الآيات
( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) )
التّفسير
المبادئ الأوليّة للاقتصاد الإسلامي :
هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الأصول المهمّة والكليّة للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصاديّة ، بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الإقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة ولذا نلاحظ أنّ الفقهاء العظام تمسّكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي وهو قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) .
أمّا المراد من «الباطل» في هذه الآية الشريفة فقد ذكر له عدّة تفاسير ، ذهب أحدها إلى أنّ معناه الأموال الّتي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب والعدوان ، وذهب آخرون أنّ المراد هو الأموال الّتي يحصل عليها الشّخص من القمار وأمثاله.
ويرى ثالث أنّها إشارة إلى الأموال الّتي يكتسبها الشخص بواسطة القسم
الكاذب (وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التّجاريّة).
ولكنّ الظاهر أنّ مفهوم الآية عام يستوعب جميع ما ذكرنا من المعاني للباطل لأنّ الباطل يعني الزّائل وهو شامل لما ذكر من المعاني ، فلو ورد في بعض الرّوايات ـ كما عن الإمام الباقرعليهالسلام أنّ معناه (القسم الكاذب) أو ورد عن الإمام الصادقعليهالسلام في تفسيره ب (القمار) فهو في الواقع من قبيل المصاديق الواضحة له.
فعلى هذا يكون كلّ تصرّف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولا لهذا النهي الإلهي. وكذلك فهكذا أنّ جميع المعاملات الّتي لا تتضمّن هدفا سليما ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.
ونفس هذا المضمون ورد في سورة النساء الآية ٢٩ مع توضيح أكثر حيث تخاطب المؤمنين( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) .
إنّ استثناء التّجارة المقترنة مع التراضي هو في الواقع بيان لمصداق بارز للمعاملات المشروعة والمبّاحة ، فلا تنفي الهبة والميراث والهديّة والوصيّة وأمثالها ، لأنّها تحقّقت عن طريق مشروع وعقلائي.
والملفت للنظر أنّ بعض المفسّرين قالوا : أنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات ١٨٢ ـ ١٨٧) علامة على وجود نوع من الارتباط بينهما ، فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة ، وهنا نهي عن أكل أموال الناس بالباطل الّذي يعتبر أيضا نوع من الصوم ورياضة النفوس ، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. ذلك التقوى الّذي ورد في الآية بعنوان الهدف النّهائي للصوم(١) .
ولا بدّ من ذكر هذه الحقيقة وهي أنّ التعبير ب (الأكل) يعطي معنا واسعا حيث
__________________
(١) اقتباس من تفسير في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٥٢
يشمل كلّ أنواع التصرّفات ، أي أنه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات ، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.
ثمّ يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والّذي يتصوّر بعض الناس أنّه حقّ وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول :( وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١) .
(تدلوا) من مادّة (إدلاء) ، وهي في الأصل بمعنى إنزال الدلو في البئر لإخراج الماء، وهو تعبير جميل للموارد الّتي يقوم الإنسان فيها بتسبيب الأسباب لنيل بعض الأهداف الخاصّة.
وهناك احتمالان في تفسير هذه الجملة :
الأول : هو أن يكون المراد أن يقوم الإنسان بإعطاء قسما من ماله إلى القضاة على شكل هديّة أو رشوة (وكليهما هنا بمعنى واحد) ليتملّك البقيّة ، فالقرآن يقول : إنّكم بالرّغم من حصولكم على المال بحكم الحاكم أو القاضي ظاهرا ، ولكنّ هذا العمل يعني أكل للمال بالباطل ، وهو حرام.
الثّاني : أن يكون المراد أنّكم لا ينبغي أن تتحاكموا إلى القضاة في المسائل الماليّة بهدف وغرض غير سليم ، كأن يقوم أحد الأشخاص بإيداع أمانة أو مال ليتيم لدى شخص آخر من دون شاهد ، وعند ما يطالبه بالمال يقوم ذلك الشخص بشكايته لدى القاضي، وبما أنّ المودع يفتقد إلى الشاهد فسوف يحكم القاضي لصالح الطرف الآخر ، فهذا العمل حرام أيضا وأكل للمال بالباطل.
ولا مانع من أن يكون لمفهوم الآية هذه معنا واسعا يشمل كلا المعنيين في جملة (لا تدلوا) ، بالرغم من أنّ كلّ واحد من المفسرين ارتضى أحد هذين الاحتمالين.
__________________
(١) جمله «تدلوا» عطف على تأكلوا ، فعلى هذا يكون مفهومها «لا تدلوا».
