أحكام القرآن الجزء ٥

أحكام القرآن10%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 390

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61829 / تحميل: 5453
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

( ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ ) يعنى والله أعلم إذا علمن بعد الإرجاء أن لك أن تؤوي وترد إلى القسم وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجبا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان مخيرا في القسم لمن شاء منهن وترك من شاء منهن قوله تعالى( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) روى ليث عن مجاهد قال يعنى من بعد ما سمى لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وعن مجاهد أيضا في قوله( إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) قال لا بأس أن تتسرى اليهودية والنصرانية وروى سعيد عن قتادة( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) قال لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وهو قول الحسن وروى غير ذلك وهو ما روى إسرائيل عن السدى عن عبد الله بن شداد لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قال ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل قال وكان ينكح ما شاء بعد ما نزلت هذه الآية قال فنزلت هذه الآية وعنده تسع نسوة ثم تزوج أم حبيبة بنت أبى سفيان وجويرية بنت الحارث قال أبو بكر ظاهر الآية يفيد تحريم سائر النساء على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى من كن تحته وقت نزولها وقد روى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت ما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حل له النساء قال أبو بكر وهذا يوجب أن تكون الآية منسوخة وليس في القرآن ما يوجب نسخها فهي إذا منسوخة بالسنة ويحتج به في جواز نسخ القرآن بالسنة فإن قيل قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ) خبر والخبر لا يجوز النسخ في مخبره قيل له إنه وإن كان في صورة الخبر فهو نهى يجوز ورود النسخ عليه وهو بمنزلة ما لو قال لا تتزوج بعدهن النساء فيجوز نسخه قوله تعالى( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ ) يدل على جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية إذ لا يعجبه حسنها إلا وقد نظر إليها.

باب ذكر حجاب النساء

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبى عثمان واسمه الجعد بن دينار عن أنس قال لما تزوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب أهدت إليه أم سليم حيسا في تور من حجارة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اذهب فادع من

«١٦ ـ أحكام مس»

٢٤١

لقيت من المسلمين فدعوت له من لقيت فجعلوا يدخلون فيأكلون ويخرجون فوضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على الطعام فدعا فيه وقال فيه ما شاء الله أن يقول ولم أدع أحدا لقيته إلا دعوته فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث فأنزل الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ـ إلى قوله ـوَقُلُوبِهِنَ ) وروى بشر بن المفضل عن حميد الطويل عن أنس ذكر حديث بناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب ووليمته فلما طعم القوم وكان مما يفعل إذا أصبح ليلة بنائه دنا من حجر أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن ودعون له فلما انصرف وأنا معه إلى بيته بصر برجلين قد جرى بينهما الحديث من ناحية البيت فانصرف عن بيته فلما رأى الرجلان انصراف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيته وثبا خارجين فأخبر أنهما قد خرجا فرجع حتى دخل بيته فأرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب وروى حماد بن زيد عن أسلم العلوي عن أنس قال لما نزلت آية الحجاب جئت لأدخل كما كنت أدخل فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وراءك يا أنس قال أبو بكر فانتظمت الآية أحكاما منها النهى عن دخول بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بإذن وإنهم إذا أذن لهم لا يقعدون انتظارا لبلوغ الطعام ونضجه وإذا أكلوا لا يقعدون للحديث وروى عن مجاهد غير ناظرين إناه قال متحينين حين نضجه ولا مستأنسين لحديث بعد أن يأكلوا وقال الضحاك غير ناظرين إناه قال نضجه قوله تعالى( وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) قد تضمن حظر رؤية أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب قوله تعالى( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ) يعنى بما بين في هذه الآية من إيجاب الاستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجه فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته وقد روى معمر عن قتادة أن رجلا قال لو قبض النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتزوجت عائشة فأنزل الله تعالى( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ) قال أبو بكر ما ذكره قتادة هو أحد ما انتظمته الآية وروى عيسى بن يونس عن أبى إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة أنه قال لامرأته إن سرك ان تكوني زوجتي في الجنة إن جمع الله بيننا فيها فلا تزوجي بعدي فإن

٢٤٢

المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله على أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتزوجن بعده وروى حميد الطويل عن أنس قال سألت أم حبيبة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المرأة منا يكون لها زوجان فتموت فتدخل الجنة هي وزوجها لأيهما تكون قال يا أم حبيبة لأحسنهما خلقا كان معها في الدنيا فتكون زوجته في الجنة يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة قوله تعالى( لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَ ) الآية قال قتادة رخص لهؤلاء أن لا يجتنبن منهم قال أبو بكر ذكر ذوى المحارم منهن وذكر نساءهن والمعنى والله أعلم الحرائر ولا ما ملكت أيمانهن يعنى الإماء لأن العبد والحر لا يختلفان فيما يباح لهم من النظر إلى النساء قوله تعالى( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء وقد تقدم ذكره وروى عن أبى العالية إن الله وملائكته يصلون على النبي قال صلاة الله عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة عليه بالدعاء قال أبو بكر يعنى والله أعلم إخبار الله الملائكة برحمته لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمام نعمه عليه فهو معنى قوله صلاته عند الملائكة وروى عن الحسن هو الذي يصلى عليكم وملائكته إن بنى إسرائيل سألوا موسىعليه‌السلام هل يصلى ربك فكان ذلك كبر في صدره فأوحى الله إليه أن أخبرهم أنى أصلى وإن صلاتي إن رحمتي سبقت غضبى وقوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ) قد تضمن الأمر بالصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وظاهره يقتضى الوجوب وهو فرض عندنا فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدى فرضه وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه وزعم الشافعى أن الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرض في الصلاة وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم فيما نعلمه وهو خلاف الآثار الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لفرضها في الصلاة منها حديث ابن مسعود حين علمه التشهد فقال إذا فعلت هذا أو قلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وقوله ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت وحديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع الرجل رأسه من آخر سجدة وقعد فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته وحديث معاوية بن الحكم السلمى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن ولم يذكر الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح مختصر الطحاوي

٢٤٣

وقوله ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) يحتج به أصحاب الشافعى في إيجاب فرض السلام في آخر الصلاة ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأنه لم يذكر الصلاة فهو على نحو ما ذكرنا في الصلاة عليه ويحتجون به أيضا في فرض التشهد لأن فيه السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه إذ لم يذكر السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل أن يريد به تأكيد الفرض في الصلاة عليه بتسليمهم لأمر الله إياهم بها كقوله( ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى في كتابه اسمه وذكر نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأفرد نفسه بالذكر ولم يجمع الاسمين تحت كناية واحدة نحو قوله( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) ولم يقل ترضوهما لأن اسم الله واسم غيره لا يجتمعان في كناية وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطب بين يديه رجل فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قم فبئس خطيب القوم أنت لقوله ومن يعصهما فإن قيل فقد قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) فجمع اسمه واسم ملائكته في الضمير قيل له إنما أنكرنا جمعهما في كناية يكون اسما لهما نحو الهاء التي هي كناية عن الاسم فأما الفعل الذي ليس باسم ولا كناية عنه وإنما فيه الضمير فلا يمتنع ذلك فيه وقد قيل أيضا في هذا الموضع أن قوله( يُصَلُّونَ ) ضمير الملائكة دون اسم الله تعالى وصلاة الله على النبي مفهومة من الآية من جهة المعنى كقوله( انْفَضُّوا إِلَيْها ) رد الكناية إلى التجارة دون اللهو لأنه مفهوم من جهة المعنى وكذلك قوله( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ) المذكور في ضمير النفقة هو الفضة والذهب مفهوم من جهة المعنى قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) يعنى يؤذون أولياء الله ورسوله وذلك لأن الله لا يجوز أن يلحقه الأذى فأطلق ذلك مجازا لأن المعنى مفهوم عند المخاطبين كما قال( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) والمعنى أهل القرية وقوله تعالى( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) قد قيل إنه أراد من أضمر ذكره في الآية الأولى من أولياء الله فأظهر ذكرهم بعد الضمير وبين أنهم المرادون بالضمير وأخبر عن احتمالهم البهتان والاسم اللذين بهما يستحقون ما ذكر في الآية الأولى من اللعن والعذاب قوله تعالى( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ ) روى عن عبد الله قال الجلباب الرداء وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد يتجلببن ليعلم أنهن حرائر ولا يعرض لهن فاسق وروى محمد بن سيرين عن عبيدة يدنين

٢٤٤

عليهن من جلابيبهن قال تقنع عبيدة وأخرج إحدى عينيه وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن قال كن إماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض بهن السفهاء فيؤذونهن وكانت المرأة الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة فيتعرضون لها فيؤذونها فأمر الله المؤمنات أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين وقال ابن عباس ومجاهد تغطى الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها خلاف حال الإماء وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبى خيثم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الآية( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ ) خرج نساء من الأنصار كان على رؤسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى( وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ ) ظاهره أنه أراد الحرائر وكذا روى في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر الرأس والوجه فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء وقد روى عن عمر أنه كان يضرب الإماء ويقول اكشفن رؤسكن ولا تشبهن بالحرائر قوله تعالى( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ) الآية حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن ناسا من المنافقين أرادوا أن يظهر وانفاقهم فنزلت( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) أى لنحرشنك وقال ابن عباس لنغربنك بهم لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا بالنفي عنها قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على أن الإرجاف بالمؤمنين والإشاعة بما يغمهم ويؤذيهم يستحق به التعزير والنفي إذا أصر عليه ولم ينته عنه وكان قوم من المنافقين وآخرون ممن لا بصيرة لهم في الدين وهم الذين في قلوبهم مرض وهو ضعف اليقين يرجفون باجتماع الكفار والمشركين وتعاضدهم ومسيرهم إلى المؤمنين فيعظمون شأن الكفار بذلك عندهم ويخوفونهم فأنزل الله تعالى ذلك فيهم وأخبر تعالى باستحقاقهم النفي والقتل إذا لم ينتهوا عن ذلك فأخبر تعالى أن ذلك سنة الله وهو الطريقة المأمور بلزومها واتباعها وقوله تعالى( وَلَنْ

٢٤٥

تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) يعنى والله أعلم أن أحدا لا يقدر على تغيير سنة الله وإبطالها آخر سورة الأحزاب.

سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) روى عن عطاء بن يسار قال تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) ثم قال ثلاث ومن أوتيهن فقد أوتى مثل ما أوتى آل داود العدل في الغضب والرضا والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية قوله تعالى( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ ) يدل على أن عمل التصاوير كان مباحا وهو محظور في شريعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما روى عنه أنه قال لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة وقال من صور صورة كلف يوم القيامة أن يحييها وإلا فالنار وقال لعن الله المصورين وقد قيل فيه إن المراد من شبه الله تعالى بخلقه آخر سورة سبأ.

سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

روى عكرمة قال ذكر عند ابن عباس بقطع الصلاة الكلب والحمار فقرأ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فما الذي يقطع هذا وروى سالم عن سعيد بن جبير الكلم الطيب يرفعه العمل الصالح قوله تعالى( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) الحلية هاهنا اللؤلؤ وما يتحلى به مما يخرج من البحر واختلف الفقهاء في المرأة تحلف أن لا تلبس حليا فقال أبو حنيفة اللؤلؤ وحده ليس بحلي إلا أن يكون معه ذهب لقوله تعالى( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ) وهذا في الذهب دون اللؤلؤ إذ لا توقد عليه وقوله( حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) إنما سماه حلية في حال اللبس وهو لا يلبس وحده في العادة إنما يلبس مع الذهب ومع ذلك فإن إطلاق لفظ الحلية عليه في القرآن لا يوجب حمل اليمين عليه والدليل عليه قوله( تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ) وأراد به السمك ولو حلف أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وكذلك قوله( وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) ومن حلف لا يقعد في سراج وقعد في الشمس لا يحنث قوله تعالى( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) فيه الإبانة عن فضيلة العلم وأن به يتوصل إلى خشية الله وتقواه لأن من

٢٤٦

عرف توحيد الله وعدله بدلائله أو صله ذلك إلى خشية الله وتقواه إذ كان من لا يعرف الله ولا يعرف عدله وما قصد له بخلقه لا يخشى عقابه ولا يتقيه وقوله في آية أخرى( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) وقال تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ـ إلى قوله ـذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) خبر إن خير البرية من خشي ربه وأخبر في الآية أن العلماء بالله هم الذين يخشونه فحصل بمجموع الآيتين أن أهل العلم بالله هم خير البرية وإن كانوا على طبقات في ذلك ثم وصف أهل العلم بالله الموصوفين بالخشية منه فقال( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) فكان ذلك في صفة الخاشعين لله العاملين بعلمهم وقد ذكر في آية أخرى المعرض عن موجب علمه فقال( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ) إلى آخر القصة فهذه صفة العالم غير العامل والأول صفة العالم المتقى لله وأخبر عن الأولين بأنهم واثقون بوعد الله وثوابه على أعمالهم بقوله تعالى( يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) قوله تعالى( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) روى بعض السلف قال من شأن المؤمن الحزن في الدنيا ألا تراهم حين يدخلون الجنة يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الدنيا سجن المؤمن قيل لبعض النساك ما بال أكثر النساك محتاجين إلى ما في يد غيرهم قال لأن الدنيا سجن المؤمن وهل يأكل المسجون إلا من يد المطلق قوله تعالى( وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ) روى عن الحسن والضحاك قالا ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر وقال الشعبي لا ينقص من عمره لا ينقضي ما ينقص منه وقتا بعد وقت وساعة بعد ساعة والعمر هو مدة الأجل التي كتبها الله لخلقه فهو عالم بما ينقص منها بمضى الأوقات والأزمان قوله تعالى( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) روى عن ابن عباس ومسروق أن العمر الذي ذكر الله به أربعون سنة وعن ابن عباس رواية وعن على ستون سنة وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال أخبرنى رجل من غفار عن سعيد المقبري عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لقد أعذر الله عبدا أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة لقد أعذر

٢٤٧

الله إليه حدثنا عبد الله قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أبى خيثم عن مجاهد عن ابن عباس قال العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة وبإسناده عن مجاهد مثله من قوله تعالى( وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) روى عن بعض أهل التفسير أن النذير محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى أنه الشيب قال أبو بكر ويجوز أن يكون المراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر ما أقام الله من الدلائل على توحيده وتصديق رسله ووعده ووعيده وما يحدث في الإنسان من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والانتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له فيكون حدثا شابا ثم كهلا ثم شيخا وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من مرض وصحة وفقر وغناء وفرح وحزن ثم ما يراه في غيره وفي سائر الأشياء من حوادث الدهر التي لا صنع للمخلوقين فيها وكل ذلك داع له إلى الله ونذير له إليه كما قال تعالى( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ) فأخبر أن في جميع ما خلق دلالة عليه ورادا للعباد إليه آخر سورة فاطر.

سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن ابن أبى الربيع قال أخبرنا معمر عن أبى إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله ابن عمر في قوله( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) قال الشمس تطلع فيراها بنو آدم حتى إذا كان يوم غربت فتحبس ما شاء الله ثم يقال اطلعي من حيث غربت فهو يوم لا ينفع نفسا إيمانها الآية قال معمر وبلغني عن أبى موسى الأشعرى أنه قال إذا كانت الليلة التي تطلع فيها الشمس من حيث تغرب قام المتهجدون لصلاتهم فصلوا حتى يملوا ثم يعودون إلى مضاجعهم يفعلون ذلك ثلاث مرات والليل كما هو والنجوم واقفة لا تسرى حتى يخرج الرجل إلى أخيه ويخرج الناس بعضهم إلى بعض قال أبو بكر فكان معنى قوله( لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) على هذا التأويل وقوفها عن السير في تلك الليلة إلى أن تطلع من مغربها قال معمر وبلغني أن بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر قيل له وما الآيات قال زعم قتادة قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض وخويصة أحدكم وأمر العامة قيل له هل بلغك أى الآيات أول قال

٢٤٨

طلوع الشمس من مغربها وقد بلغني أن رجالا يقولون الدجال وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وروى قتادة لمستقر لها قال لوقت واحد لها لا تعدوه قال أبو بكر يعنى أنها استقرت على سير واحد وعلى مقدار واحد لا تختلف وقيل لمستقر لها لا بعد منازلها في الغروب قوله تعالى( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) قال ذاك ليلة الهلال قال أبو بكر يعنى والله أعلم أنها لا تدركه فتستره بشعاعها حتى تمنع من رؤيته لأنهما مسخران مقسوران على ما رتبهما الله عليه لا يمكن واحدا منهما أن يتغير عن ذلك وقال أبو صالح لا يدرك أحدهما ضوء الآخر وقيل( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانها وقيل لا تدركه في سرعة السير وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال وبلغني أن عكرمة قال لكل واحد منهما سلطان للقمر سلطان الليل وللشمس النهار فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ولا الليل سابق النهار يقول لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون نهارا فإن قيل هذا يدل على أن ابتداء الشهر نهار لا ليل لأنه قال( وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) فإذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما معا وجب أن يكون النهار سابقا لليل فيكون ابتداء الشهور من النهار لا من الليل قيل له ليس تأويل الآية ما ذهبت إليه وإنما معناها أحد الوجوه التي تقدم ذكرها عن السلف ولم يقل أحد منهم أن معناها أن ابتداء الشهور من النهار فهذا تأويل ساقط بالإجماع وأيضا فلما كانت الشهور التي تتعلق بها أحكام الشرع هي شهور الأهلة والهلال أول ما يظهر فإنما يظهر ليلا ولا يظهر ابتداء النهار وجب أن يكون ابتداؤها من الليل ولا خلاف بين أهل العلم أن أول ليلة من شهر رمضان هي من رمضان وأن أول ليلة من شوال هي من شوال فثبت بذلك أن ابتداء الشهور من الليل ألا ترى أنهم يبتدئون بصلاة تراويح في أول ليلة منه وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت فيه الشياطين وجميع ذلك يدل على أن ابتداء الشهور من أول الليل وقد قال أصحابنا

