أحكام القرآن الجزء ٥

أحكام القرآن0%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 390

أحكام القرآن

مؤلف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص
تصنيف:

الصفحات: 390
المشاهدات: 58500
تحميل: 4896


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58500 / تحميل: 4896
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

ينصرفون عن أمر جامع من غير استئذان يلوذ بعضهم ببعض ويستتر به لئلا يراه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منصرفا قوله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) معناه فليحذر الذين يخالفون أمره ودخل عليه حرف الجر لجواز ذلك في اللغة كقوله( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) معناه فبما نقضهم ميثاقهم والهاء في أمره يحتمل أن يكون ضميرا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل أن يكون ضميرا لله تعالى والأظهر أنها لله لأنه يليه وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها وفيه دلالة على أن أوامر الله على الوجوب لأنه ألزم للوم والعقاب يخالفه الأمر وذلك يكون على وجهين أحدهما أن لا يقبله فيخالفه بالرد له والثاني أن لا يفعل المأمور به وإن كان مقرا بوجوبه عليه ومعتقدا للزومه فهو على الأمرين جميعا ومن قصره على أحد الوجهين دون الآخر خصه بغير دلالة ومن الناس من يحتج به في أن أفعال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجوب وذلك أنه جعل الضمير في أمره للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفعله يسمى أمره كما قال تعالى( وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) يعنى أفعاله وأقواله وهذا ليس كذلك عندنا لأن اسم الله تعالى فيه بعد اسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) وهو الذي تليه الكناية فينبغي أن يكون راجعا إليه دون غيره آخر سورة النور.

سورة الفرقان

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عز وجل( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) الطهور على وجه المبالغة في الوصف له بالطهارة وتطهير غيره فهو طاهر مطهر كما يقال رجل ضروب وقتول أى يضرب ويقتل وهو مبالغة في الوصف له بذلك والوضوء يسمى طهورا لأنه طهر من الحدث المانع من الصلاة وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور أى بما يطهر وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فسماه طهورا من حيث استباح به الصلاة وقام مقام الماء فيه وقد اختلف في حكم الماء على ثلاثة أنحاء أحدها إذا خالط الماء غيره من الأشياء الطاهرة والثاني إذا خالطته نجاسة والثالث الماء المستعمل فقال أصحابنا إذا لم تخالطه نجاسة ولم يغلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء لأجل الغلبة ولم يستعمل لطهارة البدن فالوضوء به جائز فإن غلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء مثل المرق وماء الباقلاء والخل ونحوه فإن الوضوء به غير جائز وما طبخ بالماء ليكون أنقى له نحو الأشنان والصابون فالوضوء به

٢٠١

جائز إلا أن يكون مثل السويق المخلوط فلا يجزى وكذلك إن وقع فيه زعفران أو شيء مما يصبغ بصبغه وغير لونه فالوضوء به جائز لأجل غلبة الماء وقال مالك لا يتوضأ بالماء الذي يبل فيه الخبز وقال الحسن بن صالح إذا توضأ بزردج أو نشاستج أو بخل أجزأه وكذلك كل شيء غير لونه وقال الشافعى إذا بل فيه خبزا وغير ذلك مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق حتى يضاف إلى ما خالطه وخرج منه فلا يجوز التطهر به وكذلك الماء الذي غلب عليه الزعفران أو الأشنان وكثير من أصحابه يشرط فيه أن يكون بعض الغسل بغير الماء قال أبو بكر الأصل فيه قوله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) إلى قوله( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) فيه الدلالة من وجهين على قولنا أحدهما أن قوله( فَاغْسِلُوا ) عموم في سائر المائعات بجواز إطلاق اسم الغسل فيها والثاني قوله تعالى( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا فيه ماء وإن خالطه غيره وإنما أباح الله تعالى التيمم عند عدم كل جزء من ماء لأن قوله ماء اسم منكر يتناول كل جزء منه وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وظاهره يقتضى جواز الطهارة به وإن خالطه غيره لإطلاق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فيه وأباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما وأيضا لا خلاف في جواز الوضوء بماء المد والسيل مع تغير لونه بمخالطة الطين له وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ومن أجل مخالطة ذلك له يرى متغيرا إلى السواد تارة وإلى الحمرة والصفرة أخرى فصار ذلك أصلا في جميع ما خالطه الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء فإن قيل إذا كان الماء المنفرد عن غيره لو استعمله للطهارة ولم يكفه ثم اختلط به غيره فكفاه بالذي خالطه نحو ماء الورد والزعفران فقد حصل بعض وضوئه بما لا تجوز الطهارة به مما لو أفرده لم يطهر فلا فرق بين اختلاطه بالماء وبين إفراده بالغسل قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن ما خالطه من هذه الأشياء الطاهرة التي يجوز استعماله لغير الطهارة إذا كان قليلا سقط حكمه وكان الحكم لما غلب ألا ترى أن اللبن الذي خالطه ماء يسير لا يزول عنه اسم اللبن وأن من شرب من حب قد وقعت فيه قطرة من خمر لا يقال له شارب خمر ولم يجب عليه الحد لأن ذلك الجزء قد صار مستهلكا فيه فسقط حكمه كذلك الماء إذا كان هو الغالب والجزء الذي خالطه إذا كان يسيرا سقط حكمه ومن جهة أخرى أنه إن كانت العلة ما ذكرت فينبغي أن يجوز

