أحكام القرآن الجزء ٤

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 412

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 412
المشاهدات: 61976
تحميل: 5589


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 412 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61976 / تحميل: 5589
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

دلالة خصوصه في ذوى الرحم المحرم وقد اختلف الفقهاء فيه.

ذكر الاختلاف في ذلك

قال أصحابنا لا يقطع من سرق من ذي الرحم وهو الذي لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما ولا تقطع أيضا عندهم المرأة إذا سرقت من زوجها ولا الزوج إذا سرق من امرأته وقال الثوري إذا سرق من ذوى رحم منه لم يقطع وقال مالك يقطع الزوج فيما سرق من امرأته والمرأة فيما تسرق من زوجها في غير الموضع الذي يسكنان فيه وكذلك في الأقارب وقال عبيد الله بن الحسن في الذي يسرق من أبويه إن كان يدخل عليهم لا يقطع وإن كانوا نهوه عن الدخول عليهم فسرق قطع وقال الشافعى لا قطع على من سرق من أبويه أو أجداده ولا على زوج سرق من امرأته أو امرأة سرقت من زوجها والدليل على صحة قول أصحابنا قول الله عز وجل( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ـ إلى قوله ـأَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) فأباح تعالى الأكل من بيوت هؤلاء وقد اقتضى ذلك إباحة الدخول إليها بغير إذنهم فإذا جاز لهم دخولها لم يكن ما فيها محرزا عنهم ولا قطع إلا فيما سرق من حرز وأيضا إباحة أكل أموالهم يمنع وجوب القطع فيها لما لهم فيها من الحق كالشريك ونحوه فإن قيل فقد قال( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ويقطع فيه مع ذلك إذا سرق من صديقه* قيل له ظاهر الآية ينفى القطع من الصديق أيضا وإنما خصصناه بدلالة الاتفاق ودلالة اللفظ قائمة فيما عداه وعلى أنه لا يكون صديقا إذا قصد السرقة ودليل آخر هو أنه قد ثبت عندنا وجوب نفقة هؤلاء عند الحاجة إليه وجواز أخذها منه بغير بدل فأشبه السارق من بيت المال لثبوت حقه فيه بغير بدل يلزمه عند الحاجة إليه* فإن قيل قد ثبت هذا* الحق عند الضرورة في مال الأجنبى ولم يمنع من القطع بالسرقة منه* قيل له يعترضان من وجهين أحدهما أنه في مال الأجنبى يثبت عند الضرورة وخوف التلف وفي مال هؤلاء يثبت بالفقر وتعذر الكسب والوجه الآخر أن الأجنبى يأخذه ببدل وهؤلاء يستحقونه بغير بدل كمال بيت المال وأيضا فلما استحق عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليه بالإنفاق عليه وكان هذا السارق محتاجا إلى هذا المال في إحياء يده لسقوط

٨١

القطع صار في هذه الحالة كالفقير الذي يستحق على ذي الرحم المحرم منه الإنفاق عليه لإحياء نفسه أو بعض أعضائه وأيضا فهو مقيس على الأب بالمعنى الذي قدمناه والله تعالى أعلم.

باب فيمن سرق ما قد قطع فيه

قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه لم يقطع فيه والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق فلما عدمناهما فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس ولا يجوز ذلك عندنا* فإن قيل* هلا قطعته بعموم قوله( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) قبل السرقة* قيل له السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع والذي في الآية قطع اليد وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا والدليل أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا إذا كان لكل واحد من العينين أعنى الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع* فإن قيل فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى* بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة* قيل له لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء ومن أجل ذلك قالوا إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعد ما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه ولو كان بابا منجورا فسرقه قطع لخروجه بالصنعة

٨٢

عن الحال الأولى وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته فصار كأنه عوضه منه وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجه ويشبه الملك من وجه.

باب السارق يوجد قبل إخراج السرقة

قال أبو بكر رحمه الله اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه والدار كلها حرز واحد فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع وروى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عمر وهو قول إبراهيم وروى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون إذا لم يخرج بالمتاع لم يقطع فقالت عائشة لو لم أجد إلا سكينا لقطعته وروى سعيد عن قتادة عن الحسن قال إذا وجد في بيت فعليه القطع قال أبو بكر دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق فلا يجوز إيجاب القطع به وأخذه في الحرز أيضا لا يوجب القطع لأنه باق في الحرز ومتى لم يخرجه من الحرز فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى والله أعلم.

