أحكام القرآن الجزء ٤

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 412

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 412
المشاهدات: 62101
تحميل: 5599


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 412 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62101 / تحميل: 5599
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

من انتحل النصرانية أو اليهودية كان حكمه حكمهم وإن لم يكن متمسكا بجميع شرائعهم ولقوله تعالى( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومن قاتل معه أهل الردة وقال السدى هي في الأنصار وقال مجاهد في أهل اليمن وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعرى قال لما نزلت( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) أومأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء معه إلى أبى موسى فقال هم قوم هذا وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولى الله ولم يقاتل المرتدين بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم غير هؤلاء المذكورين وأتباعهم ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة لأن الله تعالى لم يأت بقوم يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبى بكر ونظير ذلك أيضا في دلالته على صحة إمامة أبى بكر قوله تعالى( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً ) لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردة وأخبر تعالى بوجوب طاعته عليهم بقوله( فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) فإن قال قائل يجوز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي دعاهم قيل له قال الله تعالى( فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا فإن قال قائل جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم قيل له إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبى بكر لأنه هو المستخلف له* فإن قيل جائز أن يكون على هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب قيل له قال الله تعالى( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) وعلى رضى الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يسلموا أو يعطوا الجزية ولم يحارب أحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم على أن يسلموا غير أبى بكر فكانت الآية دالة على صحة إمامته.

١٠١

باب العمل اليسير في الصلاة

قال الله تعالى( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) روى عن مجاهد والسدى وأبى جعفر وعتبة بن أبى حكيم أنها نزلت في على بن أبى طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع وروى الحسن أنه قال هذه الآية صفة جميع المسلمين لأن قوله تعالى( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) صفة للجماعة وليست للواحد* وقد اختلف في معنى قوله( وَهُمْ راكِعُونَ ) فقيل فيه أنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة وقال آخرون معنى( وَهُمْ راكِعُونَ ) أن ذلك من شأنهم وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له وقال آخرون معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أى يتنفل فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبار في إباحة العمل اليسير فيها فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه ومنها أنه كان يصلى وهو حامل أمامة بنت أبى العاص بن الربيع فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره الذين يتصدقون في حال الركوع فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال وإن كان المراد وهم يصلون فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة فإن قال قائل فالمراد أنهم يتصدقون ويصلون ولم يرد به فعل الصدقة في الصلاة قيل له هذا تأويل ساقط من قبل أن قوله تعالى( وَهُمْ راكِعُونَ ) إخبار عن الحال التي تقع فيها الصدقة كقوله تكلم فلان وهو قائم وأعطى فلانا وهو قاعد إنما هو إخبار عن حال الفعل أيضا لو كان المراد ما ذكرت كان تكرارا لما تقدم ذكره في أول الخطاب قوله تعالى( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) ويكون تقديره الذين يقيمون الصلاة ويصلون وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة وقوله تعالى( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة لأن عليا تصدق بخاتمه تطوعا وهو نظير قوله تعالى( وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ

١٠٢

وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) قد انتظم صدقة الفرض والنفل فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.

باب الأذان

قال الله تعالى( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ) قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها ونحوه قوله تعالى( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) وقد روى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ قال كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضا حتى نقسوا(1) أو كادوا أن ينقسوا فجاء عبد الله بن زيد الأنصارى وذكر الأذان فقال عمر قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود وذكر قصة عبد الله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنونا قبل الهجرة وأنه إنما سن بعدها وقد روى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمدانى قال سألت محمد بن على عن الأذان كيف كان أوله وما كان فقال شأن الأذان أعظم من ذلك ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسرى به جمع النبيون ثم نزل ملك من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذن كأذانكم وأقام كإقامتكم ثم صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنبيين قال أبو بكر ليلة أسرى به كان بمكة وقد صلى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة ولو كانت تبدئه الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا والأذان مسنون لكل صلاة مفروضة منفردا كان المصلى أو في جماعة إلا أن أصحابنا قالوا جائز للمقيم المنفرد أن يصلى بغير أذان لأن أذان الناس دعاء له فيكتفى به والمسافر يؤذن ويقيم وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه ويكره له أن يصلى بغير أذان ولا إقامة لأنه لم يكن هناك أذان ويكون دعاء له وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال من صلى في أرض بأذان وإقامة صلّى خلفه صف من الملائكة لا يرى طرفاه وهذا يدل على أن من سنة صلاة المنفرد الأذان وقال في خبر آخر إذا سفرتما فأذنا وأقيما وقد ذكرنا صفة الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________________

(1) قوله نفسوا ماض من النفس بفتح النون وسكون القاف ومعناه الضرب بالناقوس.

