أحكام القرآن الجزء ٤

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 412

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 412
المشاهدات: 61963
تحميل: 5589


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 412 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61963 / تحميل: 5589
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم كله هاهنا الحرم في حكم المسجد لما وصفنا فعبر عن الحرم بالمسجد وعبر عن الحج بالحرم ويدل على أن المراد بالمسجد قوله تعالى( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية وهي على شفير الحرم وذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام وإنما هي عند الحرم وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضى اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كانوا مأمورين باجتناب الأنجاس وقوله تعالى( بعد عامهم هذا ) فإن قتادة ذكر أن المراد العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق فتلا على سورة براءة وهو لتسع مضين من الهجرة وكان بعده حجة الوداع سنة عشر قوله تعالى( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) فإن العيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر قال الشاعر :

وما يدرى الفقير متى غناه

وما يدرى الغنى متى يعيل

وقال مجاهد وقتادة كانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين فأخبر الله تعالى أنه يغنيهم من فضله فقيل إنه أراد الجزية المأخوذة من المشركين وقيل أراد الإخبار بإبقاء المتاجر من جهة المسلمين لأنه كان عالما أن العرب وأهل بلدان العجم سيسلمون ويحجون فيستغنون بما ينالون من منافع متاجرهم من حضور المشركين وهو نظير قوله تعالى( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ) الآية فأخبر تعالى عما في حج البيت والهدى والقلائد من منافع الناس ومصالحهم في دنياهم ودينهم وأخبر في قوله( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) عما ينالون من الغنى بحج المسلمين وإن كانوا قليلين في وقت نزول الآية وإنما علق الغنى بالمشيئة المعنيين كل واحد منهما جائز أن يكون مرادا أحدهما إنه لما كان منهم من يموت ولا يبلغ هذا الغنى الموعود به علقه بشرط المشيئة والثاني لينقطع الآمال إلى الله في إصلاح أمور الدنيا والدين كما قال الله تعالى( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) .

باب أخذ الجزية من أهل الكتاب

قال الله عز وجل( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم

٢٨١

الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع إظهارهم الإيمان بالنشور والبعث وذلك يحتمل وجوها أحدها أن يكون مراده لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي يجرى حكم الله فيه من تخليد أهل الكتاب في النار وتخليد المؤمنين في الجنة فلما كانوا غير مؤمنين بذلك أطلق القول فيهم بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ومراده حكم يوم الآخر وقضاؤه فيه كما تقول أهل الكتاب غير مؤمنين بالنبي والمراد بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل فيه إنه أطلق ذلك فيهم على طريق الذم لأنهم بمنزلة من لا يقربه في عظم الحرم كما أنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله تعالى بكفرهم الذي اعتقدوه وقيل أيضا لما كان إقرارهم عن غير معرفة لم يكن ذلك إيمانا وأكثرهم بهذه الصفة وقوله تعالى( ولا يدينون دين الحق ) فإن دين الحق هو الإسلام قال الله تعالى( إن الدين عند الله الإسلام ) وهو التسليم لأمر الله وما جاءت به رسله والانقياد له والعمل به والدين ينصرف على وجوه منها الطاعة ومنها القهر ومنها الجزاء قال الأعشى :

هو دان الرباب أذكر هو الد

دين دراكا بغزوة وصيال

يعنى قهر الرباب أذكر هو إطاعته وأبوا الانقياد له وقوله تعالى( مالك يوم الدين ) قيل إنه يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان ودين اليهود والنصارى غير دين الحق لأنهم غير منقادين لأمر الله ولا طائعين له لجحودهم نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم فإن قيل فهم يدينون بدين التوراة والإنجيل معترفون به منقادين له قيل له في التوراة والإنجيل ذكر نبينا وأمرنا بالإيمان واتباع شرائعه وهم غير عاملين بذلك بل تاركون له فهم غير متبعين دين الحق وأيضا فإن شريعة التوراة والإنجيل قد نسخت والعمل بها بعد النسخ ضلال فليس هو إذا دين الحق وأيضا فهم قد غيروا المعاني وحرفوها عن مواضعها وأزالوها إلى ما تهواه أنفسهم دون ما أوجبه عليهم كتاب الله تعالى فهم غير دائنين دين الحق قوله تعالى( من الذين أوتوا الكتاب ) فإن أهل الكتاب من الكفار هم اليهود والنصارى لقوله تعالى( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) فلو كان المجوس أو غيرهم من أهل الشرك من أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف وقد اقتضت الآية أن أهل الكتاب طائفتان وقد بيناه فيما سلف وتقدم الكلام أيضا في حكم الصابئين وهل هم أهل الكتاب

٢٨٢

أم لا وهم فريقان أحدهما بنوا حي كسكر والبطائح وهم فيما بلغنا صنف من النصارى. وإن كانوا مخالفين لهم في كثير من ديانتهم لأن النصارى فرق كثيرة منهم المرقونية والأريوسية والمارونية والفرق الثلاث من النسطورية والملكية واليعقوبية يبرءون منهم ويحرمون وهم ينتمون إلى يحيى بن زكريا وشيث وينتحلون كتبا يزعمون أنها كتب الله التي أنزلها على شيث بن آدم ويحيى بن زكريا والنصارى تسميهم يوحنا سية فهذه الفرقة يجعلها أبو حنيفة رحمه الله من أهل الكتاب ويبيح أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم وفرقة أخرى قد تسمت بالصابئين وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة الأوثان ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينحلون شيئا من كتب الله فهؤلاء ليسوا أهل الكتاب ولا خلاف أن هذه النحلة لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم فمذهب أبى حنيفة في جعله الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة الأولى وأما أبو يوسف ومحمد فقالا إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وقد روى في ذلك اختلاف بين التابعين وروى هشيم أخبرنا مطرف قال كنا عند الحكم بن عيينة فحدثه رجل عن الحسن البصري أنه كان يقول في الصابئين هم بمنزلة المجوس فقال الحسن أليس قد كنت أخبرتكم بذلك وروى عباد بن العوام عن الحجاج عن القاسم بن أبى بزة عن مجاهد قال الصابئون قوم من المشركين والنصارى ليس لهم كتاب وكذلك قول الأوزاعى ومالك ابن أنس وروى يزيد بن هارون عن حبيب بن أبى حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر ابن زيد أنه سئل عن الصابئين أمن أهل الكتاب هم وطعامهم ونساؤهم حل للمسلمين فقال نعم وأما المجوس فليسوا أهل كتاب بدلالة الآية ولما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وفي ذلك دلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب وقد اختلف أهل العلم فيمن تؤخذ منهم الجزية من الكفار بعد اتفاقهم على جواز إقرار اليهود والنصارى بالجزية فقال أصحابنا لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وتقبل من أهل الكتاب من العرب من سائر كفار العجم الجزية وذكر ابن القاسم عن مالك أنه تقبل من الجميع الجزية إلا من مشركي العرب وقال مالك في الزنج ونحوهم إذا سبوا يجبرون على الإسلام وروى عن مجاهد أنه قال يقاتل أهل الكتاب على الجزية وأهل الأوثان على الصلاة ويحتمل أن يريد به أهل الأوثان من العرب وقال الثوري العرب لا يسبون وهو إذا سبوا ثم

