الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-6632-49-1
الصفحات: 543

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

ISBN: 964-6632-49-1
الصفحات: 543
المشاهدات: 67432
تحميل: 5933


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67432 / تحميل: 5933
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 1

مؤلف:
ISBN: 964-6632-49-1
العربية

مصالحهم المادية للخطر. (تماما مثل موقف الصهاينة اليوم من الإسلام والمسلمين).

تعبير( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) ينطبق تماما على هؤلاء اليهود ، لكن هذا لا يعني حصر مفهوم المغضوب عليهم بهذه المجموعة من اليهود ، بل هو من قبيل تطبيق الكلي على الفرد.

أما منحرفو النصارى فلم يكن موقفهم تجاه الإسلام يبلغ هذا التعنت ، بل كانوا ضالين في معرفة الحق. والتعبير عنهم بالضالين هو أيضا من قبيل تطبيق الكلي على الفرد.

الأحاديث الشريفة أيضا فسّرت( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) باليهود ، و( الضَّالِّينَ ) بمنحرفي النصارى ، والسبب في ذلك يعود إلى ما ذكرناه(1) .

3 ـ من المحتمل أن( الضَّالِّينَ ) إشارة إلى التائهين الذين لا يصرّون على تضليل الآخرين ، بينما( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) هم الضالّون والمضلّون الذين يسعون إلى جرّ الآخرين نحو هاوية الانحراف.

الشاهد على ذلك حديث القرآن عن المغضوب عليهم بوصفهم :( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (2) إذ يقول :( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) (3) .

ويبدوا أن التّفسير الأول أجمع من التّفسيرين التاليين ، بل إن التّفسيرين التاليين يتحركان على مستوى التطبيق للتفسير الأول. ولا دليل لتحديد نطاق المفهوم الواسع للآية.

والحمد لله رب العالمين

(نهاية سورة الحمد)

* * *

__________________

(1) راجع تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 23 و 24.

(2) هود ، 19.

(3) الشورى ، 16.

٦١
٦٢

سورة البقرة

مدنيّة

وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية

٦٣
٦٤

سورة البقرة

محتوى سورة البقرة :

هذه السّورة أطول سور القرآن ، ومن المؤكد أنّها لم تنزل مرّة واحدة. بل في مناسبات عديدة ، حسب متطلبات المجتمع الإسلامي في المدينة. وتتميز بشمولها لمبادئ العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية ، والاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية). ففي هذه السّورة.

1 ـ موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق ، عن طريق استنطاق أسرار الكون.

2 ـ جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة ، مثل قصّة إبراهيمعليه‌السلام وإحياء الطير ، وقصّة عزيرعليه‌السلام .

3 ـ آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب الله العزيز.

4 ـ سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.

5 ـ استعراض لتاريخ الأنبياء ، وخاصة إبراهيم وموسىعليهما‌السلام .

6 ـ بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل : الصلاة ، والصوم ، والجهاد ، والحج،والقبلة، والزواج والطلاق ، والتجارة والدّين ، والربا ، والإنفاق ، والقصاص ، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة ، والقمار ، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.

٦٥

وأما تسميتها بالبقرة ، فمأخوذة من قصّة بقرة بني إسرائيل ، التي سيأتي شرحها في الآيات 67 ـ 73 إن شاء الله.

* * *

فضيلة هذه السّورة :

وردت في فضيلة هذه السّورة نصوص عديدة في المصادر الاسلامية ، منها : روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل أيّ سور القرآن أفضل؟ قال : «البقرة» قيل : أيّ آية البقرة أفضل؟ قال : «آية الكرسيّ»(1) .

أفضلية هذه السور تعود على ما يبدو إلى جامعيتها. وأفضلية آية الكرسي تعود إلى محتواها التوحيدي ، وسيأتي ذكر ذلك في تفسيرها بإذن الله. وهذا لا يتنافى مع أفضلية سور اخرى من جهات اخرى. وروى علي بن الحسينعليهما‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة ، وآية الكرسيّ ، وآيتين بعدها ، وثلاث آيات من آخرها ، لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه الشّيطان ، ولا ينسى القرآن»(2) .