١٠٣

آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ) فيه نهى عن الاستنصار بالمشركين لأن الأولياء هم الأنصار وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا نحن نخرج معك فقال إنا لا نستعين بمشرك وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم المشركين وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو مسلم حدثنا حجاج حدثنا حماد عن محمد بن اسحق عن الزهري أن أناسا من اليهود غزوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقسم لهم كما قسم للمسلمين وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلّم ليقاتل معه فقال ارجع ثم اتفقا فقال إنا لا نستعين بمشرك وقال أصحابنا لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم ومستفيض في أخبار أهل السير ونقله المغازي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين وأما وجه الحديث الذي قال فيه إنا لا نستعين بمشرك فيحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يثق بالرجل وظن أنه عين للمشركين فرده وقال إنا لا نستعين بمشرك يعنى به من كان في مثل حاله قوله تعالى( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ) قيل فيه إن معناه هلا وهي تدخل للماضي والمستقبل فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر كقوله لم لا تفعل وهي هاهنا للمستقبل يقول هلا ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت للماضي فهو للتوبيخ كقوله تعالى( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) و( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) وقيل في الرباني إنه العالم بدين الرب فنسب إلى الرب كقولهم روحانى في النسبة إلى الروح وبحرانى في النسبة إلى البحر وقال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره هو كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال الرباني العالم العامل وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهى عنه والاجتهاد في إزالته لذمه من ترك ذلك قوله تعالى( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) وروى عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم

١٠٤

وصفوه بالبخل وقالوا هو مقبوض العطاء كقوله تعالى( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) وقال الحسن* قالوا هي مقبوضة عن عقابنا واليد في اللغة تنصرف على وجوه منها الجارحة وهي معروفة ومنها النعمة تقول لفلان عندي يد أشكره عليها أى نعمة ومنها القوة فقوله أولى الأيدى فسروه بأولى القوى ونحوه قول الشاعر :

تحملت من ذلفاء ما ليس لي به

ولا للجبال الراسيات يدان

ومنها الملك ومنه قوله( الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) يعنى يملكها ومنها الاختصاص بالفعل كقوله تعالى( خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) أى توليت خلقه ومنها التصرف كقوله هذه الدار في يد فلان يعنى التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك وقيل أنه قال تعالى( بَلْ يَداهُ ) على وجه التثنية لأنه أراد نعمتين أحدهما نعمة الدنيا والأخرى نعمة الدين والثاني قوتان بالثواب والعقاب على خلاف قول اليهود لأنه لا يقدر على عقابنا* وقيل إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك لبيك وسعديك وقيل في قوله تعالى( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) يعنى في جهنم روى عن الحسن قوله تعالى( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) فيه أخبار بغلبة المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم وقد كان من حول المدينة منهم فئات تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم فكان مخبره على ما أخبر به فأجلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بنى قينقاع وبنى النضير وقتل بنى قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين وإنما ذكر النار هاهنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا برىء من كل مسلم مع مشرك قيل لم يا رسول الله قال لا تراءى ناراهما وإنما عنى بها نار الحرب يعنى أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان وقيل إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رؤس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى

١٠٥

الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب وقد قيل فيه وجه آخر وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب وقال الأعشى :

وأوقدت للحرب نارا

قوله تعالى( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) فيه أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتبليغ الناس جميعا وما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئا بقوله تعالى( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام واخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره بقوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية لأنه تعالى أمره بالتبليغ وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها لعموم البلوى بها فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث وقد دل قوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به لأنه لم يصل إليه أحد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية فأعلمه الله إياه فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتساله فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة ولو لم يكن ذلك من عند الله