٢٨٣

تركهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال الشافعى لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما قال أبو بكر قوله تعالى( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) يقتضى قتل سائر المشركين فمن الناس من يقول إن عمومه مقصور على عبدة الأوثان دون أهل الكتاب والمجوس لأن الله تعالى قد فرق في اللفظ بين المشركين وبين أهل الكتاب والمجوس بقوله تعالى( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ) فعطف بالمشركين على هذه الأصناف فدل ذلك على أن إطلاق هذا اللفظ يختص بعبدة الأوثان وإن كان الجميع من النصارى والمجوس والصابئين المشركين وذلك لأن النصارى قد أشركت بعبادة الله وعبادة المسيح والمجوس مشركون من حيث جعلوا لله ندا مغالبا والصابئون فريقان أحدهما عبدة الأوثان والآخر لا يعبدون الأوثان ولكنهم مشركون في وجوه أخر إلا أن إطلاق لفظ المشرك يتناول عبدة الأوثان فلم يوجب قوله تعالى( فاقتلوا المشركين ) إلا قتل عبدة الأوثان دون غيرهم وقال آخرون لما كان معنى الشرك موجودا في مقالات هذه الفرق من النصارى والمجوس والصابئين فقد انتظمهم اللفظ ولو لا ورود آية التخصيص في أهل الكتاب خصوا من الجملة ومن عداهم محمولون على حكم الآية عربا كانوا أو عجما ولم يختلفوا في جواز إقرار المجوس بالجزية وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك أخبار وروى سفيان بن عيينة عن عمرو أنه سمع مجالدا يقول لم يكن عمر بن الخطاب يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر وروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدرى كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب وروى يحيى بن آدم عن المسعودي عن قتادة عن أبى مجلز قال كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المنذر أنه من استقبل قبلتنا وصلّى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ومن أحب ذلك من المجوس فهو آمن ومن أبى فعليه الجزية وروى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم منهم قبل منه ومن أبى ضربت عليه الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة وروى الطحاوي عن بكار بن قتيبة قال حدثنا عبد الرحمن ابن عمران قال حدثنا عوف كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدى بن أرطاة أما بعد فاسئل

٢٨٤

الحسن ما يقع من قبلنا من الأئمة أن يحولوا بين المجوس وبين ما يجمعون من النساء اللاتي لا يجمعهن أحد غيرهم فسأله فأخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل من مجوس البحرين الجزية وأقرهم على مجوسيتهم وعامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ على البحرين العلاء بن الحضرمي وفعله بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر وعثمان وروى معمر عن الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صالح أهل الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد وأن عثمان أخذها من بربر وفي هذه الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من المجوس وفي بعضها أنه أخذها من عبدة الأوثان من غير العرب ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز أخذ الجزية من المجوس وقد نقلت الأمة أخذ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس السواد فمن الناس من يقول إنما أخذها لأن المجوس أهل كتاب ويحتج في ذلك بما روى سفيان بن عيينة عن أبى سعيد عن نصر بن عاصم عن على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان أخذوا الجزية من المجوس وقال على أنا أعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرءونه وأهل علم يدرسونه فنزع ذلك من صدورهم وقد ذكرنا فيما تقدم من الدلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب من جهة الكتاب والسنة وأما ما روى عن على في ذلك أنهم كانوا أهل كتاب فإنه إن صحت الرواية فإن المراد أن أسلافهم كانوا أهل كتاب لإخباره بأن ذلك نزع من صدورهم فإذا ليسوا أهل كتاب في هذا الكتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب ما روى في حديث الحسن بن محمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في مجوس البحرين إن من أبى منهم الإسلام ضربت عليه الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة ولو كانوا أهل كتاب لجاز أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم لأن الله تعالى قد أباح ذلك من أهل الكتاب ولما ثبت أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزية من المجوس وليسوا أهل كتاب ثبت جواز أخذها من سائر الكفار أهل كتاب كانوا أو غير أهل كتاب إلا عبدة الأوثان من العرب لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وبقوله تعالى( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وهذا في عبدة الأوثان من العرب ويدل على جواز أخذ الجزية من سائر المشركين سوى مشركي العرب حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا بعث سرية قال إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا

٢٨٥

رسول الله فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية وذلك عام في سائر المشركين وخصصنا منهم مشركي العرب بالآية وسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم.