والملفت للنظر أنّه ورد حديث عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «إنّما أنا بشر وإنّما يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له فإن قضيت له بحق مسلّم فإنّما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها»(١) أي لا تتصوروا أنه من أمواله ويحل له أكله لأن رسول الله حكم له بهذا المال ، بل هي قطعة من نار.
* * *
بحث
من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الارتشاء ، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوما من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة ، بينما سنّت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم. الأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قوّة أن يدافعوا عن مصالحهم ، بينما لا يملك الضعفاء إلّا أن يلوذوا بالقانون ليحميهم ، ولا تتحقّق هذه الحماية في جوّ الارتشاء ، لأنّ القوانين ستصبح ألعوبة بيد القادرين على دفع الرشوة ، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والاعتداء على حقوقهم.
ولهذا شدّد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر ، فهي تفتّت الكيان الاجتماعي ، وتؤدي إلى تفشّي الظلم والفساد والتمييز بين الأفراد في المجتمع الإنساني ، وتصادر العدالة من جميع مؤسّساته.
جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع من الأسماء الأخرى كالهدية ونظائرها ، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهيّة العمل شيئا ، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرّمة غير مشروعة.
وهذا «الأشعث بن قيس» يتوسّل بهذه الطريقة ، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت
__________________
(١) في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٥٢.
أمير المؤمنين عليعليهالسلام أملا في أن يستعطف الإمام تجاه قضية رفعها إليه ، ويسمّي ما قدّمه هديّة ، فيأتيه جواب الإمام صارما قاطعا ، قال : «هبلتك الهبول ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وأنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. ما لعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى؟! ...»
الإسلام أدان الرشوة بكلّ أشكالها ، وفي السيرة أنّ واحدا ممّن ولّاه رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قبل رشوة قدّمت إليه بشكل هدية ، فقال له الرسول : «كيف تأخذ ما ليس لك بحق؟!» قال : كانت هدية يا رسول الله. قال : «أرأيت لو قعد أحدكم في داره ولم نولّه عملا أكان الناس يهدونه شيئا؟!»(١) .
ومن أجل أن يصون الإسلام القضاة من الرشوة بكلّ أشكالها الخفيّة وغير المباشرة ، أمر أن لا يذهب القاضي بنفسه إلى السوق للشراء ، كي لا يؤثّر فيه بائع من الباعة فيبيعه بضاعة بثمن أقل ، ويكسب على أثرها تأييد القاضي في المرافعة.
أين المسلمون اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقيّ عمليّ في الحياة؟!
إن مسألة الرشوة مهمّة في الإسلام إلى درجة أن الإمام الصادقعليهالسلام يقول عنها: «وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم»(٢)
وورد في الحديث النبوي المعروف : «لعن الله الراشي والمرتشي والماشي بينهما»(٣) .
* * *
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤.
(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ باب ٥ من أبواب ما يكتسب به ح ٢
(٣) بحار الأنوار : ج ١٠١ ص ٢٧٤ وج ١١ باب الرشا في الحكم.
الآية
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) )
سبب النّزول
روي أنّ معاذ بن جبل قال : يا رسول الله إنّ اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلّة فأنزل الله هذه الآية. وقيل : إنّ اليهود سألوا رسول الله : لم خلقت هذه الأهلّة؟ فنزلت هذه الآية، لتقول إنّ للأهلّة فوائد ماديّة ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.
التّفسير
كما اتّضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرّجة وعن أسبابها ونتائجها ،
فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ) .
(أهلّة) جمع «هلال» ويعني القمر في اللّيلة الاولى والثانية من الشهر ، وقال بعضهم أنّ التسمية تطلق عليه لثلاث ليالي من أوّل الشّهر وبعد ذلك يسمّى (قمر)،وذهب بعضهم إلى أكثر من هذا المقدار.
ويرى المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان وآخرون من المفسّرين أنّ مفردة «الهلال» هي في الأصل من (استهلال الصبي) ويعني بكاء الطفل من بداية تولّده ، ثمّ استعمل للقمر في بداية الشهر ، وكذلك استعمل أيضا في قول الحجّاج في بداية مناسكهم : «لبيّك لبيّك». بصوت عال ، فيقال (أهلّ القوم بالحج) ولكن يستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ أصل هذه المفردة هو الهلال في بداية الشهر وقد استفيد منه (استهلال الصبي) أي بكائه عند ولادته.
وعلى كلّ حال يستفاد من جملة (يسألونك) الّتي هي فعل مضارع يدل على التكرار أنّ هذا السؤال قد تكرّر مرّات عديدة على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
ثمّ تقول الآية( قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) .
فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجيّة ، يجعل منها تقويما طبيعيا يساعد الناس على تنظيم أمورهم الحياتية القائمة على التوقيت وتحديد الزمن ، وكذلك على تنظيم امور عباداتهم المحدّدة بزمان معيّن كالحجّ والصوم ، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان ، وبالاستهلال ينظّم الناس امور عبادتهم وشؤون دنياهم.
هذا التقويم الطبيعي ميسور لجميع البشر متعلّمهم وأمّيّهم ، في جميع بقاع الأرض ، وبموجبه يمكن تعيين أوّل الشهر ووسطه وآخره ، بل كلّ يوم من أيّامه بدقّة.
وواضح أنّ نظام الحياة الاجتماعية يحتاج إلى تقويم ، أي إلى وسيلة تعيّن التاريخ الدقيق ، ومن هنا وضع الله سبحانه هذا التقويم الطبيعي للناس في كلّ
زمان ومكان.
من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادة على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفّرة لدى جميع الناس ، ولا يؤثّر عليها مرور الزمان شيئا.
أمّا المقاييس غير الطبيعية فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع البشر حتّى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحّدة.
لذلك نرى أنّ المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس الشبر والخطوة والذراع والقامة ، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر وزوال الشمس وروبة الهلال.
وهنا يتّضح امتياز الأشهر القمريّة عن الشمسيّة ، فالبرغم من أنّ كلا منهما يترتّب على حركات الكواكب السماويّة ، ولكنّ الأشهر القمريّة قابلة للمشاهدة من الجميع ، في حين أنّ الأشهر الشمسيّة لا يمكن تشخيصها إلّا بواسطة المنجميّن وبالوسائل الخاصّة لديهم، فيعرفون مثلا أنّ الشمس في هذا الشهر سوف تقع في مقابل أيّ صورة فلكيّة وأيّ برج سماوي.
وهنا يطرح هذا السؤال : هل أنّ الأشخاص الّذين سألوا عن الاهلّة كان هدفهم هو الاستفسار عن فائدة هذه التغيّرات او السؤال عن كيفيّة ظهور الهلال وتكامله إلى مرحلة البدر الكامل؟
ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، والبعض الآخر ذهب إلى الثاني وأضاف:بما أنّ السؤال عن الأسباب وعلل التغييرات ليست ذات فائدة لهم ولعلّ فهم الجواب أيضا سيكون عسيرا على أذهانهم ، فلهذا بيّن القرآن النتائج المترتبّة على تغييرات الهلال لكي يتعلّم الناس أن يتوجّهوا دوما صوب النتائج.
ثمّ إنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحجّ وتعيين موسمه بواسطة الهلال الّذي ورد في أوّل الآية إلى إحدى عادات الجاهليّين
الخرافيّة في مورد الحجّ ونهت الآية الناس عن ذلك ، حيث تقول :( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
ذهب كثير من المفسّرين إلى أن الناس في زمن الجاهليّة كانوا يمتنعون لدى لبسهم ثياب الإحرام من الدخول في بيوتهم من أبوابها ويعتقدون بحرمة هذا العمل ، ولهذا السبب فإنّهم كانوا يفتحون كوّه وثقب خلف البيوت لكي يدخلوا بيوتهم منها عند إحرامهم ، وكانوا يعتقدون أنّ هذا العمل صحيح وجيّد ، لأنّه بمعنى ترك العادة(١) والإحرام يعني مجموعة من تروك العادات فيكتمل كذلك بترك هذه العادة.
ويرى بعضهم أنّ هذا العمل كان بسبب أنّهم لا يستظلّون بسقف في حال الإحرام، ولذلك فإنّ المرور من خلال ثقب الحائط بالقياس مع دخول الدار من الباب يكون أفضل، ولكنّ القرآن يصرّح لهم أنّ الخير والبر في التقوى لا في العادات والرّسوم الخرافيّة ، ويأمر بعد ذلك فورا بأن يدخلوا بيوتهم من أبوابها.
وهذه الآية لها معنى أوسع وأشمل ، وذلك أنّ الإنسان لا بدّ له عند ما يقدم على أيّ عمل من الأعمال سواء كان دينيا أو دنيويا لا بدّ له من أن يرده من طريق الصحيح لا من الطرق المنحرفة ، كما ورد هذا المعنى في رواية جابر عند ما سأل الإمام الباقرعليهالسلام عن ذلك(٢) .
وهكذا يكون بامكاننا العثور على ارتباط جديد بين بداية الآية ونهايتها ، وذلك أنّ كلّ عمل لا بدّ أن يرده الإنسان من الطريق الصحيح ، فالعبادة في الحجّ أيضا لا بدّ أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرّر وتعيينه بواسطة الهلال.
__________________
(١) تفسير البيضاوي : ذيل الآية المذكورة.
(٢) مجمع البيان ، المجلد الأوّل ، ص ٢٨٤ في تفسير الآية.