من اللازم هنا أن نعيد التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي إنّ ما ذكر من ثواب وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة ، لا يعني ـ إطلاقا ـ قراءتها بشكل أوراد ، ولا الاكتفاء بترديد ألفاظها ، بل التلاوة للفهم ، والفهم من أجل التفكير ، والتفكير لغرض العمل. ومن الملاحظ أنّ كل فضيلة ذكرت لآية أو سورة إنما تتناسب كثيرا مع محتوى السّورة والآية.

ففي فضيلة سورة النور ذكر أنّ من يواظب على قراءتها يصونه الله وأولاده

__________________

(1 ، 2) ـ نور الثقلين ، ج 1 ، ص 26. ومجمع البيان ، ج 1 ، ص 32.

٦٦

من (الزنا) وذلك لأن محتوى هذه السّورة يتضمن تعاليم في حقل مكافحة الانحرافات الجنسية، مثل حث العزاب على الزواج ، والأمر بالحجاب وغضّ الأبصار عما يثير الشهوة، والتحذير من إشاعة الفاحشة والقذف ، وكذلك الأمر بإجراء الحد الشرعي على الزاني والزانية.

ومن الطبيعي أن محتوى هذه السّورة ـ إن دخل حيّز التنفيذ ـ يصون المجتمع والأسرة من الزنا. وهكذا الآيات المذكورة من سورة البقرة ، ستكون لها تلك الفضائل حتما إن قرأها الإنسان بامعان وتشبّعت نفسه بمحتواها ، خاصة وأنّها جميعا تدور حول محور التوحيد والإيمان بالغيب ومعرفة الله ، والحذر من وساوس الشيطان.

صحيح أنّ قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال ، لكن الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.

* * *

٦٧

الآيتان : 1 ـ 2

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) )

التّفسير

تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن

تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة ، وهذه الحروف ـ كما هو واضح من اسمها ـ لا تشكل كلمة مفهومة.

هذه الحروف من أسرار القرآن ، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة ، وأضاف لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.

جدير بالذّكر أن التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اله وسلّم وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن. ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والاستهزاء. وهذا يشير إلى أنهم لم يكونوا جاهلين تماما بأسرار وجود الحروف المقطعة.

اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف ، عددا من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال. وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة ، وسورة آل عمران ، وسورة الأعراف ، إن شاء الله.

٦٨

ونبدأ الآن بأهمها :

هذه الحروف إشارة إلى أن هذا الكتاب السماوي ، بعظمته وأهميّته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب ، وتحدت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور ، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة ، فإن ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح ، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب ، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.

في القرآن من الفصاحة والبلاغة ما لا يخفى على أحد ، وليس هذا مجرّد ادّعاء،فخالق الكون تحدّى بهذا الكتاب جميع (الجن والإنس) ، ليأتوا بمثله( وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (1) ، ولكنهم عجزوا جميعا عن ذلك ، وتلك دلالة على أن هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.

وكما إن الله تعالى خلق من التراب موجودات ، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة ، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة ، والأحياء المتنوعة ، والنباتات والزهور المختلفة ، وكما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات ، كذلك الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة ، موضوعات ومعان سامية ، في قوالب لفظية جميلة ، وعبارات موزونة ، وأسلوب خاص مدهش معجز ، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان ، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.

الأدب في العصر الجاهلي :

من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصرا ذهبيا للأدب العربي.

__________________

(1) الإسراء ، 88.

٦٩

فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين ، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وما وصلنا من شعر ونثر من تلك الفترة ، يشير إلى قدرة أولئك على التعبير الجميل الدقيق ، ويحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.

وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم ، و (سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الاهتمام بوضوح.

والسوق المذكور كان يشهد ـ إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية ـ حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر ، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام ، و (المعلقات السبع) أو (العشر) نموذج لذلك ، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخرا كبيرا للشاعر ولقبيلته.

في مثل هذا العصر من الانتعاش الأدبي ، يتحدى القرآن النّاس أن يأتوا بمثله ، ولكنهم عجزوا (سنذكر مزيدا من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدى تفسير الآية 23 من هذه السّورة).