٢٤٩

فيمن قال لله على اعتكاف شهر أنه يبتدئ به من الليل لأن ابتداء الشهور من الليل قوله تعالى( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) روى عن الضحاك وقتادة أنه أراد سفينة نوح قال أبو بكر فنسب الذرية إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم كأنه قال ذرية الناس وقوله تعالى( وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ) قال ابن عباس السفن بعد سفينة نوح وروى عن ابن عباس رواية أخرى وعن مجاهد أن الإبل سفن البر قوله تعالى( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) قال قتادة نصيره إلى حال الهرم التي تشبه حال الصبى في غروب العلم وضعف القوى وقال غيره نصيره بعد القوة إلى الضعف وبعد زيادة الجسم إلى النقصان وبعد الجدة والطراوة إلى البلى قال أبو بكر ومثله قوله تعالى( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) وسماه أرذل العمر لأنه لا يرجى له بعده عود من النقصان إلى الزيادة ومن الجهل إلى العلم كما يرجى مصير الصبى من الضعف إلى القوة ومن الجهل إلى العلم ونظيره قوله تعالى( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ) قوله تعالى( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ) قال بلغني أن عائشة سئلت هل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمثل بشيء من الشعر فقالت لا إلا ببيت أخى بنى قيس ابن طرفة :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا* ويأتيك بالأخبار من لم تزود قال فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر ليس هكذا يا رسول الله قال إنى لست بشاعر ولا ينبغي لي قال أبو بكر لم يعط الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم العلم بإنشاء الشعر لم يكن قد علمه الشعر لأنه الذي يعطى فطنة ذلك من يشاء من عباده وإنما لم يعط ذلك لئلا تدخل به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن أنه قوى على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر وإذا كان التأويل أنه لم يعطه الفطنة لقول الشعر لم يمتنع على ذلك أن ينشد شعرا لغيره إلا أنه لم يثبت من وجه صحيح أنه تمثل بشعر لغيره وإن كان قد روى أنه قال : هل أنت إلا إصبع دميت* وفي سبيل الله ما لقيت وقد روى أن القائل لذلك بعض الصحابة وأيضا فإن من أنشد شعرا لغيره أو قال بيتا أو بيتين لم يسم شاعرا ولا يطلق عليه أنه قد علم الشعر أو قد تعلمه ألا ترى أن من

٢٥٠

لا يحسن الرمي قد يصيب في بعض الأوقات برميته ولا يستحق بذلك أن يسمى راميا ولا أنه تعلم الرمي فكذلك من أنشد شعرا لغيره وأنشأ بيتا ونحوه لم يسم شاعرا قوله تعالى( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) فيه من أوضح الدليل على أن من قدر على الابتداء كان أقدر على الإعادة إذ كان ظاهر الأمر أن إعادة الشيء أيسر من ابتدائه فمن قدر على الإنشاء ابتداء فهو على الإعادة أقدر فيما يجوز عليه البقاء وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار لأنه ألزمهم قياس النشأة الثانية على الأولى وربما احتج بعضهم بقوله تعالى( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) على أن العظم فيه حياة فيجعله حكم الموت بموت الأصل ويكون ميتة وليس كذلك لأنه إنما سماه حيا مجازا إذ كان عضوا( يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) ومعلوم أنه لا حياة فيها آخر سورة يس.

سورة والصافات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ـ إلى قوله ـوَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال أبو بكر ظاهره يدل على أنه كان مأمورا بذبحه فجائز أن يكون الأمر إنما تضمن معالجة الذبح لا ذبحا يوجب الموت وجائز أن يكون الأمر حصل على شريطة التخلية والتمكن منه وعلى أن لا يفديه بشيء وأنه إن فدى منه بشيء كان قائما مقامه* والدليل على أن ظاهره قد اقتضى الأمر قوله( افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) وقوله( وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) فلو لم يكن ظاهره قد اقتضى الأمر بالذبح لما قال افعل ما تأمر ولم يكن الذبح فداء عن ذبح متوقع وروى أن إبراهيمعليه‌السلام كان نذر إن رزقه الله ولدا ذكرا أن يجعله ذبيحا لله فأمر بالوفاء به وروى أن الله تعالى ابتدأ بالأمر بالذبح على نحو ما قدمنا وجائز أن يكون الأمر ورد بذبح ابنه وذبحه فوصل الله أوداجه قبل خروج الروح وكانت الفدية لبقاء حياته قال أبو بكر وعلى أى وجه تصرف تأويل الآية قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في المتعقب في شريعة إبراهيمعليه‌السلام وقد أمر الله باتباعه بقوله تعالى( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) وقال( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) وجب على من نذر ذبح ولده شاة وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في ذلك

٢٥١

فروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يقول هو ينحر ابنه قال كبش كما فدى إبراهيم إسحاق وروى سفيان عن منصور عن الحكم عن على في رجل نذر أن ينحر ابنه قال يهدى بدنة أو ديته شك الراوي وعن مسروق مثل قول ابن عباس وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال يحج ويهدى بدنة وروى داود بن أبى هند عن عامر في رجل حلف أن ينحر ابنه قال قال بعضهم مائة من الإبل وقال بعضهم كبش كما فدى إسحاق قال أبو بكر قال أبو حنيفة ومحمد عليه ذبح شاة وقال أبو يوسف لا شيء عليه وقال أبو حنيفة لو نذر ذبح عبده لم يكن عليه شيء وقال محمد عليه ذبح شاة وظاهر الآية يدل على قول أبى حنيفة في ذبح الولد لأن هذا اللفظ قد صار عبارة عن إيجاب شاة في شريعة إبراهيمعليه‌السلام فوجب بقاء حكمه ما لم يثبت نسخه وذهب أبو يوسف إلى حديث أبى قلابة عن أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم وروى الحسن عن عمران بن حصين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين قال أبو بكر لا يلزم القائلين بالقول الأول وذلك لأن قوله على ذبح ولدي لما صار عبارة عن إيجاب ذبح شاة صار بمنزلة ما لو قال على ذبح شاة ولم يكن ذلك معصية وإنما لم يوجب أبو حنيفة على الناذر ذبح عبده شيئا لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة فكان نذر معصية وقد قالوا جميعا فيمن قال لله على أن أقتل ولدي أنه لا شيء عليه لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة وقد روى يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت إنى نذرت أن أنحر ابني قال لا تنحرى ابنك وكفرى عن يمينك فقال رجل عند ابن عباس إنه لا وفاء لنذر في معصية فقال ابن عباس مه قال الله تعالى في الظهار ما سمعت وأوجب فيه ما ذكره قال أبو بكر وليس ذلك بمخالف لما قدمنا من قول ابن عباس في إيجابه كبشا لأنه جائز أن يكون من مذهبه إيجابهما جميعا إذا أراد بالنذر اليمين كما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال لله على أن أصوم غدا فلم يفعل وأراد اليمين أن عليه كفارة اليمين والقضاء جميعا وقد اختلف في الذبيح من ولدي إبراهيمعليهم‌السلام فروى عن على وابن مسعود وكعب والحسن وقتادة أنه إسحاق وعن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي أنه إسماعيل وروى عن النبي

٢٥٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم القولان جميعا ومن قال هو إسماعيل يحتج بقوله عقيب ذكر الذبح( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا ) فلما كانت البشارة بعد الذبح دل على أنه إسماعيل * واحتج الآخرون بأنه ليس ببشارة بولادته وإنما هي بشارة بنبوته لأنه قال( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا ) قوله تعالى( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) احتج به بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض وذلك إغفال منه وذلك لأنهعليه‌السلام ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله فدل على أنه خاص فيهعليه‌السلام دون غيره قوله تعالى( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال ابن عباس بل يزيدون قيل إن معنى أو هاهنا الإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين وقيل هو على شك المخاطبين إذ كان الله تعالى لا يجوز عليه الشك آخر سورة والصافات.

سورة ص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ) روى عن معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ) وروى القاسم عن زيد بن أرقم قال خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى وروى شريك عن زيد بن أبى زياد عن مجاهد عن أبى هريرة قال أوصانى خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث أوصانى بصلاة الضحى والوتر قبل النوم وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ونهاني عن نقر كنقر الديك والتفات كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب وروى عطية عن أبى سعيد الخدري قال كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها وروى عن عائشة وأم هاني أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الضحى وعن ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلها وقال ابن عمر هي من أحب ما أحدث الناس إلى وروى ابن أبى مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال إنها لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) قوله تعالى( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ) قيل إنه سخرها معه فكانت تسير معه وجعل ذلك تسبيحا

٢٥٣

منها لله تعالى لأن التسبيح لله هو تنزيهه عما لا يليق به فلما كان سيرها دلالة على تنزيه الله جعل ذلك تسبيحا منها له قوله تعالى( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن عمر وبن عبيد عن الحسن في قوله( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) قال جزأ داود الدهر أربعة أيام يوما لنسائه ويوما لقضائه ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ويوما لبنى إسرائيل يسئلونه وذكر الحديث قال أبو بكر وهذا يدل على أن القاضي لا يلزمه الجلوس للقضاء في كل يوم وأنه جائز له الاقتصار على يوم من أربعة أيام ويدل على أنه لا يجب على الزوج الكون عند امرأته في كل يوم وأنه جائز له أن يقسم لها يوما من أربعة أيام وقال أبو عبيدة المحراب صدر المجلس ومنه محراب المسجد وقيل إن المحراب الغرفة وقوله تعالى( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) يدل على ذلك والخصم اسم يقع على الواحد وعلى الجماعة وإنما فزع منهم داود لأنهم دخلوا عليه في موضع صلاته على صورة الآدميين بغير إذن فقالوا( لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ) ومعناه أرأيت إن جاءك خصمان فقالا بغى بعضنا على بعض وإنما كان فيه هذا الضمير لأنه معلوم أنهما كانا من الملائكة ولم يكن من بعضهم بغى على بعض والملائكة لا يجوز عليهم الكذب فعلمنا أنهما كلماه بالمعاريض التي تخرجهما من الكذب مع تقريب المعنى بالمثل الذي ضرباه وقولهما( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) هو على معنى ما قدمنا من ضمير أرأيت إن كان له تسع وتسعون نعجة وأراد بالنعاج النساء وقد قيل إن داود كان له تسع وتسعون امرأة وأن أوريا بن حنان لم تكن له امرأة وقد خطب امرأة فخطبها داود مع علمه بأن أوريا خطبها وتزوجها وكان فيه شيئان مما سبيل الأنبياء التنزه عنه أحدهما خطبته على خطبة غيره والثاني إظهار الحرص على التزويج مع كثرة من عنده من النساء ولم يكن عنده أن ذلك معصية فعاتبه الله تعالى عليها وكانت صغيرة وفطن حين خاطبه الملكان بأن الأولى كان به أن لا يخطب المرأة التي خطبها غيره وقوله( وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ) يعنى خطبت امرأة واحدة قد كان التراضي منا وقع بتزويجها وما روى في أخيار القصاص من أنه نظر إلى المرأة فرآها متجردة فهويها وقدم زوجها للقتل فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء لأن الأنبياء لا يأتون للعاصي مع العلم بأنها معاص إذ لا يدرون لعلها كبيرة تقطعهم عن ولاية الله