التفسير الثالث المذكور لهذه الآية هو أنّ الإنسان عند ما يبحث عن الخيرات والبر لا بدّ أن يتوجّه صوب أهله ولا يطلبه من غير أهله ، ولكنّ هذا التفسير يمكن إدراجه في التفسير الثاني حيث ورد في روايات أهل البيتعليهمالسلام عن الإمام الباقرعليهالسلام (آل محمّد أبواب الله وسبله والدّعاة إلى الجنّة والقادة إليها والأدلّاء عليها إلى يوم القيامة)(١) .
هذا الحديث قد يشير إلى أحد مصاديق المفهوم الكلّي للآية لأنّه يقول أنّ عليكم أن تردوا في جميع أموركم الدينيّة عن الطريق الصحيح لها ، يعني أهل بيت النبوّة الّذين هم طبقا لحديث الثقلين قرين القرآن ، ولذلك يمكنكم أن تأخذوا معارفكم الدينيّة منهم ، لأنّ الوحي الإلهي نزل في بيوتهم ، فهم أهل بيت الوحي وصنائع القرآن وثمار تربيته.
جملة (ليس البرّ) يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة اخرى أيضا ، وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينيّة بمثابة من يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثمّ يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.
ضمنا يجب الالتفات إلى هذه النكتة في قوله تعالى( لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ) أنّ وجود المتقّين بمثابة الينابيع المستفيضة بالخيرات ، بحيث أنّهم قد يطلق عليهم كلمة (البر) نفسه(٢) .
* * *
بحوث
وردت في ١٥ مورد من الآيات القرآنية جملة (يسألونك) وهذه علامة على
__________________
(١) مجمع البيان : في تفسير الآية.
(٢) وذهب البعض إلى وجود حذف في الجملة وتقديره : لكن البر من اتقى ذلك.
أنّ الناس يسألون من رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم مسائل مختلفة كرارا ومرارا ، والملفت للنظر أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم مضافا إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة ، فانه يستقبلهم بصدر رحب ، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.
وأساسا فإنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة ، وهذا الحقّ مشروع حتّى للأعداء أيضا ، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوّابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.
وأساسا فإنّ طرح الأسئلة المختلفة في كلّ مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للنّاس ، ووجود كلّ هذه الأسئلة في عصر النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم هو علامة على تحرّك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي.
فمن هنا يتّضح أنّ الأشخاص الّذين يعارضون طرح الأسئلة المنطقيّة في المجتمع يخالفون بذلك روح تعاليم الإسلام ، وعملهم هذا مخالف لروح تعاليم الإسلام.
أنّ الحياة الفرديّة والاجتماعية لا يمكن لها أن تقوم من دون نظم صحيح ، نظم في التخطيط ، ونظم في المديريّة والإجراء ، فمن خلال نظرة سريعة إلى عالم الخلق من المنظومات الشمسيّة في السماء إلى بدن الإنسان وبناء هيكله وأعضائه المختلفة ندرك جيدا هذا الأصل الشامل والحاكم على جميع المخلوقات.
وعلى هذا الأساس جعل الله سبحانه وتعالى هذا النظم تحت اختيار الإنسان وقرّر أن تكون الحركات المنظّمة للكرة الأرضيّة حول نفسها وحول الشمس
وكذلك دوران القمر حول الأرض بانتظام وسيلة لتنظيم حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة وترتيبها وفق برنامج معيّن.
ولنفترض أنّ هذا النظم في الكون لم يكن موجودا ولم يكن لدينا مقياس معيّن لقياس الزّمان ، فما ذا سيحصل من اضطراب في حياتنا اليوميّة؟! ولهذا فإنّ الله تعالى ذكر هذا النظم الزماني في الأجرام السماويّة بعنوان أحد المواهب المهمّة الإلهيّة للإنسان ، ففي سورة يونس في الآية الخامسة يقول( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .
ومثل ذلك ما ورد في سورة الإسراء الآية (١٢) حول النظام الحاكم على اللّيل والنهار(١) .
* * *
__________________
(١) بحثنا في هذا الموضوع ذيل الآية (١٢) من سورة الاسراء ، وكذلك ذيل الآية (٥) من سورة يونس.
الآية
( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) )
سبب النّزول
ذكر بعض المفسرين سببين لنزول الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث :
الأوّل : إنّ هذه الآية هي أوّل آية نزلت في جهاد أعداء الإسلام وبعد نزول هذه الآية شرع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في قتالهم إلّا الكفّار الّذين لم يكونوا في حرب مع المسلمين ، واستمرّ هذا الحال حتّى نزل الأمر (اقتلوا المشركين) الّذي أجاز جهاد
وقتال جميع المشركين(١) .
