أحكام القرآن الجزء ٤

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 412

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 412
المشاهدات: 61989
تحميل: 5589


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 412 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61989 / تحميل: 5589
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

(سوره اعراف)

قوله تعالى( فلا يكن في صدرك حرج منه ) مخرجه مخرج النهى ومعناه نهى المخاطب عن التعرض للحرج وروى عن الحسن في الحرج أنه الضيق وذلك أصله ومعناه فلا يضيق صدرك خوفا أن لا تقوم بحقة فإنما عليك الإنذار به وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدى الحرج هنا الشك يعنى لا تشك في لزوم الإنذار به وقيل معناه لا يضيق صدرك بتكذيبهم إياك كقوله تعالى( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) قوله تعالى( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) هو أن يكون تصرفه مقصورا على مراد أمره وهو نظير الائتمام وهو أن يأتم به في اتباع مراده وفي فعله غير خارج عن تدبيره فإن قيل هل يكون فاعل المباح متبعا لأمر الله عز وجل قيل له قد يكون متبعا إذا قصد به اتباع أمره في اعتقاد إباحته وإن لم يكن وقوع الفعل مرادا منه وأما فاعل الواجب فإنه قد يكون الاتباع في وجهين أحدهما اعتقاد وجوبه والثاني إيقاع فعله على الوجه المأمور به ضارع المباح الواجب في الاعتقاد إذ كان على كل واحد منهما وجوب الاعتقاد بحكم الشيء على ترتيبه ونظامه في إباحة أو إيجاب جاز أن يشتمل قوله( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) على المباح الواجب وقوله( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) دليل على وجوب اتباع القرآن في كل حال وأنه غير جائز الاعتراض على حكمه بأخبار الآحاد لأن الأمر باتباعه قد ثبت بنص التنزيل وقبول خبر الواحد غير ثابت بنص التنزيل فغير جائز تركه لأن لزوم اتباع القرآن قد ثبت من طريق يوجب العلم وخبر الواحد يوجب العمل فلا يجوز تركه ولا الاعتراض به عليه وهذا يدل على صحة قول أصحابنا في أن قول من خالف القرآن في أخبار الآحاد غير مقبول وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما جاءكم منى فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو عنى وما خالف كتاب الله فليس عنى فهذا عندنا فيما كان وروده من طريق الآحاد فأما ما ثبت من طريق التواتر فجائز تخصيص القرآن به وكذلك نسخه قوله( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فما تيقنا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قاله فإنه في إيجاب الحكم بمنزلة القرآن فجاز تخصيص بعضه ببعض وكذلك نسخه قوله تعالى( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا

٢٠١

لآدم ) روى عن الحسن خلقناكم ثم صورناكم يعنى به آدم لأنه قال( ثم قلنا للملائكة ) وإنما قال ذلك بعد خلق آدم وتصويره وذلك كقوله تعالى( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ) أى ميثاق آبائكم ورفعنا فوقهم الطور نحو قوله تعالى( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) والمخاطبون بذلك في زمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يقتلوا الأنبياء وقيل( ثم ) راجع إلى صلة المخاطبة كأنه قال ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة وحكى عن الأخفش( ثم ) هاهنا بمعنى الواو وذكر الزجاج أن ذلك خطأ عند النحويين قال أبو بكر ونظيره قوله تعالى( ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ومعناه والله شهيد قوله تعالى( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) يدل على أن الأمر يقتضى الوجوب بنفس وروده غير محتاج إلى قرينة في إيجاب لأنه علق الذم بتركه الأمر المطلق وقيل في قوله تعالى( ألا تسجد ) أن لا هاهنا صلة مؤكدة وقيل إن معناه ما دعاك إلى أن لا تسجد وما أحوجك وقيل في السجود لآدم وجهان أحدهما التكرمة لأن الله قد امتن به على عباده وذكره بالنعمة فيه والثاني أنه كان قبلة لهم كالكعبة* قوله تعالى( فبما أغويتنى ) قيل فيه خيبتني كقول الشاعر :

ومن يغو لا يعدم من الغي لائما

يعنى من يحب وحكى لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابى قال يقال غوى الرجل يغوى غيا إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ومنه قوله تعالى( وعصى آدم ربه فغوى ) أى فسد عليه عيشه في الجنة قال ويقال غوى الفصيل إذا لم يرو من لبن أمه وقيل في أغويتنى أى حكمت بغوايتي كقولك أضللتنى أى حكمت بضلالتى وقيل أغويتنى أى أهلكتنى فهذه الوجوه الثلاث محتملة في إبليس وقوله تعالى( وعصى آدم ربه فغوى ) ويحتمل فساد أمره في الجنة وهو يرجع إلى معنى الخيبة ولا يحتمل هلاك ولا الحكم بالغواية التي هي ضلال لأن أنبياء الله لا يجوز ذلك عليهم قوله تعالى( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) روى عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة والحكم والسدى( من بين أيديهم ومن خلفهم ) من قبل دنياهم وآخرتهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم وقال مجاهد من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون وقيل من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم ولم يقل من فوقهم قال ابن عباس لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه ممتنع إذا أريد به