٢٥٤

تعالى ويدل على صحة التأويل الأول أنه قال( وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) فدل ذلك على أن الكلام إنما كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزويج الآخر وقوله تعالى( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ) يدل على أن للخصم أن يخاطب الحاكم بمثله وقوله تعالى( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) من غير أن يسئل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمثل على ما بينا وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه لو لا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسئله فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به وقوله تعالى( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) وهو يعنى الشركاء يدل على أن العادة في أكثر الشركاء الظلم والبغي ويدل عليه أيضا قوله( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) قوله تعالى( وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ) يدل على أنهعليه‌السلام لم يقصد المعصية بديا وإن كلام الملكين أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية وإن الله تعالى قد شدد عليه المحنة بها لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة فحينئذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها وقوله تعالى( وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ) روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في ص وليست من العزائم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في سجدة ص سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا وروى الزهري عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر سجد في ص وروى عثمان وابن عمر مثله وقال مجاهد قلت لابن عباس من أين أخذت سجدة ص قال فتلا على( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) فكان داود سجد فيها فلذلك سجد فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى مسروق عن ابن مسعود أنه كان لا يسجد فيها ويقول هي توبة نبي وقول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلها اقتداء بداود لقوله( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) يدل على أنه رأى فعلها واجبا لأن الأمر على الوجوب وهو خلاف رواية عكرمة عنه أنها ليست من عزائم السجود ولما سجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود دل على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود وأما قول عبد الله أنها ليس بسجدة لأنها توبة نبي فإن كثيرا من مواضع السجود إنما هو حكايات عن قوم مدحوا بالسجود نحو قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) وهو موضع السجود للناس بالاتفاق وقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى

٢٥٥

عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) ونحوها من الآي التي فيها حكاية سجود قوم فكانت مواضع السجود وقوله( وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) يقتضى لزوم فعله عند سماع القرآن فلو خلينا والظاهر أوجبناه في سائر القرآن فمتى اختلفنا في موضع منه فإن الظاهر يقتضى وجوب فعله إلا أن تقوم الدلالة على غيره وأجاز أصحابنا الركوع عن سجود التلاوة وذكر محمد بن الحسن أنه قد روى في تأويل قوله تعالى( وَخَرَّ راكِعاً ) أن معناه خر ساجدا فعبر بالركوع عن السجود فجاز أن ينوب عنه إذ صار عبارة عنه قوله تعالى( وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ) روى أشعث عن الحسن قال العلم بالقضاء وعن شريح قال الشهود والأيمان وعن أبى حصين عن أبى عبد الرحمن السلمى قال فصل الخطاب قال الخصوم قال أبو بكر الفصل بين الخصوم بالحق وهذا يدل على أن فصل القضاء واجب على الحاكم إذا خوصم إليه وأنه غير جائز له إهمال الحكم وهو يبطل قول من يقول إن الناكل عن اليمين يحبس حتى يقرأ ويحلف لأن فيه إهمال الحكم وترك الفصل وروى الشعبي عن زياد أن فصل الخطاب (أما بعد) وليس زياد ممن يعتد به في الأقاويل ولكنه قد روى وعسى أن يكون ذهب إلى أنه فصل بين الدعاء في صدر الكتاب وبين الخطاب المقصود به الكتاب قوله تعالى( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن حماد بن سلمة عن حميد بن سلمة عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الآية وقرأ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ـ إلى قوله ـفَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) وروى سليمان بن حرب عن حماد بن أبى سلمة عن حميد قال لما استقضى إياس بن معاوية أتاه الحسن فبكى إياس فقال له الحسن ما يبكيك يا أبا وائلة قال بلغني أن القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ورجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة قال الحسن إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) فأثنى على سليمان ولم يذم دواد ثم قال

٢٥٦

الحسن إن الله أخذ على الحكام ثلاثا وذكر نحو الحديث الأول قال أبو بكر قد بين في حديث أبى بريدة معنى ما ذكر في الحديث الذي رواه إياس بن معاوية أن القاضي إذا أخطأ فهو في النار وهو ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود السجستاني قال حدثنا محمد بن حسان السمنى قال حدثنا خلف بن خليفة عن أبى هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار فأخبر أن الذي في النار من المخطئين هو الذي تقدم على القضاء بجهل قوله تعالى( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ـ إلى قوله ـبِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) قال مجاهد صفوان الفرس رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر وذاك من عادة الخيل والجياد السراع من الخيل يقال فرس جواد إذا جاء بالركض قوله تعالى( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) يحتمل وجهين أحد هما إنى أحببت حب الخير الذي ينال بهذا الخيل فشغلت به عن ذكر ربي وهو الصلاة التي كان يفعلها في ذلك الوقت ويحتمل إنى أحببت حب الخير وهو يريد به الخيل نفسها فسماها خيرا لما ينال بها من الخير بالجهاد في سبيل الله وقتال أعدائه ويكون قوله( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) معناه أن ذلك من ذكرى لربي وقيامي بحقه في اتخاذ هذا الخيل قوله تعالى( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) روى عن ابن مسعود حتى توارت الشمس بالحجاب قال أبو بكر وهو كقول لبيد :

حتى إذا لقيت يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها

وكقول حاتم :

أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فأضمر النفس في قوله حشرجت وقال غير ابن مسعود حتى توارت الخيل بالحجاب وقوله تعالى( رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) روى عن ابن عباس أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبالها وهذا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني قال أخبرنا محمد بن المهاجر قال حدثني عقيل بن شبيب عن أبى وهب الجشمي وكانت له صحبة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأعجازها أو قال أكفالها وقلدوها ولا

«١٧ ـ احكام مس»

٢٥٧

تقلدوها الأوتار فجائز أن يكون سليمان إنما مسح أعرافها وعراقيبها على نحو ما ندب إليه نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روى عن الحسن أنه كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال لا تشغلينى عن عبادة ربي مرة أخرى والتأويل الأول أصح والثاني جائز ومن تأوله على الوجه الثاني يستدل به على إباحة لحوم الخيل إذ لم يكن ليتلفها بلا نفع وليس كذلك لأنه جائز أن يكون محرم الأكل وتعبد الله بإتلافه ويكون المنفعة في تنفيذ الأمر دون غيره ألا ترى أنه كان جائز أن يميته الله تعالى ويمنع الناس من الانتفاع بأكله فكان جائزا أن يتعبد بإتلافه ويحظر الانتفاع بأكله بعده وقوله تعالى( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) روى عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس إن شفيته تقولين لي أنت شفيته فأخبرت بذلك أيوب فقال إن شفاني الله ضربتك مائة سوط فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة قال عطاء وهي للناس عامة وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فضرب به امرأته وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها قولي لزوجك يقول كذا وكذا فقالت له قل كذا وكذا فحلف حينئذ أن يضربها فضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصابه جميعها لقوله تعالى( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد بر في يمينه لقوله( وَلا تَحْنَثْ ) وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بر في يمينه وقال مالك والليث لا يبر وهذا القول خلاف الكتاب لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث وقد روى عن مجاهد أنه قال هي لأيوب خاصة وقال عطاء للناس عامة قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على صحة القول الأول من وجهين أحدهما أن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد وذلك يقتضى البر في يمينه والثاني أنه لا يحنث لقوله( وَلا تَحْنَثْ ) وزعم بعض من يحتج لمذهب مالك أن ذلك لأيوب خاصة لأنه قال( فَاضْرِبْ بِهِ وَلا

٢٥٨

تَحْنَثْ ) فلما أسقط عنه الحنث كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة فأداها أو بمنزلة من لم يحلف على شيء وهذا حجاج ظاهر السقوط لا يحتج بمثله من يعقل ذلك لتناقضه واستحالته ومخالفته لظاهر الكتاب وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه إذا فعل ذلك لم يحنث واليمين تتضمن شيئين حنثا أو برا فإذا أخبر الله أنه لا يحنث فقد أخبر بوجود البر إذ ليس بينهما واسطة فتناقضه واستحالته من جهة أن قوله هذا يوجب أن كل من بر في يمينه بأن يفعل المحلوف عليه كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة على قضيته لسقوط الحنث ولو كان لأيوب خاصة وكان عبادة تعبد بها دون غيره كان الله أن يسقط عنه الحنث ولا يلزمه شيئا وإن لم يضربها بالضغث فلا معنى على قوله لضربها بالضغث إذ لم يحصل به بر في اليمين وزعم هذا القائل أن لله تعالى أن يتعبد بما شاء في الأوقات وفيما تعبدنا به ضرب الزاني قال ولو ضربه ضربة واحدة بشماريخ لم يكن حدا قال أبو بكر أما ضرب الزاني بشماريخ فلا يجوز إذا كان صحيحا سليما وقد يجوز إذا كان عليلا يخاف عليه لأنه لو أفرد كل ضربة لم يجز إذا كان صحيحا ولو جمع أسواطا فضربه بها وأصابه كل أحد منها وأعيد عليه ما وقع عليه من الأسواط وإن كانت مجتمعة فلا فرق بين حال الجمع والتفريق وأما في المرض فجائز أن يقتصر من الضرب على شماريخ أو درة أو نحو ذلك فيجوز أن يجمعه أيضا فيضربه به ضربة وقد روى في ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمدانى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنى يونس عن ابن شهاب قال أخبرنى أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنى قد وقعت على جارية دخلت على فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا ما رأينا أحدا به من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذوا له شماريخ مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد وقال فيه فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ففعلوا وهو سعيد بن سعد بن عبادة وقد أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو أمامة بن سهل بن حنيف هذا ولد في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

