أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 388
المشاهدات: 73010
تحميل: 4773


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73010 / تحميل: 4773
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

المواريث قد استقر في الشرع على وجوه معلومة وقال الله تعالى( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) وقال( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) فأوجب لها الميراث بالموت وحكم لها بالنصف وللزوج بالنصف بحدوث الموت من غير شرط القسمة والقسمة إنما تجب فيما قد ملك فلاحظ للقسمة في استحقاق الميراث لأن القسمة تبع للملك ولما كان ذلك كذلك وجب أن لا يزول ملك الأخت عنه بإسلام الابن كما لا يزول ملكها عنه بعد القسمة وأما مواريث الجاهلية فإنها لم تقع على حكم الشرع فلما طرأ الإسلام حملت على أحكام الشرع إذا لم يكن ما وقع قبل ورود الشرع مستقرا ثابتا فعفى لهم عما قد اقتسموه وحمل ما لم يقسم منها على حكم الشرع كما عفى لهم عن الربا المقبوض وحمل بعد ورود تحريم الربا ما لم يكن مقبوضا على حكم الشرع فأبطل وأوجب عليهم رد رأس المال ومواريث الإسلام قد ثبتت واستقر حكمها ولا يجوز ورود النسخ عليها فلا اعتبار فيها بالقسمة ولا عدمها كما أن عقود الربا لو أوقعت في الإسلام بعد تحريم الربا واستقرار حكمه لا يختلف فيه حكم المقبوض منها وغير المقبوض في بطلان الجميع وأيضا لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثا فمات قبل القسمة أن نصيبه من الميراث لورثته وكذلك لو ارتد لم يبطل ميراثه الذي استحقه وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدا وقت الموت فكذلك من أسلم أو أعتق بعد الموت قبل القسمة فلاحظ له في الميراث والله أعلم.

باب حد الزانيين

قال الله تعالى( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) الآية* قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن ذلك كان حد الزانية في بدء الإسلام وأنه منسوخ غير ثابت الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريح وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ـ إلى قوله تعالى ـسَبِيلاً ) قال وقال في المطلقات( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال هذه الآيات قبل أن تنزل سورة النور في الجلد نسختها هذه الآية( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) قال والسبيل

٤١

الذي جعله لهن الجلد والرجم قال فإذا جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج وترجم بالحجارة قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) قال كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت وكان الرجل إذا زنى أوذى بالتعيير وبالضرب بالنعال قال فنزلت( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) قال وإن كانا محصنين رجما بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فهو سبيلها الذي جعله الله لها يعنى قوله تعالى( حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) قال أبو بكر فكان حكم الزانية في بدء الإسلام ما أوجب من حدها بالحبس إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ولم يكن عليها في ذلك الوقت شيء غير هذا وليس في الآية فرق بين البكر والثيب فهذا يدل على أنه كان حكما عاما في البكر والثيب وقوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) فإنه روى عن الحسن وعطاء أن المراد الرجل والمرأة وقال السدى البكرين من الرجال والنساء وروى عن مجاهد أنه أراد الرجلين الزانيين وهذا التأويل الأخير يقال أنه لا يصح لأنه لا معنى للتثنية هاهنا إذ كان الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم وقول الحسن صحيح وتأويل السدى محتمل أيضا فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حد المرأة كان الأذى والحبس جميعا إلى أن تموت وحد الرجل التعيير والضرب بالنعال إذ كانت المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمر ان جميعا ولم يذكر للرجال إلا الأذى فحسب ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معا فأفردت المرأة بالحبس وجمعا جميعا في الأذى وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل وجمعت مع الرجل في الأذى لاشتراكهما فيه ويحتمل أن يكون إيجاب الحبس للمرأة متقدما للأذى ثم زيد في حدها وأوجب على الرجل الأذى فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد الرجل بالأذى دونها فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو السبيل قد كان حدها فإذا ألحق به الأذى صار منسوخا لأن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ إذ كان الحبس في ذلك الوقت جميع حدها ولما وردت الزيادة صار بعض حدها فهذا

٤٢

يوجب أن يكون كون الإمساك حدا منسوخا وجائز أن يكون الأذى حدا لهما جميعا بديا ثم زيد في حد المرأة الحبس إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها فيوجب ذلك نسخ الأذى في المرأة أن يكون حدا لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس فهذه الوجوه كلها محتملة* فإن قيل هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخا بإسقاط حكمه والاقتصار* على الأذى إذا كان نازل بعده* قيل له لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه رأسا إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفى الحبس لجواز اجتماعهما ولكنه يكون نسخه من طريق أنه يصير بعض الحد بعد أن كان جميعه وذلك ضرب من النسخ* وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان أحدهما ما روى عن الحسن أن قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) نزلت قبل قوله تعالى( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) ثم أمر أن توضع في التلاوة بعده فكأن الأذى حدا لهما جميعا ثم الحبس للمرأة مع الأذى وذلك يبعد من وجه لأن قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) الهاء التي في قوله تعالى( يَأْتِيانِها ) كناية لا بد لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو معهود معلوم عند المخاطب وليس في قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) دلالة من الحال على أن المراد الفاحشة فوجب أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أول الآية إذا لو لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام المراد وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) وقوله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن وفي مفهوم قوله تعالى( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) أنها الأرض فاكتفى بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد المكنى عنه فالذي يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيب معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ فإما أن تكونا نزلتا معا وإما أن يكون الأذى نازلا بعد الحبس إن كان المراد بالأذى من أريد بالحبس من النساء والوجه الثاني ما روى عن السدى أن قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) إنما كان حكما في البكرين خاصة والأولى في الثيبات دون الأبكار إلا أن هذا قول يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال اللفظين على حقيقة مقتضاهما وعلى أى وجه تصرفت وجوه الاحتمال في حكم الآيتين وترتيبهما فإن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين* وقد اختلف السلف في معنى السبيل المذكور في هذه الآية