باب غرم السارق بعد القطع

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمة بعينها أخذها المسروق منه وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي وقال مالك يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا وقال عثمان البتى والليث والشافعى يغرم السرقة وإن كانت هالكة وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم قال أبو بكر أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان والذي يدل على نفى الضمان بعد القطع قوله تعالى( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ ) والجزاء اسم لما يستحق بالفعل فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع لم يجز إيجاب الضمان

٨٣

معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص ولا يجوز ذلك إلا بمثل ما يجوز به النسخ وكذلك قوله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية لأن قوله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) ينفى أن يكون هناك جزاء غيره ومن جهة السنة حديث عبد الله بن صالح قال حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن زيد قال سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إذا أقمتم على السارق الحد فلا غرم عليه وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال حدثنا أبو بكر بن أبى شجاع الأدمى قال حدثني خالد بن خداش قال حدثنا اسحق بن الفرات قال حدثنا المفضل ابن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى بسارق فأمر بقطعه وقال لا غرم عليه وقال عبد الباقي هذا هو الصحيح واخطأ فيه خالد بن خداش فقال المسور بن مخرمة ويدل عليه من جهة النظر امتناع وجوب الحد والمال بفعل واحد كما لا يجتمع الحد والمهر والقود والمال فوجب أن يكون القطع نافيا لضمان المال إذ كان المال في الحدود لا يجب إلا مع الشبهة وحصول الشبهة ينفى وجوب القطع ووجه آخر وهو أن من أصلنا أن الضمان سبب لإيجاب الملك فلو ضمناه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعا في ملك نفسه وذلك ممتنع فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع امتنع وجوب الضمان.

باب الرشوة

قال الله تعالى( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) قيل إن أصل السحت الاستيصال يقال أسحته إسحاتا إذا استأصله وأذهبه* قال الله عز وجل( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) أى يستأصلكم به ويقال أسحت ماله إذا أفسده وأذهبه فسمى الحرام سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستيصال وروى ابن عيينة عن عمار الدهني عن سالم ابن أبى الجعد عن مسروق قال سألت عبد الله بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم فقال( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) ولكن السحت أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدى لك هدية فتقبلها* وروى شعبة عن منصور عن سالم بن

٨٤

أبى الجعد عن مسروق قال سألت عبد الله عن الجور في الحكم فقال ذلك كفر وسألته عن السحت فقال الرشا وروى عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد عن إبان عن ابن أبى عياش عن مسلم أن مسروقا قال قلت لعمر يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت قال لا ولكن كفر إنما السحت أن يكون لرجل عند سلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضى حاجته حتى يهدى إليه وروى عن على بن أبى طالب قال السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعجال في القضية فكأنه جعل السحت اسما لأخذ مالا يطيب أخذه وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك السحت الرشا وروى منصور عن الحكم عن أبى وائل عن مسروق قال إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا ومهر الزانية وروى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل ابن مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدايا الأمراء من السحت وروى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشى بينهما وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الراشي والمرتشي وروى أبو عوانة عن عمر بن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم قال أبو بكر اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى والرشوة تنقسم إلى وجوه منها الرشوة في الحكم وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا وهو الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم لعن الله الراشي والمرتشي والرائش وهو الذي يمشى بينهما فلذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضى له بحقه أو بما ليس بحق له فإن رشاه ليقضى له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضى له بما هو فرض عليه واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم ولا ينفذ حكمه لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه وفي هذا دليل أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه كالحج

٨٥

وتعليم القرآن والإسلام ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائز لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب وإن أعطاه الرشوة على أن يقضى له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين أحدهما أخذ الرشوة والآخر الحكم بغير حق وكذلك الراشي وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان وقال إن أخذ الرشا على الأحكام كفر وقال على رضى الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله الرشا من السحت وأما الرشوة في غير الحكم فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان وذلك منهى عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه قال الله تعالى( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه ووجه آخر من الرشوة وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها وروى عن جابر بن زيد والشعبي قالا لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم وعن عطاء وإبراهيم مثله وروى هشام عن الحسن قال لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الراشي والمرتشي قال الحسن ليحق باطلا أو يبطل حقا فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس وقال يونس عن الحسن لا بأس أن يعطى الرجل من ماله ما يصون به عرضه وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال اجعل مالك جنة دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك وروى سفيان عن عمرو عن أبى الشعثاء قال لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه وقد روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس السلمى شيئا فسخطه فقال شعرا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم اقطعوا عنا لسانه فزادوه حتى رضى وأما الهدايا للأمراء والقضاة فإن محمد بن الحسن كرهها وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ذهب في ذلك إلى حديث أبى حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصدقة فلما جاء قال هذا لكم وهذا أهدى لي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ما بال أقوام نستعملهم على ما ولأنا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا وما روى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت وكره عمر بن عبد العزيز قبول الهدية فقيل

