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب والوضوء هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزى غيره فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يراد في حكم الآية وكذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد وقد حدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال حدثنا ابن جريج عن عطاء قال سئلت عائشة عن وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإناء فيه ماء فتوضأ وكفا على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا ثم أعاد ذلك فقال من ضاعف ضاعف الله له ثم أعاد الثالثة فقال هذا وضوؤنا معشر الأنبياء فمن زاد فقد أساء فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق لأنه قصد بيان المفروض منه ولو كان فرضا فيه لفعله.

باب غسل اللحية وتخليلها

قال الله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه وقد يقال أيضا خرج وجهه إذا خرجت لحيته فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضى ظاهر ذلك وجوب غسلها ويحتمل أن يقال ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعد ما كانت البشرة ظاهرة دونه ولمن قال بالقول الأول أن يقول نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه كما أن شعر الرأس من الرأس وقد قال الله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه

٣٤١

ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبى حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها فلذلك لم يكن من الوجه وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها فروى إسرائيل عن جابر قال رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم وكذلك روى عن طاوس وروى جرير عن زيد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضى الله عنه توضأ وقال يونس رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا وروى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها وكذلك روى عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير فهؤلاء كلهم روى عنهم غسل اللحية ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه وقد كان ابن عمر متقضيا في أمر الطهارة كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب* وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خلل لحيته وروى عن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلل لحيته وقال بهذا أمرنى ربي وروى عثمان وعمار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء وروى الحسن عن جابر قال وضأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط قال أبو بكر وروى أخبار أخر في صفة وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية منها حديث عبد خير عن على وحديث عبد الله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم كلهم ذكر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه والوجه ما واجهك منه وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب فإن ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد وجميع ما روى من أخبار التخليل إنما هي أخبار

٣٤٢

آحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية ولما ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها* فروى المعلى عن أبى يوسف عن أبى حنيفة قال سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها قال فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء وبه قال ابن أبى ليلى قال أبو يوسف وأنا أخلل وقال بشر بن الوليد عن أبى يوسف في نوادره يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك وإن كان أقل من ذلك لم يجزه وهو قول أبى حنيفة وبه أخذ الحسن وقال أبو يوسف يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشيء من الماء وقال ابن شجاع لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الرأس إذ لم يجب غسله فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزى منه الربع كما قالوا في مسح الرأس قال أبو بكر لا تخلوا الحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها لأن فيه إثبات زيادة في الآية كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب وأيضا لوجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة وذلك خلاف الأصول فإن قيل قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقى العضو قيل له إنما يجب للضرورة والعذر وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ويقتضى ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها قوله تعالى( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) قال أبو بكر اليد اسم يقع على هذا العضو إلى المنكب

٣٤٣

والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال تيممنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المناكب وكان ذلك لعموم قوله( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب وإذا كان الإطلاق يقتضى ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها إذ لم تقم الدلالة على سقوطها والثاني أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) ووجود الطهر شرط في الإباحة وقال( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) ووجوده شرط فيه وإلى وحتى جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) والليل خارج منه فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجود غسل المرفقين إذ كانت الغاية مشكوكا فيها وأيضا روى جابر بن عبد الله أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان لأن قوله تعالى( إِلَى الْمَرافِقِ ) لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا إلا زفر فإنه يقول إن المرافق غير داخلة في الوضوء وكذلك الكعبان على هذا الخلاف* وقوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) قال أبو بكر اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس فروى عن أصحابنا فيه روايتان إحداهما ربع الرأس والأخرى مقدار ثلاثة أصابع ويبدأ بمقدم الرأس وقال الحسن بن صالح يبدأ بمؤخر الرأس وقال الأوزاعى والليث يمسح مقدم الرأس وقال مالك الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز وقال الشافعى الفرض مسح بعض رأسه ولم يحد شيئا وقوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) يقتضى مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني فمتى أمكننا استعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة نحو من هي مستعملة على معان منها التبعيض ثم قد تدخل في الكلام وتكون