الثاني : من أسباب النزول ما ورد عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في صلح الحديبيّة، وذلك أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام ، فنحروا الهدي بالحديبيّة ، ثمّ صالحهم المشركون على أن يرجع النبي من عامه ويعود العام المقبل ، ويخلوا له مكّة ثلاثة أيّام ، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء ، فرجع إلى المدينة من فوره. فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم ، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم ، فأنزل الله هذه الآية لتبيح للمسلمين القتال إن بدأهم المشركون به(٢) .
والظاهر أن شأن النزول الأوّل يناسب الآية الاولى ، والثاني يناسب الآيات التالية،وعلى أية حال فإن مفهوم الآيات يدلّ على أنها نزلت جميعا بفاصلة قصيرة.
* * *
التّفسير
القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين،وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح ، بعد أن انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى،وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.
تقول الآية :( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) .
عبارة( فِي سَبِيلِ اللهِ ) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي،فالحرب ليست للانتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم ، ولا للاستيلاء
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٥ ، ص ١٢٧.
(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٨٤ (ذيل الآية مورد البحث) وورد مثلها في تفاسير اخرى.
على الأراضي ، ولا للحصول على الغنائم فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام.
حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله ، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف.
وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم ، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل الله».
«سبيل» كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل ، ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحقّ. ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحقّ ، واخرى طريق الباطل ، فإن مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحقّ مع القرائن.
ولا شكّ أن سلوك طريق الحقّ «سبيل الله» أي طريق الدين الإلهي مع احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلّا أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح الإنسانية للاشخاص المؤمنين ، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك الصعوبات برحابة صدر حتّى لو ادّى بهم إلى القتل والشهادة.
وعبارة( الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) تدلّ بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختّص بمن شهروا السلاح ضد المسلمين ، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفا ولم يبدأ بقتال باستثناء موارد خاصّة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.
وذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم( الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) محدود بدائرة خاصّة ، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع. ويشمل جميع الذين يقاتلون المسلمين بنحو من الأنحاء.
ويستفاد من الآية أيضا أن المدنيين ـ خاصّة النساء والأطفال ـ لا يجوز أن
يتعرّضوا لهجوم ، فهم مصونون لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.
ثمّ توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتّى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء، وتقول :( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .
أجل ، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله ، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأصول الخلقية في الحرب ، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار. يوصي مثلا بعدم الاعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب ، أو ليست لديهم أصلا قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال ، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين ، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.
الإمام عليّعليهالسلام يقول لافراد جيشه ـ كما ورد في نهج البلاغة ـ وذلك قبل شروع القتال في صفين : «لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنكم بجهد الله على حجّة ، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة اخرى لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح ، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم»(١) .
والجدير بالذكر أن بعض المفسّرين ذهب طبقا لبعض الروايات أن هذه الآية ناسخة للآية التي تنهى عن القتال من قبيل( كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ) (٢) . وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بالآية( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) (٣) . ولكن الصحيح أن هذه الآية لا
__________________
(١) نهج البلاغة ـ الكتب والرسائل ـ رقم ١٤.
(٢) سورة النساء ، ٧٧.
(٣) التوبة ، ٣٦.
قبل أن يستوفي حقّه منه ، فإذا استوفاه منه ، كان مضموناً عليه. ولو فضل منه فضلة ، فالأقرب : أنّها أمانة.
ولو قال : وفيه دراهم خُذْه(١) بدراهمك ، وكانت الدراهم التي فيه مجهولةَ القدر ، أو كانت أكثر من دراهمه ، لم يملكه ، ودخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. وإن كانت معلومةً وبقدر حقّه ، ملَكه.
ج - لو قال : خُذْ هذا العبد بحقّك ، ولم يكن سَلَماً فقَبِل ، ملَكه. وإن لم يقبل وأخذه ، دخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد.
مسألة ١٨٠ : إذا احتاج الرهن إلى مؤونة يبقى بها الرهن - كنفقة العبد وكسوته وعلف الدابّة - كانت على الراهن ؛ لما رواه العامّة عن النبيّصلىاللهعليهوآله قال : « الرهن من راهنه ، له غُنْمه ، وعليه غُرْمه »(٢) .
قولهعليهالسلام : « من راهنه » أي : من ضمان راهنه.
ومن طريق الخاصّة : قول رسول اللهصلىاللهعليهوآله : « الظهر يُركب إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركبه نفقته ، والدَّرُّ يُشرب إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يشرب نفقته »(٣) .