باب حكم نصارى بنى تغلب

قال الله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ـ إلى قوله ـمن الذين أوتوا الكتاب ) ونصارى بنى تغلب منهم لأنهم ينتحلون نحلتهم وإن لم يكونوا متمسكين بجميع شرائعهم وقال الله تعالى( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) فجعل الله تعالى من يتولى قوما منهم فهو في حكمهم ولذلك قال ابن عباس في نصارى بنى تغلب أنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم لقوله تعالى( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وذلك حين قال على رضى الله عنه إنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر قال ابن عباس ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم حين جاءه فقال له أما تقول إلا أن يقال لا إله إلا الله فقال إن لي دينا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا أعلم به منك ألست ركوسيا قال نعم قال ألست تأخذ المرباع قال نعم قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك فنسبه إلى صنف من النصارى مع إخباره بأنه غير متمسك به فأخذه المرباع وهو ربع الغنيمة غير مباحة في دين النصارى فثبت بذلك أن انتحال بنى تغلب لدين النصارى يوجب أن يكون حكمهم حكمهم وأن يكونوا أهل كتاب وإذا كانوا من أهل الكتاب وجب أخذ الجزية منهم والجزاء والجزية واحد وهو أخذ المال منهم عقوبة وجزاء على إقامتهم على الكفر ولم يذكر في الآية لها مقدارا معلوما ومهما أخذ منهم على هذا الوجه فإن اسم الجزية يتناوله وقد وردت أخبار متواترة عن أئمة السلف في تضعيف الصدقة في أموالهم على ما يأخذ من المسلمين وهو قول أهل العراق وأبى حنيفة وأصحابه والثوري وهو قول الشافعى وقال مالك في النصراني إذا أعتقه المسلم فلا جزية عليه ولو جعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضربه ولم ينفعه شيئا ولا تحفظ عن مالك في بنى تغلب شيئا وروى يحيى بن آدم قال حدثنا عبد السلام عن أبى إسحاق الشيباني عن السفاح عن داود بن كردوس عن عمارة بن النعمان أنه قال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين إن بنى تغلب قد علمت شوكتهم وأنهم بإزاء العدو فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤنتهم فإن رأيت أن تعطيهم شيئا فافعل فصالحهم على أن لا يقسموا أولادهم في النصرانية وتضاعف عليهم الصدقة قال وكان عمارة يقول قد فعلوا فلا عهد لهم وهذا

٢٨٦

خبر مستفيض عند أهل الكوفة وقد وردت به الرواية والنقل الشائع عملا وهو مثل أخذ الجزية من أهل السواد على الطبقات الثلاث ووضع الخراج على الأرضين ونحوها من العقود التي عقدها على كافة الأمة فلم يختلفوا في نفاذها وجوازها وقد روى عن على أنه قال لئن بقيت لنصارى بنى تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين الذرية وذلك إنى كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا ينصروا أولادهم ولم يخالف عمر في ذلك أحد من الصحابة فانعقد به إجماعهم وثبت به اتفاقهم وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المسلمون تتكافا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويعتقد عليهم أو لهم ومعناه والله يعلم جواز عقود ائمة العدل على الأمة* فإن قيل أمر الله بأخذ الجزية منهم* فلا يجوز لنا الاقتصار بهم على أخذ الصدقة منهم وإعفاؤهم من الجزية* قيل له الجزية ليس لها مقدار معلوم فيما يقتضيه ظاهر لفظها وإنما هي جزاء وعقوبة على إقامتهم على الكفر والجزاء لا يختص بمقدار دون غيره ولا بنوع من المال دون ما سواه والمأخوذ من بنى تغلب هو عندنا جزية ليست بصدقة وتوضع موضع الفيء لأنه لا صدقة لهم إذ كان سبيل الصدقة وقوعها على وجه القربة ولا قربة لهم وقد قال بنو تغلب نؤدى الصدقة ومضاعفة ولا نقبل أداء الجزية فقال عمر هو عندنا جزية وسموها أنتم ما شئتم فأخبر عمر أنها جزية وإن كانت حقا مأخوذا من مواشيهم وزرعهم* فإن قيل لو كانت* جزية لما أخذت من نسائهم لأن النساء لا جزية عليهن* قيل له يجوز أخذ الجزية من النساء على وجه الصلح كما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بعض أمرائه على بعض بلدان اليمن أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا أو عدله من المعافر وقال أصحابنا تؤخذ من موالي بنى تغلب إذا كانوا كفارا الجزية ولا تضاعف عليهم الحقوق في أموالهم لأن عمر إنما صالح بنى تغلب على ذلك ولم يذكر فيه الموالي فمواليهم باقون على حكم سائر أهل الذمة في أخذ جزية الرءوس منهم على الطبقات المعلومة وليس بواجب أن يكونوا في حكم مواليهم كما أن المسلم إذا أعتق عبدا نصرنيا لا يكون في حكم مولاه في باب سقوط الجزية عنه فإن قيل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موالي القوم من أنفسهم * قيل له مراده أنه منهم في الانتساب إليهم نحو مولى بنى هاشم يسمى هاشميا ومولى بنى تميم يسمى تميميا وفي النصرة والعقل كما يعقل عنه ذوى الأنساب فهذا معنى قوله موالي القوم منهم ولا دلالة فيه على أن حكمه

٢٨٧

حكمهم في إيجاب الجزية وسقوطها وأما شرط عمر عليهم أن لا يغمسوا أولادهم في النصرانية فإنه قد روى في بعض الأخبار أنه شرط أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية إذا أرادوا الإسلام فإنما شرط عليهم بذلك أنه ليس لهم أن يمنعوا أولادهم الإسلام إذا أرادوه وقد حدثنا مكرم بن أحمد بن مكرم قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال سمعت أبا عبيد يقول كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقم وكان الحسن بن زياد معتل القلب على محمد بن الحسن فقام ودخل ودخل الناس من أصحاب الخليفة فأمهل الرشيد يسيرا ثم خرج الإذن فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابه له فأدخل فأمهل ثم خرج طيب النفس مسرورا قال قال لي مالك لم تقم مع الناس قال كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها إنك أهلتنى للعلم فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة منه وإن ابن عمك صلّى الله عليه وسلّم قال من أحب أن يميل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار وأنه إنما أراد بذلك العلماء فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هبة للعدو ومن قعد اتباعا للسنة التي عنكم أخذت فهو زين لكم قال صدقت يا محمد ثم شاورنى فقال إن عمر بن الخطاب صالح بنى تغلب على أن لا ينصروا أولادهم وقد نصروا أبناءهم وحلت بذلك دماءهم فما ترى قال قلت إن عمر أمرهم بذلك وقد نصروا أولادهم بعد عمر واحتمل ذلك عثمان وابن عمك وكان من العلم بما لا خفا به عليك وجرت بذلك السنن فهم أصلح من الخلفاء بعده ولا شيء يلحقك في ذلك وقد كشفت لك العلم ورأيك أعلى قال لا ولكنا نجريه على ما أجروه إن شاء الله إن الله جل اسمه أمر نبيه بالمشهور تمام المائة التي جعلها الله له فكان يشاور في أمره فيأتيه جبريل بتوفيق الله ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك ومر أصحابك بذلك وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أصحابك قال فخرج له مال كثير ففرقه قال أبو بكر فهذا الذي ذكره محمد في إقرار الخلفاء بنى تغلب على ما هم عليه من صبغهم أولادهم في النصرانية حجة في تركهم على ما هم عليه وأنهم بمنزلة سائر النصارى فلا تخلوا مصالحة عمر إياهم أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية من أحد معنيين إما أن يكون مراده وأن لا يكرهوهم على الكفر إذا أرادوا الإسلام وأن ينشئوهم على الكفر من صغرهم فإن أراد الأول فإنه لم يثبت أنهم منعوا أحدا من أولادهم التابعين من الإسلام وأكرهوهم على الكفر فيصيروا به ناقضين للعهد وخالعين للذمة وإن كان المراد