٣٤٤

ملغاة وجودها وعدمها سواء ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها فقلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام على أنها ملغاة ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ولو قلت مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة فوجب إذا كان ذلك كذلك أن نحمل قوله( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقوله كتبت بالقلم ومررت بزيد فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فنكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته* ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن على بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) قال إذا مسح ببعض الرأس أجزأه قال ولو كانت امسحوا رؤسكم كان مسح الرأس كله فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده* فإن قيل لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول مسحت رأسى كله* كما لا تقول مسحت ببعض رأسى كله* قيل له قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة فإذا قال مسحت برأسى كله علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة الكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) ـ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة* وقد روى نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف منهم ابن عمر روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه وعن عائشة مثل ذلك وقال الشعبي أى جانب رأسك مسحت أجزأك وكذلك قال

٣٤٥

إبراهيم* ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا هشيم قال حدثنا يونس عن ابن سيرين قال أخبرنى عمرو بن وهب قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول خصلتان لا أسأل عنهما أحدا بعد ما شهدت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا كنا معه في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته وروى سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة وحدثنا عبيد الله بن الحسين قال حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال حدثنا كردوس بن أبى عبد الله قال حدثنا المعلى بن عبد الرحمن قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال توضأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه(١) فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس فإن قيل يحتمل أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث قيل له إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط لأن في حديث المغيرة ابن شعبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث* واحتج من قال بمسح الجميع بما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره قال فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جميعه ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال من زاد فقد اعتدى وظلم * فيقال له لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاثا فلا يكون الزائد على المفروض معتديا إذا أصاب السنة وكما أن المفروض من المسح على الخفين هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن معتديا وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق والمفروض مسح

__________________

(١) قوله وقرنه أى جانب رأسه.

٣٤٦

الرأس والمسنون مسح الأذنين معه وكما يقول مخالفنا إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا كذلك نقول إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع وإنما قال أصحابنا إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل وفي رواية لحسن بن زياد الربع فإن وجه تقدير ثلاث أصابع أنه لما ثبت أن المفروض البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واراد مورد البيان وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها فقدروا الناصية بثلاث أصابع وقد روى عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه* فإن* قيل فقد روى أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا* قيل له معلوم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يترك المفروض وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون فلما روى عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروى عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض فإن قيل لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقداره قيل له قد كان ظاهر فعله يقتضى ذلك لو لا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله فإن قيل لما كان قوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) مقتضيا مسح بعضه فأى بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر قيل له إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ألا ترى أن قوله تعالى( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) وقوله( وَآتُوا الزَّكاةَ ) وقوله( يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ

٣٤٧

اللهِ ) كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها فكذلك قوله تعالى( بِرُؤُسِكُمْ ) وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعل فيه فهو بيان مراد الله به ودليل آخر وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدار وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء وهذا يحتج به على مالك والشافعى جميعا لأن مالكا يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار والشافعى يقول كل ما وقع عليه اسم المسح جاز وذلك مجهول القدر وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية وذلك بأن نقول لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات* قيل له هذا محال لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع وبه وردت السنة وهو مسح بالماء وجب أن يكون مسح الرأس مثله وأما وجه رواية من روى الربع فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزى وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجرى على الشخص وهو الربع لأنك تقول رأيت فلانا والذي يليك منه الربع فيطلق عليه الاسم فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه فلذلك يوجبون به ما إذا حلقه في الإحرام* واختلف الفقهاء في مسح الرأس بإصبع واحدة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع وإن مسحه بإصبع أو إصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز وقال الثوري وزفر والشافعى يجزيه إلا أن زفر يعتبر الربع والأصل في ذلك أنه لا يجزى في

٣٤٨

مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه فإذا وضع إصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به فغير جائز مسح موضع غيره به وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو وأما المسح فلو اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جرى لجاز فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره فإن قيل فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره فهلا أجزته أيضا إذا مسح بإصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره وأما إذا وضع إصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره وأيضا فإن الماء الذي يجرى عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله وما على إصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض وإنما يكفى لمقدار الأصبع فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره فلا يجوز له ذلك.