٢٠٢

إذا كان الماء الذي استعمله لو انفرد عما خالطه كان كافيا لطهارته إذ لا فرق بين انفراد الماء في الاستعمال وبين اختلاطه بما لا يوجب تنجيسه فإذا كان لو استعمل الماء منفردا عما خالطه من اللبن وماء الورد ونحوه وكان طهورا وجب أن يكون ذلك حكمه إذا خالطه غيره لأن مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون مستعملا للماء المفروض به الطهارة فهذا الذي ذكرته يدل على بطلان قولك وهدم أصلك وأيضا فينبغي أن تجيزه إذ أكثر غسل أعضائه بذلك الماء لأنه قد استعمل من الماء في أعضاء الوضوء ما لو انفرد نفسه كان كافيا فإن قيل قال الله تعالى( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) فجعل الماء المنزل من السماء طهورا فإذا خالطه غيره فليس هو المنزل من السماء بعينه فلا يكون طهورا قيل له مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون الماء هو المنزل من السماء ألا ترى أن اختلاط الطين بماء السيل لم يخرجه من أن يكون الماء الذي فيه هو المنزل بعينه وإن لم يكن وقت نزوله من السماء مخالطا للطين وكذلك ماء البحر لم ينزل من السماء على هذه الهيئة والوضوء به جائز لأن الغالب عليه هو الماء المنزل من السماء فهو إذا مع اختلاط غيره به متطهر بالماء الذي أنزله الله من السماء وسماه طهورا فإن قيل فيجب على هذا جواز الوضوء بالماء الذي خالطته نجاسة يسيرة لأنه لم يخرج بمخالطة النجاسة إياه من أن يكون هذا الماء هو المنزل من السماء قيل له الماء المخالط للنجاسة هو باق بحاله لم يصر نجس العين فلو لم يكن هناك إلا مخالطة غيره له لما منعنا الوضوء به ولكنا منعنا الطهارة به مع كونه ماء منزلا من السماء من قبل أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة واستعمال النجاسة محظور فإنما منعنا استعمال النجاسة وليس بمحظور علينا استعمال الأشياء الطاهرة وإن خالطت الماء فإذا حصل معه استعمال الماء للطهارة جاز كمن توضأ بماء القراح ثم مسح وجهه بماء الورد أو بماء الزعفران فلا يبطل ذلك طهارته وقد أجاز الشافعى الوضوء بما ألقى فيه كافور وعنبر وهو بوجد منه ريحه وبما خالطه ورد يسير وإن وقع مثله من النجاسة في أقل من قلتين لم يجز استعماله فليس قياس النجاسة قياس الأشياء الطاهرة إذا خالطت الماء* فإن قيل يلزمك أن تجيز الوضوء بالماء الذي يخالطه ما يغلب عليه شيء من الأشياء الطاهرة إذا كان الماء لو انفرد كفاء لوضوئه لأنه لو انفرد جاز ولأنه هو المنزل من السماء في حال المخالطة وإن غلب عليه غيره حتى سلبه إطلاق اسم الماء قيل له لا يجب ذلك من قبل أن

٢٠٣

غلبة غيره عليه ينقله إلى حكمه ويسقط حكم القليل معه بدلالة أن قطرة من خمر لو وقعت في حق ماء فشرب منه إنسان لم يقل إنه شارب خمر ولا يجب عليه الحد ولو أن خمر أصب فيها ماء فمزجت به فكان الخمر هو الغالب لإطلاق الناس عليه أنه شارب خمر وكان حكمه في وجوب الحد عليه حكم شاربها صرفا غير ممزوجة وأما ماء الورد وماء الزعفران وعصارة الريحان والشجر فلم يمنع الوضوء به من أجل مخالطة غيره ولكن لأنه ليس بالماء المفروض به الطهارة ولا يتناوله الاسم إلا بتقييد كما سمى الله تعالى المنى ماء بقوله( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) وقال( وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ) وليس هو من الماء المفروض به الطهارة في شيء وأما مذهب الحسن بن صالح في إجازته الوضوء بالخل ونحوه فإنه يلزمه إجازته بالمرق وبعصير العنب لو خالطه شيء يسير من ماء ولو جاز ذلك لجاز الوضوء بسائر المائعات من الأدهان وغيرها وهذا خلاف الإجماع ولو جاز ذلك لجاز التيمم بالدقيق والأشنان قياسا على التراب.

(فصل) وأما الماء الذي خالطته نجاسة فإن مذهب أصحابنا فيه إن كل ما تيقنا فيه جزء من النجاسة أو غلب في الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والماء الراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر وليس هذا كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله ولذلك قالوا لا يجوز استعمال الماء الذي في الناحية التي فيها النجاسة وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في الماء الذي حلته نجاسة فروى عن حذيفة أنه سئل عن غدير يطرح فيه الميتة والحيض فقال توضئوا فإن الماء لا يخبث وقال ابن عباس في الجنب يدخل الحمام إن الماء لا يجنب وقال أبو هريرة رواية في الماء ترده السباع والكلاب فقال الماء لا يتنجس وقال ابن المسيب أنزل الله الماء طهورا لا ينجسه شيء وقال الحسن والزهري في البول في الماء لا ينجس ما لم يغيره بريح أو لون أو طعم وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن أبى ليلى الماء لا ينجسه شيء وكذلك روى عن القاسم وسالم وأبى العالية وهو قول ربيعة وقال أبو هريرة رواية لا يخبث

٢٠٤

أربعين دلوا شيء وهو قول سعيد بن جبير في رواية وقال عبد الله بن عمر إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وروى عن ابن عباس أنه قال الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غربا وهو قول محمد بن كعب القرظي وقال مسروق والنخعي وابن سيرين إذا كان الماء كرا لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير رواية الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال مجاهد إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء وقال عبيد بن عمير لو أن قطرة من مسكر قطرت في قربة من الماء لحرم ذلك الماء على أهله وقال مالك والأوزاعى لا يفسد الماء بالنجاسة إلا أن يتغير طعمه أو ريحه وقد ذكر عن مالك مسائل في موت الدجاجة في البئر أنها تنزف إلا أن تغلبهم ويعيد الصلاة من توضأ به مادام في الوقت وهذا عنده استحباب وكذلك يقول أصحابه أن كل موضع يقول فيه مالك أنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب وقال في الحوض إذا اغتسل فيه جنب أفسده وهذا أيضا عنده استحباب ترك استعماله وإن توضأ به أجزأه وكره الليث للجنب أن يغتسل في البئر وقال الحسن بن صالح لا بأس أن يغتسل الجنب في الماء الراكد الكثير القائم في الهر والسبخة وكره الوضوء بالماء بالفلاة إذا كان أقل من قدر الكر وروى نحوه عن علقمة وابن سيرين والكر عندهم ثلاثة آلاف رطل ومائتا رطل وقال الشافعى إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه وإن كان أقل يتنجس بوقوع النجاسة اليسيرة والذي يحتج به لقول أصحابنا قوله تعالى( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) والنجاسات لا محالة من الخبائث وقال( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) وقال في الخمر( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) ومر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما كان لا يستبرئ من البول والآخر كان يمشى بالنميمة فحرم الله هذه الأشياء تحريما مبهما ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما تيقنا فيه جزءا من النجاسة ويكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهة الإباحة من طريق الماء المباح في الأصل لأنه متى اجتمع في شيء جهة الحظر وجهة الإباحة فجهة الحظر أولى ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما فيها مائة جزء وللآخر جزء واحد إن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فإن قيل لم غلبت جهة الحظر في النجاسة على جهة الإيجاب في استعمال الماء الذي قد حلته نجاسة إذا لم تجد