٢٨٨

الوجه الثاني فإن عليا وعثمان لم يعترضوا عليهم ولم يقتلوهم وأما قول مالك في العبد النصراني إذا أعتقه المسلم أنه لا جزية عليه فترك لظاهر الآية بغير دلالة إذ لا فرق بين من أعتقه مسلم وبين سائر الكفار الذين لم يعتقوا وأما قوله لو جعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضربه ولم ينفعه شيئا فليس كذلك لأنه في حال الرق إنما لم تلزمه الجزية لأن ماله لمولاه والمولى المسلم لا يجوز أخذ الجزية منه والجزية إنما تؤخذ من مال الكفار عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر والعبد لا مال له فتؤخذ منه فإذا عتق وملك المال وجبت الجزية وأخذنا الجزية منه لم يسلبه منافع العتق في جواز التصرف على نفسه وزوال ملك المولى وأمره عنه وتمليكه سائر أمواله وإنما الجزية جزء يسير من ماله قد حقن بها دمه فمنفعة العتق حاصلة له.

باب من تؤخذ منه الجزية

قال الله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ـ إلى قوله ـحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فكان معقولا من فحوى الآية ومضمونها أن الجزية مأخوذة ممن كان منهم من أهل القتال لاستحالة الخطاب بالأمر بقتال من ليس من أهل القتال إذ القتال لا يكون إلا بين اثنين ويكون كل واحد منهما مقاتلا لصاحبه وإذا كان كذلك ثبت أن الجزية مأخوذة ممن كان من أهل القتال ومن يمكنه أداؤه من المحترفين ولذلك قال أصحابنا إن من لم يكن من أهل القتال فلا جزية عليه فقالوا من كان أعمى أو زمنا أو مفلوجا أو شيخا كبيرا فانيا وهو موسر فلا جزية عليه وهو قولهم جميعا في الرواية المشهورة وروى عن أبى يوسف في الأعمى والزمن والشيخ الكبير أن عليهم الجزية إذا كانوا موسرين وروى عنه مثل قول أبى حنيفة وروى ابن رستم عن محمد في نوادره قال قلت أرأيت أهل الذمة من بنى تغلب وغيرهم ليس لهم حرفة ولا مال ولا يقدرون على شيء قال لا شيء عليهم قال محمد وإنما يوضع الخراج على الغنى والمعتمل منهم وقال محمد في النصراني يكتسب ولا يفضل له شيء عن عياله إنه لا يؤخذ بخراج رأسه وقالوا في أصحاب الصوامع والسياحين إذا كانوا لا يخالطون الناس فعليهم الجزية وكذلك النساء والصبيان لا جزية عليهم إذ ليسوا من أهل

٢٨٩

القتال وروى أيوب وغيره عن نافع عن أسلم قال كتب عمر إلى أمراء الجيوش أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ولا يقتلوا النساء والصبيان ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسى وكتب إلى أمراء الأجناد أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النساء والصبيان ولا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسى وروى عاصم عن أبى وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن وأمرنى أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر وأما مقدار الجزية قال الله تعالى( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فلم تكن في ظاهر الآية دلالة على مقدار منها بعينه وقد اختلف الفقهاء في مقدارها فقال أصحابنا على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما وعلى الوسط أربعة وعشرون درهما وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما وهو قول الحسن بن صالح وقال مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق الغنى والفقير سواء لا يزاد ولا ينقص وقال الشافعى دينار على الغنى والفقير وروى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال بعث عمر بن الخطاب عثمان بن حنيف فوضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين درهما واثنى عشر درهما وروى الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن عمرو بن ميمون قال بعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة وبعث عثمان بن حنيف على ما دون دجلة فأتياه فسألهما كيف وضعتما على أهل الأرض قالا وضعنا على كل رجل أربعة دراهم في كل شهر قال ومن يطيق هذا قالا إن لهم فضولا فذكر عمرو بن ميمون ثمانية وأربعون درهما ولم يفصل الطبقات وذكر حارثة بن مضرب تفصيل الطبقات الثلاث فالواجب أن يحمل ما في حديث عمرو بن ميمون على أن مراده أكثر ما وضع من الجزية وهو ما على الطبقة العليا دون الوسطى والسفلى وروى مالك عن نافع عن أسلم أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام وهذا نحو رواية عمر بن ميمون لأن أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام مع الأربعين يفي ثمانية وأربعون درهما فكان الخبر الذي فيه تفصيل الطبقات الثلاث أولى بالاستعمال لما فيه من الزيادة وبيان حكم كل طبقة ولأن من وضعها على الطبقات فهو قائل بخبر الثمانية والأربعين ومن اقتصر على الثمانية والأربعين فهو تارك للخبر الذي فيه ذكر تمييز الطبقات وتخصيص كل واحد بمقدار منها واحتج من قال