باب غسل الرجلين

قال الله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قال أبو بكر قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالخفض وتأولوها على المسح وقرأ على وعبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب وكانوا يرون غسلها واجبا والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض وقال قوم يجوز مسح البعض ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلتهما الأمة تلقيا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء وذلك لأن قوله( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم ويحتمل أن يكون

٣٤٩

معطوفا على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفا على المعنى لا على اللفظ لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر.

معاوية إننا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضا بالمجاورة كقوله تعالى( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) ثم قال( وَحُورٌ عِينٌ ) فخفضهن بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان لأنهن يطفن ولا يطاف بهن وكما قال الشاعر :

فهل أنت إن ماتت أتانك راكب

إلى آل بسطام بن قيس فخاطب

فخفض خاطبا بالمجاورة وهو معطوف على المرفوع من قوله راكب والقوافي مجرورة ألا ترى إلى قوله :

فنل مثلها في مثلهم أو فلمهم

على دارمى بين ليلى وغالب

فثبت بما وصفنا احتمال كل واحد من القراءتين للمسح والغسل فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة إما أن يقال إن المراد هما جميعا مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير وغير جائز أن يكونا هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع فيظل التخيير بما وصفنا وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح* فثبت أن المراد الغسل وأيضا فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد فيه من البيان عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى وقد ورد البيان عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغسل قولا وفعلا فأما وروده من جهة

٣٥٠

الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل رجليه في الوضوء ولم يختلف الأمة فيه فصار فعله ذلك وأراد مورد البيان وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية وأما من جهة القول فما روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وغيرهم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم بصبها الماء فقال ويل للأعقاب من النار اسبغوا الوضوء وتوضأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة مرة فغسل رجليه وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به فقوله ويل للأعقاب من النار وعيد لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض فهذا يوجب استيعاب الرجل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اسبغوا الوضوء وقوله بعد غسل الرجلين هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به يوجب استيعابهما بالغسل لأن الوضوء اسم للغسل يقتضى إجراء الماء على الموضع والمسح لا يقتضى ذلك وفي الخبر الآخر أخبار أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيانه إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأمر بالغسل فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتى على المسح والمسح لا ينتظم الغسل وأيضا لما حدد الرجلين بقوله تعالى( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) كما قال( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) دل على استيعاب الجميع كما دل ذكر الأيدى إلى المرافق على استيعابهما بالغسل* فإن قيل قد روى على وابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ* ومسح على قدميه ونعليه * قيل له لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين أحدهما لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه والثاني أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه وقد روى عن على أنه قرأ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب وقال المراد الغسل فلو كان عنده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال إن مراد الله الغسل وأيضا فإن الحديث الذي روى عن على في ذلك قال

٣٥١

فيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وضوء من لم يحدث وهو حديث شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه وقال هكذا رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل وقال هذا وضوء من لم يحدث ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث وأيضا لما احتملت الآية الغسل والمسح استعملناها على الوجوب في أن الحالين الغسل في حال ظهور الرجلين والمسح في حال لبس الخفين* فإن قيل لما سقط فرص الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس دل على أنها ممسوحة غير مغسولة قيل له فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مرادا ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض ولم تختلف الأمة أيضا في نقل الغسل عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها.

فصل وقد اختلف في الكعبين ما هما فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم الناتئان بين مفصل القدم والساق وحكى هشام عن محمد أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم والصحيح هو الأول لأن الله تعالى قال( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فدل ذلك أن في كل رجل كعبين ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال إلى الكعاب كما قال تعالى( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إليهما بلفظ الجميع فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دل على أن في كل رجل كعبين ويدل عليه أيضا ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال حدثنا إسحاق ابن راهويه قال حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبى الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذا فقلت من هذا فقالوا ابن عبد المطلب قلت فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة قالوا هذا عبد العزى أبو لهب وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتئ في جانب القدم لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم قال وحدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال أخبرنا

٣٥٢

وكيع قال حدثنا زكريا ابن أبى زائدة عن القاسم الجدلي قال سمعت النعمان بن بشير يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم أو وجوهكم قال فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا والله أعلم.