٨٦

له إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل الهدية ويثيب عليها فقال كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهديه قبل القضاء فكأنه إنما كره منها ما أهدى له لأجل أنه قاض ولو لا ذلك لم يهد له وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا فأخبر أنه إنما أهدى له لأنه عامل ولو لا أنه عامل لم يهد له وأنه لا يحل له وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد أعلم به لم يهده إليه لأجل القضاء فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك وقد روى أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت على امرأة عمر فردها عمر ومنع قبولها.

باب الحكم بين أهل الكتاب

قال الله تعالى( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ظاهر ذلك يقتضى معنيين أحدهما تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم والثاني التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم فقال قائلون منهم إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم وقال آخرون التخيير منسوخ فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية وروى عن الحسن خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال آيتان نسختا من سورة المائدة آية القلائد وقوله تعالى( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم حتى نزلت( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) قال نسخها قوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) قال نسختها( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) وروى سفيان عن السدى عن عكرمة مثله* قال أبو بكر فذكر هؤلاء أن قوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) ناسخ للتخيير المذكور في قوله( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأى لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأى

٨٧

والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) وأن التخيير نسخه وإنما حكى عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) كرواية من ذكر نسخ التخيير ويدل على نسخ التخيير قوله( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) الآيات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) نسخها ما قبلها( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) منسوخ بقوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) ويحتمل أن يكون قوله تعالى( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يجرى عليهم أحكام المسلمين وقد روى عن ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن اسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) إنما نزلت في الدية بين بنى قريظة وبين بنى النضير وذلك أن بنى النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة وأن بنى قريظة يدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بنى قريظة وبنى النضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير وقتل بنى قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها فأخبر ابن عباس إن آية التخيير نزلت فيهم فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ وهذا تأويل سائغ لو لا ما روى عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى وروى عن ابن عباس رواية أخرى وعن الحسن ومجاهد والزهري أنها نزلت في شأن

٨٨

الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم فصار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله ثم رجم اليهوديين وقال اللهم إنى أول من أحيا سنة أماتوها وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها وقد روى أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فجعلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين قال الله تعالى( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل كما قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع من الربا والعقود الفاسدة المحظورة وقال تعالى( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين وقال مالك الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم فقال أبو حنيفة هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا لأحكامنا فإن رضى بها الزوجان حملا على أحكامنا وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم وكذلك إن أسلموا وقال محمد إذا رضى أحدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر إلا في النكاح بغير شهود خاصة وقال أبو يوسف يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في

٨٩

النكاح بعد شهود نجيزه إذا ترضوا بها فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحتهم إلى أنه قد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهما حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية وفي ذلك دليل أنه أقرهم على مناكحتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فلم يقرهم عليه حين علم تبايعهم به وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوى المحارم منهم مع علمه بمناكحتهم وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الاعتراض عليهم وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا فإن قيل فقد روى عن عمر أنه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوى المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه قيل له لو كان هذا ثابتا لورد النقل متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضى منهم بأحكامنا وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا وأيضا قد بينا أن قوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) ناسخ للتخيير المذكور في قوله( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا فيكون تقديره مع الآية الأخرى فإن جاؤك فاحكم بينهم بما أنزل وإنما قال إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج لو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما.