٢٠٥

ماء غيره ومعلوم أن استعماله في هذه الحال واجب إذا لزمه فرض أداء الصلاة وإنما اجتمع هاهنا جهة الحظر وجهة الإيجاب قيل له قولك أنه قد اجتمع فيه جهة الحظر وجهة الإيجاب خطأ لأنه إنما يجب استعمال الماء الذي لا نجاسة فيه فأما ما فيه نجاسة فلم يلزمه استعماله فإن قيل إما يلزمه اجتناب النجاسة إذا كانت متجردة بنفسها فأما إذا كانت مخالطة للماء فليس عليه اجتنابها قيل له عموم ما ذكرنا من الآي والسنن قاض بلزوم اجتنابها في حالة الانفراد والاختلاط ومن ادعى تخصيص شيء منه لم يجز له ذلك إلا بدلالة وأيضا فإذا كان واجدا لماء غيره لم تخالطه نجاسة فليس بواجب عليه استعمال الماء الذي فيه النجاسة وأكثر ما فيه عند مخالفنا جواز استعماله على وجه الإباحة وما ذكرناه من لزوم اجتناب النجاسة يوجب الحظر والإباحة والحظر متى اجتمعا فالحكم للحظر على ما بينا وإذا صح ذلك وكان واجدا لماء غيره وجب أن يكون ذلك حكمه إذا لم يجد غيره لوجهين أحدهما لزوم استعمال الآي الحاظرة لاستعمال النجاسات فثبت بذلك أن الحظر قد تناولها في في حال اختلاطها به كهو في حال انفرادها والثاني أن أحدا لم يفرق بين حال وجود ماء غيره وبينه إذا لم يجد غيره فإذا صح لنا ذلك في حال وجود ماء غيره كانت الحال الأخرى مثله لا تفاق الجميع على امتناع الفصل بينهما ووجه آخر يوجب أن يكون لزوم اجتناب النجاسة أولى من وجوب استعمال الماء الذي هي فيه لعموم قوله( فَاغْسِلُوا ) إذا لم يجد ماء غيره وهو أن تحريم استعمال النجاسة متعلق بعينها ألا ترى أنه ما من نجاسة إلا وعلينا اجتنابها وترك استعمالها إذا كانت منفردة والماء الذي لا نجد غيره لم يتعين فيه لزوم الاستعمال ألا ترى أنه لو أعطاه إنسان ماء غيره أو غصبه فتوضأ به كانت طهارته صحيحة فلما لم يتعين فرض طهارته بذلك وتعين على حظر استعمال النجاسة صار للزوم اجتناب النجاسة مزية على وجوب استعمال الماء الذي لا يجد غيره إذا كانت فيه النجاسة فوجب أن يكون العموم الموجب لاجتنابها أولى وأيضا لا نعلم خلافا بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسة كاللبن والأدهان والخل ونحوه أن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه أكل ذلك وشربه والدلالة من هذا الأصل على ما ذكرناه من وجهين أحدهما لزوم اجتناب النجاسات بالعموم الذي قدمنا في حالي المخالطة والانفراد والآخر أن حكم الحظر وهو النجاسات كان أغلب من حكم الإباحة وهو الذي خالطه من الأشياء

٢٠٦

الطاهرة ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذي خالطه من ذلك ماء أو غيره إذ كان عموم الآي والسنن شاملة له وإذ كان المعنى وجود النجاسة فيه حظر استعماله ويدل على صحة قولنا من جهة السنة قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة وفي لفظ آخر ولا يغتسل فيه من جنابة ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير طعمه ولا لونه ولا رائحته ومنع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منه فإن قيل إنما منع البول القليل لأنه لو أبيح لكل أحد لكثر حتى يتغير طعمه أو لونه أو رائحته فيفسد قيل له ظاهر نهيه يقتضى أن يكون القليل منهيا عنه لنفسه لا لغيره وفي حمله على أنه ليس بمنهى عنه لنفسه وإنما منع لئلا يفسد لغيره إثبات معنى غير مذكور في اللفظ ولا دلالة عليه وإسقاط حكم المذكور في نفسه وعلى أنه متى حمل على ذلك زالت فائدته وسقط حكمه لعلمنا بأن ما غير من النجاسات طعم الماء أو لونه أو رائحته محظورا استعماله بغير هذا الخبر من النصوص والإجماع فيؤدى ذلك إلى إسقاط حكمه رأسا وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة فمنع البائل الاغتسال فيه بعد البول قبل أن يصير إلى حال التغير ويدل عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدرى أين باتت يده فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أن مثلها إذا حلت الماء لم يغيره ولولا أنها تفسده لما كان للأمر بالاحتياط منها معنى وحكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنجاسة ولوغ الكلاب بقوله طهور أناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا وهو لا يغيره فإن قيل قوله تعالى( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ـ إلى قوله تعالى ـفَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) وقوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) يدل من وجهين على جواز استعماله وإن كانت فيه نجاسة أحدهما عموم قوله تعالى( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) أن ذلك يقتضى جوازه بماء حلته النجاسة وبما لم تحله والوجه الآخر قوله تعالى( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا ماء إذا كانت فيه نجاسة يسيرة لم تغيره وهذا يعارض ما استدللتم به من عموم الآي والأخبار في حظر استعماله ماء خالطته نجاسة قيل له لو تعارض العمومان لكان ما ذكرنا أولى من تضمنه من الحظر والإباحة والحظر متى اجتمعا كان الحكم للحظر وعلى أن ما ذكرنا من حظر استعمال النجاسة قاض على ما ذكرت من العموم فوجب أن يكون الغسل مأمورا بماء لا نجاسة فيه ألا ترى أنه إذا غيرته كان محظورا وعموم إيجاب الحظر مستعمل فيه