٤٣

فروى عن ابن عباس أن السبيل الذي جعله الجلد لغير المحصن والرجم للمحصن وعن قتادة مثل ذلك وروى عن مجاهد في بعض الروايات( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) أو يضعن ما في بطونهن وهذا لا معنى له لأن الحكم كان عاما في الحامل والحائل فالواجب أن يكون السبيل مذكورا لهن جميعا* واختلف أيضا فيما نسخ هذين الحكمين فقال قائلون نسخ بقوله تعالى( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) وقد كان قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) في البكرين فنسخ ذلك عنهما بالجلد المذكور في هذه الآية وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم وقال آخرون نسخ بحديث عبادة ابن الصامت وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو النصر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم وهذا هو صحيح وذلك لأن قوله خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا يوجب أن يكون بيانا للسبيل المذكور في الآية ومعلوم أنه لم يكن بين قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الحبس والأذى واسطة حكم وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدما لقوله خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ولما صح أن يقول ذلك فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عبادة بن الصامت وأن آية الجلد نزلت بعده وفي ذلك دليل على نسخ القرآن بالسنة إذ نسخ بقوله خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا ما أوجب الله من الحبس والأذى بنص التنزيل* فإن قيل فقوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) وما ذكر في الآيتين من الحبس والأذى كان في البكرين دون الثيبين* قيل له لم يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس وإنما قال السدى إن الأذى كان في البكرين خاصة وقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثيب فأوجب أن يكون منسوخا بقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم فلم يخل الحبس من أن يكون منسوخا في جميع الأحوال بغير القرآن وهي الأخبار التي فيها إيجاب رجم المحصن فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا وحديث عبد الله وعائشة وعثمان حين كان محصورا فاستشهد أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال

٤٤

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس وقصة ما عز والغامدية ورجم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه فإن قيل هذه الخوارج بأسرها تنكر الرجم ولو كان ذلك منقولا من جهة الاستفاضة الموجبة للعلم لما جهلته الخوارج* قيل له إن سبيل العلم بمخبر هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرفه من جهتهم والخوارج لم تجالس فقهاء المسلمين ونقلة الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابلين لأخبارهم فلذلك شكوا فيه ولم يثبتوه وليس يمتنع أن يكون كثير من أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جحدوه محاملة منهم على ما سبقوا إلى اعتقاده من رد أخبار من ليس على مقالتهم وقلدهم الاتباع ولم يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به أو الذين عرفوه كانوا عددا يسيرا يجوز على مثلهم كتمان ما عرفوه وجحدوه ولم يكونوا صحابة فيكونوا قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له فلما خلوا من ذلك لم يعرفوه ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواش تكثر بلواه بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها ومثله أيضا إذا كثر سماعه وقع له العلم بها وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اختص أهل العدل بنقله دون الخوارج والبغاة وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاما منها استشهاد أربعة من الشهداء على الزنا ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعا ومنها سقوط الأذى والتعبير عنهما بالتوبة لقوله تعالى( فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في إسقاط الأذى دون الحبس وأما الحبس فكان موقوفا على ورود السبيل وقد بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك السبيل وهو الجلد والرجم ونسخ جميع ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود فإن اعتبار عدد الشهود باق في الحد الذي نسخ به الحدان الأولان وهو الجلد والرجم وقد بين الله ذلك في قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) وقال تعالى( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد

٤٥

أيضا وهذا يوجب جواز إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليها لأن الله تعالى أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر فدل ذلك على أن تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما لا يسقط شهادته وكذلك فعل أبو بكر مع شبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة وذلك موافق لظاهر الآية وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) الآية روى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من ولى نفسها إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك وقال الحسن ومجاهد كان الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه ورثت امرأته كما ورثت ماله فإن شاء تزوجها بالصداق الأول وإن شاء زوجها وأخذ صداقها قال مجاهد وذلك إذا لم يكن ابنها قال أبو مجلز فكان بالميراث أولى من ولى نفسها وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل يقوم أقرب الناس منه فيلقى على امرأته ثوبا فيرث نكاحها فمات أبو عامر زوج كبشة بنت معن فجاء ابن عامر من غيرهما وألقى عليها ثوبا فلم يقربها ولم ينفق عليها فشكت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) أن تؤتوهن الصداق الأول وقال الزهري كان يحبسها من غير حاجة إليها حتى تموت فيرثها فنهوا عن ذلك وقوله تعالى( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) قال ابن عباس وقتادة والسدى والضحاك هو أمر للأزواج تخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ولا يمسكها إضرار بها حتى تفتدى ببعض مالها وقال الحسن هو نهى لولى الزوج الميت أن يمنعها من التزويج على ما كان عليه أمر الجاهلية وقال مجاهد هو نهى لوليها أن يعضلها قال أبو بكر الأظهر هو التأويل تأويل ابن عباس لأن قوله تعالى( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) وما ذكر بعده يدل عليه لأن قوله( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) يريد به المهر حتى تفتدى كأنه يعضلها أو يسيء إليها لتفتدى منه ببعض مهرها وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال الحسن وأبو قلابة والسدى هو الزنا وإنه إنما تحل له الفدية إذا اطلع منها على ريبة وقال ابن عباس والضحاك وقتادة هي النشوز فإذا نشزت حل له أن يأخذ منها الفدية وقد بينا في سورة البقرة أمر الخلع وأحكامه