١٠٦

لما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الأخبار بمثله وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدث والتخمين وتعاطى علم النجوم والزرق والفال ونحوها فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شيء منها علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون قوله تعالى( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل لأن إقامتها هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا لأن قوله تعالى( وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله فكان خطابا لهم وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى( لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ ) مقتضاه لستم على شيء من الدين الحق حتى تعلموا بما في التوراة والإنجيل والقرآن وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا صلّى الله عليه وسلّم لو لا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به* فإن قال قائل معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا صلّى الله عليه وسلّم فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقه وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين قيل له لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وأخبار ببقاء حكمها أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وموجبات أحكام العقول فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى

١٠٧

في أن المسيح إله لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء وقد قيل في معنى قوله( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) أنه كناية عن الحدث لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه وإن ذلك ينفى كونه إلها وقديما قوله تعالى( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) قال الحسن ومجاهد والسدى وقتادة لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير وقيل إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الأياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب وقيل إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي قوله تعالى( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى حدثنا يونس بن راشد عن على بن بذيمة عن أبى عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده * فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق إطرا ولتقصرنه على الحق قصرا وقال أبو داود وحدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء ابن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبى عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بنحوه زاد او ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم قال أبو بكر في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهى عن مجالسة المظهرين للمنكر وأنه لا يكتفى منهم بالنهى دون الهجران قوله تعالى( تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) روى عن الحسن وغيره أن الضمير في( مِنْهُمْ ) راجع إلى اليهود وقال آخرون هو راجع

١٠٨

إلى أهل الكتاب والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومحاربته قوله تعالى( وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ ) روى عن الحسن ومجاهد أنه من المنافقين من اليهود أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان وقيل إنه أراد بالنبي موسى عليه السّلام أنهم غير مؤمنين به إذ كانوا يتولون المشركين قوله تعالى( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ) الآية قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدى نزلت في النجاشيّ وأصحابه لما أسلموا وقال قتادة قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السّلام فلما جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم آمنوا به ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وأخبارا بأنهم خير من اليهود وليس كذلك وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من أخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه.

باب تحريم ما أحل الله عز وجل

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) والطيبات اسم يقع على ما يستلذ ويشتهى وبميل إليه القلب ويقع على الحال وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعا لوقوع الاسم عليهما فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين أحدهما أن يقول قد حرمت هذا الطعام على نفسي فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن أكل منه والثاني أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنى إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي فأنزل الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) الآية وروى سعيد عن قتادة قال كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم هموا بترك اللحم والنساء والاختصاء فأنزل الله عز وجل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) الآية فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال ليس في ديني ترك

١٠٩

النساء ولا اللحم ولا اتخاذ الصوامع وروى مسروق قال كنا عند عبد الله فأتى بضرع فتنحى رجل فقال عبد الله أدنه فكل فقال إنى كنت حرمت الضرع فتلا عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كل وكفر وقال الله تعالى( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ـ إلى قوله ـقَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) وروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم حرم مارية وروى أنه حرم العسل على نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفارة وكذلك قال أكثر أهل العلم فيمن حرم طعاما أو جارية على نفسه أنه إن أكل من الطعام حنث وكذلك إن وطئ الجارية لزمته كفارة يمين وفرق أصحابنا بين من قال والله لا آكل هذا الطعام وبين قوله حرمته على نفسي فقالوا في التحريم إن أكل الجزء منه حنث وفي اليمين لا يحنث إلا بأكل الجميع وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله والله لأكلت منه شيئا إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم إياه على نفسه بمنزلة قوله والله لأكلت منه شيئا إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى مثل قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه فكذلك تحريم الإنسان طعاما يقتضى إيجاب اليمين في أكل الجزء منه وأما اليمين بالله في نفى أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيمان المنتظمة للشروط والجواب كقول القائل إن أكلت هذا الطعام فعبدي حر فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفى أكل الجميع فإن قال قائل قال الله تعالى( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ) فروى أن إسرائيل أخذه عرق النسا فحرم أحب الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله فكان ذلك تحريما صحيحا حاظرا لما حرم على نفسه قيل له هو منسوخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلّم وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ) ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها وقد روى أبو موسى الأشعرى أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدجاج وروى أنه كان يأكل الرطب والبطيخ وروى غالب ابن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يأكل الدجاج حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت ابن عباس يقول كل ما شئت واكتس ما أخطأت اثنتين سرفا أو مخيلة وقد روى أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف والحسن بن على وعبد الله بن أبى أوفى وعمران بن حصين وأنس

١١٠

ابن مالك وأبا هريرة وشريحا كانوا يلبسون الخز* ويدل على نحو دلالة الآية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه( مَتاعٌ لَكُمْ ) ويحتج بقوله( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة.