وقد قلنا : إنّ المرتهن ممنوع من التصرّف ، وإنّ المنافع للراهن ، فتكون نفقته عليه.
وفي معناه سقي الأشجار ومؤونة الجذاذ وتجفيف الأثمار واُجرة الإصطبل والبيت الذي يُحفظ فيه المتاع المرهون إذا لم يتبرّع به المرتهن أو
____________________
(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « خذ ». والظاهر ما أثبتناه.
(٢) ورد نصّه في المغني ٤ : ٤٦٨ ، ونحوه في سنن الدارقطني ٣ : ٣٣ / ١٢٣ ، وسنن البيهقي ٦ : ٣٩ ، و التمهيد - لابن عبد البر - ٦ : ٤٢٦ ، و ٤٣٠.
(٣) الفقيه ٣ : ١٩٥ / ٨٨٦ ، التهذيب ٧ : ١٧ ١٧٦ / ٧٧٥.
العَدْل ، خلافاً لأبي حنيفة في اُجرة الإصطبل والبيت(١) واُجرة مَنْ يردّ العبد من الإباق ، وما أشبه ذلك(٢) .
إذا عرفت هذا ، فهل يُجبر الراهن على أداء هذه المؤونة حتى يقوم بها من خالص ماله؟ للشافعيّة وجهان :
أحدهما : أنّه يُجبر لتبقى وثيقة المرتهن.
والثاني : أنّه لا يُجبر عند الامتناع ، بل يبيع القاضي جزءاً من المرهون بحسب الحاجة ، فلو كانت تستوعب الرهن قبل الأجل ، فعلى الثاني يلحق بما يفسد قبل الأجل ، فيباع ويُجعل ثمنه رهناً(٢) .
قيل عليه : هذا إمّا أن يلحق بمالا يتسارع إليه الفساد ثمّ عرض ما أفسده ، أو بما يتسارع إليه الفساد. والأوّل باطل ؛ لأنّ العارض هناك اتّفاقي غير متوقّع ، والحاجة إلى المؤونة معلومة متحقّقة. وإن كان الثاني ، لزم إثبات الخلاف المذكور في رهن ما يتسارع إليه الفساد في رهن كلّ ما يحتاج إلى نفقة أو مكان يحفظ فيه(٣) .
وعلى الأوّل - وهو الأصحّ عندهم - لو لم يكن للراهن شيء أو لم يكن حاضراً ، باع الحاكم جزءاً من المرهون ، واكترى به بيتاً يحفظ فيه الرهن(٤) .
وأمّا المؤونة الزائدة فيمكن أن يقال : حكمها حكم ما لو هرب
____________________
(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٤٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٠ و ١٣١ ،الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٧ ، المغني ٤ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤١.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦.
(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.
الجمّال وترك الجِمال المستأجرة أو عجز عن الإنفاق عليها.
مسألة ١٨١ : يجوز للراهن أن يفعل بالمرهون ما فيه مصلحته ، وليس للمرتهن منعه منه ، كفصد العبد وحجامته والمعالجة بالأدوية والمراهم ، لكن لا يُجبر عليها ، بخلاف النفقة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) .
ثمّ إن كانت المداواة ممّا يرجى نفعه ولا يُخاف غائلته ، جاز : وإن كان ممّا يخاف ، فالأقوى عدم المنع أيضاً منه ، ويكتفى بأنّ الغالب منه السلامة.
وللشافعيّة وجهان ، ويجريان في قطع اليد المتآكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر ، فإن كان الخطر في الترك دون القطع ، فله القطع ، وليس له قطع سِلْعَة(٢) ولا إصبع لا خطر في تركها إذا خِيف منه ضرر. وإن كان الغالب فيه السلامة ، ففيه الخلاف(٣) .
وله أن يختن العبد والأمة في وقت اعتدال الهواء إن كان يندمل قبل حلول الأجل ؛ لأنّه أمر لا بُدَّ منه ، الغالب فيه السلامة. وإن لم يندمل وكان فيه نقص ، لم يجز. وكذا لو كان به عارض يخاف معه من الختان.
وللراهن تأبير النخل المرهونة.
ولو ازدحمت وقال أهل الخبرة : تحويلها أنفع ؛ جاز تحويلها.
وكذا لو رأوا قطع البعض لصلاح الأكثر.
وما يُقطع منها أو يجفّ فهو مرهون ، بخلاف ما يحدث من السعف
____________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٣.
(٢) السِّلْعة : الضواة ، وهي زيادة تحدث في الجسد مثل الغُدّة. لسان العرب ٨ : ١٦٠ « سلع ».
(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٣.
ويجفّ ، فإنّ الراهن مختصّ به ، وينزّل منزلة النماء.