٤٦

وقوله تعالى( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب جرى مجرى ذلك نظير قوله تعالى( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) وقوله تعالى( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) يدل على أنه مندوب إلى إمساكها مع كراهته لها وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق معنى ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن خالد بن يزيد النيلي قال حدثنا مهلب بن العلاء قال حدثنا شعيب بن بيان عن عمران القطان عن قتادة عن أبى تميمة الهجيمي عن أبى موسى الأشعرى قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجوا ولا تطلقوا فإن الله لا يحب الذواقين والذوقات فهذا القول من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم موافق لما دلت عليه الآية من كراهة الطلاق والندب إلى الإمساك بالمعروف مع كراهته لها واخبر الله تعالى أن الخيرة ربما كانت لنا في الصبر على ما نكره بقوله تعالى( فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) وهو كقوله تعالى( وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ) وقوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) الآية قد اقتضت هذه الآية إيجاب المهر لها تمليكا صحيحا ومنع الزوج أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها وأخبر أن ذلك سالم لها سواء استبدل بها أو أمسكها وأنه محظور عليه أخذ شيء منه إلا بما أباح الله تعالى به أخذ مال الغير في قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وظاهره يقتضى حظر أخذ شيء منه بعد الخلوة فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلق بعد الخلوة لعموم اللفظ في حظر الأخذ في كل حال إلا ما خصه الدليل وقد خص قوله تعالى( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) إذا طلق قبل الخلوة في سقوط نصف المهر لأنه لا خلاف أن ذلك مراد إذا طلق قبل الخلوة وقد اختلف في الخلوة هل هي المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع واللفظ محتمل للأمرين لأن عليا وعمرو غيرهما من الصحابة قد تأولوه

٤٧

عليها وتأوله عبد الله بن مسعود على الجماع فلا يخص عموم قوله تعالى( فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) بالاحتمال وقوله تعالى( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) يدل على أن من وهب محله مراته هبة لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها وعموم اللفظ قد حظر أخذ شيء مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره ويحتج فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها أنه لا يرجع عليها بشيء من الصداق الذي أعطاها عينا كان أو عرضا ما قاله أبو حنيفة في ذلك ويحتج به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحال فإن قيل لما عقب ذلك قوله تعالى( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ) دل على أن المراد بأول الخطاب فيما أعطاها هو المهر دون غيره إذ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما سواه قيل له ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما انتظمه الاسم ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول وقد بينا نظائر ذلك في مواضع وهذه الآية أيضا تدل على أنه إذا دخل بها ثم وقعت الفرقة من قبلها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا يبطله وقوع الفرقة من قبلها وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال بالنهى عن أخذ شيء مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهم من يظن أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أولى بالمهر الذي أعطاها فنص على حظر الأخذ في هذه الحال ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح له أخذ شيء مما أعطاها في الحال التي يسقط حقه عن بعضها فهو أولى أن لا يأخذ منها شيئا مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أملك بها من نفسها وأكد الله تعالى حظر أخذ شيء مما أعطى بأن جعله ظلما كالبهتان وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه فشبه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتانا وإثما قوله عز وجل( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال أبو بكر ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول وقول الفراء حجة فيما يحكيه من اللغة فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة فقد منعت

٤٨

الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ ) قد أفاد الفرقة والطلاق والإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول ومن الناس من يقول إن الفضاء السعة وأفضى إذا صار المتسع مما يقصده وجائز على هذا الوضع أيضا أن تسمى الخلوة إفضاء لوصوله بها إلى مكان الوطء واتساع ذلك بالخلوة وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة فسميت الخلوة إفضاء لهذا المعنى فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شيء مما أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض وهو الوصول إلى مكان الوطء وبذلها ذلك له وتمكينها إياه من الوصول إليها فظاهر هذه الآية تمنع الزوج أخذ شيء مما أعطاها إذا كان النشوز من قبله لأن قوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) يدل على أن الزوج هو المريد للفرقة دونها ولذلك قال أصحابنا إن النشوز إذا كان من قبله يكره له أن يأخذ شيئا من مهرها وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله تعالى( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) فقيل عن ابن عباس إن الفاحشة هي النشوز وقال غيره هي الزنا ولقوله تعالى( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ومن الناس من يقول إنها منسوخة بقوله( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) وذلك غلط لأن قوله تعالى( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) قد أفاد حال كون النشوز من قبله وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ) إنما فيه ذكر حال أخرى غير الأولى وهي الحال التي يكون النشوز منها وافتدت فيها المرأة منه فهذه حال غير تلك وكل واحد من الحالين مخصوصة بحكم دون الأخرى وقوله تعالى( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدى هو قوله( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) قال قتادة وكان يقال للناكح في صدر الإسلام الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان وقال مجاهد كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج وقال غيره هو قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى والله أعلم بالصواب.

باب ما يحرم من النساء

قال الله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قال أبو بكر أخبرنا أبو عمر

«4 ـ أحكام لث»

٤٩

غلام ثعلب قال الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين تقول العرب أنكحنا الفرافسنرى هو مثل ضربوه للأمر يتشاورون فيه ويجتمعون عليه ثم ينظر عما ذا يصدرون فيه معناه جمعنا بين الحمار وأتانه* قال أبو بكر إذا كان اسم النكاح في حقيقة اللغة موضوعا للجمع بين الشيئين ثم وجدناهم قد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد كما قال الأعشى :

ومنكوحة غير ممهورة

وأخرى يقال له فادها

يعن المسبية الموطوأة بغير مهر ولا عقد وقال الآخر :

ومن أيم قد أنكحتها رماحنا

وأخرى على عم وخال تلهف

وهو يعنى المسبية أيضا ومنه قول الآخر أيضا :

فنكحن أبكارا وهن بأمة

أعجلنهن مظنة الأعذار

وهو يعنى الوطء أيضا ولا يمتنع أحد من إطلاق اسم النكاح على الوطء وقد تناول الاسم العقد أيضا قال الله تعالى( إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ ) والمراد به العقد دون الوطء وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا من نكاح ولست من سفاحلا فدل بذلك على معنيين أحدهما أن اسم النكاح يقع على العقد والثاني دلالته على أنه قد يتناول الوطء من غير عقد لولا ذلك لاكتفى بقوله أنا من نكاح إذ كان السفاح لا يتناول اسم النكاح بحال فدل قوله ولست من سفاح بعد تقديم ذكر النكاح أن النكاح يتناول له الأمرين فبينصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من العقد الحلال لا من النكاح الذي هو سفاح ولما ثبت بما ذكرنا أن الاسم ينتظم الأمرين جميعا من العقد والوطء وثبت بما ذكرنا من حكم هذا الاسم في حقيقة اللغة وأنه اسم للجمع بين الشيئين والجمع إنما يكون بالوطء دون العقد إذ العقد لا يقع به جمع لأنه قول منهما جميعا لا يقتضى جمعا في الحقيقة ثبت أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز للعقد وأن العقد إنما سمى نكاحا لأنه سبب يتوصل به إلى الوطء تسمية الشيء باسم غيره إذا كان منه بسبب أو مجاورا له مثل الشعر الذي يولد الصبى وهو على رأسه يسمى عقيقة ثم سميت الشاة التي تذبح عنه عند حلق ذلك الشعر عقيقة وكالرواية التي هي اسم للجمل الذي يحمل المزادة ثم سميت المزادة راوية لاتصالها به وقربها منه وقال أبو النجم :