٢٩٠

بدينار على الغنى والفقير بما روى معاذ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر وهذا عندنا فيما كان منه على وجه الصلح أو يكون ذلك جزية الفقراء منهم وذلك عندنا جائز والدليل عليه ما روى في بعض أخبار معاد أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمره أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا ولا خلاف أن المرأة لا تأخذ منها الجزية إلا أن يقع الصلح عليه وروى أبو عبيد عن جرير عن منصور عن الحكم قال كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاذ وهو باليمن أن في الحالم والحالمة دينارا أو عدله من المعافر قال أبو عبيد وحدثنا عثمان بن صالح عن عبد الله بن لهيعة عن أبى الأسود عن عروة بن الزبير قال كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن أنه من كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا ينقل عنها وعليه الجزية وعلى كل حالم ذكر أو أنثى عبد أو أمة دينار أو قيمته من المعافر ويدل على أن الجزية على الطبقات الثلاث أن خراج الأرضين جعل على مقدار الطاقة واختلف بحسب اختلافها في الأرض وغلتها فجعل على بعضها قفيزا ودرهما وعلى بعضها خمسة دراهم وعلى بعضها عشرة دراهم فوجب على ذلك أن يكون كذلك حكم خراج الرءوس على قدر الإمكان والطاقة ويدل على ذلك قول عمر لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما أهل الأرض ما لا يطيقون فقالا بل تركنا لهم فضلا وهذا يدل على أن الاعتبار بمقدار الطاقة وذلك يوجب اعتبار حالي الإعسار واليسار وذكر يحيى ابن آدم أن الجزية على مقدار الاحتمال بغير توقيت وهو خلاف الإجماع وحكى عن الحسن بن صالح أنه لا تجوز الزيادة في الجزية على وظيفة عمر ويجوز النقصان على حسب الطاقة وقد روى الحكم عن عمرو بن ميمون أنه شهد عمر يقول لعثمان بن حنيف والله لئن وضعت على كل جريب من الأرض قفيزا ودرهما وعلى كل رأس درهمين لا يشق ذلك عليهم ولا يجهدهم قال وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين واحتج من قال بجواز الزيادة بهذا الحديث وهذا ليس بمشهور ولم تثبت به رواية واحتجوا أيضا بما روى أبو اليمان عن صفوان بن عمرو عن عمر بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين وهذا عندنا على أنه ذاهب من الطبقة الوسطى فأوجب ذلك عليهم على ما رأى من احتمالهم له كما روى سفيان بن عيينة عن ابن أبى نجيح قال سألت مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن قال لليسار.

٢٩١

في تمييز الطبقات

قال أبو يوسف في كتاب الخراج تؤخذ منهم على الطبقات على ما وصفت ثمانية وأربعين على الموسر مثل الصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة والتاجر والمعالج والطبيب وكل من كان في يده منهم صنعة وتجارة يحترف بها أخذ من أهل كل صناعة وتجارة على قدر صناعتهم وتجارتهم ثمانية وأربعون على الموسر وأربعة وعشرون من المتوسط من احتملت صناعته ثمانية وأربعون أخذ منه ذلك ومن احتملت أربعة وعشرين أخذ ذلك منه واثنا عشر على العامل بيده مثل الخياط والصباغ والجزار والإسكاف ومن أشبههم فلم يعتبر الملك واعتبر الصنعات والتجارات على ما جرت به عادة الناس في الموسر والمعسر منهم وذكر على بن موسى القمي من غير أن عزى ذلك إلى أحد من أصحابنا أن الطبقة الأولى من يحترف وليس له ما يجب في مثله الزكاة على المسلمين وهم الفقراء المحترفون فمن كان له أقل من مائتي درهم فهم من أهل هذه الطبقة قال والطبقة الثانية أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم فما زاد إلى أربعة آلاف درهم لأن من له مائتا درهم غنى تجب عليه الزكاة لو كان مسلما فهو خارج عن طبقة الفقراء قال وإنما أخذنا اعتبار الأربعة الآلاف من قول على رضى الله عنه وابن عمر أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوق ذلك فهو كثير قال وقد يجوز أن تجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم وما زاد على ذلك فهو من الطبقة الثالثة لما روى حماد بن سلمة عن طلحة بن عبد الله بن كريز عن أبى الضيف عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة وهذا الذي ذكره على بن موسى القمي هو اجتهاد يسوغ القول به لمن غلب في ظنه صوابه وقوله تعالى( عن يد ) قال قتادة عن قهر كأنه ذهب في اليد إلى القوة والقدرة والاستعلاء فكأنه قال على استعلاء منكم عليهم وقهرهم وقيل عن يد يعنى عن يد الكافر وإنما ذكر اليد ليفارق حال الغضب لأنه يعطيها بيده راضيا بها حاقنا بها دمه فكأنه قال حتى يعطيها وهو راض بها ويحتمل عن يد عن نعمة فيكون تقديره حتى يعطوا الجزية عن اعتراف منهم بالنعمة فيها بقبولها منهم وقال بعضهم عن يد يعنى عن نقد من قولهم يدا بيد وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى كل من أطاع لقاهر بشيء أعطاه عن طيب نفس وقهر له من يد في يده فقد أعطاه عن يد قال والصاغر الذليل الحقير وقوله( وهم صاغرون ) قال ابن عباس يمشون

٢٩٢

بها ملببين وقال سلمان مذمومين غير محمودين وقيل إنما كان صغارا لأنها مستحقة عليهم يؤخذون بها ولا يثابون عليها وقال عكرمة الصغار إعطاء الجزية قائما والآخذ جالس وقيل الصغار الذل ويجوز أن يكون المراد به الذلة التي ضربها الله عليهم بقوله( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) والحبل الذمة التي عهدها الله لهم وأمر المسلمين بها فيهم وروى عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب أنه كان يستحب أن يتعب الأنباط في الجزية إذا أخذت منهم قال أبو بكر ولم يرد بذلك تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذ لا لهم وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسن حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا مطير قال حدثنا يوسف الصفار قال حدثنا أبو بكر ابن عياش عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تصافحوا اليهود والنصارى فهذا كله من الصغار الذي ألبس الله الكفار بكفرهم ونحوه قوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) الآية وقال( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) فنهى في هذه الآيات عن موالاة الكفار وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذ لا لهم ونهى عن الاستعانة بهم في أمور المسلمين لما فيه من العز وعلو اليد وكذلك كتب عمر إلى أبى موسى ينهاه أن يستعين بأحد من أهل الشرك في كتابته وتلا قوله تعالى( لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ) وقال لا تردوهم إلى العز بعد إذلالهم الله وقوله تعالى( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) قد اقتضى وجوب قتلهم إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة فغير جائز على هذه القضية أن تكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولايات ونفاذ الأمر والنهى إذ كان الله إنما جعل لهم الذمة وحقن دماءهم بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغصوب وأخذ الضرائب والظلم سواء كان السلطان ولاه ذلك أو فعله بغير أمر السلطان وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان وظهر منهم ظلم واستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة وإن كان آخذ الضرائب ممن ينتحل الإسلام والقعود على المراصيد لأخذ أموال

٢٩٣

الناس يوجب إباحة دمائهم إذ كانوا بمنزلة قطاع الطريق ومن قصد إنسانا لأخذ ماله فلا خلاف بين الفقهاء أن له قتله وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من طلب ماله فقاتل فقتل فهو شهيد وفي خبر آخر من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد فإذا كان هذا حكم من طلب أخذ مال غيره غصبا وهو ممن ينتحل الإسلام فالذمى إذا فعل ذلك استحق القتل من وجهين أحدهما ما اقتضاه ظاهر الآية من وجوب قتله والآخر قصده المسلم بأخذ ماله ظلما.