باب الأيمان

قال الله تعالى( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) عقيب نهيه عن تحريم ما أحل الله قال ابن عباس لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية وأما اللغو فقد قيل فيه أنه ما لا يعتد به ومنه قول الشاعر :

أو مائة تجعل أولادها

لغوا وعرض المائة الجلد

يعنى نوقا لا تعتد بأولادها فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله عز وجل( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا حدثنا محمد بن بكار حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء وسئل عن اللغو في اليمين فقالت عائشة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت لغو اليمين لا والله وبلى والله موقوفا عليها وروى عكرمة عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر يراه كذلك وليس كذلك وروى عن ابن عباس أيضا أن لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وروى عن الحسن والسدى وإبراهيم مثل قول عائشة وقال بعض أهل العلم اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد على نحو قول القائل لا والله وبلى والله على سبق اللسان وقال بعضهم اللغو في اليمين أن تحلف على معصية أن تفعلها فينبغي أن لا تفعلها ولا كفارة فيه وروى فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أصحابنا اللغو هو قوله لا والله وبلى والله فيما يظن أنه صادق فيه على الماضي وقال مالك والليث نحو ذلك وهو قول

١١١

الأوزاعى وقال الشافعى اللغو هو المعقود عليه وقال الربيع عنه من حلف على شيء يرى أنه كذلك ثم وجده على غير ذلك فعليه كفارة قال أبو بكر لما قال الله تعالى( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) أبان بذلك أن لغو اليمين غير المعقود منها لأنه لو كان المعقود هو اللغو لما عطفه عليه ولما فرق بينهما في الحكم في نفيه المؤاخذة بلغو اليمين وإثبات الكفارة في المعقودة ويدل على ذلك أيضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة لأن المؤاخذة قائمة في المعقودة وحكمها ثابت فبطل بذلك قول من قال إن اللغو هو اليمين المعقودة وأن فيها الكفارة فثبت بذلك أن معناه ما قال ابن عباس وعائشة وأنها اليمين على الماضي فيما يظن الحالف أنه كما قال والأيمان على ضربين ماض ومستقبل والماضي ينقسم قسمين لغو وغموس ولا كفارة في واحد منهما والمستقبل ضرب واحد وهو اليمين المعقودة وفيها الكفارة إذا حنث وقال مالك والليث مثل قولنا في الغموس إنه لا كفارة فيها وقال الحسن بن صالح والأوزاعى والشافعى في الغموس الكفارة وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة جميعا بقوله( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) وقال في سورة البقرة( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) والمراد به والله أعلم الغموس لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكسب القلب ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك فدل على أن قوله( وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة وذكره للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين يدل على أن اللغو هو الذي لم يقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى* ومما يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة فلو أوجبنا فيها الكفارة كان زيادة في النص وذلك غير جائز إلا بنص مثله وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال من حلف على يمين وهو فيها آثم فاجر ليقطع بها

١١٢

ما لا لقى الله تعالى وهو عليه غضبان وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار فذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم المأثم ولم يذكر الكفارة فدل على أن الكفارة غير واجبة من وجهين أحدهما أنه لا تجوز الزيادة في النص إلا بمثله والثاني أنها لو كانت واجبة لذكرها في اليمين المعقودة في قوله صلّى الله عليه وسلّم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خيرا منها وليكفر عن يمينه رواه عبد الرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما ومما يدل على نفى الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة( وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) وحفظها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها ومعلوم امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ فإن قال قائل قوله تعالى( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) يقتضى عمومه إيجاب الكفارة في سائر الأيمان إلا ما خصه الدليل قيل له ليس كذلك لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل فلا محالة أن فيه ضمير يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث وإذا ثبت أن في الآية ضميرا سقط الاحتجاج بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجب بها كفارة قبل الحنث فثبت أن في الآية ضميرا فلم يجز اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقا بضمير غير مذكور فيها وأيضا قوله تعالى( وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) يقتضى أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي ألزمنا حفظها وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها واليمين على الماضي لا يقع فيها حنث فينتظمها اللفظ ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول كان أمس الجمعة إن شاء الله والله لقد كان أمس الجمعة إذ كان الحنث وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال والله كان ذلك قسما ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول لأنه لم يتعلق به حنث وقد قرئ قوله تعالى( بِما عَقَّدْتُمُ ) على ثلاثة أوجه عقدتم بالتشديد قد قرأه جماعة وعقدتم خفيفة وعاقدتم فقوله تعالى( عَقَّدْتُمُ ) بالتشديد كان أبو الحسن يقول لا يحتمل إلا عقد قول وعقدتم بالتخفيف يحتمل عقد القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول ويحتمل عقد اليمين قولا ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا وجب حمل ما يحتمل وجهين على ما لا يحتمل إلا وجها واحدا فيحصل المعنى من