٢٠٢

الحقيقة قوله تعالى( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) قرن قربهما الشجرة إلا أنه معلوم شرط الذكر فيه وتعمد الأكل مع العلم به لأنه لا يؤاخذ بالنسيان والخطأ فيما لم يقم عليه دليل قاطع ولم يكن أكلهما للشجرة معصية كبيرة بل كانت صغيرة من وجهين أحدهما أنهما نسيا الوعيد وظنا أنه نهى استحباب لا إيجاب ولهذا قال( فنسى ولم نجد له عزما ) والثاني أنه أشير لهما إلى شجرة بعينها وظنا المراد العين وكان المراد الجنس كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال هذان مهلكا أمتى وإنما أراد الجنس لا العين دون غيرها قوله تعالى( يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم وريشا ولباس التقوى ) هذا خطاب عام لسائر المكلفين من الآدميين كما كان قوله تعالى( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) خطابا لمن كان في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن جاء بعده من المكلفين من أهل سائر الأعصار إلا أنا لمن كان غير موجود على شرط الوجود وبلوغ كمال العقل وقوله تعالى( قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم ) وقوله تعالى( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) يدل على فرض ستر العورة لإخباره أنه أنزل علينا لباسا لنوارى سوآتنا به وإنما قال( أنزلنا ) لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوان وأصوافها وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء وقيل إنه وصفه بالإنزال لأن البركات تنسب إلى أنها تأتى من السماء كما قال تعالى( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) وقوله( ريشا ) قيل إنه الأثاث من متاع البيت نحو الفرش والدثار وقيل الريش ما فيه الجمال ومنه ريش الطائر وقوله( ولباس التقوى ) قيل فيه إنه العمل الصالح عن ابن عباس وسماه لباسا لأنه بقي العقاب كما بقي اللباس من الثياب الحر والبرد وقال قتادة والسدى هو الإيمان وقال الحسن هو الحياء الذي يكسبهم التقوى وقال بعض أهل العلم هو لباس الصوف والخشن من التي تلبس للتواضع والنسك في العبادة وقد اتفقت الأمة على معنى ما دلت عليه الآية من لزوم فرض ستر العورة ووردت به الآثار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم منها حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله عورتنا ما نأتى منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا قال فإن الله أحق أن يستحيا منه وروى أبو سعيد الخدري عنه عليه السلام أنه قال لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة وقد روى

٢٠٣

عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال ملعون من نظر إلى سوأة أخيه قال الله تعالى( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ـوقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) يعنى عن العورات إذ لا خلاف في جواز النظر إلى غير العورة قال الله تعالى( يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) قيل في الفتنة أنها المحنة بالدعاء إلى المعصية من جهة الشهوة أو الشبهة والخطاب توجه إلى الإنسان بالنهى عن فتنة الشيطان وإنما معناه التحذير من فتنة الشيطان وإلزام التحرز منه وقوله تعالى( كما أخرج أبويكم من الجنة ) فأضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان فإنه أغواهما حتى فعلا ما استحقا به الإخراج منها كقوله تعالى حاكيا عن فرعون( يذبح أبناءهم ) وإنما أمر به ولم يتوله بنفسه وعلى هذا المعنى أضاف نزع لباسهما عبده وهو ممن لا يتولى الضرب بنفسه أنه إن أمر به غيره ففعله حنث وكذلك إذا حلف لا يبنى داره فأمر غيره فبناها* وقيل في اللباس الذي كان عليهما أنه كان ثياب من ثياب الجنة وقال ابن عباس كان لباسهما الظفر وقال وهب بن منبه كان لباسهما نورا* قوله تعالى( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) روى عن مجاهد والسدى توجهوا إلى قبلة كل مسجد في صلاة على استقامة وقال الربيع بن أنس توجهوا بالإخلاص لله تعالى لا لوثن ولا غيره قال أبو بكر قد حوى ذلك معنيين أحدهما التوجه إلى القبلة المأمور بها على استقامة غير عادل عنها والثاني فعل الصلاة في المسجد وذلك يدل على وجوب فعل المكتوبات في جماعة لأن المساجد مبنية للجماعة وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أخبار في وعيد تارك الصلاة في جماعة وأخبار أخر في الترغيب فيما فمها روى ما يقتضى النهى عن تركها قوله صلّى الله عليه وآله وسلم من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له وقوله لابن أم مكتوم حين قال له إن منزلي شاسع فقال هل تسمع النداء فقال نعم فقال لا أجد لك عذرا وقوله لقد هممت أن آمر رجلا يصلى بالناس ثم آمر بحطب فيحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم في أخبار نحوها ومما روى من الترغيب أن صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة وأن الملائكة ليصلون على الذين يصلون في الصف المقدم وقوله بشر المشائين في ظلام الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول هو عندي فرض على الكفاية كغسل الموتى ودفنهم والصلاة عليهم متى

٢٠٤

قام بها بعضهم سقط عن الباقين قوله تعالى( يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) قال أبو بكر هذه الآية تدل على فرض ستر العورة في الصلاة وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد هي فرض في الصلاة إن تركه مع الإمكان فسدت صلاته وهو قول الشافعى وقال مالك والليث الصلاة مجزية مع كشف العورة ويوجبان الإعادة في الوقت والإعادة في الوقت عندهما استحباب ودلالة هذه الآية على فرض ستر العورة في الصلاة من وجوه أحدها أنه لما قال( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) فعلق الأمر بالمسجد علمنا أن المراد الستر للصلاة لو لا ذلك لم يكن لذكر المسجد فائدة فصار تقديرها خذوا زينتكم في الصلاة ولو كان المراد سترها عن الناس لما خص المسجد بالذكر إذ كان الناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد فأفاد بذكر المسجد وجوبه في الصلاة إذا كانت المساجد مخصوصة بالصلاة وأيضا لما أوجبه في المسجد وجب بظاهر الآية فرض الستر في الصلاة إذا فعلها في المسجد وإذا وجب في الصلاة المفعولة في المسجد وجب في غيرها من الصلوات حيث فعلت لأن أحدا لم يفرق بينهما وأيضا فإن المسجد يجوز أن يكون عبارة عن السجود نفسه كما قال الله تعالى( وأن المساجد لله ) والمراد السجود وإذا كان كذلك اقتضت الآية لزوم الستر عند السجود وإذا لزم ذلك في السجود لزم في سائر أفعال الصلاة إذا لم يفرق أحد بينهما روى عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وطاوس والزهري أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة فأنزل الله تعالى( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) قال أبو بكر وقيل إنهم إنما كانوا يطوفون بالبيت عراة لأن الثياب قد دنستها المعاصي في زعمهم فيتجردون منها وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تفاؤلا بالتعري من الذنوب وقال بعض من يحتج لمالك بن أنس أن هؤلاء السلف لما ذكروا سبب نزول الآية وهو طواف العريان وجب أن يكون حكمها مقصورا عليه وليس هذا عندنا كذلك لأن نزول الآية عندنا على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه لأن الحكم عندنا لعموم اللفظ لا للسبب وعلى أنه لو كان كما ذكر لا يمنع ذلك وجوبه في الصلاة لأنه إذا وجب الستر في الطواف فهو في الصلاة وجب إذ لم يفرق أحد بينهما فإن قال قائل فينبغي أن لا يمنع ترك الستر صحة الصلاة كما لم يمنع صحة الطواف الذي فيه نزلت الآية وإن وقع ناقصا قيل له ظاهره يقتضى بطلان