٢٠٧

دون عموم الأمر بالغسل وكما قضى حظره لاستعمال النجاسات على قوله( لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) فإن كان ماحله منها يسيرا كذلك واجب أن يقضى على قوله تعالى( فَاغْسِلُوا ) وقوله( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) واحتج من أباح ذلك بقوله تعالى( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) وقوله( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الطهور ماؤه والحل ميتته وصفه إياه بالتطهير يقتضى تطهير ما لاقاه فيقال له معنى قوله طهورا يعتوره معنيان أحدهما رفع الحدث وإباحة الصلاة به والآخر إزالة الأنجاس فأما نجاسة موجودة فيه لم تزلها عن نفسه فكيف يكون مطهرا لها وعلى هذا القول ينبغي أن يكون معنى قوله طهورا أنه يجعل النجاسة غير نجاسة وهذا محال لأن ماحله من أجزاء الدم والخمر وسائر الخبائث لا يخرج من أن يكون أنجاسا كما أنها إذا ظهرت فيه لم يخرج من أن يكون أعيانها نجسة ولم يكن لمجاورة الماء إياها حكم في تطهيرها فإن قيل إذا كان الماء غالبا فلم يظهر فيه فالحكم للماء كما لو وقعت فيه قطرة من لبن أو غيره من المائعات لم يزل عنه حكم الماء لوجود الغلبة ولأن تلك الأجزاء مغمورة مستهلكة فحكم النجاسة إذا حلت الماء حكم سائر المائعات إذا خالطته قيل له هذا خطأ لأن المائعات كلها لا يختلف حكما فيما تخالطها من الأشياء الطاهرة وإن الحكم للغالب منها دون المستهلكات المغمورة مما خالطها وقد اتفقنا على أن مخالطة النجاسة اليسيرة لسائر المائعات غير الماء تفسدها ولم يكن للغلبة معها حكم بل كان الحكم لها دون الغالب عليها من غيرها فكذلك الماء فإن كان الماء إنما يكون مطهرا للنجاسة لمجاورته لها فواجب أن يطهرها بالمجاورة وإن لم يكن غامرا لها وإن كان إنما يصير مطهرا لها من أجل غموره لها وغلبته عليها فقد يكون سائر المائعات إذا خالطتها نجاسة غامرة لها وغالبة عليها وكان الحكم مع ذلك للنجاسة دون ما غمرها ويدل على صحة قولنا ما اتفقوا عليه من تحريم استعماله عند ظهور النجاسة فيه فالمعنى أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة وأيضا العلم بوجود النجاسة فيه كمشاهدتنا لها كما أن علمنا بوجودها في سائر المائعات كمشاهدتنا لها بظهورها وكالنجاسة في الثوب والبدن العلم بوجودها كمشاهدتها واحتج من خالف في ذلك بحديث أبى سعيد الخدري أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن بئر بضاعة وهي تطرح فيه عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب فقال إن الماء طهور لا ينجسه شيء وبحديث أبى بصرة عن جابر وأبى سعيد الخدري قالا كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فانتهينا إلى غدير فيه

٢٠٨

جيفة فكففنا وكف الناس حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرناه فقال استقوا فإن الماء لا ينجسه شيء فاستقينا وارتوينا وبما روى عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الماء طهور لا ينجسه شيء والجواب عن ذلك أنه قد حكى عن الواقديّ أن بئر بضاعة كانت طريقا للماء إلى البساتين فهذا يدل على أنه كان جاريا حاملا لما يقع فيه من الأنجاس وينفله وجائز أن يكون سئل عنها بعد ما نظفت من الأخباث فأخبر بطهارتها بعد النزح وأما قصة الغدير فجائز أن تكون الجيفة كانت في جانب منه فأباحصلى‌الله‌عليه‌وسلم الوضوء من الجانب الآخر وهذا يدل على صحة قول أصحابنا في اعتبار الغدير وأما حديث ابن عباس فإن أصله ما رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جفنة فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له إنى كنت جنبا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الماء لا يجنب والمراد أن إدخال الجنب يده فيه لا ينجسه فجائز أن يكون الراوي سمع ذلك فنقل المعنى عنده اللفظ ويدل على أن معناه ما وصفنا أن من مذهب ابن عباس الحكم بتنجيس الماء بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره وقد روى عطاء وابن سيرين أن زنجيا مات في بئر زمزم فأمر ابن عباس بنزحها وروى حماد عن إبراهيم عن ابن عباس قال إنما ينجس الحوض أن تقع فيه فتغتسل وأنت جنب فأما إذا أخذت بيدك تغتسل فلا بأس ولو صح أيضا هذا اللفظ احتمل أن يكون في قصة بئر بضاعة فحذف ذكر السبب ونقل لفظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا فإن قوله الماء طهور لا ينجسه شيء لا دلالة فيه على جواز استعماله وإنما كلامنا في جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه فليس يجوز الاعتراض به على موضع الخلاف لأنا نقول إن الماء طهور لا ينجسه شيء ومع ذلك لا يجوز استعماله إذا حلته نجاسة ولم يقل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فاستعملوه حتى تحتج به لقولك فإن قيل هذا الذي ذكرت يؤدى إلى إبطال فائدته قيل له قد سقط استدلالك بالظاهر إذا وصرت إلى أن تستدل بغيره وهو أن حمله على غير مذهبك تخلية من الفائدة ونحن نبين أن فيه ضروبا من الفوائد غير ما ادعيت من جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه فنقول إنه أفاد الماء لا ينجس بمجاورته للنجاسة ولا يصير في حكم أعيان النجاسات واستفدنا به أن الثوب والبدن إذا أصابتهما نجاسة فازيلت بموالاة صب الماء عليها أن الباقي من الماء الذي في الثوب ليس هو في حكم الماء الذي جاوره عين النجاسة فيلحقه حكمها لأنه إنما جاور ما ليس