٥٠

تمشى من(1) الردة مشى الحفل

مشى الروايا بالمزاد الأثقل

ونحوه الغائط هو اسم للمكان المطمئن من الأرض ويسمى به ما يخرج من الإنسان مجازا أنهم كانوا يقصدون الغائط لقضاء الحاجة ونظائر ذلك كثيرة فكذلك النكاح اسم للوطء حقيقة على مقتضى موضوعه في أصل اللغة ويسمى العقد باسمه مجازا لأنه يتوصل به إليه وهو سببه ويدل على أنه سمى باسم العقد مجازا أن سائر العقود من البياعات والهبات لا يسمى منها شيء نكاح وإن كان قد يتوصل به إلى استباحة وطء الجارية إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطء لأن هذه العقود تصح فيمن يحظر عليه وطؤها كأخته من الرضاعة ومن النسب وأم امرأته ونحوها وسمى العقد المختص باباحة الوطء نكاحا لأن من لا يحل له وطؤها لا يصح نكاحها فثبت بذلك أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز في العقد فوجب إذا كان هذا على ما وصفنا أن يحمل قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) على الوطء فاقتضى ذلك تحريم من وطئها أبوه من النساء عليه لأنه لما ثبت أن النكاح اسم للوطء لم يختص ذلك بالمباح منه دون المحظور كالضرب والقتل والوطء نفسه لا يختص عند الإطلاق بالمباح منه دون المحظور بل هو على الأمرين حتى تقوم الدلالة على تخصيصه وكان أبو الحسن يقول إن قوله تعالى( ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) مراده الوطء دون العقد من حيث اللفظ حقيقة فيه ولم يرد به العقد لاستحالة كون لفظ واحد مجازا حقيقة في حال واحدة وإنما أوجبنا التحريم بالعقد بغير الآية* وقد اختلف أهل العلم في إيجاب تحريم الأم والبنت بوطء الزنا فروى سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته حرمت عليه امرأته وهو قول الحسن وقتادة وكذلك قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله ومجاهد وعطاء وإبراهيم وعامر وحماد وأبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعى ولم يفرقوا بين وطء الأم قبل التزوج أو بعده في إيجاب تحريم البنت وروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزنى بأم امرأته بعد ما يدخل بها قال تخطى حرمتين ولم تحرم عليه امرأته وروى عنه أنه قال لا يحرم الحرام الحلال وذكر الأوزاعى عن عطاء أنه كان

__________________

(1) قوله الردة بكسر الراء وتشديد الدال ورم يصيب الناقة في أخلاقها والحفل جمع حافل وهي الناقة الممتلئ ضرعها لبنا.

٥١

يتأول قول ابن عباس لا يحرم حرام حلالا على الرجل يزنى بالمرأة ولا يحرمها عليه زناه وهذا يدل على أن قول ابن عباس الذي رواه عكرمة في أن الزنا بالأم لا يحرم البنت لم يكن عند عطاء كذلك لأنه لو كان ثابتا عنده لما احتاج إلى تأويل قوله لا يحرم الحرام الحلال وقال الزهري وربيعة ومالك والليث والشافعى لا تحرم أمها ولا بنتها بالزنا وقال عثمان البتي في الرجل يزنى بأم امرأته قال حرام لا يحرم حلالا ولكنه إن زنى بالأم قبل أن يتزوج البنت أو زنى بالبنت قبل أن يتزوج الأم فقد حرمت ففرق بين الزنا بعد التزويج وقبله* واختلف الفقهاء أيضا في الرجل يلوط بالرجل هل تحرم عليه أمه وابنته فقال أصحابنا لا تحرم عليه وقال عبد الله بن الحسين هو مثل وطء المرأة بزنا في تحريم الأم والبنت وقال من حرم بهذا من النساء حرم من الرجال* وروى إبراهيم بن إسحاق قال سألت سفيان الثوري عن الرجل يلعب بالغلام أيتزوج أمه قال لا وقال كان الحسن بن صالح يكره أن يتزوج الرجل بامرأة قد لعب بابنها وقال الأوزاعى في غلامين يلوط أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال لا يتزوجها الفاعل* قال أبو بكر قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قد أوجب تحريم نكاح امرأة قد وطئها أبوه بزنا أو غيره إذ كان الاسم يتناوله حقيقة فوجب حمله عليها وإذا ثبت ذلك في وطء الأب ثبت مثله في وطء أم المرأة أو ابنتها في إيجاب تحريم المرأة لأن أحدا لم يفرق بينها ويدل على ذلك قوله تعالى( وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) والدخول بها اسم للوطء وهو عام في جميع ضروب الوطء من مباح أو محظور ونكاح أو سفاح فوجب تحريم البنت بوطء كان منه قبل تزويج الأم لقوله تعالى( اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) ويدل على أن الدخول بها اسم للوطء وأنه مراد بالآية وأن اسم الدخول لا يختص بوطء نكاح دون غيره أنه لو وطئ الأم بملك اليمين حرمت عليه البنت تحريما مؤبدا بحكم الآية وكذلك لو وطئها بنكاح فاسد فثبت أن الدخول لما كان اسما للوطء لم يختص فيما علق به من الحكم بوطء بنكاح دون ما سواه من سائر ضروب الوطء ويدل عليه من جهة النظر أن الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت ولو وطئها حرمت فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم

٥٢

فكيفما وجد ينبغي أن يحرم مباحا كان الوطء أو محظورا لوجود الوطء لأن التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا فلما اشتركا في هذا المعنى وجب أن يقع به تحريم وأيضا لا خلاف أن الوطء بشبهة وبملك اليمين يحرمان مع عدم النكاح وهذا يدل على أن الوطء يوجب التحريم على أى وجه وقع فوجب أن يكون وطء الزنا محرما لوجود الوطء الصحيح* فإن قيل إن الوطء بملك اليمين وبشبهة إنما تعلق بهما التحريم لما يتعلق بهما من* ثبوت النسب والزنا لا يثبت به النسب فلا يتعلق به حكم التحريم* قيل له ليس لثبوت النسب تأثير في ذلك لأن الصغير الذي لا يجامع مثله لو جامع امرأته حرمت عليه أمها وبنتها ولم يتعلق بوطئه ثبوت النسب ومن عقد على امرأة نكاحا تعلق بعقد النكاح ثبوت النسب قبل الوطء حتى لو جاءت بولد قبل الدخول وبعد العقد بستة أشهر لزمه ولم يتعلق بالعقد تحريم البنت فإذ كنا وجدنا الوطء مع عدم ثبوت النسب به يوجب التحريم والعقد مع تعلق ثبوت النسب به لا يوجب التحريم علمنا أنه لاحظ لثبوت النسب في ذلك وإن الذي يجب اعتباره هو الوطء لا غير وأيضا لا خلاف بيننا وبينهم أنه لو لمس أمته لشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وليس للمس حظ في ثبوت النسب فدل على أن حكم التحريم ليس بموقوف على النسب وأنه جائز ثبوته مع ثبوت النسب وجائز ثبوته أيضا مع عدم ثبوت النسب* ويدل على صحة قول أصحابنا أنا وجدنا الله تعالى قد غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة وبإيجاب الجلد أخرى وأوعد عليه بالنار ومنع إلحاق النسب به وذلك كله تغليط لحكمه فوجب أن يكون بإيجاب التحريم أولى إذ كان إيجاب التحريم ضربا من التغليظ ألا ترى أن الله تعالى لما حكم ببطلان حج من جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة كان الزاني أولى ببطلان الحج لأن بطلان الحج تغليظ لتحريم الجماع فيه كذلك لما حكم الله بإيجاب تحريم الأم والبنت بالوطء الحلال وجب أن يكون الزنا أولى بإيجاب التحريم تغليظا لحكمه* وقد زعم الشافعى أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ كان قاتل العمد أولى إذ كان حكم العمد أغلظ من حكم الخطأ ألا ترى أن الوطء لم يختلف حكمه أن يكون بزنا أو غيره فيما تعلق به من فساد الحج والصوم ووجوب الغسل فكذلك ينبغي أن يستويا في حكم التحريم* فإن قيل الوطء المباح يتعلق به حكم* في إيجاب المهر ولا يتعلق ذلك بالزنا* قيل له قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد

٥٣

ما هو أغلظ من إيجاب المال وعلى أن المال والحد يتعاقبان على الوطء لأنه متى وجب الحد لم يجب المهر ومتى وجب المهر لم يجب الحد فكل واحد منهما يخلف الآخر فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم فلا فرق بينهما من هذا الوجه فإن احتج محتج بما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن الليث الجزري قال حدثنا إسحاق بن بهلول قال حدثنا عبد الله بن نافع المدني قال حدثنا المغيرة بن إسماعيل بن أيوب ابن سلمة الزهري عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح أمها أو يتبع الأم حراما أينكح ابنتها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح وبما رواه إسحاق بن محمد الفروى عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يحرم الحرام الحلال وروى عمر بن حفص عن عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفسد الحرام الحلال * فإن هذه الأخبار باطلة عند أهل المعرفة ورواتها غير مرضيين أما المغيرة بن إسماعيل فمجهول لا يعرف لا يجوز ثبوت شريعة بروايته لا سيما في اعتراضه على ظاهر القرآن وإسحاق بن محمد الفروى مطعون في روايته وكذلك عمر بن حفص ولو ثبت لم يدل على قول المخالف لأن الحديث الأول إنما ذكر فيه الرجل ويتبع المرأة وليس فيه ذكر الوطء فكان قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحرم إلا ما كان بنكاح جوابا عما سأله من اتباع المرأة وذلك إنما يكون بأن يتبعها نفسه فيكون منه نظرا إليها مراودتها على الوطء وليس فيه إثبات الوطء فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مثل ذلك لا يوجب تحريما وأنه لا يقع بمثله التحريم إلا أن يكون بينهما عقد نكاح وليس فيه للوطء ذكر وقوله لا يحرم الحرام الحلال إنما هو فيما سئل عنه من اتباع المرأة من غير وطء وأما حديث ابن عمر وقوله لا يحرم الحرام الحلال فجائز أن يكون في هذه القصة بعينها إن صحت فكان جوابا لما سئل عنه من النظر والمراودة من غير جماع وتكون فائدته إزالة توهم من يظن أن النظر بانفراده يحرم لما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال زنا العينين النظر وزنا الرجلين المشي فكان جائز أن يظن ظان أن النظر بانفراده يحرم كما يحرمالوطء لتسمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه زنا فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك لا يحرم وإن التحريم إذا لم تكن ملامسة إنما يتعلق بالعقد وإن لم يكن مسيس وإذا