٢٥٩

(فصل) وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزا بقوله( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ ـ إلى قوله ـوَاضْرِبُوهُنَ ) وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديبا لغير نشوز وقوله تعالى( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) فما روى من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب لأنه روى أن رجلا لطم امرأته على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أهلها القصاص فأنزل الله( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) وفي الآية دليل على أن للرجل أن يحلف ولا يستثنى لأن أيوب حلف ولم يستثن ونظيره من سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله في قصة الأشعريين حين استحملوه فقال والله لا أحملكم ولم يستثن ثم حملهم وقال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفيها دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ثم فعل المحلوف عليه أن عليه الكفارة لأنه لو لم تجب كفارة لترك أيوب ما حلف عليه ولم يحتج إلى أن يضربها بالضغث وهو خلاف قول من قال لا كفارة عليه إذا فعل ما هو خير وقد روى فيه حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وذلك كفارته وفيها دليل على أن التعزير يجاوز به الحد لأن في الخبر أنه حلف أن يضربها مائة فأمره الله تعالى بالوفاء به إلا أنه روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين وفيها دليل على أن اليمين إذا كانت مطلقة فهي على المهلة وليست على الفور لأنه معلوم أن أيوب لم يضرب امرأته في فور صحته ويدل على أن من حلف على ضرب عبده أنه لا يبر إلا أن يضربه بيده لقوله( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ) إلا أن أصحابنا قالوا فيمن لا يتولى الضرب بيده إن أمر غيره بضربه لا يحنث للعرف وفيها دليل على أن الاستثناء لا يصح إلا أن يكون متصلا باليمين لأنه لو صح الاستثناء متراخيا عنها لأمر بالاستثناء ولم يؤمر بالضرب وفيها دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر آخر سورة ص.

٢٦٠

سورة الزمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) ثم راجعة إلى صلة الكلام كأنه قال خلقكم من نفس واحدة ثم أخبر أنه جعل منها زوجها لأنه لا يصح رجوعها إلى المخلوقين من الأولاد على معنى الترتيب لأن الوالدين قبل الولد وهو مثل قوله( ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ) وقوله( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً ) ونحو ذلك آخر سورة الزمر.

سورة المؤمن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) روى سفيان عن منصور عن إبراهيم في قوله( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) قال بنى بالآجر وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلونه في قبورهم وقوله تعالى( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) روى الثوري عن الأعمش ومنصور عن سبيع الكندي عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) الآية وقوله تعالى( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ) هذه الآية تدل على عذاب القبر لقوله تعالى( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) فدل على أن المراد( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) قبل القيامة آخر سورة المؤمن.

سورة حم السجدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً ) فيه بيان أن ذلك أحسن قول ودل بذلك على لزوم فرض الدعاء إلى الله إذ لا جائز أن يكون النفل أحسن من الفرض فلو لم يكن الدعاء إلى الله فرضا وقد جعله من أحسن قول اقتضى ذلك أن يكون النفل أحسن من الفرض وذلك ممتنع وقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) الآية قيل إن الملائكة تتنزل عليهم عند الموت فيقولون لا تخف مما أنت قادم عليه فيذهب الله خوفه ولا تحزن على الدنيا ولا على أهلها فيذهب الله خوفه وأبشر بالجنة وروى ذلك عن زيد ابن أسلم وقال غيره إنما يقولون له ذلك في القيام عند الخروج من القبرفيرى تلك الأهوال

٢٦١

فيقول له الملائكة لا تخف ولا تحزن فإنما يراد بهذا غيرك ويقولون له نحن أولياؤك في الحياة الدنيا فلا يفارقونه تأنيسا له إلى أن يدخل الجنة وقال أبو العالية( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) قال أخلصوا له الدين والعمل والدعوة قوله تعالى( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) قال بعض أهل العلم ذكر الله العدو فأخبر بالحيلة فيه حتى تزول عداوته ويصير كأنه ولى فقال تعالى( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) الآية قال وأنت ربما لقيت بعض من ينطوى لك على عداوة وضغن فتبدأه بالسلام أو تبسم في وجهه فيلين لك قلبه ويسلم لك صدره قال ثم ذكر الله الحاسد فعلم أن لا حيلة عندنا فيه ولا في استملاك سخيمته واستخراج ضغينته فقال تعالى( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ـ إلى قوله ـوَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ ) فأمر بالتعوذ منه حين علم أن لا حيلة عندنا في رضاه قوله تعالى( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ ) الآية قال أبو بكر اختلف في موضع السجود من هذه السورة فروى عن ابن عباس ومسروق وقتادة أنه عند قوله( وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) وروى عن أصحاب عبد الله والحسن وأبى عبد الرحمن أنه عند قوله( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) قال أبو بكر الأولى أنها عند آخر الآيتين لأنه تمام الكلام ومن جهة أخرى أن السلف لما اختلفوا كان فعله بالآخر منهما أولى لا تفاق الجميع على جواز فعلها بأخراهما واختلافهم في جوازها بأولاهما قوله تعالى( وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ) الآية يدل على أنه لو جعله أعجميا كان أعجميا فكان يكون قرآنا أعجميا وأنه إنما كان عربيا لأن الله أنزله بلغة العرب وهذا يدل على أن نقله إلى لغة العجم لا يخرجه ذلك من أن يكون قرآنا آخر سورة حم السجدة.

سورة حم عسق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) فيه الدلالة على بطلان الاستئجار على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لإخباره تعالى بأن من يريد حرث الدنيا فلا حظ له في الآخرة فيخرج ذلك من أن يكون قربة فلا يقع موقع الجواز وقوله تعالى( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدى معناه إلا أن تودوني لقرابتي منكم قالوا كل

٢٦٢

قريش كانت بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة وقال على بن الحسن وسعيد بن جبير إلا أن تودوا قرابتي وقال الحسن إلا المودة في القربى أى إلا التقرب إلى الله والتودد بالعمل الصالح وقوله تعالى( وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أنا مأمورون بها قوله تعالى( وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) روى عن إبراهيم النخعي في معنى الآية قال كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق وقال السدى هم ينتصرون معناه ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا عليهم قال أبو بكر قد ندبنا الله في مواضع من كتابه إلى العفو عن حقوقنا قبل الناس فمنه قوله( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) وقوله تعالى في شأن القصاص( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) وقوله( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) وأحكام هذه الآي ثابتة غير منسوخة وقوله( وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله تعالى وإقامة الصلاة وهو محمول على ما ذكره إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ الفساق عليهم فهذا فيمن تعدى وبغى وأصر على ذلك والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا وقد قال عقيب هذه الآية( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) ومقتضى ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به وقد عقبه بقوله( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) فهو محمول على الغفران عن غير المصر فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله تعالى( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) قال فبما يكون بين الناس من القصاص فأما لو ظلمك رجل لم يحل لك أن تظلمه آخر سورة حم عسق.

سورة الزخرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

في التسمية عند الركوب قوله تعالى( لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) حدثنا عبد الله

٢٦٣

ابن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أبى إسحاق عن على بن ربيعة أنه شهد عليا كرم الله وجهه حين ركب فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ثم قال حمدا لله ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له مم تضحك يا أمير المؤمنين قال رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل مثل الذي فعلت وقال مثل الذي قلت ثم ضحك فقيل له مم تضحك يا نبي الله قال العبد أو قال عجب للعبد إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان إذا ركب قال بسم الله ثم قال هذا منك وفضلك علينا الحمد لله ربنا ثم يقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقبلون وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذروة سنام كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فقولوا كما أمركم الله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وروى عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أبى معمر أن ابن مسعود قال إذا ركب الدابة فلم يذكر اسم الله عليه ردفه الشيطان فقال له تغن فإن لم يحسن قال له تمن.

فصل في إباحة لبس الحلي للنساء

قال أبو العالية ومجاهد رخص للنساء في الذهب ثم قرأ( أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ ) وروى نافع عن سعيد عن أبى هند عن أبى موسى قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لبس الحرير والذهب حرام على ذكور أمتى حلال لإناثها وروى شريك عن العباس بن زريح عن البهي عن عائشة قالت سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو يمص الدم عن شجة بوجه أسامة ويمجه لو كان أسامة جارية لحليناه لو كان أسامة جارية لكسوناه لتنفقه وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى امرأتين عليهما أسورة من ذهب فقال أتحبان أن يسوركما الله بأسورة من نار قالتا لا قال فأديا حق هذا وقالت عائشة لا بأس بلبس الحلي إذا أعطى زكاته وكاتب عمر إلى أبي موسى أن مر من قبلك من نساء المؤمنين أن يصدقن من الحلي وروى أبو حنيفة عن عمرو بن دينار أن عائشة حلت أخواتها الذهب وأن ابن