ولا يمنع من رعي الماشية في وقت الأمن ، وتؤوى ليلاً إلى يد المرتهن أو العَدْل.
ولو أراد الراهن أن يبعد لطلب الرعي وبالقرب ما يكفيها ، فللمرتهن المنع ، وإلّا فلا.
وتؤوى إلى يد عَدْلٍ يتّفقان عليه أو ينصبه الحاكم.
ولو أراد المرتهن ذلك وليس بالقرب ما يكفي ، لم يُمنع.
وكذا لو أراد نقل المتاع من بيتٍ ليس بحرزٍ إلى حرزٍ.
ولو نَبا(١) بهما المكان وأرادا الانتقال ، فإن كان إلى أرضٍ واحدة ، فلا إشكال ، وإلّا جُعلت الماشية مع الراهن ، ويحتاط ليلاً ، كما تقدّم.
____________________
(١) نبا به منزله وفراشه : لم يوافقْه. ونبَتْ بي تلك الأرض : لم أجد بها قراراً. لسان العرب ١٥ : ٣٠٢ « نبا ».
الفصل الخامس : في وضع الرهن على يد العَدْل
مسألة ١٨٢ : يجوز أن يشترط المتراهنان وضع الرهن على يد أحدهما أو ثالثٍ غيرهما ، سواء تعدّد أو اتّحد ؛ عملاً بقولهعليهالسلام : « المؤمنون عند شروطهم »(١) .
إذا عرفت هذا ، فإنّ ذلك العَدْل يكون وكيلاً للمرتهن نائباً عنه في القبض ، فمتى قبضه صحّ قبضه - وبه قال علماؤنا ، وجماعة الفقهاء ، منهم : عطاء وعمرو بن دينار ومالك والثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأصحاب الرأي(٢) - لأنّه قبض في عقدٍ ، فجاز فيه التوكيل ، كسائر القبوض.
وقال الحكم والحارث العكلي وقتادة وداوُد وابن أبي ليلى : لا يكون مقبوضاً بذلك ؛ لأنّ القبض من تمام العقد يتعلّق بأحد المتعاقدين ، كالإيجاب والقبول(٣) .
والفرق بينه وبين القبول : أنّ الإيجاب إذا كان لشخصٍ كان القبول منه ؛ لأنّه مخاطَب. ولو كلّ في الإيجاب والقبول قبل أن يوجب له ، صحّ.
وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه.
____________________
(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.
(٢) المغني ٤ : ٤١٨ - ٤١٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٨.
(٣) المغني ٤ : ٤١٨ ٤١٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٨.
إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز أن يجعلا الرهن على يد مَنْ يجوز توكيله ، وهو جائز التصرّف ، سواء مسلماً أو كافراً ، عَدْلاً أو فاسقاً ، ذكراً كان أو اُنثى.
ولا يجوز أن يكون صبيّاً ؛ لأنّه غير جائز التصرّف مطلقاً ، فإن فعلا ذلك ، كان قبضه وعدم قبضه واحداً.
ولا يجوز أن يكون عبداً بغير إذن سيّده ؛ لأنّ منافع العبد لسيّده ، ولا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذنه ، فإن أذن مولاه ، جاز.
وأمّا المكاتب فإن كان بجُعْلٍ ، جاز ؛ لأنّه مكتسب ، وهو سائغ له بغير إذن السيّد. وإن كان بغير جُعْلٍ ، لم يجز ؛ لأنّه التبرّع بمنافعه.
مسألة ١٨٣ : لو شرط جَعْل الرهن على يد عَدْلٍ وشرطا له أن يبيعه عند حلول الحقّ ، صحّ؛ لأنّ ذلك [ يكون ] توكيلاً(١) في البيع منجّزاً ، وإنّما الشرط في التصرّف. وصحّ بيعه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد(٢) .
وإن عزل الراهن العَدْلَ عن البيع ، قال الشيخرحمهالله : لا ينعزل ، ولا تنفسخ وكالته ، وكان له بيع الرهن(٣) - وبه قال أبو حنيفة ومالك(٤) - لأنّ وكالته صارت من حقوق الرهن ، فلم يكن للراهن إسقاطها(٥) ، كسائر
____________________
(١) في النسخ الخطّيّة و الحجرية : « ولأنّ ذلك توكيلاً ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.
(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٢ ، الوسيط ٣ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤.
(٣) الخلاف ٣ : ٢٤٣ ، المسألة ٤١ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.
(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٩ - ٨٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤.
(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « إسقاطه ». والظاهر ما أثبتناه.
حقوقه.
وقال الشافعي وأحمد : يصحّ العزل ، ولا يملك البيع ؛ لأنّ الوكالة عقد جائز ، فلم يلزم العاقد المقام عليها ، كسائر الوكالات.