باب وقت وجوب الجزية

قال الله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ـ إلى قوله ـحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فأوجب قتالهم وجعل إعطاء الجزية غاية لرفعه عنهم لأن حتى غاية هذا حقيقة اللفظ والمفهوم من ظاهره ألا ترى أن قوله( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) قد حظر إباحة قربهن إلا بعد وجود طهرهن وكذلك المفهوم من قول القائل لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار منع الإعطاء إلا بعد دخوله فثبت بذلك أن الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية وهذا يدل على أن الجزية قد وجبت بعقد الذمة وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وذكر ابن سماعة عن أبى يوسف قال لا تؤخذ من الذمي الجزية حتى تدخل السنة ويمضى شهران منها بعض ما عليه بشهرين ونحو ذلك يعامل في الجزية بمنزلة الضريبة كلما كان يمضى شهران أو نحو ذلك أخذت منه قال ابو بكر يعنى بالضريبة الأجرة في الإجارات قال أبو يوسف ولا يؤخذ ذلك منه حين تدخل السنة ولا يؤخذ ذلك منه حتى تتم السنة ولكن يعامل ذلك على سنته قال أبو بكر ذكره للشهرين إنما هو توفية وهي واجبة بإقرارنا إياها على الذمة لما تضمنه ظاهر الآية وذكر ابن سماعة عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أنه قال في الذمي يؤخذ منه خراج رأسه في سنته مادام فيها فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه وهذا يدل من قول أبى حنيفة على أنه رآها واجبة بعقد الذمة لهم وأن تأخيرها بعض السنة إنما هو توفية للواجب وتوسعة ألا ترى أنه قال فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه لأن دخول السنة الثانية يوجب جزية أخرى فإذا اجتمعتا سقطت إحداهما وعن أبى يوسف ومحمد اجتماعهما لا يسقط إحداهما وجه قول أبى حنيفة أن الجزية واجبة على وجه العقوبة لإقامتهم على الكفر مع

٢٩٤

كونهم من أهل القتال وحق الأخذ فيها إلى الإمام فأشبهت الحدود إذ كانت مستحقة في الأصل على وجه العقوبة وحق الأخذ إلى الإمام فلما كان اجتماع الحدود من جنس واحد يوجب الاقتصار على واحد منهما مثل أن يزنى مرارا أو يسرق مرارا ثم يرفع إلى الإمام فلا يجب إلا حد واحد بجميع الأفعال كذلك حكم الجزية إذ كانت مستحقة على وجه العقوبة بل هي أخف أمرا وأضعف حالا من الحدود لأنه لا خلاف بين أصحابنا أن إسلامه يسقطها ولا تسقط الحدود بالإسلام* فإن قيل لما كان ذلك دينا وحقا في مال المسلمين لم يسقطه اجتماعه كالديون وخراج الأرضين قيل له خراج الأرضين ليس بصغار ولا عقوبة والدليل عليه أنه يؤخذ من المسلمين والجزية لا تؤخذ من مسلم وقد روى نحو قول أبى حنيفة عن طاوس وروى ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس قال إذا تداركت صدقات فلا تؤخذ الأولى كالجزية وقد اختلف الفقهاء في الذمي إذا أسلم وقد وجبت عليه جزية هل يؤخذ بها فقال أصحابنا لا يؤخذ وهو قول مالك وعبيد الله بن الحسن وقال ابن شبرمة والشافعى إذا أسلم في بعض السنة أخذ منه بحساب ذلك والدليل على أن الإسلام يسقط ما وجب من الجزية قوله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ـ إلى قوله ـحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فانتظمت هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة ما قلنا أحدهما الأمر بأخذ الجزية ممن يجب قتاله لإقامته على الكفر إن لم يؤدها ومتى أسلم لم يجب قتاله فلا جزية عليه والوجه الثاني قوله تعالى( عن يد وهم صاغرون ) فأمر بأخذها منهم على وجه الصغار والذلة وهذا المعنى معدوم بعد الإسلام إذ غير ممكن أخذها على هذا الوجه ومتى أخذناها على غير هذا الوجه لم تكن جزية لأن الجزية هي ما أخذ على وجه الصغار وقد روى الثوري عن قابوس بن أبى ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس على مسلم جزية فنفى صلّى الله عليه وسلّم أخذها من المسلم ولم يفرق بين ما وجب عليه في حال الكفر وبين ما لم يجب بعد الإسلام فوجب بظاهر ذلك إسقاط الجزية عنه بالإسلام ويدل على سقوطها أن الجزية والجزاء واحد ومعناه جزاء الإقامة على الكفر ممن كان من أهل القتال فمتى أسلم سقط عنه بالإسلام المجازاة على الكفر إذ غير جائز عقاب التائب في حال المهلة وبقاء التكليف ولهذا الاعتبار أسقطها أصحابنا بالموت لفوات أخذها منه على وجه الصغار بعد موته فلا يكون ما يأخذه جزية وعلى هذا قالوا فيمن وجبت