شاهد ناطق :

الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة ، حديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام حيث يقول : «كذّب قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال الله :( الم ، ذلِكَ الْكِتابُ ) : أيّ يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المقطّعة الّتي منها الف ولام وميم ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ...»(1) .

وثم شاهد آخر عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في قوله : «ثمّ قال إنّ الله تبارك وتعالى انزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب ، ثمّ قال :( قُلْ لَئِنِ

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 54.

٧٠

اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ) (1) .

وهناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الحروف المقطعة ، وهي أن هذه الحروف في السور الأربع والعشرين التي ذكرناها ، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن ، وهذا يدل على الارتباط بين الحروف المقطعة وعظمة القرآن. وعلى سبيل المثال نذكر الآيات التالية :

1 ـ( الر ، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (2) .

2 ـ( طس ، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ) (3) .

3 ـ( الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ) (4) .

4 ـ( المص ، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (5) .

* * *

بعد البسملة وذكر الآية الاولى من سورة البقرة يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) . قد يشير هذا التعبير إلى أن الله تعالى وعد نبيّه أن ينزّل عليه كتابا يهتدي به من طلب الحق ، ولا يشك فيه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير ، وها هو سبحانه قد وفى بوعده الآن.

وقوله :( لا رَيْبَ فِيهِ ) ليس ادعاء ، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة ، هي إنّ القرآن يشهد بذاته على حقّانيته. وبعبارة اخرى فإن مظاهر الصدق والعظمة والانسجام والاستحكام وعمق المعاني وحلاوة الألفاظ والعبارات وفصاحتها من الوضوح بدرجة تبعد عنه كلّ شك.

من المشهود أن مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن ، بل إن

__________________

(1) توحيد الصدوق ، ص 162 ، ط سنة 1375 ه‍. ق

(2) هود ، 1 ـ 2.

(3) النمل ، 1 ـ 2.

(4) لقمان ، 1 ـ 2.

(5) الأعراف ، 1 ـ 2.

٧١

حقائق القرآن ، ازدادت وضوحا بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات. وكلما ازداد العلم تكاملا ازدادت آيات القرآن جلاء وسطوعا.

وسنوضح هذه الحقيقة أكثر بإذن الله في مواضع اخرى من هذا التّفسير.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا الإشارة إلى البعيد؟

نعلم أن كلمة (ذلك) إشارة إلى البعيد في لغة العرب ، وقرب القرآن من أيدي النّاس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب.

السبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلى بيان سموّ القرآن ورفعته ، حتى كأنه ـ في عظمته ـ يحتل نقطة الذروة في هذا الوجود. ومثل هذا الاستعمال شائع في سائر اللغات أيضا حين يراد الإشارة إلى شخص ذي منزلة كبيرة مثلا.

في بعض مواضع القرآن وردت أيضا كلمة (تلك) ، وهي اسم إشارة للبعيد أيضا ، مثل :( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ) (1) . والسبب فيه ما ذكرنا.

2 ـ معنى الكتاب :

«الكتاب» يعني المكتوب والمخطوط ، ولا شك أن المراد منه في الآية كتاب الله الكريم.

وهنا يثار سؤال حول سبب استعمال كلمة الكتاب للقرآن وهو آنئذ لم يكتب كلّه.

وفي الجواب نقول : استعمال هذه الكلمة لا يستلزم أن يكون القرآن كله

__________________

(1) لقمان ، 2.

٧٢

مكتوبا. لإن اسم القرآن يطلق على كل هذا الكتاب ، وعلى أجزائه أيضا.

أضف إلى ذلك أن «الكتاب» يطلق أحيانا بمعنى أوسع ، ليشمل كل ما يليق أن يكتب فيما بعد ، وإن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه. ففي آية اخرى نقرأ:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (1) . ومن المؤكد أن القرآن لم يكن بشكل كتاب مدوّن بين النّاس قبل نزوله.

وثمة احتمال آخر وهو إن التعبير بالكتاب يشير إلى كتابة القرآن في «اللوح المحفوظ»(2) .

3 ـ ما هي الهداية؟

كلمة (الهداية) لها عدة معاني في القرآن الكريم ، وكلها تعود أساسا إلى معنيين :

1 ـ الهداية التكوينية : وهي قيادة رب العالمين لموجودات الكون ، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود. وواضح أن هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون.