٩٠

ومن جهة أخرى أن العدة حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة فجاز نكاحها الثاني وليس كذلك نكاح ذوات المحارم إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجوب الشهود في حال العقد ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء فمنهم من يجيزه والاجتهاد سائغ في جوازه ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) فشرط مجيئهم فلم يجز الحكم على أحدهما بمجيء الآخر* فإن قال قائل إذا رضى أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو اسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام قيل له هذا غلط لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه بعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقى على حكمه لا يجوز إلزامه حكما لأجل رضا غيره وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) قوله تعالى( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ) يعنى الله أعلم فيما تحاكموا إليك فيه فقيل إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين وقيل في الدية بين بنى قريظة وبنى النضير فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته وإنما طلبوا الرخصة ولذلك قال( وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) يعنى هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدو لهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين* وقوله تعالى( وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ) يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا وأنه

٩١

صار بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم شريعة لنا لم ينسخ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد روى عن الحسن في قوله تعالى( فِيها حُكْمُ اللهِ ) بالرجم لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا وقال قتادة فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود قوله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ) روى عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مراد بقوله( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ) ( لِلَّذِينَ هادُوا ) قال أبو بكر وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال اللهم إنى أول من أحيا سنة أماتوها وكان ذلك في حكم التوراة وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة وقوله تعالى( وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه في التوراة وقال غيره شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله وقال عز وجل( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) قال فيه السدى لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت وقيل لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قال( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الآية وقال( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ـ إلى قوله ـفَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) فتضمنت هذه الآية معاني منها الأخبار بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حكم على اليهود بحكم التوراة ومنها أن حكم التوراة كان باقيا في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يوجب نسخه ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلّم ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يجابى فيه مخالفة الناس ومنها تحريم أخذ الرشا في الأحكام وهو قوله تعالى( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً )

٩٢

وقوله تعالى( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) قال ابن عباس هو في الجاحد لحكم الله وقيل هي في اليهود خاصة وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم هي عامة يعنى فيمن لم يحكم بما أنزل الله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم اليهود لم يجعل من بمعنى الشرط وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله والمراد قوم بأعيانهم وقال البراء بن عازب وذكر قصة رجم اليهود فأنزل الله تعالى( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ـ الآيات إلى قوله ـوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) قال في اليهود خاصة وقوله( فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ـ( فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) في الكفار كلهم وقال الحسن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في اليهود وهي علينا واجبة وقال أبو مجلز نزلت في اليهود وقال أبو جعفر نزلت في اليهود ثم جرت فينا وروى سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن أبى البختري قال قيل لحذيفة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في بنى إسرائيل قال نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ولتسلكن طريقهم قد الشراك قال إبراهيم النخعي نزلت في بنى إسرائيل ورضى لكم بها وروى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة وروى طاوس عن ابن عباس قال ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) وقال ابن جريج عن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وقال على بن حسين رضى الله عنهما ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك قال أبو بكر قوله تعالى( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود أو كفر النعمة من غير جحود فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الأخبار بأنه حكم الله فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما وعلى هذا تأوله من قال إنها نزلت في بنى إسرائيل وجرت فينا يعنون أن من جحد منا حكم أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود فلا يكون فاعله خارجا من الملة والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله

٩٣

وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة فإذا هم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم قوله تعالى( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) الآية فيه إخبار عما كتب الله على بنى إسرائيل في التوراة من القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة وقد استدل أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس لقوله تعالى( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن شرائع من كان قبلنا حكمها ثابت إلى أن يرد نسخها على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بنص القرآن وقوله في نسق الآية( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) دليل على ثبوت هذا الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يرد نسخه والثاني معلوم أنهم استحقوا اسمة الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية إما جحودا له أو تركا لفعل ما أوجب الله من ذلك وهذا يقتضى وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه* وقوله تعالى( وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) معناه عند أصحابنا في العين إذا ضربت فذهب ضوءها وليس هو على أن تقلع عينه هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذر استيفاء لا قصاص في مثله ألا ترى أنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه منها فهو كمن قطع قطعة لحم من فخذ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه فلا يجب فيه القصاص وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضوءها وهي قائمة أن تشد عينه الأخرى وتحمى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها وأما قوله تعالى( وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ) فإن أصحابنا قالوا إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء المثل والقصاص هو أخذ المثل فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصا وقالوا إنما يجب القصاص في الأنف إذا قطع المارن وهو مالان منه ونزل عن قصبة الأنف وروى عن أبى يوسف أن في الأنف إذا استوعب القصاص وكذلك الذكر واللسان وقال محمد لا قصاص في الأنف واللسان والذكر إذا استوعب وقوله تعالى( وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ )

٩٤

فإنه يقتضى وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا فيه القصاص إذا كان يستطاع ويعرف قدره وقوله عز وجل( وَالسِّنَّ بِالسِّنِ ) فإن أصحابنا قالوا لا قصاص في عظم إلا السن فإن قلعت أو كسر بعضها ففيها القصاص لإمكان استيفائه إن كان الجميع فبالقلع كما يقتص من اليد من المفصل وإن كان البعض فإنه يبرد بمقداره بالمبرد فيمكن استيفاء القصاص فيه وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لا يوقف على حده وقد اقتضى ما نص الله تعالى في هذه الأعضاء أن يؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها والصغير بالكبير بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلا لما جنى عليه لغيره وقوله تعالى( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) يعنى إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها ودل به على نفى القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) يقتضى أخذ المثل سواء ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص* وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وقد بيناه في سورة البقرة وكذلك بين العبيد والأحرار.