«14 ـ احكام م»

٢٠٩

بنجس في نفسه وإنما يلحقه حكم النجاسة بمجاورته لها ولو لا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان جائزا أن يظن ظان أن الماء المجاور للنجاسة قد صار في حكم عين النجاسة فينجس ما جاوره فلا يختلف حينئذ حكم الماء الثاني والثالث إلى العاشر وأكثر من ذلك في كون جميعه نجاسا فأبطل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الظن وأفاد أن الماء الذي لحقه حكم النجاسة من جهة المجاورة لا يكون في معنى أعيان النجاسات وأفادنا أيضا أن البئر إذا ماتت فيه فأرة فأخرجت أن حكم النجاسة إنما لحق ما جاور الفأرة دون ما جاور هذا الماء وإن الفأرة تجعله بمنزلة أعيان النجاسات فلذلك حكمنا بتطهير بعض ما بها فإن قيل لو كان الأمر على ما ذكرت لم يكن لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه معنى لأن الماء المجاور للنجاسة ليس نجس في نفسه مع ظهور النجاسة فيه قيل له هذا أيضا معنى صحيح غير ما ادعيت واستفدنا به فائدة أخرى غير ما استفدناه بالخبر الذي اقتصر فيه على قوله الماء طهور لا ينجسه شيء عاريا من ذكر الاستثناء وذلك لأنه إخبار عن حال غلبة النجاسة وسقوط حكم الماء معها فيصير الجميع في حكم أعيان النجاسات وأفاد بذلك أن الحكم للغالب كما تقول في الماء إذا مازجه اللبن أو الخل أن الحكم للأغلب منهما وقد تكلمنا في هذه المسألة وفي مسألة القلتين في مواضع فأغنى عن إعادته هاهنا.

(فصل) وأما الماء المستعمل فإن أصحابنا والشافعى لا يجيزون الوضوء به على اختلاف منهم في الماء المستعمل ما هو وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به على كراهة من مالك له والدليل على صحة القول الأول ما روى أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال نهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة وتغتسل المرأة بفضل وضوء الرجل وليفترقا وفضل الطهور يتناول شيئين ما يسيل من أعضاء المغتسل والآخر ما يبقى في الإناء بعد الغسل وعمومه ينتظمهما فاقتضى ذلك النهى عن الوضوء بالماء المستعمل لأنه فضل طهور وأيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة وروى بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبى السائب مولى هشام بن زهرة عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ويدل عليه ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يا بنى عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدى الناس وعن عمر أنه قال لأسلم حين أكل من تمر الصدقة أرأيت

٢١٠

لو توضأ إنسان بماء أكنت شاربه فدل تشبيه الصدقة حين حرمها عليهم بغسالة أيدى الناس أن غسالة أيدى الناس لا يجوز استعمالها ومن جهة النظر أن الماء إذا أزيل به الحدث مشبه للماء الذي أزيل به النجاسة من حيث استباح الصلاة بهما فلما لم تجز الطهارة بالماء الذي أزيل به النجاسة كذلك ما أزيل به الحدث ومن جهة أخرى وهي أن الاستعمال قد أكسبه إضافة سلبه بها إطلاق الاسم فصار بمنزلة الماء الذي امتنع فيه إطلاق اسم الماء بمخالطة غيره له والمستعمل أولى بذلك من جهة ما تعلق به من الحكم في زوال الحدث أو حصول قربة فإن قيل فلو استعمله للتبرد لم يمنع ذلك جواز استعماله للطهارة كذلك إذا استعمله للطهارة قيل له استعماله للتبرد لم يمنع إطلاق الاسم فيه إذ لم يتعلق به حكم فهو كاستعماله في غسل ثوب طاهر واحتج من أجاز ذلك بقوله تعالى( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) وقوله( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) قال فذلك يقتضى جواز الوضوء به من وجهين أحدهما أنه لما لم يكن نجسا ولم تجاوره نجاسة وجب بقاؤه على الحال الأولى والثاني أن قوله( طَهُوراً ) يقتضى جواز التطهير به مرة بعد أخرى فيقال له إن بقاءه على الحالة الأولى بعد الطهارة هو موضع الخلاف وما ذكرت من العموم فإنما هو فيما لم يستعمل فيبقى على إطلاقه فأما ما يتناوله الاسم مقيدا فلم يتناوله العموم* وأما قولك أن كونه طهورا يقتضى جواز الطهارة به مرة بعد أخرى فليس كذلك لأن ذلك إنما يذكر على جهة المبالغة في الوصف له بالطهارة أو التطهير ولا دلالة فيه على التكرار كما يقال رجل ضروب بالسيف ويراد المبالغة في الوصف بالضرب وليس المقتضى فيه تكرار الفعل ويقال رجل أكول إذا كان يأكل كثيرا وإن كان أكله في مجلس واحد ولا يراد به تكرار الأكل وقد بينا ذلك في مواضع أيضا وقوله تعالى( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ) يجوز أن يريد به الماء الذي خلق منه أصل الحيوان في قوله( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ ) وقوله( وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ) ويجوز أن يريد به النطفة التي خلق منها ولد آدم وقوله( فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ) قال طاوس الرضاعة من الصهر وقال الضحاك رواية النسب الرضاع والصهر الختونة وقال الفراء النسب الذي لا يحل نكاحه والصهر النسب الذي يحل نكاحه كبنات العم وقيل إن النسب ما رجع إلى ولادة قريبة والصهر خلطة تشبه القرابة وقال الضحاك النسب

