الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-6632-49-1
الصفحات: 543

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

ISBN: 964-6632-49-1
الصفحات: 543
المشاهدات: 67317
تحميل: 5928


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67317 / تحميل: 5928
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 1

مؤلف:
ISBN: 964-6632-49-1
العربية

الجزء الثاني

من القرآن الكريم

من الآية مائة واثنتين وأربعين

إلى الآية مائة وسبع وثمانين من

سورة البقرة

٤٠١
٤٠٢

الآية

( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) )

التّفسير

تغيير القبلة

هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإسلامي ، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك.

رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى صوب (بيت المقدس) بأمر ربّه مدّة ثلاثة عشر عاما بعد البعثة في مكة ، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة ، وأمر الله المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).

واختلف المفسرون في المدّة التي صلّى خلالها المسلمون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس ، فذكروا مددا مختلفة تتراوح بين سبعة أشهر وسبعة عشر شهرا.

كانت الجماعة المسلمة تتعرض خلال كل هذه المدّة (مدة صلاة المسلمين تجاه بيت المقدس) إلى لوم اليهود وتقريعهم ، وكان اليهود يقولون عن المسلمين :

٤٠٣

إن هؤلاء غير مستقلين لأنّهم يصلون تجاه قبلتنا ، وهذا دليل أننا على حقّ.

كانت هذه الأقوال تؤلم الرّسول وصحبه ، فالأمر الإلهي يوجب أن يصلوا تجاه بيت المقدس ، واليهود لا ينفكّون يرشقون المسلمين بوابل تهمهم وتقريعهم.وبلغ الأمر أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدأ يقلب وجهه في السماء انتظارا للوحي.

واستمر الانتظار مدّة ، حتى نزل الوحي يأمر بتغيير القبلة ، كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد «بني سالم» يصلي الظهر ، فما إن أتمّ ركعتين حتى أمر جبرائيل أن يأخذ بعضد الرّسول ويدير وجهه تجاه الكعبة(1) .

لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم ، بل واصلوا حربهم الإعلامية بشكل آخر ، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير ، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الاعتراضات :( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) .

بدأوا يرددون : لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة فلم هذا التغيير؟ وإن كانت الثانية صحيحة فلما ذا صلى المسلمون أكثر من ثلاثة عشر عاما تجاه بيت المقدس؟!

والله سبحانه يجيب على هذا الاعتراض ، فأمر رسوله أن( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فليس لمكان قداسة ذاتية ، إنما يكتسب قداسته بإذن الله ، وكل مكان ملك لله ، والمهم هو الطاعة والاستسلام لربّ العالمين.

تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي ، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهية.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 1 ، ص 223.

٤٠٤

بحوث

1 ـ «السفهاء» جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة جسمه ، وقيل : زمام سفيه ، أي كثير الاضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية.

2 ـ ذكرنا أن مسألة «النسخ» في الأحكام وتغيير المنهج التربوي بتغير المراحل الزمانية ليست مسألة غريبة جديدة في تاريخ الرسالات. لكن هؤلاء القوم العنودين الجدليين من اليهود اتخذوا من هذا التغيير ذريعة لإعلامهم المضاد ، والقرآن يجيبهم بشكل يفحمهم.

3 ـ جملة( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) لا تعني كما ذكرنا أن هداية الله ليس لها حساب ، لأن المشيئة الإلهية تنطلق من «حكمة» الله ، ومن محاسبات المصالح والمفاسد.

* * *

٤٠٥

الآية

( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) )

التّفسير

الأمّة الوسط

هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة ، تقول أوّلا :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) أي كما جعلنا القبلة وسطا ، كذلك جعلناكم أمّة في حالة اعتدال ، لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كل جوانب حياتها.

أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطا ، فلأن النصارى ـ الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية ـ يولون وجوههم صوب الشرق تقريبا حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح. واليهود ـ الذين يتواجدون غالبا في الشامات وبابل ـ يتجهون نحو الغرب تقريبا حين يقفون تجاه بيت المقدس.

٤٠٦

أما «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب ، وبين المشرق والمغرب ، وفي خط وسط.

وهذا ما يفهم من عبارة «وكذلك» ، وإن كان للمفسرين آراء اخرى في هذه العبارة لا تخلو من مناقشة.

القرآن يؤكد أن المنهج الإسلامي في كل أبعاده ـ لا في بعد القبلة فقط ـ يقوم على أساس التوازن والاعتدال.

والهدف من ذلك( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) .

و «شهادة» الأمّة المسلمة على النّاس ، و «شهادة» النّبي على المسلمين ، قد تكون إشارة إلى الأسوة والقدوة ، لأن الشاهد ينتخب من بين أزكى النّاس وأمثلهم.