ذكر الخلاف في ذلك

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعى لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني وقال ابن شبرمة تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية وقال الحسن بن صالح إذا قطع إصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف إصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع ولا يقطع إصبع كف بإصبع كف أخرى وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى قال أبو بكر لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا لم يكن للمجنى عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدوا ما قبله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى( وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني فغير جائز إذا كان كذلك أن يعتدى إلى غيره سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه تكون

٩٥

يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل وليست هذه الأعضاء مماثلة فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة وذلك لقوله تعالى( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضى بدون حقه واختلف في القصاص في العظم فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد لا قصاص في عظم ما خلا السن وقال الليث والشافعى مثل ذلك ولم يستثنيا السن وقال ابن القاسم عن مالك عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص وقال الأوزاعى ليس في المأمومة قصاص قال أبو بكر لما اتفقوا على نفى في عظم الرأس كذلك سائر العظام وقال الله تعالى( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) وذلك غير ممكن في العظام وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير أنه اقتص من مأمومة فأنكر ذلك عليه ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس لأنه لا يوقف على مقدار جنايته فكذلك العظام وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم* قوله تعالى( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) روى عن عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية أنها كفارة لولى القتيل وللمجروح إذا عفوا وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم رواية والشعبي رواية هو كفارة للجاني كأنهم جعلوه بمنزلة المستوفى لحقه ويكون الجاني كأنه لم يجن وهذا محمول على أن الجاني تاب من جنايته لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة والقول الأول هو الصحيح لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور وهو قوله( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ) فالكفارة واقعة لمن تصدق ومعناه كفارة لذنوبه* قوله تعالى( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ) قال أبو بكر فيه دلالة على أن ما لم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت على معنى أنه صار شريعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لقوله( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ) ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه صار شريعة له لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي صلّى الله عليه وسلّم غير متبعين له لكانوا

٩٦

كفارا فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم* قوله تعالى( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة مهيمنا يعنى أمينا وقيل شاهدا وقيل حفيظا وقيل مؤتمنا والمعنى فيه أنه أمين عليه ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان لأن الأمين على الشيء مصدق عليه وكذلك الشاهد وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمنا على شيء فهو مقبول القول فيه من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سماه أمينا عليها وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبول القول فيما ائتمن فيه وهو قوله تعالى( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) وقال( وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ) فلما جعله أمينا فيه وعظه بترك البخس* وقد اختلف في المراد بقوله( وَمُهَيْمِناً ) فقال ابن عباس هو الكتاب وفيه أخبار بأن القرآن مهيمن على الكتب المتقدمة شاهد عليها وقال مجاهد أراد به النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) يدل على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه* قوله تعالى( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) يدل على بطلان قول من يردهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف لما فيه من تعظيم الموضع وهم يهون ذلك وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم ويدل على بطلان قول من يردهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم ولأن ردهم إلى أهل دينهم إنما هو رد لهم ليحكموا فيهم بما هو كفر بالله عز وجل إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفرا بالله وإن كان موافقا لما أنزل في التوراة والإنجيل لأنهم مأمورون بتركه واتباع شريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) الشرعة والشريعة واحد ومعناها الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي قوله تعالى( وَمِنْهاجاً ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك سنة وسبيلا ويقال طريق نهج إذا كان واضحا قال مجاهد وأراد بقوله( شِرْعَةً ) القرآن لأنه لجميع الناس وقال قتادة وغيره شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه

٩٧

جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا وليس فيه دليل على ما قالوا لأن ما كان شريعة لموسى عليه السّلام فلم ينسخ إلى أن بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد صارت شريعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وكان فيما سلف شريعة لغيره فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء فلم ينف قوله( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) أن تكون شريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين وإذا كان كذلك فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلّى الله عليه وسلّم بغيرها فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر قوله عز وجل( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) قال الحسن لجعلكم على الحق وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا وهو كقوله( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) وقال قائلون معناه ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء* قوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات لأنها من الخيرات* فإن قيل فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها لأنها من الواجبات في أول الوقت قيل له ليست من الواجبات في أول الوقت والآية مقتضية للوجوب فهي فيما قد وجب وألزم وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات وقوله تعالى في هذا الموضع( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) ليس بتكرار لما تقدم من مثله لأنهما نزلا في شيئين مختلفين أحدهما في شأن الرجم والآخر في التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين* قوله تعالى( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ) قال ابن عباس أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام أطماعا منهم له في الدخول في الإسلام وقال غيره إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها فقد بين الله تعالى حكمه قوله تعالى( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) ذكر البعض والمراد الجميع كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص وكما قال( يا أَيُّهَا النَّبِيُ ) والمراد جميع المسلمين بقوله( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) وفيه أن المراد الإخبار

٩٨

عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقون به يهلكهم وقيل أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوهم وقال الحسن ما عجله من إجلاء بنى النضير وقتل بنى قريظة قوله تعالى( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) فيه وجهان أحدهما أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا أوجب على أغنيائهم لم يأخذهم به فقيل لهم أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب وقيل إنه أريد به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية وهو ما تقدم عليه فاعله بجهالة من غير علم قوله تعالى( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً ) إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة وجائز أن يقال إن حكما أحسن من حكم كما لو خير بين حكمين نصا وعرف أن أحدهما أفضل من الآخر كان الأفضل أحسن وكذلك قد يحكم المجتهد بما غيره أولى منه لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قصر فيه قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) روى عن عكرمة أنها نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر لما تنصح إلى بنى قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح وقال السدى لما كان بعد أحد خاف قوم من المشركين حتى قال رجل أو إلى اليهود وقال آخر أو إلى النصارى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطية بن سعد نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبى بن سلول لما تبرأ عبادة من موالاة اليهود وتمسك بها عبد الله بن أبى وقال أخاف الدوائر والولي هو الناصر لأنه يلي صاحبه بالنصرة وولى الصغير لأنه يتولى التصرف عليه بالحياطة وولى المرأة عصبتها لأنهم يتولون عليها عقد النكاح وفي هذه الآية دلالة على أن الكافر لا يكون وليا للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة ويدل على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم لأن الولاية ضد العداوة فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم ويدل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) ويدل على أن اليهودي يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهوديا وهو أن يكون صغيرا أو مجنونا وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل ومن حيث دلت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدل على إيجاب التوارث بينهما وعلى ما ذكرنا من كون الكفر كله ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض اليهودي للنصرانية والنصراني لليهودية وهذا الذي

٩٩

ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم وأما فيما بينهم لا بين المسلمين فيختلف حكم الكتابي وغير الكتابي في جواز المناكحة وأكل الذبيحة قوله تعالى( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) يدل على أن حكم نصارى بنى تغلب حكم نصارى بنى إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروى ذلك عن ابن عباس والحسن وقوله( مِنْكُمْ ) يجوز أن يريد به المغرب لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذ تولوا الكفار صاروا مرتدين والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحة وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية وزعم بعضهم أن قوله( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) يدل على أن المسلم لا يرث المرتد لإخبار الله أنه ممن تولاه من اليهود والنصارى ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني فكذلك لا يرث المرتد قال أبو بكر وليس فيه دلالة على ما ذكرنا لأنه لا خلاف أن المرتد إلى اليهودية لا يكون يهوديا والمرتد إلى النصرانية لا يكون نصرانيا ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه فكما لم يدل ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني كذلك لا يدل على أن المسلم لا يرثه وإنما المراد أحد وجهين إن كان الخطاب لكفار العرب فهو دال على أن عبدة الأوثان من العرب إذا تهودوا أو تنصروا كان حكمهم حكمهم في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم فلا دلالة فيه على حكم الميراث فإن قال قائل لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين لأنه قال( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ) لم يحتمل أن يريد بقوله( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ) مشركي العرب قيل له لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب جاز أن يريد بقوله( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ) العرب فيفيد أن مشركي العرب إذا تولوا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملتنا بعض المذاهب الموجبة لا كفار معتقديها أن الحكم بإكفاره لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملة الإسلام وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة إذ كانوا في الجملة متولين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن كما أن

١٠٠