٢٠٥

الجميع عند عدم الستر ولكن الدلالة قد قامت على جواز الطواف مع النهى كما لا يجوز الإحرام مع الستر وإن كان منهيا عنه ولم تقم الدلالة على جواز الصلاة عريانا ولأن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الطهارة واستقبال القبلة وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده لأنه لو ترك الإحرام في الوقت ثم أحرم صح إحرامه وكذلك لو أحرم وهو مجامع لامرأته وقع إحرامه فصار الإحرام آكد في بقائه من الصلاة والطواف من موجبات الإحرام فوجب أن لا يفسده ترك الستر ولا يمنع وقوعه ويدل على أن حكم الآية غير مقصور على الطواف وأن المراد بها الصلاة قوله تعالى( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) والطواف مخصوص بمسجد واحد ولا يفعل في غيره فدل على أن مراده الصلاة التي تصح في كل مسجد ويدل عليه من جهة السنة حديث أبى الزناد عن الأعراج عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لا يصل أحدكم في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء وروى محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار فنفى قبولها لمن بلغت الحيض فصلتها مكشوفة الرأس كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور فثبت بذلك أن ستر العورة من فروضها وأيضا قد اتفق الجميع على أنه مأمور بستر العورة في الصلاة ولذلك يأمره مخالفنا بإعادتها في الوقت فإذا كان مأمورا بالستر ومنهيا عن تركه وجب أن يكون من فروض الصلاة من وجهين أحدهما أن هذا الحكم مأخوذ عن الآية وأن الآية قد أريد بها الستر في الصلاة والثاني أن النهى يقتضى فساد الفعل إلا أن تقوم الدلالة على الجواز فإن قال قائل لو كان الستر من فروض الصلاة لما جازت الصلاة مع عدمه عند الضرورة إلا ببدل يقوم مقامه مثل الطهارة فلما جازت صلاة العريان إذا لم يجد ثوبا من غير بدل عن الستر دل على أنه ليس من فرضه قيل له هذا سؤال ساقط لاتفاق الجميع على جواز صلاة الأمى والأخرس مع عدم القراءة من غير بدل عنها ولم يخرجها ذلك من أن يكون فرضا وزعم بعض من يحتج لمالك أنه لو كان الثوب من عمل الصلاة ومن فرضها لوجب على الإنسان أن ينوى بلبس الثوب أنه للصلاة كما ينوى بالافتتاح أنه لتلك الصلاة وهذا كلام واه جدا فاسد العبارة مع ضعف المعنى وذلك لأن الثوب لا يكون من عمل الصلاة ولا من فروضها ولكن ستر العورة من شروطها التي

٢٠٦

لا تصح إلا به كالطهارة كما أن استقبال القبلة من شروطها ولا يحتاج الاستقبال إلى نية والطهارة من شروطها ولا تحتاج عندنا إلى نية والقيام في حال الافتتاح من فروضها لمن قدر عليه ولا يحتاج إلى نية والقيام والقراءة والركوع والسجود بعد الافتتاح من فروضها ولا يحتاج لشيء من ذلك إلى نية فإن قيل لأن نية الصلاة قد أغنت عن تجديد النية لهذه الأفعال قيل له وكذلك نية الصلاة قد أغنت عن تجديد نية للستر وقوله تعالى( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) يدل على أنه مندوب في حضور المسجد إلى أخذ ثوب نظيف مما يتزين به وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال ندب إلى ذلك في الجمع والأعياد كما أمر بالاغتسال للعيدين والجمعة وأن يمس من طيب أهله وقوله تعالى( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) الآية ظاهره يوجب الأكل والشرب من غير إسراف وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال والإيجاب في بعضها فالحال التي يجب فيها الأكل والشرب هي الحال التي يخاف أن يلحقه ضرر بكون ترك الأكل والشرب يتلف نفسه أو بعض أعضائه أو يضعفه عن أداء الواجبات فواجب عليه في هذه الحال أن يأكل ما يزول معه خوف الضرر والحال التي هما مباحان فيها هي الحال التي لا يخاف ضررا فيها بتركها* وظاهره يقتضى جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر الأشربة مما لا يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفا فيهما والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق فيكون ممن قال الله تعالى( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) والإسراف وضده من الإقتار مذمومان والإستواء هو التوسط ولذلك قيل دين الله بين المقصور والغالي قال الله تعالى( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر فذلك محرم أيضا قوله تعالى( قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) روى عن الحسن وقتادة إن العرب كانت تحرم السوائب والبحائر فأنزل الله تعالى ذلك وقال السدى وكانوا يحرمون في الإحرام أكل السمن والأدهان فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا لقومهم وفيه تأكيد لما قدم إباحته في قوله( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) الآية

٢٠٧

( والطيبات من الرزق ) قيل فيه وجهان أحدهما ما استطابه الإنسان واستلذه من المأكول والمشروب وهو يقتضى إباحة سائر المأكول والمشروب إلا ما قامت دلالة تحريمه والثاني الحلال من الرزق قوله تعالى( قل هى للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) يعنى أن الله تعالى أباحها وهي خالصة يوم القيامة لهم من شوائب التنغيص والتكدير وقيل هي خالصة لهم دون المشركين وقوله تعالى( قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق ) قال مجاهد الفواحش الزنا وهو الذي بطن والتعري في الطواف وهو الذي ظهر وقيل القبائح كلها فواحش أجمل ذكرها بديا ثم فصل وجوهها فذكر أن منها الإثم والبغي والإشراك بالله والبغي هو طلب الترأس على الناس بالقهر والاستطالة عليهم بغير حق وقوله( والإثم ) مع وصفه الخمر والميسر بأن فيهما إثم وقوله تعالى( يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ) يقتضى تحريم الخمر والميسر أيضا قوله تعالى( أدعوا ربكم تضرعا وخفية ) فيه الأمر بالإخفاء للدعاء قال الحسن في هذه الآية علمكم كيف تدعون ربكم وقال لعبد صالح رضى دعاءه( إذ نادى ربه نداء خفيا ) وروى مبارك عن الحسن قال كانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع إلا همسا وروى أبو موسى الأشعرى قال كنا عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وروى سعد بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال خير الذكر الخفى وخير الرزق ما يكفى وروى بكر بن خنيس عن ضرار عن أنس قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عمل البر كله نصف العبادة والدعاء نصف العبادة وروى سالم عن أبيه عن عمر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لا يردهما حتى يمسح بهما وجهه قال أبو بكر في هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره لأن الخفية هي البر روى ذلك عن ابن عباس والحسن وفي ذلك دليل على أن إخفاء آمين بعد قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أفضل من إظهاره لأنه دعاء والدليل عليه ما روى في تأويل قوله تعالى( قد أجيبت دعوتكما ) قال كان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما الله داعيين وقال بعض أهل العلم إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يشوبه رياء وأما التضرع فإنه قد قيل أنه الميل في الجهات يقال ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بإصبعيه يمينا وشمالا خوفا وذلا قال ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه

٢٠٨

والمضارعة المشابهة لأنها تميل إلى شبه نحو المقاربة وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدعو ويشير بالسبابة وقال ابن عباس لقد رؤي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عشية عرفة رافعا يديه يدعو حتى أنه ليرى ما تحت إبطيه وقال أنس رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم استسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه وفيما روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من رفع اليدين في الدعاء والإشارة بالسبابة دليل على صحة تأويل من تأول التضرع على تحويل الإصبع يمينا وشمالا قوله تعالى( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) قال أبو بكر إنما قال تعالى( فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) لأنه لما قال( ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) جاز أن يسبق إلى وهم بعض السامعين أنه كان عشرين ليلة ثم أتمها بعشر فصار ثلاثين ليلة فأزال هذا التوهم والتجوز وأخبر أنه أتم الثلاثين بعشر غيرها زيادة عليها قوله تعالى( قال رب أرنى أنظر إليك ) قيل إنه سأل الرؤية على جهة استخراج الجواب لقومه لما قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ويدل عليه قوله تعالى( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) وقيل أنه سأله الرؤية التي هي علم الضرورة فبين الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا* فإن قيل فلم جاز أن يسئل الرؤية وهي غير جائزة على الله تعالى وهل يجوز* على هذا أن يسئله مالا يجوز على الله تعالى من الظلم* قيل له لأنه لا شبهة في فعله الظلم أنه صفة نقص وذم فلا يجوز سؤال مثله وكذلك ما فيه شبهة ولا يظهر حكمه إلا بالدلالة وهذا إن كان سأل الرؤية من غير تشبيه على ما روى عن الحسن والربيع بن أنس والسدى وإن كان إنما سأل الرؤية التي هي علم الضرورة أو استخراج الجواب لقومه فهذا السؤال ساقط وقيل إن توبة موسى إنما كانت من التقدم بالمسألة قبل الإذن فيها ويحتمل يكون ذكر التوبة على وجه التسبيح على ما جرت عادة المسلمين بمثله عند ظهور دلائل الآيات الداعية إلى التعظيم* قوله تعالى( فلما تجلى ربه للجبل ) فإن التجلي على وجهين ظهور بالروية أو الدلالة والرؤية مستحيلة في الله تعالى فهو ظهور آياته التي أحدثها لحاضري الجبل وقيل إنه أبرز من ملكوته للجبل ما يدكدك به لأن في حكمه تعالى أن الدنيا لا تقوم لما يبرز من الملكوت الذي في السماء كما روى أنه أبرز قدر الخنصر من العرش * وقوله تعالى( وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) قيل بأحسن ما كتب فيه وهو الفرائض والنوافل دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب وكذلك قوله( فبشر عباد

٢٠٩

الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) وقال بعض أهل العلم أحسنها الناسخ دون المنسوخ المنهي عنه وقد قيل إن هذا لا يجوز لأن فعل المنسوخ المنهي عنه قبيح فلا يقال الحسن أحسن من القبيح* قوله تعالى( سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون في الأرض ) قيل معناه عن آياتي من العز والكرامة بالدلالة التي تكسب الرفعة في الدنيا والآخرة ويحتمل صرفهم عن الاعتراض على آياتي بالإبطال أو بالمنع من الإظهار للناس ولا يجوز أن يكون معناه سأصرف عن الإيمان بآياتى لأنه لا يجوز أن يأمر بالإيمان ثم يمنع منه إذ كان ذلك سفها وعبثا* قوله تعالى( أعجلتم أمر ربكم ) قد قيل أن العجلة التقدم بالشيء قبل وقته وسرعة عمله في أول أوقاته ولذلك صارت العجلة مذمومة وقد يكون تعجيل الشيء في وقته كما روى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يجعل الظهر في الشتاء ويبرد بها في الصيف * وقوله تعالى( وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) كان على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة ولأن مثل هذه الأفعال تختلف أحكامها بالعادة فلم تكن للعادة حينئذ فعله على وجه الإهانة وقيل إنه بمنزلة قبض الرجل منا عند غضبه على لحيته وعضه على شفته وإبهامه قوله تعالى( فخلف من بعدهم خلف ) قيل إن الأغلب في خلف بتسكين اللام أنه للذم وقال لبيد :

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وقد جاء بالتسكين في المدح ايضا قال حسان :

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لا ولنا في طاعة الله تابع

قوله تعالى( يأخذون عرض هذا الأدنى ) قيل إن العرض ما يقل لبثه يقال عرض هذا الأمر فهو عارض خلاف اللازم قال تعالى( هذا عارض ممطرنا ) يعنى السحاب لقلة لبثه وروى في قوله( عرض هذا الأدنى ) أن معناه الرشوة على الحكم قوله تعالى( وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) قال مجاهد وقتادة والسدى أهل إصرار على الذنوب وقال الحسن معناه أنه لا يشبعهم شيء قوله تعالى( وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ) قيل إنه أخرج الذرية قرنا بعد قرن وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم وفطرهم من المنازعة لكي تقتضي الإقرار بالربوبية حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم ألست بربكم قالوا بلى وقيل إنه قال لهم ألست بربكم على لسان بعض

٢١٠

أنبيائه قوله تعالى( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) هذه لام العاقبة كقوله تعالى( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) ولم يكن غرضهم ذلك في التقاطه ولكنه لما كان ذلك عاقبة أمره أطلق ذلك فيهم ومنه قول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب

وقال أيضا :

وأم سماك فلا تجزعي

فللموت ما غذت الوالده

قوله تعالى( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شىء ) فيه حث على النظر والاستدلال والتفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره فإنه يدل عليه وعلى حكمته ووجوده وعدله وأخبر أن في جميع ما خلقه دليلا عليه وداع إليه وحذرهم التفريط بترك النظر إلى وقت حلول الموت وفوات ما كان يمكنه الاستدلال به على معرفة الله تعالى وتوحيده وذلك قوله تعالى( وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون ) قوله تعالى( يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ) الآية قوله( أيان مرساها ) قال قتادة والسدى قيامها وأيان بمعنى متى وهو سؤال عن الزمان على وجهه الظرف للفعل فلم يخبرهم الله تعالى عن وقتها ليكون العباد على حذر منه فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية* والمرسى مستقر الشيء الثقيل ومنه الجبال الراسيات يعنى الثابتات ورسيت السفينة إذا ثبتت في مستقرها وأرساها غيرها أثبتها قال ابن عباس كان السائلون عن الساعة قوم من اليهود وقال الحسن وقتادة سألت عنها قريش قوله تعالى( لا تأتيكم إلا بغتة ) قال قتادة غفلة وذلك أشدها* وقوله تعالى( ثقلت في السماوات والأرض ) قال السدى وغيره ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلم يطيقوه إدراكا له وقال الحسن عظم وصفها على أهل السموات والأرض من انتثار النجوم وتكوير السموات وتسيير الجبال وقال قتادة ثقلت على السموات فلا تطيقها لعظمها* وقوله تعالى( يسئلونك كأنك حفى عنها ) قال مجاهد والضحاك ومعمر كأنك عالم بها وعن ابن عباس والحسن وقتادة والسدى يسئلونك عنها كأنك حفى بهم على التقديم والتأخير أى كأنك لطيف ببرك إياهم من قوله( إنه كان بى حفيا ) ويقال إن أصل الحفا الإلحاح في الأمر يقال أحفى فلان فلانا إذا ألح في الطلب منه أحفى

٢١١

السؤال إذا ألح فيه ومنه أحفى الشارب إذا استأصله واستقصى في أخذه ومنه الحفا وهو أن يستحج قدمه لإلحاح المشي بغير نعل والحفي اللطيف ببرك لإلحاحه بالبرلك وحفى عنها بمعنى عالم بها لإلحاحه بطلب علمها* وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من يدعى العلم ببقاء مدة الدنيا ويستدل بما روى أن الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الباقي منها من وقت مبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خمس مائة لأنه لو كان كذلك لكان وقت قيام الساعة معلوما وقد أخبر الله تعالى أن علمها عنده وأنه لا يجليها لوقتها إلا هو وأنها تأتى بغتة لم يتقدم لهم علم بها قبل كونها لأن ذلك معنى البغتة وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبار في بقاء مدة الدنيا وليس فيها تحديد للوقت مثل قوله بعثت والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى ونحو قوله فيما رواه شعبة وغيره عن على بن زيد عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خطبة بعد العصر إلى مغيب الشمس قال إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من هذه الشمس إلى أن تغيب وما روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ونحوها من الأخبار ليس فيها تحديد وقت قيام الساعة وإنما فيه تقريب الوقت وقد روى في تأويل قوله تعالى( فقد جاء أشراطها ) أن مبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أشراطها وقال الله تعالى( قل إنما علمها عند ربى ) ثم قال( قل إنما علمها عند الله ) فإنه قيل أنه أراد فالأول علم وقتها وبالآخر علم كنهها* قوله تعالى( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ) قيل فيه جعل من كل نفس زوجها كأنه قال جعل من النفس زوجها ويريد به الجنس وأضمر ذلك وقيل من آدم وحواء* قوله تعالى( لئن آتيتنا صالحا ) قال الحسن غلاما سويا* وقال ابن عباس بشرا سويا لأنهما يشفقان أن يكون بهيمة* وقوله تعالى( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) قال الحسن وقتادة الضمير في جعلا عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم لا إلى آدم وحواء وقال غيرهما راجع إلى الولد الصالح بمعنى أنه كان معا في بدنه وذلك صلاح في خلقه لا في دينه ورد الضمير إلى اثنين لأن حواء كانت تلد في بطن واحد ذكرا وأنثى* قوله تعالى( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم ) عنى بالدعاء ال. ول تسميتهم الأصنام آلهة والدعاء الثاني طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم وذلك مأيوس منهم وقوله( عباد أمثالكم ) قيل إنما سماها عبادا لأنها

٢١٢

مملوكة لله تعالى وقيل لأنهم توهموا أنها تضر وتنفع فأخبر أنه ليس يخرج بذلك عن حكم العباد الخلوقين وقال الحسن إن الذين يدعون هذه الأوثان مخلوقة أمثالكم قوله تعالى( ألهم أرجل يمشون بها ) تقريع لهم على عبادتهم من هذه صفته إذ لا شبهة على أحد في الناس أن من اتبع من هذه صفته فهو ألوم ممن عبد من له جارحة يمكن أن ينفع بها أو يضر وقيل إنه قدرهم أنهم أفضل منها لأن لهم جوارح يتصرفون بها والأصنام لا تصرف لها فكيف يعبدون من هم أفضل منه والعجب من أنفتهم من اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع ما أيده الله به من الآيات المعجزة والدلائل الباهرة لأنه بشر مثلهم ولم يأنفوا من عبادة حجر لا قدرة له ولا تصرف وهم أفضل منه في القدرة على النفع والضر والحياة والعلم* قوله تعالى( خذ العفو وأمر بالعرف ) روى هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زبير في قوله عز وجل( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) قال والله ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة الخلق الحسن وروى عطاء عن ابن عمر أنه قال سئل رجل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أى المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابى قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن عبد الله بن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق وروى عن الحسن ومجاهد قال أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأن يقبل العفو من أخلاق الناس والعفو هو التسهيل والتيسير فالمعنى استعمال العفو وقبول ما سهل من أخلاق الناس وترك الاستقصاء عليهم في المعاملات وقبول العذر ونحوه* وروى ابن عباس في قوله تعالى( خذ العفو ) قال العفو من الأموال قبل أن ينزل فرض الزكاة وكذلك روى عن الضحاك والسدى وقيل إن أصل العفو الترك ومنه قوله تعالى( فمن عفى له من أخيه شىء ) يعنى ترك له والعفو عن الذنب ترك العقوبة عليه وقوله تعالى( وأمر بالعرف ) قال قتادة وعروة العرف المعروف وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا سهل ابن بكار قال حدثنا عبد السلام بن الخليل عن عبيد الهجيمي قال قال أبو جرى جابر ابن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فطلبته فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا هو