١١٣

القراءتين عقد اليمين قولا ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماض والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا فإن قال قائل إذ كان قوله تعالى( عَقَّدْتُمُ ) بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين فهلا حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين وكذلك قوله تعالى( بِما عَقَّدْتُمُ ) بالتشديد محمول على عقد اليمين فلا ينفى ذلك واستعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموما في سائر الأيمان قيل له لو سلم لك ما ادعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة فبطل بذلك تأويل من تأوله اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل فإن قال قائل قوله( عَقَّدْتُمُ ) بالتشديد يقتضى التكرار والمؤاخذة تلزم من غير تكرار فما وجه اللفظ المقتضى للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار قيل له قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار لا يلزمه واحدة فإن قيل قوله( بِما عَقَّدْتُمُ ) بالتخفيف يفيد إيجاب الكفارة باليمين إلا كفارة أحد قيل له القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على ما وصفنا ولكل واحدة منهما فائدة مجددة.

(فصل) ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتج بهذه الآية من وجهين أحدهما قوله( وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ ) ( الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ ) فجعل ذلك كفارة عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحنث لأن الفاء للتعقيب والثاني قوله تعالى( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) فأما قوله( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ ) فإنه لا خلاف أن فيه ضميرا متى أراد إيجابها وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل

١١٤

الحنث فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته وهو كقوله تعالى( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) والمعنى فأفطر فعدة من أيام أخر وقوله( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ ) فمعناه فحلق ففدية عن صيام كذلك قوله( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ ) معناه فحنثتم فكفارته لاتفاق الجميع أنها غير واجبة قبل الحنث وقد اقتضت الآية لا محالة إيجاب الكفارة وذلك لا يكون إلا بعد الحنث فثبت أن المراد ضمير الحنث فيه وأيضا لما سماه كفارة علمنا أنه أراد التكفير بها في حال وجوبها لأن ما ليس بواجب فليس بكفارة على الحقيقة ولا يسمى بهذا الاسم فعلمنا أن المراد إذا حنثتم فكفارته إطعام عشرة مساكين وكذلك قوله في نسق التلاوة( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) معناه إذا حلفتم وحنثتم لما بيناه آنفا* فإن قيل يجوز أن تسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجله من الزكاة قبل الحول زكاة لوجوب السبب الذي هو النصاب وكما يسمى ما يعجله بعد الجراحة كفارة قبل وجود القتل وإن لم تكن واجبة في هذه الحال فكذلك يجوز أن يكون ما يعجله الحالف كفارة قبل الحنث ولا يحتاج إلى إثبات إضمار الحنث في جوازها قيل له قد بينا أن الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية وإذا أريد بها الكفارة الواجبة امتنع أن ينتظم ما ليس منها لاستحالة كون لفظ واحد مقتضيا للإيجاب ولما ليس بواجب فمن حيث أريد بها الواجب انتفى ما ليس منها بواجب وأيضا فقد ثبت أن المتبرع بالطعام ونحوه لا يكون مكفرا بما يتبرع به إذا لم يحلف فلما كان المكفر قبل الحنث متبرعا بما أعطى ثبت أن ما أخرج ليس بكفارة ومتى فعله لم يكن فاعلا للمأمور به* وأما إعطاء كفارة القتل قبل الموت بعد الجراحة وتعجيل الزكاة قبل الحول فإن جميع ما أخرج هؤلاء تطوع وليس بكفارة ولا زكاة وإنما أجزناه لما قامت الدلالة أن إخراج هذا التطوع يمنع لزوم الفرض بوجود الموت وحؤول الحول.