يقول القرآن على لسان موسىعليه‌السلام :( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (3) .

2 ـ الهداية التشريعية : وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية ، وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال ، وشواهدها في القرآن كثيرة منها قوله تعالى:( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (4) .

__________________

(1) ص 29.

(2) راجع المجلد السابع من هذا التّفسير ، ذيل الآية 39 من سورة الرعد.

(3) طه ، 50.

(4) الأنبياء ، 73.

٧٣

4 ـ لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟

واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء ، فلما ذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟

السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء ، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).

وبعبارة اخرى : الأفراد الفاقدون للإيمان على قسمين :

قسم يبحث عن الحق ، ويحمل مقدارا من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده.

وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء ، لا يبحث عن الحق ، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.

ومن المسلّم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر ، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك.

وبعبارة ثالثة : كما إنّ «فاعليّة الفاعل» شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية ، كذلك «قابلية القابل» شرط فيهما أيضا.

الأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات ، فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر.

وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذر الهداية ما لم يتمّ تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد. ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه :( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

* * *

٧٤

الآيات

( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) )

التّفسير

آثار التقوى في روح الإنسان وبدنه :

في بداية هذه السّورة قسم القرآن النّاس حسب ارتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام :

1 ـ المتقون : وهم الذين تقبّلوا الإسلام في جميع أبعاده.

2 ـ الكافرون : ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين ، ويعترفون بكفرهم ، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.

3 ـ المنافقون : ولهم وجهان ، فهم مسلمون ظاهرا أمام المسلمين ، وكفّار أمام أعداء الدين. وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعا وإن تظاهروا بالإسلام.

المجموعة الثالثة تضر بالإسلام ـ دون شك ـ أكثر من المجموعة الثانية ، ولذلك فإن القرآن يقابلهم بشدّة أكثر كما سنرى.

٧٥

هذه المسألة لا تختص بالإسلام طبعا ، كل المذاهب في العالم لها مؤمنون معتقدون ، أو معارضون صريحون ، أو منافقون محافظون. كما أنها لا تختص بزمان معين ، بل هي سارية في كل العصور.

الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاولى ، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي:

1 ـ الإيمان بالغيب :

«الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان ، عالم الشهود هو عالم المحسوسات ، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي. وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) (1) .

الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية،وبين منكري الخالق والوحي والقيامة. ومن هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.

المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي ، واجتازوا جدرانه ، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات،محصورا في موقعه من العالم المادي. وهذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية والتقدمية والتطورية!

لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما ، لعرفنا أن : «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس ، وخالق عالم الوجود

__________________

(1) الحشر ، 22.

٧٦

غير متناه في العلم والقدرة والإدراك ، وأنّه أزليّ وأبديّ. وأنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أنّ الإنسان ـ بما يحمله من روح إنسانية ـ يسمو بكثير على سائر الحيوانات. وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء ، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان ، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.

بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه. وأن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته ، يتلاشى بدنه ، وتندمج أجزاؤه مرّة اخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان ، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات(1) !

ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية ، من حياة اجتماعية وسلوك ونظام!

الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين. والثانية ، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر على ممارسة الأمور اللهم إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطّهر والتعاون،بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.

يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب ، أهو إشارة إلى ذات الباري تعالى ، أم أنه يشمل ـ أيضا ـ الوحي والقيامة وعالم الملائكة وكل ما هو وراء الحس؟ ونحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب ، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس ـ كما ذكرنا ـ أول نقطة افتراق المؤمنين عن

__________________

(1) نقلا عن : «محمّد والقرآن».

٧٧

الكافرين ، إضافة إلى ذلك ، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص.

بعض الروايات المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام تفسّر الغيب في الآية ، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام الله عليه) والذي نعتقد بحياته وخفائه عن الأنظار ، وهذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب ، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات ، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة ، وسنرى في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. والروايات المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب ، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى الإيمان بالغيب ، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظرعليه‌السلام ويمكننا القول أنّ الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.

2 ـ الارتباط بالله :

الصفة الاخرى للمتقين هي أنهم( يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) .