٢٩٥

عليه زكاة ماله ومواشيه فمات أنها تسقط ولا يأخذها الإمام منه لأن سبيل أخذها وموضوعها في الأصل سبيل العبادات يسقطها الموت وقالوا فيمن وجبت عليه نفقة امرأته بفرض القاضي فمات أو ماتت أنها تسقط لأن موضوعها عندهم موضوع الصلة إذ ليست بدلا عن شيء ومعنى الصلة لا يتأتى بعد الموت فأسقطوها لهذه العلة فإن قيل الحدود واجبة على وجه العقوبة والتوبة لا تسقطها وكذلك لو أن ذميا أسلم وقد زنى أو سرق في حال كفره لم يكن إسلامه وتوبته مسقطين لحده وإن كان وجوب الحد في الأصل على وجه العقوبة والتائب لا يستحق العقاب على فعل قد صحت منه توبته قيل له أما الحد الذي كان واجبا على وجه العقوبة فقد سقط بالتوبة وما توجبه بعدها ليس هو الحد المستحق على وجه العقوبة بل هو حج واجب على وجه المحنة بدلالة قامت لنا على وجوبه غير الدلالة الموجبة للحد الأول على وجه العقوبة فإن قامت دلالة على وجوب أخذ المال منه بعد إسلامه لا على وجه الجزية والعقوبة لما ناب إيجابه إلا أنه لا يكون جزية لأن اسم الجزية يتضمن كونها عقوبة وأنت فإنما تزعم أنه تؤخذ منه الجزية بعد إسلامه فإن اعترفت بأن المأخوذ منه غير جزية وأن الجزية التي كانت واجبة قد سقطت وإنما يجب مال آخر غير الجزية فإنما أنت رجل سمتنا إيجاب مال على مسلم من غير سبب يقتضى إيجابه وهذا لا نسلم لك به إلا بدلالة وقد روى المسعودي عن محمد بن عبد الله الثقفي أن دهقانا أسلم فقام إلى على رضى الله عنه فقال له على أما أنت فلا جزية عليك وأما أرضك فلنا وفي لفظ آخر إن تحولت عنها فنحن أحق بها وروى معمر عن أيوب عن محمد قال أسلم رجل فأخذ بالخراج وقيل له إنك متعود بالإسلام فقال إن في الإسلام لمعاذا إن فعلت فقال عمر أجل والله إن في الإسلام معاذا إن فعل فرفع عنه الجزية وروى حماد ابن سلمة عن حميد قال كتب عمر بن عبد العزيز من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه الجزية فلم يفرق هؤلاء السلف بين الجزية الواجبة قبل الإسلام وبين حاله بعد الإسلام في نفيها عن كل مسلم وقد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ويذهبون إلى أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته وهذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين ونقض الإسلام عروة عروة إلى أن ولى عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عامله بالعراق عبد الحميد بن عبد الرحمن أما بعد فإن الله

٢٩٦

بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم داعيا ولم يبعثه جابيا فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فلما ولى هشام بن عبد الملك أعادها على المسلمين وكان أحد الأسباب التي لها استجاز القراء والفقهاء قتال عبد الملك بن مروان والحجاج لعنهما الله أخذهم الجزية من المسلمين ثم صار ذلك أيضا أحد أسباب زوال دولتهم وسلب نعمتهم وروى عبد الله بن صالح قال حدثنا حرملة بن عمران عن يزيد بن أبى حبيب قال أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خصال قتلهم عثمان وإحراقهم الكعبة وأخذهم الجزية من المسلمين وأما قولهم أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فليس ببدع هذا من جهلهم إذ قد جهلوا من أمور الإسلام ما هو أعظم منه وذلك لأن أهل الذمة ليسوا عبيدا ولو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بإسلامهم لأن إسلام العبد لا يزيل رقه وإنما الجزية عقوبة عوقبوا بها لإقامتهم على الكفر فمتى أسلموا لم يجز أن يعاقبوا بأخذها منهم ألا ترى أن العبد النصراني لا تؤخذ منه الجزية فلو كان أهل الذمة عبيدا لما أخذ منهم الجزية.

في خراج الأرض هل هو جزية

قال أبو بكر اختلف أهل العلم في خراج الأرضين هل هو صغار وهل يكره للمسلم أن يملك أرض الخراج فروى عن ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين كراهته ورواه داخلا في آية الجزية وهو قول الحسن بن حي وشريك وقال آخرون الجزية إنما هي خراج الرءوس ولا يكره للمسلم أن يشترى أرض خراج وليس ذلك بصغار وهو قول أصحابنا وابن أبى ليلى وروى عن عبد الله بن مسعود ما يدل على أنه لم يكرهه وهو ما روى شعبة عن الأعمش عن شمر بن عطية عن رجل من طيئ عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا قال عبد الله وبراذان ما براذان وبالمدينة ما بالمدينة يعنى أن له ضيعة براذان وضيعة بالمدينة ومعلوم أن راذان من الأرض الخراج فلم يكره عبد الله ملك أرض الخراج وروى عن عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك حين أسلمت إن أقامت على أرضها أخذنا منها الخراج وروى أن ابن الرفيل أسلم فقال مثل ذلك وعن على في رجل من أهل الأرض أسلم فقال إن أقمت على أرضك أخذنا منك الخراج وإلا فنحن أولى بها وروى عن سعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد مثل ذلك وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال منعت

٢٩٧

العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها ودينارها ومنعت مصر أردبها وعدتم كما بدأتم ثلاث مرات يشهد على ذلك لحم أبى هريرة رضى الله تعالى عنه ودمه وهذا يدل على أن خراج الأرض ليس بصغار من وجهين أحدهما أنه لم يكره لهم ملك أرض الخراج التي عليها قفيز ودرهم ولو كان ذلك مكروها لذكره والثاني أنه أخبر عن منعهم لحق الله المفترض عليهم بالإسلام وهو معنى قوله عدتم كما بدأتم يعنى في منع حق الله فدل على أنه كسائر الحقوق اللازمة لله تعالى مثل الزكوات والكفارات لا على وجه الصغار والذلة وأيضا لم يختلفوا أن الإسلام يسقط جزية الرءوس ولا يسقط عن الأرض فلو كان صغارا لأسقطه الإسلام فإن قيل لما كان خراج الأرضين فيا وكذلك جزية الرءوس دل على أنه صغار قيل له ليس كذلك لأن من الفيء ما يصرف إلى الغانمين ومنه ما يصرف إلى الفقراء والمساكين وهو الخمس وهذا كلام في الوجه الذي يصرف فيه وليس يوجب ذلك أن يكون صغارا لأن الصغار في الفيء هو ما يبتدأ به الذي يجب عليه فأما ما قد وجب في الأرض من الحق ثم ملكها مسلم فإن ملك المسلم له لا يزيله إذ كان وجوبه فيها متقدم لملكه وهو حق لكافة المسلمين ولم تكن الجزية صغارا من حيث كانت فيا وإنما كانت عقوبة وليس خراج الأرضين على وجه العقوبة ألا ترى أن أرض الصبى والمعتوه يجب فيهما الخراج ولا تؤخذ منهما الجزية لأن الجزية عقوبة وخراج الأرضين ليس كذلك.