٢٦٤

عمر حلى بناته الذهب وقد روى خصيف عن مجاهد عن عائشة قالت لما نهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لبس الذهب قلنا يا رسول الله أو نربط المسك بشيء من الذهب قال أفلا تربطونه بالفضة ثم تلطخونه بشيء من زعفران فيكون مثل الذهب وروى جرير عن مطرف عن أبى هريرة قال كنت قاعدا عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتته امرأة فقالت يا رسول الله سواران من ذهب فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سوران من نار فقالت قرطان من ذهب قال قرطان من نار قالت طوق من ذهب قال طوق من نار قالت يا رسول الله إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده فقال ما يمنعكن أن تجعلن قرطين من فضة تصفرينه بعنبر أو زعفران فإذا هو كالذهب قال أبو بكر الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة أظهر وأشهر من اخبار الحذر ودلالة الآية ايضا ظاهرة في إباحته للنساء وقد استفاض لبس الحلي للنساء منذ لدن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير من احد عليهن ومثل ذلك لا يعترض عليه بأخبار الآحاد* قوله تعالى( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) يعنى أن الكفار قالوا لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ولا الملائكة وإنا إنما عبدناهم لأن الله قد شاء منا ذلك فأكذبهم الله في قيلهم هذا وأخبر أنهم يخرصون ويكذبون بهذا القول في أن الله تعالى لم يشأ كفرهم ونظيره قوله( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) اخبر فيه أنهم مكذبون لله ولرسوله بقولهم لو شاء الله ما أشركنا وأبان به أن الله قد شاء أن لا يشركوا وهذا كله يبطل مذهب الجبر الجهمية قوله تعالى( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ـ إلى قوله ـقالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ) فيه الدلالة على إبطال التقليد لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ينتظم معنيين أحدهما أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم وأن التقليد لا يغنى مع عدم العلم بصحة المقالة والثاني أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها ونحوه ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وقوله تعالى( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) قال نزول عيسى بن مريمعليه‌السلام علم الساعة

٢٦٥

وناس يقولون القرآن علم للساعة آخر سورة الزخرف.

سورة الجاثية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) قال نسخها قوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) قوله تعالى( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) قال لا يهوى شيئا إلا ركبه لا يخاف الله قال أبو بكر وقد روى في بعض الأخبار أن الهوى إله يعبد وتلا قوله تعالى( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) يعنى يطيعه كطاعة الإله وعن سعيد بن جبير قال كانوا يعبدون العزى وهو حجر أبيض حينا من الدهر فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر وقال الحسن اتخذ إلهه هواه يعنى لا يعرف إلهه بحجة عقله وإنما يعرفه بهواه قوله تعالى( وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) قيل هو على التقديم والتأخير أى نحيا ونموت من غير رجوع وقيل نموت ويحيا أولادنا كما يقال ما مات من خلف ابنا مثل فلان وقوله( وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) فإنه حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله( وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) قال قال ذلك مشركو قريش قالوا ما يهلكنا إلا الدهر يقولون إلا العمر قال أبو بكر هذا قول زنادقة قريش الذين كانوا ينكرون الصانع الحكيم وإن الزمان ومضى الأوقات هو الذي يحدث هذه الحوادث والدهر اسم يقع على زمان العمر كما قال قتادة يقال فلان يصوم الدهر يعنون عمره كله ولذلك قال أصحابنا إن من حلف لا يكلم فلانا الدهر أنه على عمره كله وكان ذلك عندهم بمنزلة قوله والله لا أكلمك الأبد واما قوله لا أكلمك دهرأ فإن ذلك عند أبى يوسف ومحمد على ستة أشهر ولم يعرف أبو حنيفة معنى دهرا فلم يجب فيه بشيء وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث في بعض ألفاظه لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فتأوله أهل العلم على أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المجحفة والبلايا النازلة والمصائب المتلفة إلى الدهر فيقولون فعل الدهر بنا وصنع بنا ويسبون الدهر كما

٢٦٦

قد جرت عادة كثير من الناس بأن يقولوا أساء بنا الدهر ونحو ذلك فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبوا فاعل هذه الأمور فإن الله هو فاعلها ومحدثها وأصل هذا الحديث ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود وقال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار قال ابن السرح عن ابن المسيب مكان سعيد فقوله وأنا الدهرمنصوب بأنه ظرف للفعل كقوله تعالى أنا ابدأ بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وكقول القائل أنا اليوم بيدي الأمر أفعل كذا وكذا ولو كان مرفوعا كان الدهر اسما لله تعالى وليس كذلك لأن أحدا من المسلمين لا يسمى الله بهذا الاسم وحدثنا عبد الله ابن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن الله يقول لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإنى أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما فهذان هما أصل الحديث في ذلك والمعنى ما ذكرنا وإنما غلط بعض الرواة فنقل المعنى عنده فقال لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر وأما قوله في الحديث الأول يؤذيني ابن آدم يسب الدهر فإن الله تعالى لا يلحقه الأذى ولا المنافع والمضار وإنما هو مجاز معناه يؤذى أوليائى لأنهم يعلمون أن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي ينسبها الجهال إلى الدهر فيتأذون بذلك كما يتأذون بسماع سائر ضروب الجهل والكفر وهو كقوله( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) ومعناه يؤذون أولياء الله آخر سورة حم الجاثية.

سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) روى أن عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فقال له على قال الله تعالى( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) وقال( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) وروى أن عثمان سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك وأن عثمان رجع إلى قول على وابن عباس وروى عن ابن عباس أن كل ما زاد في الحمل نقص من الرضاع فإذا كان الحمل تسعة أشهر فالرضاع واحد وعشرون شهرا وعلى هذا القياس جميع ذلك وروى عن ابن عباس أن الرضاع حولان في جميع الناس ولم يفرقوا بين من زاد

٢٦٧

حمله أو نقص وهو مخالف للقول الأول وقال مجاهد في قوله( وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) ما نقص عن تسعة أشهر أو زاد عليها قوله تعالى( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) روى عن ابن عباس وقتادة أشده ثلاث وثلاثون سنة وقال الشعبي هو بلوغ الحلم وقال الحسن أشده قيام الحجة عليه وقوله تعالى( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ) روى الزهري عن ابن عباس قال قال عمر فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا وقال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) قال إن عمر بن الخطاب قال لو شئت أن أذهب طيباتى في حياتي لأمرت بجدي سمين يطبخ باللبن وقال معمر قال قتادة قال عمر لو شئت أن أكون أطيبكم طعاما وألينكم ثيابا لفعلت ولكني أستبقى طيباتى وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال قدم على عمر بن الخطاب ناس من أهل العراق فقرب إليهم طعامه فرآهم كأنهم يتعذرون في الأكل فقال يا أهل العراق لو شئت أن يدهمق لي كما يدهمق لكم لفعلت ولكن نستبقى من دنيانا لآخرتنا ما سمعتم الله يقول( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ) قال أبو بكر هذا محمول على أنه رأى ذلك أفضل لا على أنه لا يجوز غيره لأن الله قد أباح ذلك فلا يكون أكله فاعلا محظورا قال الله تعالى( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) آخر سورة الأحقاف.

سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال الله تعالى( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان وهو نظير قوله تعالى( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) قال ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم

٢٦٨

أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم شك أبو عبيد في وإن شاءوا استعبدوهم وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مهدى وحجاج كلاهما عن سفيان قال سمعت السدى يقول في قوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) قال هي منسوخة نسخها قوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) قال أبو بكر أما قوله( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) وقوله( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) وقوله( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ وذلك لأن الله تعالى أمر نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإثخان بالقتل وحظر عليه الأسر إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم وكان ذلك في وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام أما قوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) ظاهره يقتضى أخذ شيئين إما من وإما فداء وذلك ينفى جواز القتل وقد اختلف السلف في ذلك حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير وقال من عليه أو فاده وحدثنا جعفر قال حدثنا جعفر قال حدثنا أبو عبيد قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا أشعث قال سألت عطاء عن قتل الأسير فقال من عليه أو فاده قال وسألت الحسن قال يصنع به ما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسارى بدر يمن عليه أو يفادى به وروى عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء إصطخر ليقتله فأبى أن يقتله وتلا قوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) وروى أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير وقد روينا عن السدى أن قوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) منسوخ بقوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وروى مثله عن ابن جريج حدثنا جعفر قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال هي منسوخة وقال قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عقبة بن أبى معيط يوم بدر صبرا قال أبو بكر اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه وقد تواترت الأخبار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتله الأسير منها قتله عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعد ما أسر وقتل

٢٦٩

بنى قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بالقتل وسبى الذرية ومن على الزبير ابن باطا من بينهم وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة وشرط على بن أبى الحقيق أن لا يكتم شيئا فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس ابن حبابة وعبد الله بن سعد بن أبى سرح وآخرين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم وروى عن صالح بن كيسان عن محمد ابن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه سمع أبا بكر الصديق يقول وددت أنى يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا وعن أبى موسى أنه قتل دهقان السوس بعد ما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسى نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله فهذه آثار متواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه واتفق فقهاء الأمصار على ذلك وإنما اختلفوا في فدائه فقال أصحابنا جميعا لا يفادى الأسير بالمال ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا وقال أبو حنيفة لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ولا يردون حربا أبدا وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين وهو قول الثوري والأوزاعى وقال الأوزاعى لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون وقال المزني عن الشافعى للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادى بهم فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) وظاهره يقتضى جوازه بالمال وبالمسلمين وبأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فدى أسارى بدر بالمال ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك عن معمر عن أيوب عن أبى قلابة عن أبى المهلب عن عمران بن حصين قال أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسر أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من بنى عامر بن صعصعة فمر به على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو موثق فأقبل إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال علام أحبس قال بجريرة حلفائك فقال الأسير إنى مسلم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح ثم مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فناداه أيضا فأقبل فقال إنى جائع فأطعمنى فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه حاجتك ثم إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما وروى ابن علية عن أيوب عن أبى قلابة عن أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بنى عقيل ولم يذكر