(فصل) ويحتج من يوجب على من عقد نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور مثل قوله إن دخلت الدار فلله على حجة أو عتق رقبة أو نحو ذلك فحنث بظاهر قوله تعالى( وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ ) وبقوله تعالى( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) قال فلما كان هذا حالفا وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون

١١٥

المنذور بعينه وليس هذا كما ظن هذا القائل وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين لقوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) وقال تعالى( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) وقال تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقال تعالى( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) فذمهم تعالى على ترك الوفاء بنفس المنذور وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين ومن نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به وكان قوله تعالى( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ) في اليمين المعقودة بالله عز وجل وكانت النذور محمولة على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها قوله تعالى( وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) فقال قائلون معناه احفظوا أنفسكم من الحنث فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية وقال آخرون أقلوا من الأيمان على نحو قوله تعالى( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :

قليل الألايا حافظ ليمينه

إذا بدرت منه الألية برت

وقال آخرون معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها لأن حفظ الشيء هو مراعاته وهذا هو الصحيح فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منتهى عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصية وقد قال صلّى الله عليه وسلّم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فأمره بالحنث فيها وقد قال الله تعالى( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) الآية روى أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضى الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخوض في أمر عائشة وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه ففعل ذلك أبو بكر وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) إلى قوله( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) بالكفارة والرجوع عما حرم على نفسه فثبت بذلك أنه غير منهى عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصية فغير جائز أن يكون معنى قوله( وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) نهيا عن الحنث وأما من قال إن معناه النهى عن الحلف واستشهد بالبيت فقوله مرذول ساقط لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين كما لا يجوز أن يقال احفظ مالك بمعنى أن لا تكسبه ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة

١١٦

الحنث لأداء الكفارة لأنه قال قليل الألايا حافظ ليمينه فأخبر بديا بقلة أيمانه ثم قال حافظ ليمينه ومعناه أنه مراع لها ليؤدى كفارتها عند الحنث ولو كان على ما قال المخالف لكان تكرارا لما قد ذكره فصح أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث* قوله تعالى( إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ) روى عن على وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن في كفارة اليمين كل مسكين نصف صاع من بر وقال عمر وعائشة أو صاعا من تمر وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكا وقال ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء في آخرين مد من بر لكل مسكين وهو قول مالك والشافعى* واختلف في الإطعام من غير تمليك فروى عن على ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة يغديهم ويعشيهم وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس والثوري والأوزاعى وقال الحسن البصري وجبة واحدة تجزى وقال الحكم لا يجزى الإطعام حتى يعطيهم وقال سعيد بن جبير مدين من طعام ومد لإدامه ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم وروى عن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس والشعبي يطعمهم أكلة واحدة وروى عن أنس مثل ذلك وقال الشافعى لا يعطيهم جملة ولكن يعطى كل مسكين مدا* قال أبو بكر قال الله تعالى( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) فاقتضى ظاهره جواز الإطعام بالأكل من غير إعطاء ألا ترى إلى قوله تعالى( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ) قد عقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك ويقال فلان يطعم الطعام وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه فلما كان الاسم يتناول الإباحة وجب جوازه وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك فالتمليك أحرى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة ولا خلاف في جواز التمليك وإنما قالوا يغديهم ويعشيهم لقوله تعالى( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) وهو مرتان غداء وعشاء لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان وقد روى ليث عن ابن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كان خبزا يابسا فهو غداؤه وعشاؤه وإنما قال أصحابنا إذا أعطاهم كان من البر نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعا لما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث كعب بن عجرة في فدية الأذى أو أطعم ثلاثة آصع من طعام ستة مساكين وفي حديث آخر أطعم ستة آصع من تمر ستة