٥٤

احتمل هذا الخبر ما وصفنا زال الاعتراض به وعلى أنهم متفقون أن التحريم غير مقصور على النكاح ولا على الوطء المباح لأنه لا خلاف أن من وطئ أمته حائضا أن هذا وطء حرام في غير نكاح وأنه يوجب التحريم فبطل أن يكون حكم التحريم مقصورا على النكاح ولا على وطء مباح وكذلك لو وطئ جارية بينه وبين غيره أو جاريته وهي مجوسية كان واطئا وطأ حراما في غير نكاح موجب للتحريم وهذا يدل على أن الحديث إن ثبت فليس بعموم في نفى إيجاب التحريم بوطء حرام وأيضا قد حرم الله تعالى امرأة المظاهر عليه بالظهار وقد سماه منكرا من القول وزورا ولم يكن هذا القول محرما مانعا من وقوع تحريم الوطء به وأيضا فإن قوله الحرام لا يحرم الحلال لا يصح الاحتجاج به لوروده مطلقا من وجه صحيح غير متعلق بسبب من وجهين أحدهما أن الحرام والحلال إنما هو حكم الله تعالى بالتحريم والتحليل وقد علمنا حقيقة أن حكم الله تعالى بالتحريم في شيء وبالتحليل في غيره ليس يتعلق به حكم آخر في إيجاب تحريم أو تحليل إلا بدلالة فهذا اللفظ إذا حمل على حقيقته لم يكن له تعلق بمسئلتنا لأنا كذلك نقول أن حكم الله تعالى بالتحريم لا يوجب تحريم مباح بنفس ورود الحكم إلا أن يقوم الدليل على إيجاب تحريم غيره من حيث حرم هو وفائدته حينئذ أن ما قد حكم الله تعالى بتحليله نصا فهو مقر على ما حكم به من تحليله وإذا حكم بتحريم شيء آخر لم يجز الاعتراض على المحكوم بتحليله بديا بتحريم غيره من طريق القياس فمنع تحريم المباح بالقياس ودل ذلك على بطلان قول من يجيز النسخ بالقياس هذا الذي تقتضيه حقيقة اللفظ إن صح فهذا أحد الوجهين اللذين ذكرنا والوجه الآخر أن يكون المراد بقوله الحرام لا يحرم الحلال أن فعل الحرام لا يحرم الحلال فإن كان هذا أراد فلا محالة أن في اللفظ ضميرا يجب اعتباره دون اعتبار حقيقة معنى اللفظ فلا يصح له الاحتجاج به من وجهين أحدهما أن الضمير ليس بمذكور يعتبر عمومه فيسقط الاحتجاج بعمومه إذ الضمير ليس بمذكور حتى يكون لفظ عموم فيما تحته من المسميات فلا يصح لأحد الاحتجاج بعموم ضمير غير مذكور والوجه الآخر أنه لا يصح اعتبار العموم فيه من قبل أن لا يصح اعتقاد العموم في مثله لاتفاق المسلمين على إيجاب تحريم الحرام الحلال وهو الوطء بنكاح فاسد ووطء الأمة الحائض والطلاق الثلاث في الحيض والظهار والخمر إذا

٥٥

خالطت الماء والردة تبطل النكاح وتحرمها على الزوج وغير ذلك من الأفعال المحرمة للحلال فقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرام لا يحرم الحلال لو ورد بلفظ عموم لما صح اعتقاد العموم فيه وكان مفهوما مع وروده أنه أراد بعض الأفعال المحرمة لا يحرم الحلال فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه كسائر الألفاظ المجملة وأيضا لو نص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ادعيت من ضميره فقال إن فعل الحرام لا يحرم الحلال لما دل على ما ذكرت لأنا كذلك نقول إن فعل الحرام لا يحرم الحلال فيكون ذلك محمولا على حقيقة ولا دلالة فيه أن الله لا يحرم الحلال عند وقوع فعل حرام* فإن قيل معناه أن الله لا يحرم الحلال بفعل الحرام* قيل له فإذا قوله الحرام لا يحرم الحلال إذا كان المراد به ما ذكرت مجاز ليس بحقيقة فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه إذ لا يجوز استعمال المجاز إلا عند قيام الدلالة عليه.

وذكر الشافعى أن مناظرة جرت بينه وبين بعض الناس فيها أعجوبة لمن تأملها قال الشافعى قال لي قائل لم قلت إن الحرام لا يحرم الحلال قلت قال الله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وقال( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) وقال( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـاللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) أفلست تجد التنزيل إنما يحرم ما سمى بالنكاح أو الدخول والنكاح قال بلى قال قلت أفيجوز أن يكون الله حرم بالحلال شيئا وحرمه بالحرام والحرام ضد الحلال والنكاح مندوب إليه مأمور به وحرم الزنا فقال( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) قال أبو بكر تلا الشافعى آية التحريم بالنكاح والدخول وآية تحريم الزنا وهذان الحكمان غير مختلف فيهما أعنى إباحة النكاح والدخول وتحريم الزنا وليس في ذلك دلالة على موضع الخلاف في المسألة لأن إباحة النكاح والدخول وإيجاب التحريم بهما ليس فيه أن التحريم لا يقع بغيرهما كما لم ينف إيجاب التحريم بالوطء بملك اليمين وتحريم الله تعالى للزنا لا يفيد أن التحريم لا يقع إلا به فإذا ليس في ظاهر تلاوة الآيتين نفى لتحريم النكاح بوطء الزنا لأن الآية الزنا إنما فيها تحريم الزنا وليس تحريم الزنا عبارة عن نفى إيجابه لتحريم النكاح ولا في إيجاب التحريم بالنكاح والدخول نفى لإيجابه بغيرهما فإذا لا دلالة فيما تلاه من الآيتين على موضع الخلاف ولا جوابا للسائل الذي سأله عن الدلالة على صحة قوله* ثم قال الحرام ضد الحلال فلما قال له السائل فرق بينهما قال قلت قد فرق الله بينهما لأن الله ندب إلى النكاح وحرم الزنا