٢١٣

جالس عليه برد من صوف فيه طرائق فقلت السلام عليك يا رسول الله وقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها قال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد على فأعدت قال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء المستسقى وإن امرؤ سبك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى قال أبو جرى فو الذي ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا* والمعروف هو ما حسن في العقل فعله ولم يكن منكرا عند ذوى العقول* الصحيحة* قوله تعالى( وأعرض عن الجاهلين ) أمر بترك مقابلة الجهالة والسفهاء على سفههم وصيانة النفس عنهم وهذا والله أعلم يشبه أن يكون قبل الأمر بالقتال لأن الفرض كان حينئذ على الرسول إبلاغهم وإقامة الحجة عليهم وهو مثل قوله( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) وأما بعد الأمر بالقتال فقد تقرر أمر المبطلين والمفسدين على وجوه معلومة من إنكار فعلهم تارة بالسيف وتارة بالسوط وتارة بالإهانة والحبس* قوله تعالى( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) قيل في نزغ الشيطان أنه الإغواء بالوسوسة وأكثر ما يكون عند الغضب وقيل إن أصله الإزعاج بالحركة إلى الشر ويقال هذه نزغة من الشيطان للخصلة الداعية إليه فلما علم الله تعالى نزغ الشيطان إيانا إلى الشر علمنا كيف الخلاص من كيده وشره بالفزع إليه والاستعاذة به من نزغ الشيطان وكيده وبين بالآية التي بعدها أنه متى لجأ العبد إلى الله واستعاذ من نزغ الشيطان حرسه منه وقوى بصيرته بقوله( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) قال ابن عباس الطيف هو النزغ وقال غيره الوسوسة وهما متقاربان وذلك يقتضى أنه متى استعاذ بالله من شر الشيطان أعاذ منه وازداد بصيرة في رد وسواسه والتباعد مما دعاه إليه ورآه إليه ورآه في أخس منزلة وأقبح صورة لما يعلم من سوء عاقبته إن وافقه وهون عنده دواعي شهوته* قوله تعالى( وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون ) قال الحسن وقتادة والسدى إخوان الشياطين في الضلال يمدهم الشيطان وقال مجاهد إخوان المشركين من الشيطان وسماهم إخوانا لاجتماعهم على الضلالة كالأخوة من النسب في التعاطف به وحنين بعضهم إلى

٢١٤

بعض لأجله كما سمى المؤمنين إخوانا بقوله تعالى( إنما المؤمنون أخوة ) لتعاطفهم وتواصلهم بالدين فأخبر عن حال من استعاذ بالله من نزغ الشيطان ووساوسه في بصيرته ومعرفته بقبح ما يدعوه إليه وتباعد منه ومن دواعي شهواته برجوعه إلى الله وإلى ما ذكره وهذه الاستعاذة تجوز أن تكون بقوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وجائز أن تكون بالفكر في نعم الله تعالى عليه وفي أوامره ونواهيه وما يؤول به إليه الحال من دوام النعيم فيهون عنده دواعي هواه وحوادث شهواته ونزغات الشيطان بها ثم أخبر تعالى عن حال من أعرض عن ذكر الله والاستعاذة به فقال( وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون ) فكلما تباعدوا عن الذكر مضوا مع وساوس الشيطان وغيه غير مقصرين عنه وهو نظير قوله تعالى( ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ) وقوله تعالى( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) وبالله التوفيق.

باب القراءة خلف الإمام

قال الله تعالى( وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) قال أبو بكر روى عن ابن عباس أنه قال إن النبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم قرأ في الصلاة وقرأ معه أصحابه فخلطوا عليه فنزل( وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) وروى ثابت بن عجلان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال المؤمن في سعة من الاستماع إليه إلا في صلاة مفروضة أو يوم جمعة أو فطر أو أضحى وروى المهاجر أبو مخلد عن أبى العالية قال كان النبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا صلّى قرأ أصحابه أجمعون خلفه حتى نزلت( وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) فسكت القوم وقرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وروى الشعبي وعطاء قالا في الصلاة وروى إبراهيم بن أبى حرة عن مجاهد مثله وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سمع قراءة فتى من الأنصار وهو في الصلاة يقرأ فنزلت هذه الآية وروى عن سعيد بن المسيب أنه قرأ في الصلاة وروى عن مجاهد أنه في الصلاة والخطبة والخطبة لا معنى لها في هذا الموضع لأن موضع القرآن في الخطبة كغير* في وجوب الاستماع والإنصات وروى عن أبى هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية وهذا أيضا تأويل بعيد لا يلائم معنى الآية لأن الذي في الآية إنما هو أمر بالاستماع والإنصات لقراءة غيره لاستحالة أن يكون مأمورا بالاستماع