ذكر الخلاف في المسح على الخفين

قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعى والشافعى يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها وروى عن مالك والليث أنه لا وقت للمسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له قال مالك والمقيم والمسافر في ذلك سواء وأصحابه يقولون هذا هو الصحيح من مذهبه وروى عنه ابن القاسم أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه المسح على الخفين* قال أبو بكر قد ثبت المسح على الخفين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ولذلك قال أبو يوسف إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ولم يشك أحد منهم في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مسح وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها فروى المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمر وعلى وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة ورواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير موقت سعد بن أبى وقاص وجرير بن عبد الله البجلي وحذيفة ابن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصارى وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبد الله قال قال رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش قال إبراهيم كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها وجب استعمالها مع حكم الآية وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور

«٢٣ ـ أحكام لث»

٣٥٣

الرجلين فلا فرق بين أن يكون مسح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الآية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت* فإن احتج المخالف في ذلك بما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة أصبت السنة وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال كنا نسافر مع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يوقتون * قيل له قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبد الله حين أنكر على سعد المسح على الخفين يا بنى عمك أفقه منك للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة وسويد بن غفلة عن عمر أنه قال ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه فاحتمل أن يكون قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعقبة حين مسح على خفيه جمعة أصبت السنة يعنى أنك أصبت السنة في المسح وقوله إنه مسح جمعة إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح كما يقول القائل مسحت شهرا على الخفين وهو يعنى على الوجه الذي يجوز فيه المسح لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح وكما تقول صليت الجمعة شهرا بمكة والمعنى في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة وأما قول الحسن أن أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس إنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعون ثلاثا فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث فإن قيل في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المسح على

٣٥٤

الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ولو استزدناه لزادنا وفي حديث أبى ابن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوما قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت وفي حديث آخر قال حتى بلغ سبعا * قيل له أما حديث خزيمة وما قيل فيه ولو استزدناه لزادنا فإنما هو ظن من الراوي والظن لا يغنى من الحق شيئا وأما حديث أبى بن عمارة فقد قيل إنه ليس بالقوى وقد اختلف في سنده ولو ثبت كان قوله وما شئت على أنه يمسح بالثلاث ما شاء وغير جائز الاعتراض على أخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتملة للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوقيت فإن قيل لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس* قيل له لاحظ للنظر مع الأثر فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط وإن كانت غير ثابتة فالكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق النظر وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره والمسح على الخفين يدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة فلم يجز إثباته بدل إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت فإن قيل قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل قيل له أما على مذهب أبى حنيفة فهذا السؤال ساقط لأنه لا يوجب المسح على الجبائر وهو عنده مستحب تركه لا يضر وعلى قول أبى يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة فلذلك اختلفا فإن قيل ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه وأن لا يجوز في الحضر لما روى أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر لأن مثله لا يخفى على عائشة* قيل له يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على على رضى الله عنه وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم* فإن قيل تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله ويل للعراقيب من النار * قيل له إنما ذلك في حال ظهور الرجلين* فإن قيل جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف* دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار* قيل له لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر

٣٥٥

قياسا وإنما أبحناه بالآثار وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر فلا معنى للمقايسة واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر فقال أصحابنا إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث وهو قول الثوري وروى عن مالك مثله وذكر الطحاوي عن مالك والشافعى أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ودليل أصحابنا عموم قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فأهويت إلى خفيه لأنزعهما فقال مه فإنى أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء كما يقال غسل رجليه وكما يقال صلى ركعة وإن لم يتم صلاته وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه* واختلف في المسح على الجور بين فلم يجزه أبو حنيفة والشافعى إلا أن يكونا مجلدين وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسح على الخفين لما أجزنا المسح فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجور بين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه* فإن قيل روى المغيرة ابن شعبة وأبو موسى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على جوربيه ونعليه قيل له يحتمل أنهما كانا مجلدين فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم حاله وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث كما مسح على رجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ومن جهة النظر اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة إذ ليس في العادة المشي فيها كذلك الجوربان وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشى فيهما وبمنزلة