فيكون معنى هذا التعبير القرآني أن الأمّة المسلمة نموذجيّة بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرد نموذجيّ بين أبناء الامّة.

الامّة المسلمة بعملها وبتطبيقها المنهج الإسلامي تشهد أن الإنسان بمقدوره أن يكون رجل دين ورجل دنيا أن يكون إنسانا يعيش في خضم الأحداث الاجتماعية وفق معايير روحية ومعنوية. الامّة المسلمة بمعتقداتها ومناهجها تشهد بعدم وجود أي تناقض بين الدين والعلم ، بل إن كلا منهما يخدم الآخر.

ثم تشير الآية إلى واحد آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول :( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) .

الآية لم تقل : يتبعك ، بل قالت :( يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى أن هذا الإتباع إنما هو تسليم لأمر الله ، وكل اعتراض إنما هو عصيان وتمرد على الله ، ولا يصدر ذلك إلّا عن مشرك جاهلي.

وعبارة( مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) تعني في الأصل الرجوع على مؤخر

٤٠٧

الرجل ، وتعني هنا الانتكاس والتراجع.

ثم تضيف الآية :( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) .

لو لا الهداية الإلهية ، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر الله. المهم أن يكون الإنسان المسلم مستسلما إلى درجة لا يحسّ معها بثقل مثل هذه الأوامر ، بل يشعر بلذتها وحلاوتها.

وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين ، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة ، تقول الآية :( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

فأوامر الله مثل وصفات الطبيب لكل مرحلة من مراحل العلاج نسخة خاصة ، وكلها شافية وافية تضمن سعادة الإنسان وسلامته ، والعمل بأجمعها صحيح لا غبار عليه.

* * *

بحوث

1 ـ أسرار تغيير القبلة

تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أثار لدى الجميع تساؤلات عديدة ، أولئك الذين قالوا إن الأحكام ينبغي أن تبقى ثابتة راحوا يتساءلون عن سبب هذا التغيير ، فلو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة ، فلما ذا لم يؤمر المسلمون بالصلاة نحوها منذ البدء ، وإن كانت بيت المقدس فلم هذا التغيير؟!

وأعداء الإسلام وجدوا الفرصة سانحة لبث سمومهم ولإعلامهم المضّاد.قالوا إن تغيير القبلة تمّ بدافع عنصري ، وزعموا أن النّبي اتجه أوّلا إلى قبلة الأنبياء السابقين ، ثم عاد إلى قبلة قومه بعد تحقيق انتصاراته! وقالوا : إن محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد استعطاف أهل الكتاب بانتخابه بيت المقدس قبلة له ، ولمّا يئس منهم استبدل

٤٠٨

الكعبة بها.

واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه ، ولم يتخلص بعد تماما من رواسب الشرك والعصبية.

لذلك تصرّح الآية أعلاه أن تغيير القبلة اختبار كبير لتمييز المؤمنين من المشركين.

لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة ما يلي :

لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتا لأصنام المشركين ، فقد أمر المسلمون مؤقتا بالصلاة تجاه بيت المقدس ، ليتحقّق الانفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.

وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ، حدث الانفصال الكامل بين الجبهتين ، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة ، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية ، وأعرق مركز للأنبياء.

ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم ، وأن يستثقلوا أيضا العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).

المسلمون بهذا التحوّل وضعوا في بوتقة الاختبار ، لتخليصهم ممّا علّق في نفوسهم من آثار الشرك ، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك ، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.

إن الله سبحان ليس له مكان ومحل ـ كما ذكرنا ـ والقبلة رمز لوحدة صفوف المسلمين ولإحياء ذكريات خط التوحيد ، وتغييرها لا يغيّر شيئا ، المهم هو الاستسلام الكامل أمام الله ، وكسر أوثان التعصب واللجاج والأنانية في النفوس.

٤٠٩

2 ـ الأمّة الوسط

«الوسط» ما توسط بين شيئين ، وبمعنى الجميل والشريف ، والمعنيان يعودان ظاهرا إلى حقيقة واحدة لأن الجمال والشرف فيما اعتدل وابتعد عن الإفراط والتفريط.

ما أجمل التعبير القرآني عن الامّة المسلمة الامّة الوسط.

الوسط : المعتدلة في «العقيدة» لا تسلك طريق «الغلو» ولا طريق «التقصير والشرك» ، لا تنحو منحى «الجبر» ولا «التفويض» ، ولا تؤمن «بالتشبيه» في صفات الله ولا «بالتعطيل».

معتدلة في «القيم المادية والمعنوية» لا تغطّ في عالم المادة وتنسى المعنويات ، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات. ليست كمعظم اليهود لا يفهمون سوى المادة ، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماما.

معتدلة في «الجانب العلمي» لا ترفض الحقائق العلمية ، ولا تقبل كل نعرة ترتفع باسم العلم.