٥٦

فجعل فرق الله بينهما في التحليل والتحريم دليلا على السائل والسائل لم يشكل عليه إباحة النكاح وتحريم الزنا وإنما سأله عن وجه الدلالة من الآية على ما ذكر فلم يبين وجهها واشتغل بأن هذا محرم وهذا حلال فإن كان هذا السائل من عمى القلب بالمحل الذي لم يعرف بين النكاح وبين الزنا فرقا من وجه من الوجوه فمثله لا يستحق الجواب لأنه مؤوف العقل إذ العاقل لا ينزل نفسه بهذه المنزلة من التجاهل وإن كان قد عرف الفرق بينهما من جهة أن أحدهما محظور والآخر مباح وإنما سأله أن يفرق بينهما في امتناع جواز اجتماعهما في إيجاب تحريم النكاح فإن الشافعى لم يجبه عن ذلك ولم يزده على تلاوة الآيتين في الإباحة والحظر وإن الحلال ضد الحرام إذ ليس في كون الحلال ضد الحرام ما يمنع اجتماعهما في إيجاب التحريم ألا ترى أن الوطء بالنكاح الفاسد هو حرام ووطء الحائض حرام بنص التنزيل واتفاق المسلمين وهو ضد الوطء الحلال وهما متساويان في إيجاب التحريم والطلاق في الحيض محظور وفي الطهر قبل الجماع مباح وهما متساويان فيما يتعلق بهما من إيجاب التحريم فإن كان عند الشافعى أن القياس ممتنع في الضدين فواجب أن لا يجتمعا أبدا في حكم واحد ومعلوم أن في الشريعة اجتماع الضدين في حكم واحد وإن كونهما ضدين لا يمنع اجتماعهما في أحكام كثيرة ألا ترى أن ورود النص جائز بمثله وما جاز ورود النص به ساغ فيه القياس عند قيام الدلالة عليه فإذا لم يكن ممتنعا في العقل ولا في الشرع اجتماع الضدين في حكم واحد فقوله إن الحلال ضد الحرام ليس بموجب للفرق بينهما من حيث سأله السائل ويدل على أن ذلك غير ممتنع أن الله تعالى قد نهى المصلى عن المشي في الصلاة وعن الاضطجاع فيها من غير ضرورة والمشي والاضطجاع ضدان وقد اجتمعا في النهى ولا يحتاج في ذلك إلى الإكثار إذ ليس يمتنع أحد من أجازته فلم يحصل من قول الشافعى أنهما ضدان معنى يوجب الفرق بينهما ثم حكى عن السائل أنه قال أجد جماعا وجماعا فأقيس أحدهما بالآخر قال قلت وجدت جماعا حلالا حمدت به ووجدت جماعا حراما رجمت به أفرأيته يشبهه قال ما يشبهه فهل توضحه بأكثر من هذا قال أبو بكر فقد سلم له السائل أنه ما يشبهه فإن كان مراده أنه لا يشبهه من حيث افترقا فهذا ما لا ينازع فيه وإن كان أراد لا يشبهه من حيث رام الجمع بينهما من جهة إيجاب التحريم فإنه لم يأت بدليل ينفى الشبه بينهما من هذه الجهة وليس في الدنيا

٥٧

قياس إلا وهو تشبيه للشيء بغيره من بعض الوجوه دون جميعها فإن كان افتراق الشيئين من وجه يوجب الفرق بينهما من سائر الوجوه فإن في ذلك إبطال القياس أصلا إذ ليس يجوز وجود القياس فيما اشتبها فيه من سائر الوجوه فقد بان أن ما قاله الشافعى وما سلمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه ثم قال له السائل هل توضحه بأكثر من هذا قال نعم أفتجعل الحلال الذي هو نعمة قياسا على الحرام الذي هو نقمة وهذا هو تكرار للمعنى الأول بزيادة النعمة والنقمة والسؤال قائم عليه لم يجب بما تقتضيه مطالبة السائل ببيان وجه الدلالة في منع هذا القياس وهو قد جعل هذا الحرام الذي هو نقمة وهو وطء الحائض والجارية المجوسية والوطء بالنكاح الفاسد الحلال الذي هو نعمة في إيجاب التحريم فانتقض ما ذكره وادعاه من غير دلالة أقامها عليه وحكى عن السائل أنه قال إن صاحبنا قال يوجدكم أن الحرام يحرم الحلال قال قلت له أفيما اختلفنا فيه من النساء قال لا ولكن في غيره من الصلاة والمشروب والنساء قياس عليه قال قلت أفتجيز لغيرك أن يجعل الصلاة قياسا على النساء قال أما في شيء فلا قال أبو بكر فمنع الشافعى بهذا أن يقيس تحريم الحرام والحلال من غير النساء على النساء مع إطلاقه القول بديا أنه إنما لم يجز قياس الزنا على الوطء المباح لأنه حرام وهو ضد الحلال والحلال نعمة والحرام نقمة من غير تقييد لذلك بأن هذه القضية في منع القياس مقصورة على النساء دون غيرهن وإطلاقه الاعتلال بالفرق الذي ذكر يلزمه إجراؤه في سائر ما وجد فيه فإذا لم يفعل ذلك فقد ناقض ثم يقال له فإذا جاز تحريم الحرام الحلال في غير النساء هلا جاز مثله في النساء مع كون أحدهما ضد الآخر وكون أحدهما نعمة والآخر نقمة كما كان الوطء بملك اليمين مثل الوطء بالنكاح في إيجاب التحريم مع كون ملك اليمين ضد للنكاح ألا ترى أن ملك اليمين والنكاح لا يجتمعان لرجل واحد وحكى عن السائل أنه قال له إن الصلاة حلال والكلام فيها حرام فإذا تكلم فيها فسدت عليه صلاته فقد أفسد الحلال بالحرام قال قلت له زعمت أن الصلاة فاسدة الصلاة لا تكون فاسدة ولكن الفاسد فعله لا هي ولكن لا تجزى عنك الصلاة لأنك لم تأت بها كما أمرت قال أبو بكر ما ظننت أن أحدا ممن ينتدب لمناظرة خصم يبلغ به الإفلاس من الحجاج إلى أن يلجأ إلى مثل هذا مع سخافة عقل السائل وغباوته وذلك لأن أحدا لا يمتنع من إطلاق القول