٣٥٦

الجرموقين ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف واختلف في المسح على العمامة فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعى لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار وقال الثوري والأوزاعى يمسح على العمامة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين أحدهما أن الآية تقتضي مسح الرأس فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم والثاني عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار وأيضا حديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ومعلوم أنه مسح برأسه لأن مسح العمامة لا يسمى وضوء ثم نفى جواز الصلاة إلا به وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزى الصلاة إلا به* وإن احتجوا بما روى بلال والمغيرة بن شعبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على الخفين والعمامة وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين * قيل لهم هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته وفي بعضها على جانب عمامته وفي بعضها وضع يده على عمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة وأما حديث ثوبان فمحمول على معنى حديث المغيرة أيضا بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة والله أعلم.

باب الوضوء مرة مرة

قال الله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة

٣٥٧

واحدة إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل فمن غسل مرة فقد أدى الفرض وبه وردت الآثار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منها حديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا وروى ابن عباس وجابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة وقال أبو رافع توضأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا ثلاثا ومرة مرة * قال أبو بكر فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه وفيه أشياء مسنونة سنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ما حدثنا عبد الله بن الحسن قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبد الخير قال دخل على الرحبة بعد ما صلى الفجر فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبد الخير ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفاه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ثم مسح رأسه بيده كلتيهما ثم صب بيديه اليمنى على قدمه اليمنى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال من سره أن ينظر إلى طهور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا طهوره وهذا الذي رواه على في صفة وضوء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة ويروى عن الحسن البصري أنه قال من غمس يده في إناء قبل الغسل أهراق الماء وتابعه على ذلك من لا يعتد به ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ولا ينكشف في نوم النهار* قال أبو بكر والذي في حديث على من صفة وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسقط هذا الاعتبار ويقتضى أن يكون ذلك سنة الوضوء لأن عليا كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فغسل يديه قبل إدخالهما في

٣٥٨

الإناء وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده قال محمد بن الحسن كانوا يستنجون بالأحجار فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها فأمر بالاحتياط مع تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء* وقد اتفق الفقهاء على الندب ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ وظاهر الآية ينفى إيجابه وهو قوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره* وعلى أنه قد روى أن الآية نزلت فيمن قام من النوم وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه وقد روى عطاء ابن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم أتحبون أن أريكم كيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى وذكر الحديث فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده الإناء قبل أن يغسلها وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وإن ما في حديث على وحديث أبى هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب وحديث أبى هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء وهو قوله فإنه لا يدرى أين باتت يده فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم فهي على أصل طهارتها كمن كان على يقين من الطهارة فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الشك أن يبنى على يقين من الطهارة ويلغى الشك فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبد الله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبى هريرة في أمر المستيقظ من نومه يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس(١) وقال الأشجعى لأبى هريرة فما تصنع بالمهراس فقال أعوذ بالله من شرك

__________________

(١) قوله بالمهراس هو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء كما في النهاية.

٣٥٩

والذي أنكره أصحاب عبد الله من قول أبى هريرة اعتقاده الإيجاب فيه لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده فلم ينكره أحد ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه فاستنكر أصحاب عبد الله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب* واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس فقال أصحابنا هما من الرأس تمسحان معه وهو قول مالك والثوري والأوزاعى ورواه أشهب عن مالك وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد وأنهما تمسحهما بماء جديد وقال الحسن بن صالح يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه وقال الشافعى يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس* والدليل على أنهما من الرأس وتمسحان معه ما حدثنا عبيد الله بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبى أمامة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه وقال الأذنان من الرأس * وأخبرنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال حدثنا عامر بن سنان قال حدثنا زياد بن علاقة عن عبد الحكم عن أنس بن مالك قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر وروى ابن عباس وأبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله أيضا* أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين أحدهما قوله أنه مسح رأسه وأذنيه وهذا يقتضى أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية والثاني قوله الأذنان من الرأس لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة وكلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلو من الفائدة فثبت أن المراد الوجه الثاني* فإن قيل يجوز أن* يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس* قيل له لا يجوز ذلك لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه فثبت أن قوله الأذنان من الرأس إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له ووجه آخر وهو أن من بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388