٢١١

سبعة أصناف ذكروا في قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) إلى قوله( وَبَناتُ الْأُخْتِ ) والصهر خمسة أصناف ذكروا في قوله( وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) إلى قوله( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) قال أبو بكر والتعارف في الأصهار أنهم كل ذي رحم محرم من نساء من أضيف إليه ذلك ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى لأصهار فلان إنه لكل ذي رحم محرم لنساء فلان وهو المتعارف من مفهوم كلام الناس قال والأختان أزواج البنات وكل ذات محرم من المضاف إليه الختن وكل ذي رحم محرم من الأزواج أيضا وقد يستعمل الصهر في موضع الختن فيسمون الختن صهرا قال الشاعر :

سميتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن زمِّيت

فأقام الصهر مقام الختن وهو محمول على المتعارف من ذلك قوله تعالى( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ) الآية روى شمر بن عطية عن ابن سلمة قال جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين فاتتنى الصلاة فقال أبدل ما فاتك من ليلك في نهارك فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وروى يونس عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد وعبد الله بن عتبة أنهما أخبرا عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من نام عن جزئه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل وقال الحسن( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ) جعل أحدهما خلفة للآخر إن فات من النهار شيء أدركه بالليل وكذلك لو فات من الليل قال أبو بكر هذا في نحو قوله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وقد روى عن مجاهد في قوله( خِلْفَةً ) أحدهما أسود والآخر أبيض وقيل يذهب أحدهما ويجيء الآخر وقوله تعالى( وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) روى ابن أبى نجيح عن مجاهد( هَوْناً ) قال بالوقار والسكينة( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) قال سدادا وعن الحسن أيضا( يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) حلماء لا يجهلون على أحد وإن جهل عليهم حلموا قد براهم الخوف كأنهم القداح هذا نهارهم ينتشرون به في الناس( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ) قال هذا ليلهم إذا دخل يراوحون بين أطرافهم فهم بينهم وبين ربهم وعن ابن عباس يمشون( عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) قال بالتواضع لا يتكبرون وقوله

٢١٢

تعالى( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) روى ابن أبى نجيح عن مجاهد( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال من أنفق در هما في معصية الله فهو مسرف( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) البخل منع حق الله( وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) قال القصد والإنفاق في طاعة الله عز وجل وقال ابن سيرين السرف إنفاقه في غير حق وقوله تعالى( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) الآية روى الأعمش عن أبى وائل عن عبد الله قال جاء رجل فقال يا رسول الله أي الذنب أكبر قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال ثم أى قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال ثم أى قال أن تزنى بحليلة جارك قال فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إلى قوله( أَثاماً ) قوله تعالى( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) عن أبى حنيفة الزور الغنا وعن ابن عباس في قوله تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) قال يشترى المغنية وعن عبد الله بن مسعود مثله وعن مجاهد قال( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) قال الغناء وكل لعب ولهو وروى ابن أبى ليلى عن عطاء عن جابر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان وصوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان * وروى عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن الله حرم على الخمر والكوبة والغناء قال محمد بن الحنفية أيضا في قوله( لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) أن لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا قال أبو بكر يحتمل أن يريد به الغنا على ما تأولوه عليه ويحتمل أيضا القول بما لا علم للقائل به وهو على الأمرين لعموم اللفظ قوله تعالى( وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) قال سعيد بن جبير ومجاهد إذا أوذوا مروا كراما صفحوا وروى أبو مخزوم عن سنان إذا مروا باللغو مروا كراما قال إذا مروا بالرفث كنوا وقال الحسن اللغو كله المعاصي قال السدى هي مكية قال أبو بكر يعنى أنه قبل الأمر بقتال المشركين وقوله تعالى( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) قيل لازما ملحا دائما ومنه الغريم لملازمته والحاجة وأنه لمغرم بالنساء أى ملازم لهن لا يصبر عنهن وقال الأعشى :

إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ

ـط جزيلا فإنه لا يبالى

وقال بشر بن أبى حازم :

٢١٣

يوم النساء ويوم الجفا

ركانا عذابا وكان غراما

قال لنا أبو عمر غلام ثعلب أصل الغرم اللزوم في اللغة وذكر نحوا مما قدمنا ويسمى الدين غرما ومغرما لأنه يقتضى اللزوم والمطالبة فيقال للطالب الغريم لأن له اللزوم وللمطلوب غريم لأنه يثبت عليه اللزوم وعلى هذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه يعنى دينه الذي هو مرهون به وزعم الشافعى أن الغرم الهلاك قال أبو عمر وهذا خطأ في اللغة وروى عن الحسن أنه قال ليس غريم إلا مفارقا غريمه غير جهنم فإنها لا تفارق غريمها قوله تعالى( قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال الحسن قرة الأعين في الدنيا وهو أن يرى العبد من زوجته ومن أخيه طاعة الله تعالى وقال والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولده أو والده أو ولد ولده أو أخاه أو حميما مطيعا لله تعالى وعن سلمة بن كهيل أقربهم عينا أن يطيعوك وروى أبو أسامة عن الأحوص بن حكيم عن أبى الزاهرية عن جبير بن نفير أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من رزق إيمانا وحسن خلق فذاك إمام المتقين وقال مجاهد والحسن( وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) نأتم بمن قبلنا حتى يأتم بنا من بعدنا وقوله تعالى( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) قال مجاهد ما يصنع بكم ربي وهو لا يحتاج إليكم لو لا دعاؤه إياكم إلى طاعته لتنتفعوا أنتم بذلك آخر سورة الفرقان.