٢١٥

والإنصات لقراءة نفسه إلا أن يكون معنى الحديث إنهم كانوا يتكلمون خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الصلاة فنزلت الآية فإن كان كذلك فهو في معنى تأويل الآخرين له على ترك القراءة خلف الإمام فقد حصل من اتفاق الجميع أنه قد أريد ترك القراءة خلف الإمام والاستماع والإنصات لقراءته ولو لم يثبت عن السلف اتفاقهم على نزولها في وجوب ترك القراءة خلف الإمام لكانت الآية كافية في ظهور معناها وعموم لفظها ووضوح دلالتها على وجوب الاستماع والإنصات لقراءة الإمام وذلك لأن قوله تعالى( وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) يقتضى وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها فإن قامت دلالة على جواز ترك الاستماع والإنصات في غيرها لم يبطل حكم دلالته في إيجابه ذلك فيها وكما دلت الآية على النهى عن القراءة خلف الإمام فيما يجهز به فهي دلالة على النهى فيما يخفى لأنه أوجب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن ولم يشترط فيه حال الجهر من الإخفاء فإذا جهر فعلينا الاستماع والإنصات وإذا أخفى فعلينا الإنصات بحكم اللفظ لعلمنا به قارئ للقرآن وقد اختلف الفقهاء في القراءة خلف الإمام فقال أصحابنا وابن سيرين وابن أبى ليلى والثوري والحسن بن صالح لا يقرأ فيما جهر وقال الشافعى يقرأ فيما جهر وفيما أسر وقال مالك يقرأ فيما أسر ولا يقرأ فيما جهر وقال الشافعى يقرأ فيما جهر وفيما أسر في رواية المزني وفي البويطى أنه يقرأ فيما أسر بأم القرآن وسورة في الأوليين وأم القرآن في الآخرين وفيما جهر فيه الإمام لا يقرأ من خلفه إلا بأم القرآن قال البويطى وكذلك يقول الليث والأوزاعى* قال أبو بكر قد بينا دلالة الآية على وجوب الإنصات عند قراءة الإمام في حال الجهر والإخفاء وقال أهل اللغة الإنصات الإمساك عن الكلام والسكوت لاستماع القراءة ولا يكون القارئ منصتا ولا ساكتا بحال وذلك لأن السكوت ضد الكلام وهو تسكين الآلة عن التحريك بالكلام الذي هو حروف مقطعة منظومة ضربا من النظام فهما يتضادان على المتكلم بآلة اللسان وتحريك الشفة ألا ترى أنه لا يقال ساكت متكلم كما لا يقال ساكن متحرك فمن سكت فهو غير متكلم ومن تكلم فهو غير ساكت فإن قال قائل قد يسمى مخفي القراءة ساكتا إذا لم تكن قراءته مسموعة كما روى عمارة عن أبى زرعة عن أبى هرير قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة فقلت له بأبى أنت وأمى أرأيت

٢١٦

سكتاتك بين التكبير والقراءة أخبرنى ما تقول قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب وذكر الحديث فسما* ساكتا وهو يدعوا خفيا فدل ذلك على أن السكوت إنما هو إخفاء القول وليس بتركه رأسا قيل له إنما سميناه ساكتا مجازا لأن من لا يسمعه يظنه ساكتا فلما أشبه الساكت في هذا الوجه سماه باسمه لقرب حاله من حال الساكت كما قال تعالى( صم بكم عمى ) تشبيها بمن هذه حاله وكما قال في الأصنام( وتراهم ينظرون إليك ) تشبيها لهم بمن ينظر وليس هو بناظر في الحقيقة فإن قيل لا يقرأه المأموم في حال قراءة الإمام وإنما يقرأ في حال سكوته وذلك لما روى الحسن عن سمرة بن جندب قال كان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم سكتات في صلاته إحداهما قبل القراءة والأخرى بعدها فينبغي للإمام أن تكون له سكتة قبل القراءة ليقرأ الذين أدركوا أول الصلاة فاتحة الكتاب ثم ينصب لقراءة الإمام فإذا فرغ سكت سكتة أخرى ليقرأ من لم يدرك أول الصلاة فاتحة الكتاب* قيل له أما حديث السكتتين فهو غير ثابت ولو ثبت لم يدل على ما ذكرت لأن سكتة الأولى إنما هي لذكر الاستفتاح والثانية إن ثبتت فلا دلالة فيها على أنها بمقدار ما يقرأ فاتحة الكتاب وإنما هي فصل بين القراءة وبين تكبير الركوع لئلا يظن من لا يعلم أن التكبير من القراءة إذا كان موصولا بها ولو كانت السكتتان كل واحدة منهما بمقدار قراءة فاتحة الكتاب لكان ذلك مستفيضا ونقله شائعا ظاهرا فلما لم ينقل ذلك من طريق الاستفاضة مع عموم الحاجة إليه إذ كانت مفعولة لأداء فرض القراءة من المأموم ثبت أنهما غير ثابتتين وأيضا فإن سبيل المأموم أن يتبع الإمام ولا يجوز أن يكون الإمام تابعا للمأموم فعلى قول هذا القائل يسكت الإمام بعد القراءة حتى يقرأ المأموم وهذا خلاف قوله صلّى الله عليه وآله وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به ثم مع ذلك يكون الأمر على عكس ما أمر به صلّى الله عليه وآله وسلم من قوله وإذا قرأ فانصتوا فأمر المأموم بالإنصات للإمام وهو بأمر الإمام بالإنصات للمأموم ويجعله تابعا له وذلك خلف من القول ألا ترى أن الإمام لو قام في الثنتين من الظهر ساهيا لكان على المأموم اتباعه ولو قام المأموم ساهيا لم يكن على الإمام اتباعه ولو سها المأموم لم يسجد هو ولا إمامه للسهو ولو سها الإمام ولم يسه المأموم لكان على المأموم اتباعه فكيف يجوز أن يكون الإمام مأمورا بالقيام ساكتا ليقرأ المأموم وقد روى في النهى عن القراءة خلف الإمام أثار مستفيضة عن

٢١٧

النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على أنحاء مختلفة فمنها حديث قتادة عن أبى غلاب يونس بن جبير عن حطان ابن عبد الله عن ابن أبى موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال إذا قرأ الإمام فانصتوا وحديث ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فانصتوا فهذان الخبران يوجبان الإنصات عند قراءة الإمام وقوله إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فانصتوا إخبار منه أن من الائتمام بالإمام الإنصات لقراءته وهذا يدل على أنه غير جائز أن ينصت الإمام لقراءة المأموم لأنه لو كان مأمورا بالإنصات له لكان مأمورا بالائتمام به فيصير الإمام مأموما والمأموم إماما في حالة واحدة وهذا فاسد ومنها حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة رواه جماعة عن جابر وفي بعض الألفاظ إذا كان لك إمام فقراءته لك قراءة ومنها حديث عمران بن حصين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن القراءة خلف الإمام رواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين وقد ذكرنا أسانيد هذه الأخبار في شرح مختصر الطحاوي * ومنها حديث مالك عن أبى نعيم وهب ابن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج وفي بعضها لم يصل إلا وراء الإمام فأخبر أن ترك قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام لا يوجب نقصانا في الصلاة ولو جاز أن يقرأ لكان تركها يوجب نقصا فيها كالمفرد وروى مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال هل قرأ معى أحد منكم آنفا قالوا نعم يا رسول الله قال إنى أقول مالي أنازع القرآن قال فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هل قرأ معى أحد منكم دل ذلك على أن القارئ خلفه أخفى قراءته ولم يجهر بها لأنه لو كان جهر بها لما أقر أهل معى أحد منكم ثم قال إنى أقول مالي أنازع القرآن وفي ذلك دليل على استواء حكم الصلاة التي يجهر فيها والتي تخافت لإخباره أن قراءة المأموم هي الموجبة لمنازعة القرآن وأما قوله فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله فلا حجة فيه لمن أجاز القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه من قبل أن ذلك قول الراوي وتأويل منه وليس فيه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فرق بين حال الجهر والإخفاء ومنها حديث يونس بن أبى إسحاق عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص عن عبد الله قال كنا نقرأ