«الصّلاة» باعتبارها رمز الارتباط بالله ، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ما وراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم. فهم لا يحنون رؤوسهم إلّا أمام الله ، ولا يستسلمون إلّا لرب السماوات والأرض ، ولذلك لا معنى في قاموس حياتهم لعبادة الأوثان ، أو التسليم أمام الجبابرة والطواغيت.

مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاخرى ، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين ، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.

الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميّا أمام الله ، يتضرع إليه ويناجيه ، ينطبع فكره وعمله وقوله بطابع إلهي ، ومثل هذا الإنسان لا ينهج طريقا فيه سخط الله (على أن يكون تضرعه لله صادرا عن أعماق قلبه ومنطلقا من تمام وجوده)(1) .

__________________

(1) بشأن أهمية الصلاة وآثارها التربوية الكبرى ، راجع تفسير الآية 114 من سورة هود (في المجلد السابع

٧٨

3 ـ الارتباط بالنّاس :

المتقون ـ إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق ـ لهم ارتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين ، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

يلاحظ أن القرآن لا يقول : ومن أموالهم ينفقون ، بل يقول :( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

يلاحظ أن القرآن لا يقول : ومن أموالهم ينفقون ، بل يقول :( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) ، وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.

فالمتقون لا ينفقون أموالهم فسحب ، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية ، وبعبارة اخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقّع الجزاء منه.

الملاحظة الاخرى : إن الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة ، وخاصة في التركيب العضوي لكل موجود حي. قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط ، بل ينفق ما عنده لجميع خلايا البدن. الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائما من ثمار عملها ، والحياة الجماعية ـ أساسا ـ لا مفهوم لها دو نما إنفاق(1) .

الارتباط بالنّاس ـ في الحقيقة حصيلة الارتباط بالله. فالإنسان المرتبط بالله يؤمن أن كل ما لديه من نعم إنّما هي مواهب إلهيّة مودعة لديه لفترة زمنيّة معينة.

ومن هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسره ويفرحه ، لأنه بالإنفاق قسّم مال الله بين عبادالله ، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية. وهذا التفكير يطهّر روح الإنسان من البخل والحسد ، ويحوّل الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسئول أن يضع ما لديه من مواهب تحت تصرف كل المحتاجين ، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن تتوقع من

__________________

من هذا التّفسير).

(1) راجع بشأن الإنفاق وأهميته وآثاره ، المجلد الثاني من هذا التّفسير ، ذيل الآيات 261 ـ 274 من سورة البقرة.

٧٩

أحد جزاء.

في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام بشأن تفسير الآية( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) يقول : «إنّ معناه وممّا علّمناهم يبثّون»(1) .

بديهي أنّ الرّواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصا بالعلم ، بل إن الإمام الصادق يريد ـ بذكر هذا اللون من الإنفاق ـ أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصرا على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة.

ومن هنا يتضح ضمنيا أن الإنفاق المذكور في الآية ، لا يقتصر على الزكوات الواجبة والمستحبة ، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل.

4 ـ الإيمان بالأنبياءعليهم‌السلام :

الخاصية الرابعة للمتّقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهية ؛( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) . وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أن المتقين يؤمنون بتوافق دعوة الأنبياء في المبادي والاسس ، بأنهم جميعا هداة البشرية نحو صراط مستقيم واحد، أحدهم يكمل الشوط الذي قطعه سلفه في قيادة البشرية نحو كمالها المرسوم. ويؤمنون بأن الأديان الإلهية ليست وسيلة للتفرقة والنفاق ، بل على العكس وسيلة للارتباط وعامل للشّد بين أبناء البشر.

الأشخاص الذين يحملون مثل هذه الرّؤية ومثل هذا الإدراك ، يسعون تطهير أرواحهم من التعصّب ، ويؤمنون بما جاء به جميع الأنبياء لهداية البشر وتكاملهم ، ويحترمون كل دعاة وهداة طريق التوحيد.

الإيمان برسالات الأنبياء السابقين ، لا يمنع طبعا من انتهاج رسالة خاتم

__________________

(1) مجمع البيان ، ونور الثقلين ، في تفسير الآية المذكورة.

٨٠