١١٧

مساكين فجعل لكل مسكين صاعا من تمر أو نصف صاعا من بر ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين فثبت أن كفارة اليمين مثلها وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في كفارة الظهار وسقا من تمر لستين مسكينا والوسق ستون صاعا ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام وإذا ثبت من التمر صاع وجب أن يكون من البر نصف صاع لأن كل من أوجب فيها صاعا من التمر أوجب من البر نصف صاع* قوله تعالى( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) روى عن ابن عباس قال كان لأهل المدينة قوت وكان للكبير أكثر مما الصغير وللحر أكثر مما للمملوك فنزلت( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) ليس بأفضله ولا بأخسه وروى عن سعيد بن جبير مثله* قال أبو بكر بين ابن عباس أن المراد الأوسط في المقدار لا بأن يكون مأدوما وروى عن ابن عمر قال أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم وعن عبيدة الخبز والسمن وقال أبو رزين الخبز والتمر والخل وقال ابن سيرين أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبر روى عن عبد الله بن مسعود مثله* قال أبو بكر أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمة ابن صخر أن يكفر عن الظهار بإعطاء كل مسكين صاعا من تمر ولم يأمره معه بشيء آخر غيره من الإدام وأمر كعب بن عجرة أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ولم يأمره بالإدام ولا فرق عند أحد بين كفارة الظهار وكفارة اليمين في مقدار الطعام فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأواسط المراد بالآية الأوسط في مقدار الطعام لا في ضم الإدام إليه وقوله تعالى( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ) عموم في جميع من يقع عليه الاسم منهم فيصح الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع لأنا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض لا سيما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعى لا يجزى* فإن قال قائل لما ذكر عشرة مساكين لم يجز الاقتصار على من دونهم كقوله تعالى( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) وقوله تعالى( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور قيل له لما كان القصد في

١١٨

ذلك سد جوعة المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سد الجوعة فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجودا في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع إذ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين كما قال تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ) وهو هلال واحد فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستنجاء بثلاثة أحجار ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه وكذلك أمر برمي الجمار بسبع حصيات ولو رمى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات والمقصد في الاستنجاء حصول المساحات دون عدد الأحجار فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سد جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك عليه في الأيام وبين الجماعة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب فصار تقديره أو عشرة أثواب ثم لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة فوجب أن يجزى إعطاؤها الواحد منهم ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشرة مساكين مسكينا واحدا فقوله تعالى( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا ولا تجزى الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام وجب مثله في الكسوة إذ لم يفرق واحد بينهما وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر وجب مثله في الكفارة لأن أحدا لم يفرق بينهما ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشترى بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال قد أطعمه وكساه وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل

١١٩

وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يكتس بها وباعها وإن لم يكن له كاسيا بإعطائه إذ كان موصلا إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه فثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والاكتساء وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدر في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ثم قال أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم فأخبر أن المقصود حصول الغنى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه إذ كان الغنى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام* فإن قال قائل لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدة مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالة على أنه غير جائز أن يتعداهما إلى القيمة وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة قيل له ليس الأمر على ما ظننت وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد وذلك أنه ذكرها ودلنا بما ذكر على جواز إعطاء قيمتها ليكون مخيرا بين أن يعطى حنطة أو يطعم أو يكسوا أو يعطى دراهم قيمة عن الحنطة أو عن الثياب فيكون موسعا في العدول عن الأرفع إلى الأوكس إن تفاوت القيمتان أو عن الأوكس إلى الأرفع أو يعطى أى المذكورين بأعيانهما كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن وجبت في إبله بنت لبون فلم توجد أخذ منه بنت مخاض وشاتان أو عشرون درهما فخيره في ذلك وهو يقدر على أن يشترى بنت لبون وهي الفرض المذكور وكما جعل الدية مائة من الإبل واتفقت الأمة على أنها من الدراهم والدنانير أيضا قيمة للإبل على اختلافهم فيها وكمن تزوج امرأة على عبد وسط فإن جاء به بعينه قبل منه وإن جاء بقيمته قبلت منه أيضا ولم يبطل جواز أخذ القيمة في هذه المواضع حكم التسمية لغيرها فكذلك ما وصفنا ألا ترى أنه خيره بين الكسوة والطعام والعتق فالقيمة مثل أحد هذه الأشياء وهو مخير بينها وبين المذكور وإن كانت قد تختلف في الطعام والكسوة لأن في عدوله إلى الأرفع زيادة فضيلة وفي اقتصاره على الأوكس رخصة وأيهما فعل فهو المفروض وهذا مثل ما نقول في القراءة في الصلاة أن المفروض منها مقدار آية فإن أطال القراءة كان الجميع هو المفروض والمفروض من الركوع هو الجزء الذي يسمى به راكعا فإن أطال كان الفرض جميع المفعول منه ألا ترى أنه لو أطال الركوع كان

١٢٠