(فصل) إن قال قائل من الملحدين كيف جاز إقرار الكفار على كفرهم بأداء الجزية بدلا من الإسلام قيل له ليس أخذ الجزية منهم رضا بكفرهم ولا إباحة لبقائهم على شركهم وإنما الجزية عقوبة لهم لإقامتهم على الكفر وتبقيتهم على كفرهم بالجزية كهي لو تركناهم بغير جزية تؤخذ منهم إذ ليس في العقل إيجاب قتلهم لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يبقى الله كافرا طرفة عين فإذا بقاهم لعقوبة يعاقبهم بها مع التبقية استدعاء لهم إلى التوبة من كفرهم واستمالة لهم إلى الإيمان لم يكن ممتنعا إمهاله إياهم إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن ومنهم من يكون من نسله من يؤمن بالله فكان في ذلك أعظم المصلحة مع ما للمسلمين فيها من المرفق والمنفعة فليس إذا في إقرارهم على الكفر وترك قتلهم بغير جزية ما يوجب الرضا بكفرهم ولا الإباحة لاعتقادهم وشركهم فكذلك إمهالهم بالجزية جائز في العقل إذ ليس فيه أكثر من تعجيل بعض عقابهم المستحق بكفرهم وهو ما يلحقهم من

٢٩٨

الذل والصغار بأدائها قوله تعالى( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) قيل إنه أراد فرقة من اليهود قالت ذلك والدليل على ذلك أن اليهود قد سمعت ذلك في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم تنكره وهو كقول القائل الخوارج ترى الاستعراض وقتل الأطفال والمراد فرقة منهم لا جميعهم وكقولك جاءني بنو تميم والمراد بعضهم قال ابن عباس قال ذلك جماعة من اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا ذلك وهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فأنزل الله تعالى هذه الآية وليس في اليهود من يقول ذلك الآن فيما نعلم وإنما كانت فرقة منهم قالت ذلك فانقرضت قوله تعالى( يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل ) يعنى يشابهونهم ومنه امرأة ضهياء للتي لا تحيض لأنها أشبهت الرجال من هذا الوجه فساوى المشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء لله سبحانه وتعالى لأن هؤلاء جعلوا المسيح وعزيزا اللذين هما خلقان لله ولدين له وشريكين كما جعل أولئك الأصنام المخلوقة شركاء لله تعالى قال ابن عباس( الذين كفروا من قبل ) يعنى به عبدة الأوثان الذين عبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وقيل إنهم يضاهئونهم لأن أولئك قالوا الملائكة بنات الله وقال هؤلاء عزيز ومسيح ابنا الله وقيل يضاهئونهم في تقليد أسلافهم وقوله تعالى( ذلك قولهم بأفواههم ) يعنى أنه لا يرجع إلى معنى صحيح ولا حقيقة له ولا محصول أكثر من وجوده في أفواههم وقوله( قاتلهم الله ) قال ابن عباس لعنهم الله وقيل إن معناه قتلهم الله كقولهم عافاه الله أى أعفاه الله من السوء وقيل إنه جعل كالقاتل لغيره في عداوة الله عز وجل قوله تعالى( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) قيل إن الحبر العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها يقال فيه حبر وحبير والراهب الخاشى الذي يظهر عليه لباس الخشية يقال راهب ورهبان وقد صار مستعملا في متنسكى النصارى وقوله( أربابا من دون الله ) قيل فيه وجهان أحدهما أنهم كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه وإذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وروى في حديث عدى بن حاتم لما أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فتلا النبي صلّى الله عليه وسلّم( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال قلت يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه وإذا أحلوا لهم شيئا أحلوه قال قلت نعم قال فتلك عبادتهم إياهم ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم

٢٩٩

بالمصالح ثم قلدوا أحبارهم هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وقبلوه منهم وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلل صاروا متخذين لهم أربابا إذ نزلوهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب وقيل إن معناه إنهم عظموهم كتعظيم الرب لأنهم يسجدون لهم إذا رأوهم وهذا الضرب من التعظيم لا يستحقه غير الله تعالى فلما فعلوا ذلك فهم كانوا متخذين لهم أربابا قوله تعالى( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) فيه بشارة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بنصرهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وهو إعلاؤه بالحجة والغلبة وقهر أمته لسائر الأمم وقد وجد مخبره على ما أخبر به بظهور أمته وعلوها على سائر الأمم المخالفة لدين الإسلام وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أن القرآن كلام الله ومن عنده وذلك لأن مثله لا يتفق للمتخرصين والكذابين مع كثرة ما في القرآن من الإخبار عن الغيوب إذ لا يعلم الغيب إلا الله فهو إذا كلامه وخبره ولا ينزل الله كلامه إلا على رسوله قوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ) أكل المال بالباطل هو تملكه من الجهة المحظورة وروى عن الحسن إنهم كانوا يأخذون الرشى في الحكم وذكر الأكل والمراد وجوه المنافع والتصرف إذ كان أعظم منافعه الأكل والشرب وهو كقوله تعالى( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) والمراد سائر وجوه المنافع وكقوله تعالى( ولا تأكلوا أموالهم ـ وـإن الذين يأكلون أموال اليتامى ) قوله تعالى( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) الآية يقتضى ظاهره إيجاب إنفاق جميع المال لأن الوعيد لا حق بتارك إنفاق الجميع لقوله( ولا ينفقونها ) ولم يقل ولا ينفقون منها فإن قيل لو كان المراد الجميع لقال ولا ينفقونهما قيل له لأن الكلام رجع إلى مدلول عليه كأنه قال ولا ينفقون الكنوز والآخر أن يكتفى بأحدهما عن الآخر للإيجاز كقوله تعالى( وإذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا إليها ) قال الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأى مختلف

والمعنى راضون والدليل على أنه راجع إليهما جميعا أنه لو رجع إلى أحدهما دون الآخر لبقي أحدهما عاريا من خبره فيكون كلاما منقطعا لا معنى له إذ كان قوله( والذين يكنزون الذهب والفضة ) مفتقرا إلى خبر ألا ترى أنه لا يجوز الاقتصار عليه وقد روى في معنى

٣٠٠