٢١٨

خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال خلطتم على القرآن وهذا أيضا يدل على التسوية بين حال الجهر والإخفات* إذ لم يذكر فرقا بينهما* وروى الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز عن ابن بحينة وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال هل قرأ معى أحد آنفا في الصلاة قالوا نعم قال فإنى أقول مالي أنازع القرآن قال فانتهى الناس عن القراءة معه منذ قال ذلك فأخبر في هذا الحديث عن تركهم القراءة خلفه ولم يفرق بين الجهر والإخفاء فهذه الأخبار كلها يوجب النهى عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يسر ومما يدل على ذلك ما روى عن جلة الصحابة من النهى عن القراءة خلف الإمام وإظهار النكير على فاعله ولو كان ذلك شائعا لما خفى أمره على الصحابة لعموم الحاجة إليه ولكان من الشارع توقيف للجماعة عليه ولعرفوه كما عرفوا القراءة في الصلاة إذ كانت الحاجة إلى معرفة القراءة خلف الإمام كهي إلى القراءة في الصلاة للمنفرد أو الإمام فلما روى عن جلة الصحابة إنكار القراءة خلف الإمام ثبت أنها غير جائزة فممن نهى عن القراءة خلف الإمام على وابن مسعود وسعد وجابر وابن عباس وأبو الدرداء وأبو سعيد وابن عمر وزيد بن ثابت وأنس وروى عبد الرحمن بن أبى ليلى عن على قال من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة وروى أبو إسحاق عن علقمة عن عبد الله عن زيد بن ثابت قال من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابا وروى وكيع عن عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد ابن ثابت قال من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له وقال أبو حمزة قلت لابن عباس أقرأ خلف الإمام قال لا وقال أبو سعيد يكفيك قراءة الإمام قال أنس القراءة خلف الإمام التسبيح يعنى والله أعلم التسبيح في الركوع وذكر الاستفتاح وقال منصور عن إبراهيم ما سمعنا بالقراءة خلف الإمام حتى كان المختار الكذاب فاتهموه فقرءوا خلفه وقال سعد وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة واحتج موجبو القراءة خلف الإمام بحديث محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر فتعامى عليه القراءة فلما سلم قال أتقرءون خلفي قالوا نعم يا رسول الله قال لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وهذا حديث مضطرب السند مختلف في رفعه وذلك أنه رواه صدقة بن خالد عن زيد بن واقد عن مكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة عن عبادة ونافع بن محمود هذا مجهول لا يعرف وقد

٢١٩

روى هذا الحديث ابن عون عن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع موقوفا على عبادة لم يذكر فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد روى أيوب عن أبى قلابة عن أنس قال صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ثم أقبل بوجهه فقال أتقرءون والإمام يقرأ فسكتوا فسألهم ثلاثا فقالوا إنا لنفعل فقال لا تفعلوا فلم يذكر فيه استثناء فاتحة الكتاب وإنما أصل حديث عبادة ما رواه يونس عن ابن هشام قال أخبرنى محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ القرآن فلما اضطرب حديث عبادة هذا الاضطراب في السند والرفع والمعارضة لم يجز الاعتراض به على ظاهر القرآن والآثار الصحاح النافية للقراءة خلف الإمام وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا صلاة إلا بأم القرآن فليس فيه إيجاب قراءتها خلف الإمام لأن هذه صلاة بأم القرآن إذ كانت قراءة الإمام له قراءة وكذلك حديث العلاء ابن عبد الرحمن عن أبى السائب مولى هشام بن زهرة عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام فقلت يا أبا هريرة إنى أكون أحيانا خلف الإمام فغمز ذراعي وقال أقرأ يا فارسي في نفسك فلا حجة لهم فيه لأن أكثر ما فيه أنها خداج والخداج إنما هو النقصان ويدل على الجواز لوقوع اسم الصلاة عليها وأيضا فإنه في المنفرد ليجمع بينه وبين الآية والأخبار التي قدمناها في نفى القراءة خلف الإمام وأما قول أبى هريرة أقرأ بها في نفسك فإنه لم يعز ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقوله لا تثبت به حجة ومما يدل على أن أخبارنا أولى اتفاق الجميع على استعمالها في النهى عن القراءة خلف الإمام في حال جهر الإمام وخبرهم مختلف فيه فكان ما اتفقوا على استعماله في حال أولى مما اختلف فيه فإن قيل نستعمل الأخبار كلها فيكون أخبار النهى فيما عدا فاتحة الكتاب وأخبار الأمر بالقراءة في فاتحة الكتاب قيل له هذا يبطل بما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله علمت أن بعضكم خالجنيها وقوله مالي أنازع القرآن والقرآن لا يختص بفاتحة الكتاب دون غيرها فعلمنا أنه أراد الجميع وقال في حديث وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج إلا وراء الإمام فنص على تركها خلف الإمام وذلك يبطل تأويلك وقولك باستعمال الأخبار بل أنت رادها غير مستعمل لها فإن قيل ما استدللت به من قول الصحابة لا دليل فيه لأنهم قد خالفهم نظراؤهم فمن ذلك ما رواه عبد الواحد بن زياد قال حدثنا سليمان الشيباني عن جواب

٢٢٠