معتدلة في «الرّوابط الاجتماعية» لا تضرب حولها حصارا يعزلها عن العالم ، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك ، كما نرى الذائبين في الشرق والغرب اليوم!

معتدلة في «الجانب الأخلاقي» في عباداتها في تفكيرها وفي جميع أبعاد حياتها.

المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقا أن يكون إنسانا ذا بعد واحد ، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة مفكر ، مؤمن ، عادل ، مجاهد ، مكافح ، شجاع ، عطوف ، واع ، فعّال، ذو سماح.

عبارة الامّة الوسط توضّح من جانب مسألة شهادة الامّة الإسلامية ، لأن من يقف على خطّ الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الانحرافية المتجهة نحو

٤١٠

اليمين واليسار.

ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول : «إنّما كنتم شهداء على النّاس لأنّكم معتدلون وأنكم أمة وسط»(1) .

3 ـ الامّة الشاهدة

لو اجتمعت الصفات التي ذكرناها للأمّة الوسط في أمّة ، فهذه الامّة دون شك رائدة للحق ، وشاهدة على الحقيقة ، لأن مناهجها تشكل الميزان والمعيار لتمييز الحق عن الباطل.

ورد عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام قولهم : «نحن الامّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه نحن الشّهداء على النّاس إلينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصّر»(2) مثل هذه الروايات ـ كما ذكرنا ـ لا تحدد المفهوم الواسع للآية ، بل تبين المصداق الأمثل للأمّة الوسط ، وتعطي نموذجا متكاملا لها.

4 ـ علم الله

عبارة( لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) وأمثالها من التعبيرات القرآنية ، لا تعني أن الله لم يكن يعلم شيئا ، ثم علم به بعد ذلك ، بل تعني تحقّق هذه الواقعيات.

بعبارة أوضح ، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات ، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود. فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علما ، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله. وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي. والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض : أريد أن أرى عمليا ما كان في

__________________

(1) المنار ، تفسير الآية المذكورة.

(2) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 134.

٤١١

علمي نظريا. (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافا كبيرا كما ذكرنا ذلك في بحث صفات الله ، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح).

عبارة( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) توضّح حقيقة الصعوبة في مخالفة العادة الجارية ، وفي التخلص من سيطرة العواطف غير الصحيحة ، إلّا على الذين آمنوا بالله حقّا ، واستسلموا لأوامره.

* * *

٤١٢

الآية

( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) )

التّفسير

كل الوجوه شطر الكعبة

ذكرنا أن بيت المقدس كان القبلة الاولى المؤقتة للمسلمين. والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة ، خاصة وأن اليهود استغلّوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة ، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة ، مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم ، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه منّا ، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.

الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول :( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) .

ذكرت الرواية ـ كما أشرنا من قبل ـ أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة

٤١٣

حساسة ملفتة للأنظار ، حين كان الرّسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أن صفوف المسلمين تغيّرت على أثر ذلك ، وترك النساء مكانهنّ للرجال وبالعكس. (كان اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريبا ، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب).

من المفيد أن نذكر أنّ تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في الكتب السابقة. فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النّبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين».

لذلك تضيف الآية :( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) .

أضف إلى ذلك أن دلائل نبوّة رسول الإسلام ، تحرره من التأثر بعادات بيئته الاجتماعية ، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب ، واتجاهه نحو قبلة أقلية محدودة.

ثم تقول الآية :( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) .

فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام ، ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين ، بدل أن يتخذوها دليلا على صدق دعوى النّبي ، سيلاقون جزاء أعمالهم ، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.

* * *

بحوث

1 ـ نظم الآيات

محتوى هذه الآية يبيّن بوضوح أنها نزلت قبل الآية التي سبقتها في الترتيب القرآني. ذلك لأن القرآن لم تجمع آياته حسب نزوله ، بل كان ترتيب الآيات يتم استنادا إلى مناسبات معينة بتعيين من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأمر من الباري سبحانه.

٤١٤

(ومن تلك المناسبات مثلا رعاية الأولوية وأهمية الموضوعات).

2 ـ انتظار صعب!

يستفاد من هذه الآية أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مرتبطا بالكعبة ارتباطا خاصا ، ومنتظرا لأمر تغيير القبلة ، ولعلنا نستطيع أن نتلمس سبب ذلك في ارتباط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبراهيمعليه‌السلام ، أضف إلى ذلك أن الكعبة أقدم قاعدة توحيدية ، وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم بوقوع هذا التغيير ، وكان يترقب حدوثه.

وهنا تبرز ظاهرة الاستسلام المطلق للرسول ، حيث لم يتردد على لسانه طلب بهذا الشأن ، بل كان يقلب طرفه في السماء منتظرا بتلهّف نزول الوحي.