٥٨

بفساد صلاته إذا فعل فيها ما يوجب بطلانها كما لا يمتنع من إطلاق القول بفساد النكاح إذا وجد فيه ما يبطله فإن كان الذي أوجب الفرق بينهما أنه لا يطلق اسم الفساد على الصلاة مع بطلانها مع إطلاق الناس كلهم ذلك فيها فإنه لا يعوز خصمه أن يقول مثل ذلك في النكاح أنى لا أقول أن نكاحه يفسد والنكاح لا يكون فاسدا وإنما فعله وهو الزنا هو الفاسد فأما النكاح فلم يفسد ولكن المرأة بانت منه وخرجت من حباله فهما سواء من هذا الوجه ثم يقال له أحسب أنا قد سلمنا لك ما ادعيت من امتناع اسم الفساد على الصلاة التي قد بطلت أليس السؤال قائما عليك في المعنى إذا سلمنا لك الاسم وهو أن يقال لك ما أنكرت أنه لما جاز خروج المتكلم من الصلاة ولم تجز عنه لأجل الكلام المحظور وجب أن يكون كذلك حكم المرأة فلا يبقى نكاحها بعد وطء أمها بزنا كما لم تبق الصلاة بعد الكلام فتبين منه امرأته وتخرج من حباله كما خرج من الصلاة ويلزم الشافعى على هذا أن لا يطلق في شيء من البيوع أنه فاسد وكذلك سائر العقود وإنما يقال فيها أنها غير مجزية ولا موجبة للملك وهذا إنما هو منع للعبارة وإنما الكلام على المعاني لا على العبارات والأسامى* وذكر الشافعى عن سائله أنه قال إن صاحبنا قال الماء حلال والخمر حرام فإذا صب الماء في الخمر حرم الماء قال قلت له أرأيت إن صببت الماء في الخمر أما يكون الماء الحلال مستهلكا في الحرام قال بلى قلت أتجد المرأة محرمة على كل أحد كما تجد الخمر محرمة على كل أحد قال لا قلت أتجد المرأة وبنتها مختلطتين كاختلاط الماء والخمر قال لا قلت أفتجد القليل من الخمر إذا صب في كثير الماء نجس قال لا قلت أفتجد قليل الزنا والقبلة واللمس للشهوة لا يحرم ويحرم كثيره قال لا قال فلا يشبه أمر النساء الخمر والماء* قال أبو بكر وهذا أيضا من طريق الفروق والذي ذكر في تحريم الخمر للماء يحكى عن الشافعى أنه احتج به على يحيى بن معين حين قال الحرام لا يحرم الحلال وهو إلزام صحيح على من ينفى التحريم لهذه العلة لوجودها فيه إذ لم تكن العلة في منع تحريم الحرام الحلال أنهما غير مختلطين وإن قيل الزنا يحرم وإنما كانت علته أن الحرام ضد الحلال وإن الحلال نعمة والحرام نقمة ولم نره احتج بغيره في جميع ما ناظر به السائل والفروق التي ذكرها إنما هي فروق من وجوه أخر تزيد علته انتقاضا لوجودها مع عدم الحكم وعلى أنه إن كان التحريم مقصورا على الاختلاط وتعذر تمييز المحظور من المباح فينبغي أن

٥٩

لا يحرم الوطء المباح لعدم الاختلاط وكذلك الوطء بالنكاح الفاسد وسائر ضروب الوطء الذي علق به التحريم إذ كانت المرأة متميزة عن أمها فهما غير مختلطتين فإذا جاز أن يقع التحريم بهذه الوجوه مع عدم الاختلاط فما أنكر مثله في الزنا وقد بينا في صدر المسألة دلالة قوله تعالى( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وقوله تعالى( اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) على وقوع التحريم بالزنا فلم يحصل من كلام الشافعى دلالة في هذه المسألة ولا شبهة على ما سئل عنه* ثم حكى الشافعى عن سائله هذا لما فرق له بين الماء والخمر وبين النساء بما ذكر أنه لا يشبهه أمر النساء الخمر والماء قال الشافعى فقلت له وكيف قبلت هذا منه فقال ما بين لنا أحد بيانك لنا ولو علم صاحبنا به لظننت أنه لا يقيم على قوله ولكن غفل وضعف عن كلامه* قال فرجع عن قولهم وقال الحق عندي في قولكم ولم يصنع صاحبنا شيئا ولا ندري من كان هذا السائل ولا من صاحبهم الذي قال لو علم صاحبنا بهذه الفروق لظن أنه لا يقيم على قوله وقد بان عمى قلب هذا السائل بتسليمه للشافعي جميع ما ادعاه من غير مطالبة له بوجه الدلالة على المسألة فيما ذكر وجائز أن يكون رجلا عاميا لم يرتض بشيء من الفقه إلا أنه قد انتظم بذلك شيئين أحدهما الجهل والغباوة بما وقفنا عليه من مناظرته وتسليمه ما لا يجوز تسليمه ومطالبته للمسئول بالفروق التي لا توجب فرقا في معاني العلل والمقايسات ثم انتقاله بمثل ذلك إلى مذهبه على ما زعم وتركه لقول أصحابه والآخر قلة العقل وذلك أنه ظن أن صاحبه لو سمع بمثل ذلك رجع عن قوله فقضى بالظن على غيره فيما لا يعلم حقيقته* وسرور الشافعى بمناظرة مثله وانتقاله إلى مذهبه يدل على أنهما كانا متقاربين في المناظرة وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدئ والمغفل العامي لما أثبت مناظرته إياه في كتابه ولو كلم بذلك المبتدؤن من أحداث أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذا الحجاج وضعف السائل والمسئول فيه* وقد ذكر الشافعى أنه قال لمناظره جعلت الفرقة إلى المرأة بتقبيلها ابن زوجها والله لم يجعل الفرقة إليها قال فقال فأنت تزعم أنها تحرم على زوجها إذا ارتدت قال قلت وأقول إن رجعت وهي في العدة فهما على النكاح أفتزعم أنت في التي تقبل ابن زوجها مثله قال لا* قال أبو بكر فأنكر على خصمه وقوع التحريم من قبل المرأة ثم قال هو بها وجعل إليها الرجعة كما جعل إليها التحريم ثم قال الشافعى فأقول إن مضت العدة فرجعت إلى الإسلام كان لزوجها أن

٦٠