٢٧٠

إسلام الأسير وذكره في الحديث الأول ولا خلاف أنه لا يفادى الآن على هذا الوجه لأن المسلم لا يرد أهل الحرب وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شرط في صلح الحديبية لقريش أن من جاء منهم مسلما رده عليهم ثم نسخ ذلك ونهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال أنا برىء من كل مسلم مع مشرك وقال من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذمة وأما ما في الآية من ذكر المن أو الفداء وما روى في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) وقد روينا ذلك عن السدى وابن جريج وقوله تعالى( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ـ إلى قوله تعالى ـحَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها قوله تعالى( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) قال الحسن حتى يعبد الله ولا يشرك به غيره وقال سعيد بن جبير خروج عيسى بن مريمعليه‌السلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويلقى الذئب الشاة فلا يعرض لها ولا تكون عداوة بين اثنين وقال الفراء آثامها وشركها حتى لا يكون إلا مسلم أو مسالم قال أبو بكر فكان معنى الآية على هذا التأويل إيجاب القتال إلى أن لا يبقى من يقاتل وقوله تعالى( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ ) روى عن مجاهد لا تضعفوا عن القتال وتدعوا إلى الصلح وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) قال لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) قال أنتم أولى بالله منهم قال أبو بكر فيه الدلالة على امتناع جواز طلب الصلح من المشركين وهو بيان لما أكد فرضه من قتال مشركي العرب حتى يسلموا وقتال أهل الكتاب ومشركي العجم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية والصلح على غير إعطاء الجزية خارج عن مقتضى الآيات الموجبة لما وصفنا فأكد النهى عن الصلح بالنص عليه في هذه الآية وفيه الدلالة على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخل مكة صلحا وإنما فتحها عنوة لأن الله قد نهاه عن الصلح في هذه الآية وأخبر أن

٢٧١

المسلمين هم الأعلون الغالبون ومتى دخلها صلحا برضاهم فهم متساوون إذ كان حكم ما يقع بتراضى الفريقين فهما متساويان فيه ليس أحدهما بأولى بأن يكون غالبا على صاحبه من الآخر وقوله تعالى( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) يحتج به في أن كل من دخل في قربة لا يجوز له الخروج منها قبل إتمامها لما فيه من إبطال عمله نحو الصلاة والصوم والحج وغيره آخر سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

سورة الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله عز وجل( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) روى أنه أراد فتح مكة وقال قتادة قضينا لك قضاء مبينا والأظهر أنه فتح مكة بالغلبة والقهر لأن القضاء لا يتناوله الإطلاق وإذا كان المراد فتح مكة فإنه يدل على أنه فتحها عنوة إذ كان الصلح لا يطلق عليه اسم الفتح وإن كان قد يعبر مقيدا لأن من قال فتح بلد كذا عقل به الغلبة والقهر دون الصلح ويدل عليه قوله في نسق التلاوة( وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) وفيه الدلالة على أن المراد فتح مكة وأنه دخلها عنوة ويدل عليه قوله تعالى( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) لم يختلفوا أن المراد فتح مكة ويدل عليه قوله تعالى( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ) وقوله تعالى( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) وذكره ذلك في سياق القصة يدل على ذلك لأن المعنى سكون النفس إلى الإيمان بالبصائر التي بها قاتلوا عن دين الله حتى فتحوا مكة وقوله تعالى( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) روى أن المراد فارس والروم وروى أنهم بنو حنيفة فهو دليل على صحة إمامة أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم لأن أبا بكر الصديق دعاهم إلى قتال بنى حنيفة ودعاهم عمر إلى قتال فارس والروم وقد ألزمهم الله اتباع طاعة من يدعوهم إليه بقوله( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) فأوعدهم الله على التخلف عمن دعاهم إلى قتال هؤلاء فدل على صحة إمامتهما إذ كان المتولى عن طاعتهما مستحقا للعقاب فإن قيل قد روى قتادة أنهم هو ازن وثقيف يوم حنين قيل له لا يجوز أن يكون الداعي لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قال( فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) ويدل على أن المراد بالدعاة لهم غير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعلوم أنه لم يدع

٢٧٢

هؤلاء القوم بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وقوله تعالى( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصدق بصائرهم فهم قوم بأعيانهم قال ابن عباس كانوا ألفين وخمس مائة وقال جابر ألفا وخمس مائة فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء الله إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان وقد أكد ذلك بقوله( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه وقوله تعالى( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) يعنى الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) وقوله تعالى( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ) الآية روى عن ابن عباس أنها نزلت في قصة الحديبية وذلك أن المشركين قد كانوا بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين فأتى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرى فخلى سبيلهم وروى أنها نزلت في فتح مكة حين دخلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عنوة فإن كانت نزلت في فتح مكة فدلالتها ظاهرة على أنها فتحت عنوة لقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) ومصالحتهم لا ظفر فيها للمسلمين فاقتضى ذلك أن يكون فتحها عنوة وقوله تعالى( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) يحتج به من يجيز ذبح هدى الإحصار في غير الحرم لإخباره بكونه محبوسا عن بلوغ محله ولو كان قد بلغ الحرم وذبح فيه لما كان محبوسا عن بلوغ المحل وليس هذا كما ظنوا لأنه قد كان ممنوعا بديا عن بلوغ المحل ثم لما وقع الصلح زال المنع فبلغ محله وذبح في الحرم وذلك لأنه إذا حصل المنع في أدنى وقت فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى( قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر وفي الآية دلالة على أن المحل هو الحرم لأنه قال( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) فلو كان محله غير الحرم لما كان معكوفا عن بلوغه فوجب أن يكون المحل في قوله( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) هو الحرم.

باب رمى حصون المشركين وفيهم أطفال المسلمين وأسراهم

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا بأس برمي حصون المشركين

«18 ـ أحكام مس»

٢٧٣

وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين وكذلك إن تترس الكفار بأطفال المسلمين رمى المشركون وإن أصابوا أحدا من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة وقال الثوري فيه الكفارة ولا دية فيه وقال مالك لا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين لقوله تعالى( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) إنما صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الكفار وقال الأوزاعى إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا لقوله( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ) الآية قال ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين ويرمى الحصن بالمنجنيق وإن كان فيه أسارى مسلمون فإن أصاب أحدا من المسلمين فهو خطأ وإن جاءوا يتترسون بهم رمى وقصد العدو وهو قول الليث بن سعد وقال الشافعى لا بأس بأن يرمى الحصن وفيه أسارى أو أطفال ومن أصيب فلا شيء فيه ولو تترسوا ففيه قولان أحدهما يرمون والآخر لا يرمون إلا أن يكونوا ملتحمين فيضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده فإن أصاب في هذه الحال مسلما فإن علمه مسلما فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلما فالرقبة وحدها قال أبو بكر نقل أهل السير أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نهيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل النساء والولدان وقد علمصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمد بالقتل فدل على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رميهم إذ كان القصد فيه المشركين دونهم وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونساءهم فقال هم منهم وبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة ابن زيد فقال أغر على هؤلاء يا بنى صباحا وحرق وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزونهم فإن أذنوا للصلاة أمسكوا عنهم وإن لم يسمعوا أذانا أغاروا وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلوا من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شن الغارة عليهم ورميهم بالنشاب وغيره وإن خيف عليه إصابة المسلم فإن قيل إنما جاء ذلك لأن ذراري المشركين منهم كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الصعب بن جثامة قيل له لا يجوز أن يكون مرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذراريهم أنهم منهم في الكفر لأن الصغار لا يجوز أن يكونوا

٢٧٤

كفارا في الحقيقة ولا يستحقون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة وأما احتجاج من يحتج بقوله( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ ) الآية في منع رمى الكفار لأجل من فيهم من المسلمين فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم وذلك إنما تدل إباحة ترك رميهم والإقدام عليهم فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين لأنه جائز أن يبيح الكف عنهم لأجل المسلمين وجائز أيضا إباحة الإقدام على وجه التخيير فإذا لا دلالة فيها على حظر الإقدام فإن قيل في فحوى الآية ما يدل على الحظر وهو قوله( لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) فلو لا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم قيل له قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة هاهنا فروى عن ابن إسحاق أنه غرم الدية وقال غيره الكفارة وقال غيرهما الغم باتفاق قتل المسلم على يده لأن المؤمن يغم لذلك وإن لم يقصده وقال آخرون العيب وحكى عن بعضهم أنه قال المعرة الإثم وهذا باطل لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا لقوله تعالى( لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه ولم يضع الله عليه دليلا قال الله تعالى( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) فعلمنا أنه لم يرد المأثم ويحتمل أن يكون ذلك كان خاصا في أهل مكة لحرمة الحرم ألا ترى أن المستحق للقتل إذا لجأ إليها لم يقتل عندنا وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحرم لم يقتل وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه فمنع المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم ويحتمل أن يريد ولو لا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذ لم يقتلوا فمنعنا قتلهم لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم وقوله( لَوْ تَزَيَّلُوا ) على هذا التأويل لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولدوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترسوا بالمسلمين لأن القصد في الحالين رمى المشركين دونهم ومن أصيب منهم فلا دية فيه ولا كفارة كما ان من أصيب برمي حصون الكفار من

٢٧٥

المسلمين الذين في الحصن لم يكن فيه دية ولا كفارة ولا أنه قد أبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة فصار وافى الحكم بمنزلة من أبيح قتله فلا يجب شيء وليست المعرة المذكورة دية ولا كفارة إذ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره والأظهر منه ما يصيبه من الغم والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك وقول عن تأوله على العيب محتمل أيضا لأن الإنسان قد يعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة قوله تعالى( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ) قيل إنه لما أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكتب صلح الحديبية أمر على بن أبى طالب رضى الله عنه فكتبه وأملى عليه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فأبت قريش أن يكتبوا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ومحمد رسول الله وقالوا نكتب باسمك اللهم ومحمد ابن عبد الله ومنعوه دخول مكة فكانت أنفتهم من الإقرار بذلك من حمية الجاهلية وقوله تعالى( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ) روى عن ابن عباس قال لا إله إلا الله وعن قتادة مثله وقال مجاهد كلمة الإخلاص وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله وألزمهم كلمة التقوى قال بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) قال أبو بكر المقصد إخبارهم بأنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين متقربين بالإحرام فلما ذكر معه الخلق والتقصير دل على أنهما قربة في الإحرام وأن الإحلال بهما يقع لو لا ذلك ما كان للذكر هاهنا وجه وروى جابر وأبو هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة وهذا أيضا يدل على أنهما قربة ونسك عند الإحلال من الإحرام آخر سورة الفتح.

سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله عز وجل( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) إن ناسا كانوا يقولون لولا أنزل في كذا قال معمر وكان الحسن يقول هم قوم ذبحوا قبل أن يصلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح قال أبو بكر وروى عن مسروق أنه دخل على عائشة فأمرت الجارية أن تسقيه فقال إنى صائم وهو

٢٧٦

اليوم الذي يشك فيه فقالت قد نهى عن هذا وتلت( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) في صيام ولا غيره قال أبو بكر اعتبرت عموم الآية في النهى عن مخالفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول أو فعل وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى لا تعجلوا بالأمر والنهى دونه قال أبو بكر يحتج بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تقديم الفروض على أوقاتها وتأخيرها عنها في تركها وقد يحتج بها من يوجب أفعال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن في ترك ما فعله تقدما بين يديه كما أن في ترك أمره تقدما بين يديه وليس ذلك كما ظنوا لأن التقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعله غيره فأما ما لم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقديم بين يديه ويحتج به نفاة القياس أيضا ويدل ذلك على جهل المحتج به لأن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه وقد قامت دلالة الكتاب والسنة والإجماع على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع فليس فيه إذا تقدم بين يديه قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) فيه أمر بتعظيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وهو نظير قوله تعالى( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) وروى أنها نزلت في قوم كانوا إذ سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء قالوا فيه قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيضا لما كان في رفع الصوت على الإنسان في كلامه ضرب من ترك المهابة والجرأة نهى الله عنه إذ كنا مأمورين لتعظيمه وتوقيره وتهييبه وقوله تعالى( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) زيادة على رفع الصوت وذلك أنه نهى عن أن تكون مخاطبتنا له كمخاطبة بعضنا لبعض بل على ضرب من التعظيم تخالف به مخاطبات الناس فيما بينهم وهو كقوله( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) وقوله( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) وروى أنها نزلت في قوم من بنى تميم أتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنادوه من خارج الحجرة وقالوا اخرج إلينا يا محمد فذمهم الله تعالى بذلك وهذه الآيات وإن كانت نازلة في تعظيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك الجهر دفع الصوت عليه وترك عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله وفي النهى عن ندائه من وراء الباب والمخاطبة له بلفظ الأمر لأن الله قد ذم هؤلاء القوم بندائهم إياه من وراء الحجرة وبمخاطبته بلفظ الأمر في قولهم اخرج إلينا حدثنا عبد الله بن محمد

٢٧٧

قال حدثنا الحسن الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن ثابت بن قيس قال يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت لما نزلت هذه الآية( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت ونهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل واجدنى أحب الحمد ونهانا الله عن الخيلاء واجدنى أحب الجمال فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب

. باب حكم خبر الفاسق

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) الآية حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) قال بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الوليد بن عقبة إلى بنى المصطلق فأتاهم الوليد فخرجوا يتلقونه ففرق ورجع إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ارتدوا فبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فلما دنا منهم بعث عيونا ليلا فإذا هم يؤذنون ويصلون فأتاهم خالد فلم ير منهم إلا طاعة وخيرا فرجع إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره قال وقال معمر فتلا قتادة لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال فأنتم أسخف رأيا وأطيش أحلاما فاتهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله وروى عن الحسن قال والله لئن كانت نزلت في رجل يعنى قوله( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء قال أبو بكر مقتضى الآية إيجاب التثبت في خبر الفاسق والنهى عن الإقدام على قبوله والعمل به إلا بعد التبين والعلم بصحة مخبره وذلك لأن قراءة هذه الآية على وجهين فتثبتوا من التثبت وفتبينوا كلمتاهما يقتضى النهى عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته لأن قوله فتثبتوا فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب بجهالة فاقتضى ذلك النهى عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوما بجهالة وأما قوله( فَتَبَيَّنُوا ) فإن التبين هو العلم فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم فاقتضى ذلك النهى عن قبول شهادة الفاسق مطلقا إذ كان كل شهادة خبرا وكذلك سائر أخباره فلذلك قلنا شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق وكذلك أخباره في الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل ما كان من أمر الدين يتعلق به من إثبات شرع أو حكم أو إثبات حق على إنسان واتفق أهل العلم على جواز قبول خبر

٢٧٨

الفاسق في أشياء فمنها أمور المعاملات يقبل فيها خبر الفاسق وذلك نحو الهدية إذا قال إن فلانا أهدى إليك هذا يجوز له قبوله وقبضه ونحو قوله وكلني فلان ببيع عبده هذا فيجوز شراؤه منه ونحو الإذن في الدخول إذا قال له قائل ادخل لا تعتبر فيه العدالة وكذلك جميع أخبار المعاملات ويقبل في جميع ذلك خبر الصبى والعبد والذمي وقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر بريرة فيما اهدت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يتصدق عليها فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هي لها صدقة ولنا هدية فقبل قولها في أنه تصدق به عليها وأن ملك المتصدق قد زال إليها ويقبل قول الفاسق وشهادته من وجه آخر وهو من كان فسقه من جهة الدين باعتقاد مذهب وهم أهل الأهواء فساق وشهادتهم مقبولة وعلى ذلك جرى أمر السلف في قبول أخبار أهل الأهواء في رواية الأحاديث وشهادتهم ولم يكن فسقهم من جهة التدين مانعا من قبول شهادتهم وتقبل أيضا شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وقد بيناه فيما سلف من هذا الكتاب فهذه الوجوه الثلاثة يقبل فيها خبر الفاسق وهو مستثنى من جملة قوله تعالى( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) لدلائل قد قامت عليه فثبت أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق أو إثبات أحكام الدين والفسق التي ليست من جهة الدين والإعتقاد وفي هذه الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم إذ لو كان يوجب العلم بحال لما احتيج فيه إلى التثبت ومن الناس من يحتج به في جواز قبول خبر الواحد العدل ويجعل تخصيصه الفاسق بالتثبت في خبره دليلا على أن التثبت في خبر العدل غير جائز وهذا غلط لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه.

باب قتال أهل البغي

قال الله تعالى( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) حدثنا عبد الله ابن محمد قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدى فأنزل الله فيهم( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) قال معمر قال قتادة وكان رجلان بينهما حق تدارء فيه فقال أحدهما لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته وقال الآخر بيني وبينك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدى وروى عن سعيد بن جبير والشعبي قالا كان قتالهم بالعصى والنعال وقال مجاهدهم الأوس والخزرج كان بينهم قتال

٢٧٩

بالعصا قال أبو بكر قد اقتضى ظاهر الآية الأمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وهو عموم في سائر ضروب القتال فإن فاءت إلى الحق بالقتال بالعصى والنعال لم يتجاوز به إلى غيره وإن لم تفئ بذلك قوتلت بالسيف على ما تضمنه ظاهر الآية وغير جائز لأحد الاقتصار على القتال بالعصى دون السلاح مع الإقامة على البغي وترك الرجوع إلى الحق وذلك أحد ضروب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فأمر بإزالة المنكر باليد ولم يفرق بين السلاح وما دونه فظاهره يقتضى وجوب إزالته بأى شيء أمكن وذهب قوم من الحشو إلى أن قتال أهل البغي إنما يكون بالعصى والنعال وما دون السلاح وأنهم لا يقاتلون بالسيف واحتجوا بما روينا من سبب نزول الآية وقتال القوم الذين تقاتلوا بالعصى والنعال وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا لأن القوم تقاتلوا بما دون السلاح فأمر الله تعالى بقتال الباغي منهما ولم يخصص قتالنا إياه بما دون السلاح وكذلك نقول متى ظهر لنا قتال من فئة على وجه البغي قابلناه بالسلاح وبما دونه حتى ترجع إلى الحق وليس في نزول الآية على حال قتال الباغي لنا بغير سلاح ما يوجب أن يكون الأمر بقتالنا إياهم مقصورا على مادون السلاح مع اقتضاء عموم اللفظ للقتال بسلاح وغيره ألا ترى أنه لو قال من قاتلكم بالعصى فقاتلوه بالسلاح لم يتناقص القول به فكذلك أمره إيانا بقتالهم إذ كان عمومه يقتضى القتال بسلاح وغيره وجب أن يجرى على عمومه وأيضا قاتل على بن أبى طالب رضى الله عنه الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم وكان محقا في قتاله لهم لم يحالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته واتباعها وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وهذا خبر مقبول من طريق التواتر حتى أن معاوية لم يقدر على جحده لما قال له عبد الله بن عمر فقال إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام وهو علم من أعلام النبوة لأنه خبر عن غيب لا يعلم إلا من جهة علام الغيوب وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيجاب قتال الخوارج وقتلهم اخبار كثيرة متواترة منها حديث أنس وأبى سعيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سيكون في أمتى اختلاف وفرقة قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390