سورة الشعراء

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) قال الثناء الحسن فاليهود تقر بنبوته وكذلك النصارى وأكثر الأمم وقيل اجعل من ولدي من يقوم بالحق ويدعو إليه وهو محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون به وقوله تعالى( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قيل إنما سأل سلامة القلب لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد إذ الفساد بالجوارح لا يكون إلا عن قصد فاسد بالقلب فإن اجتمع مع ذاك جهل فقد عدم السلامة من وجهين وروى النعمان بن بشير عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إنى لأعلم مضغة إذا صلحت صلح البدن كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب وقوله تعالى( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ـ إلى قوله ـوَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) أخبر عن القرآن بأنه تنزيل رب العالمين ثم أخبر أنه في زبر الأولين ومعلوم أنه لم يكن في زبر الأولين بهذه اللغة فهذا مما يحتج به في أن نقله

٢١٤

إلى لغة أخرى لا يخرجه من أن يكون قرآنا لإطلاق اللفظ بأنه في زبر الأولين مع كونه فيها بغير اللغة العربية وقوله تعالى( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ) روى سفيان عن سلمة بن كهيل عن مجاهد في قوله( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ) قال عصاة الجن وروى خصيف عن مجاهد( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ) قال الشاعران يتهاجيان فيكون لهذا أتباع ولهذا أتباع من الغواة فذم الله الشعراء الذين صفتهم ما ذكروهم الذين في كل واد يهيمون( يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) وشبهه بالهائم على وجهه في كل واد يعن له لما يغلب عليه من الهوى غير مفكر في صحة ما يقول ولا فساده ولا في عاقبة أمره وقال ابن عباس وقتادة( فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ ) في كل لغو يخوضون يمدحون ويذمون يعنون الأباطيل وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا ومعناه الشعر المذموم الذي ذم الله قائله في هذه الآية لأنه قد استثنى المؤمنين منهم بقوله( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لحسان اهجهم ومعك روح القدس وذلك موافق لقوله( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) كقوله تعالى( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) وقوله( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) وروى أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن من الشعر لحكمة آخر سورة الشعر

. سورة القصص

قوله تعالى( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) من الناس من يحتج بذلك في جواز عقد النكاح على منافع الحر وليس فيه دلالة على ما ذكروا لأنه شرط منافعه لشعيبعليه‌السلام ولم يشرط لها مهرا فهو بمنزلة من تزوج امرأة بغير مهر مسمى وشرط لوليها منافع الزوج مدة معلومة فهذا إنما يدل على جواز عقد من غير تسمية مهر وشرطه للمولى ذلك يدل على أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد وجائز أن يكون قد كان النكاح جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة فإن كان كذلك فهذا منسوخ بشريعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدل على أنه قد كان جائزا في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة ويحتج به في جواز الزيادة في العقود لقوله تعالى( فَإِنْ

٢١٥

أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) قال ابن عباس قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما قوله تعالى( وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) الآية قال مجاهد كان ناس من أهل الكتاب أسلموا فآذاهم المشركون فصفحوا عنهم يقولون سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين قال أبو بكر هذا سلام متاركة وليس بتحية وهو نحو قوله( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) وقوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) وقال إبراهيم( سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) ومن الناس من يظن أن هذا يجوز على جواز ابتداء الكافر بالسلام وليس كذلك لما وصفنا من أن السلام ينصرف على معنيين أحدهما المسالمة التي هي المتاركة والثاني التحية التي هي دعاء بالسلامة والأمن نحو تسليم المسلمين بعضهم على بعض وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمن على المؤمن ست أحدهما أن يسلم عليه إذا لقيه وقوله تعالى( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) وقوله( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكفار لا تبدؤهم بالسلام وأنه إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم قوله( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) وقال تعالى( وَقَتَلْتَ نَفْساً ) فأخبر أنه قتله بوكزه ثم قال( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) فقال بعضهم هذا يدل على أن القتل باللطمة عمد لو لا ذلك لم يقل إنى ظلمت نفسي على الإطلاق وهذا خطأ لأنه يجوز أن يقول ظلمت نفسي بإقدامى على الوكز من غير توقيف ولا دلالة فيه على أن القتل عمد إذ الظلم لا يختص بالقتل دون الظلم وكان صغيرة وقوله تعالى( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ ) يستدل به بعضهم على أن للزوج أن يسافر بامرأته وينقلها إلى بلد آخر ويفرق بينها وبين أبويها ولا دلالة فيه عندي على ذلك لأنه جائز أن يكون فعل برضاها آخر سورة القصص.

سورة العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) روى أبو عبيدة عن عبد الله قال قلت يا رسول الله أى الأعمال أفضل قال الصلوات لوقتهن قلت ثم مه قال الجهاد في سبيل الله قلت ثم مه قال بر الوالدين وروى أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر والآية والخبر يدلان معا على أنه لا يجوز للرجل أن يقتل أباه وإن كان مشركا ونهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حنظلة بن أبى عامر عن قتل أبيه وكان مشركا ويدل على أنه

٢١٦

لا يقتص للولد من الوالد قوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) روى ابن مسعود وابن عباس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وقال ابن مسعود الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها قال أبو بكر يعنى القيام بموجبات الصلاة من الإقبال عليها بالقلب والجوارح وإنما قيل تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها تشتمل على أفعال وأذكار لا يتخللها غيرها من أمور الدنيا وليس شيء من الفروض بهذه المنزلة فهي تنهى عن المنكر وتدعو إلى المعروف بمعنى أن ذلك مقتضاها وموجبها لمن قام بحقها وعن الحسن قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وقيل إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له إن فلانا يصلى بالليل ويسرق بالنهار فقال لعل صلاته تنهاه وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حبب إلى من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة وروى عن بعض السلف قال لم تكن الصلاة قرة عينه ولكنه كان إذا دخل الصلاة يرى فيها ما تقر عينه قوله تعالى( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) قال ابن عباس وابن مسعود وسلمان ومجاهد ذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته وروى عن سلمان أيضا وأم الدرداء وقتادة ذكر العبد لربه أفضل من جميع عمله وقال السدى ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة وقوله تعالى( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال قتادة هي منسوخة بقوله( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ ) ولا مجادلة أشد من السيف قال أبو بكر يعنى أن ذلك كان قبل الأمر بالقتال وقوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) يعنى والله أعلم إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضى الإغلاظ لهم وهو نحو قوله( وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ) وقال مجاهد إلا الذين ظلموا منهم بمنع الجزية وقيل إلا الذين ظلموا منهم بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم آخر سورة العنكبوت.