وتعبير «السماء» في الآية قد يشير إلى انتظاره هبوط «جبرائيل» من الأعلى ، وإلّا فالله لا مكان له ، وهكذا وحيه المرسل.

3 ـ معنى الشطر

يثير الالتفات أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة ، بل «شطر المسجد الحرام».

لعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذّر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن الكعبة. لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة لأنه أوسع ، ثم كلمة «شطر» تعني السمت والجانب ، وبذلك كان الاتجاه شطر المسجد الحرام عملا ميسورا للجميع ، وخاصة لصفوف الجماعة الطويلة التي يزيد طولها غالبا على طول الكعبة.

بديهي أن المحاذاة الدقيقة للكعبة ـ وحتى للمسجد الحرام ـ عمل صعب على المصلين البعيدين ، لكن الوقوف شطره يخلو من كل صعوبة(1) .

__________________

(1) من المفسرين من قال إن أحد معاني «شطر» : النصف ، ومن هنا فإن مفهوم «شطر المسجد الحرام» يساوي

٤١٥

4 ـ خطاب عام

كل خطابات القرآن هي دون شك ـ شاملة لكل المسلمين ـ وإن اتجهت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (اللهم إلّا في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي) ، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام ، وتارة اخرى إلى عامة المسلمين.

هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة ، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين ، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب «فولّ وجهك» موجّه إلى النّبي خاصة ، فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة اخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول ، بل يشمل عامّة المسلمين أيضا.

5 ـ هل الهدف من هذا التغيير تحقيق رضى النّبي؟

عبارة «قبلة ترضاها» قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة ، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية،وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة ، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين ارتباطا خاصا بالكعبة نحو الإسلام من جهة اخرى ، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة اولى أزال عن الإسلام الطابع القومي ، وأسقط اعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.

6 ـ الكعبة مركز دائرة كبرى

لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر

__________________

مفهوم «وسط المسجد الحرام» ونعلم أن الكعبة تقع وسط المسجد الحرام. (التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، الآية المذكورة).

٤١٦

متعددة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.

جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثا على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاولى ، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.

* * *

٤١٧

الآية

( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) )

التّفسير

لا يرضون بأيّ ثمن

مرّ بنا في تفسير الآية السابقة أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النّبي ، بل إنه من دلائل صحة دعواه ، فأهل الكتاب قد قرءوا عن صلاة النّبي الموعود إلى قبلتين ، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق.

والإنسان ، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة ، يكون مستعدا للتفاهم ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق ، أو عن طريق إراءة المعجزة.

أمّا حينما يكون قد كوّن له رأيا مسبقا قاطعا ، وخاصّة حين يكون مثل هذا الفرد جاهلا متعصبا ، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن.

لذلك تقول الآية :( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) .

فلا تتعب نفسك إذن ، لأن هؤلاء يأبون الاستسلام للحق ، ولا توجد فيهم روح طلب الحقيقة.

٤١٨

كل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد ، وهم إمّا أثرياء متنفذون ، أو علماء منحرفون، أو جاهلون متعصبون.

ثم تضيف الآية :( وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) .

أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج ، أن يغيروا مرّة اخرى قبلة المسلمين ، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.

وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل ، ومن الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته صريحة قوية ، مؤكدا أنه لا ينثني أمام هذه الانفعالات.

ثم تقول الآية :( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) .

لا النصارى بتابعين قبلة اليهود ، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.

ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النّبي ويقول :( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء :

الأوّل : أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين النّاس في إطار القوانين الإلهية ، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين. ومن هنا فلو صدر عن النّبي ـ على الفرض المحال ـ انحراف ، فسيشمله العقاب الإلهي ، مع استحالة صدور ذلك عن النّبي (بعبارة اخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط).

الثّاني : أن يتنبّه النّاس إلى واقعهم ، فإذا كان ذلك شأن النّبي ، فمن الأولى أن يكونوا هم أيضا واعين لمسؤولياتهم ، وأن لا يستسلموا إطلاقا لميول الأعداء وضجاتهم المفتعلة.

الثّالث : أن يتّضح عدم قدرة النّبي على تغيير أحكام الله ، وعدم إمكان الطلب إليه أن يغير حكما من الأحكام ، فهو عبد أيضا خاضع لأمر الله تعالى.

* * *

٤١٩

الآيتان

( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) )

التّفسير

يعرفون حقّ المعرفة ولكن

استمرارا لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم ، تقول الآية :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) .

إنهم يعرفون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية ،( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهناك طبعا فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبي الإسلام ، مثل عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود ، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به مني بابني»(1) .

هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامّة ، هي إن صفات نبي الإسلام

__________________

(1) المنار ، ج 2 ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآية.

٤٢٠