سورة الروم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد في قوله( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) هو الرجل يهب الشيء يريد أن يثاب أفضل منه فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه فيه ولا إثم عليه( وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ) وعن سعيد بن جبير قال هو الرجل يعطى

٢١٧

ليثاب عليه وروى عبد الوهاب عن خالد عن عكرمة( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) قال الربا ربوان فربا حلال وربا حرام فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى يلتمس به ما هو أفضل منه وروى زكريا عن الشعبي( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) قال كان الرجل يسافر مع الرجل فيخف له ويخدمه فيجعل له من ربح ماله ليجزيه بذلك وروى عبد العزيز بن أبى رواد عن الضحاك( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) قال هو الربا الحلال الرجل يهدى ليثاب أفضل منه فذلك لا له ولا عليه ليس فيه أجر وليس عليه فيه إثم وروى منصور عن إبراهيم( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) قال لا تعط التزداد قال أبو بكر أن يجوز أن يكون ذلك خاصا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان في أعلى مراتب مكارم الأخلاق كما حرم عليه الصدقة وقد روى عن الحسن في قوله تعالى( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) لا تستكثر عملك فتمن به على ربك وقوله تعالى( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ) يعنى أنه خلقكم ضعفاء حملا في بطون الأمهات ثم أطفالا لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا ثم جعلكم أقوياء ثم أعطاكم من الاستطاعة والعقل والدراية للتصرف في اختلاف المنافع ودفع المضار ثم جعلكم ضعفاء في حال الشيخوخة كقوله تعالى( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) وقوله( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) فيبقى مسلوب القوى والفهم كالصبي بل حاله دون حال الصبى لأن الصبى في زيادة من القوى والفهم من حين البلوغ وكمال حال الإنسانية وهذا يزداد على البقاء ضعفا وجهلا ولذلك سماه الله تعالى أرذل العمر وجعل الشيب قرينا للضعف بقوله( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ) وهو كقوله تعالى حاكيا عن نبيه زكرياعليه‌السلام ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) آخر سورة الروم.

سورة لقمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ) قال الضحاك ضعفا على ضعف يعنى ضعف الولد على ضعف الأم وقيل بل المعنى فيه شدة الجهد( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) يعنى في انقضاء عامين وفي آية أخرى( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) فحصل بمجموع الآيتين أن أقل مدة

٢١٨

الحمل ستة أشهر وبه استدل ابن عباس على مدة أقل الحمل واتفق أهل العلم عليه وقوله تعالى( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ) يعنى والله أعلم اصبر على ما أصابك من الناس في الأمر بالمعروف وظاهره يقتضى وجوب الصبر وإن خاف على النفس إلا أن الله تعالى قد أباح إعطاء التقية في حال الخوف في آي غيرها قد بيناها وقد اقتضت الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قوله تعالى( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ) قال ابن عباس ومجاهد معناه لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا وقال إبراهيم هو التشدق ومعناه يرجع إلى الأول لأن المتشدق في الكلام متكبر وقيل إن أصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤسها حتى يلوى وجوهها وأعناقها فيشبه بها الرجل الذي يلوى عنقه عن الناس قال الشاعر :

وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من ميله فتقوما

قوله تعالى( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ) إلى قوله( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) أبان تعالى بذلك أن أمره بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكفار لقوله تعالى( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وأكده بقوله( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) وفي ذلك دليل على أنه لا يستحق القود على أبيه وأنه لا يحد له إذا قذفه ولا يحبس له بدين عليه وأن عليه نفقتهما إذا احتاجا إليه إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف ولذلك قال أصحابنا إن الأب لا يحبس بدين ابنه وروى عن أبى يوسف أنه يحبسه إذا كان متمردا وقوله تعالى( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ ) يدل على صحة إجماع المسلمين لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم وهو مثل قوله( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) وقوله تعالى( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) المرح البطر وإعجاب المرء بنفسه وازدراء الناس والاستهانة بهم فنهى الله عنه إذ لا يفعل ذلك إلا جاهل بنفسه وأحواله وابتداء أمره ومنتهاه قال الحسن أنى لابن آدم الكبر وقد خرج من سبيل البول مرتين وقوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) قال مجاهد هو المتكبر والفخور الذي يفتخر بنعم الله تعالى على الناس استصغارا لهم وذلك مذموم لأنه إنما يستحق عليه الشكر لله على نعمه لا التوصل بها إلى معاصيه وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذكر نعم الله أنه سيد ولد آدم ولا

٢١٩

فخر فأخبر أنه إنما ذكرها شكرا لا افتخارا على نحو قوله تعالى( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) قوله تعالى( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) قال يزيد بن أبى حبيب هو السرعة قال أبو بكر يجوز أن يكون تأوله على ذلك لأن المختال في مشيته لا يسرع فيها فسرعة المشي تنافى الخيلاء والتكبر وقوله تعالى( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) فيه أمر بخفض الصوت لأنه أقرب إلى التواضع كقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ) ورفع الصوت على وجه ابتهار الناس وإظهار الاستخفاف بهم مذموم فأبان عن قبح هذا الفعل وأنه لا فضيلة فيه لأن الحمير ترفع أصواتها وهو أنكر الأصوات قال مجاهد في قوله( أَنْكَرَ الْأَصْواتِ ) أقبحها كما يقال هذا وجه منكر فذكر الله تعالى ذلك وأدب العباد تزهيدا لهم في رفع الصوت وقوله تعالى( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ) مفهوم هذا الخطاب الإخبار بما يعلمه هو دون خلقه وأن أحدا لا يعلمه إلا بإعلامه إياه وفي ذلك دليل على أن حقيقة وجود الحمل غير معلومة عندنا وإن كانت قد يغلب على الظن وجوده وهذا يوجب أن يكون نافى حمل امرأته من نفسه غير قاذف لها وقد بينا ذلك فيما سلف قوله تعالى( وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) يدل على أن أحدا لا يستحق عند الله فضيلة بشرف أبيه ولا بنسبه لأنه لم يخصص أحدا بذلك دون أحد وبذلك ورد الأثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وقال يا بنى عبد المطلب لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم فأقول إنى لا أغنى عنكم من الله شيئا وقوله( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ) معناه لا يغنى يقال جزيت عنك إذا أغنيت عنك آخر سورة لقمان.

سورة السجدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن معاذ بن جبل في قوله( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) قال كنت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا نبي الله أخبرنى بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله

٢٢٠