قالوا : وكونه من حقوق الرهن لا يمنع بقاءه على جوازه ، كما أنّ الرهن إذا شُرط في البيع لا يصير لازماً قبل القبض ، فإن عزله عن البيع ، فعلى صحّة العزل يكون للمرتهن فسخ البيع الذي جعل الرهن ثمنه ، كما لو امتنع الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع(١) .
هذا إذا كانت الوكالة شرطاً في عقد الرهن ، ولو شرطاها بعده ، انفسخت بعزل الموكّل والوكيل إجماعاً.
وأمّا إن عزله المرتهن ، فلا ينعزل ، قاله الشيخ(٢) - وبه قال أحمد والشافعي في أحد قوليه(٣) - لأنّ العدل وكيل الراهن ؛ إذ المرهون ملكه ، ولو انفرد بتوكيله صحّ ، فلم ينعزل بعزل غيره.
والثاني : له عزله(٤) ، على معنى أنّ لكلّ واحدٍ منهما منعه من البيع ؛ لأنّ المرتهن له أن يمنعه من البيع ، لأنّ البيع إنّما يستحقّ بمطالبته ، فإذا لم يطالب بالبيع ومنعه منه ، لم يجز ، فأمّا أن يكون ذلك فسخاً فلا.
مسألة ١٨٤ : إذا وضعا الرهن عند عَدْلٍ وشرطا أن يبيعه عند المحلّ ، جاز.
قال الشيخرحمهالله : وليس للعَدْل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن بإذنٍ
____________________
(١) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤ - ٤٥٥.
(٢) الخلاف ٣ : ٢٤٣ ، المسألة ٤٢ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.
(٣ و ٤ ) المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.
مجدَّد(١) - وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال أحمد(٢) - لأنّ البيع لحقه ، فإذا لم يطالب به ، لم يجز بيعه ، بل يراجع ليعرف أنّه مطالِبٌ أو مهمل أو مبرئ.
والثاني : أنّه لا يراجع ؛ لأنّ غرضه توفية الحقّ(٣) .
وأمّا الراهن فقال الشيخعليهالسلام : لا يشترط تجديد إذنه ولا مراجعته ثانياً عند البيع(٤) - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الأصل دوام الإذن الأوّل.
والثاني : أنّه يشترط تجديد إذنه ؛ لأنّه قد يكون له غرض في استبقاء المرهون ويريد قضاء الحقّ من غيره وإبقاء الرهن لنفسه(٦) .
ولو مات الراهن أو المرتهن ، بطلت الوكالة.
وإذا قلنا : إنّ الوكيل لا ينعزل بعزل المرتهن ، فلو عاد إلى الإذن ، جاز البيع ، ولم يشترط تجديد توكيل من الراهن.
قال بعض الشافعيّة : مساق هذا أنّه لو عزله الراهن ثمّ عاد ووكّل ، افتقر إلى إذنٍ جديد للمرتهن ، ويلزم عليه أن يقال : لا يعتدّ بإذن المرتهن قبل توكيل الراهن(٧) .
ولو وضعا الرهن على يد عَدْلٍ فمات ، فإنّ اتّفق الراهن والمرتهن
____________________
(١) الخلاف ٣ : ٢٤٤ ، المسألة ٤٣ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.
(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٥.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.
(٤) الخلاف ٣ : ٢٤٤ ، المسألة ٤٣ ، المبسوط للطوسي ٢ : ٢١٧ ٢١٨.
(٥ و ٦ ) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.
(٧) الوسيط ٣ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠.
على كونه في يد عَدْلٍ آخَر أو في يد أحدهما ، كان لهما. وان اختلفا ، كان للحاكم أن يضعه عند عَدْلٍ يرتضيه.
ولو كان الرهن في يد المرتهن فمات ، فالرهن بحاله ، فإن رضي الراهن أن يكون في يد ورثة المرتهن ، كان في أيديهم إن اختاروا. وإن أبى ذلك ، لم يُجبر على تركه في أيديهم ؛ لأنّه لم يرض إلّا بأمانة المرتهن دون ورثته ، ويضعه الحاكم عند مَنْ يراه.
مسألة ١٨٥ : يد العَدْل يد أمانةٍ متطوّع بحفظه ، فلو اتّفقا على نقله من يده ، كان لهما ؛ لأنّ الحقّ لهما. وان اختلفا فيه فطالَب أحدهما بالنقل وامتنع الآخَر ، لم ينقل ؛ لأنّهما قد رضيا بأمانته ورضيا بنيابته عنهما في حفظه ، فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد وإخراجه من يده.
ولو أراد العَدْل ردَّ الرهن فإن كانا حاضرَيْن ، كان له ذلك ، وعليهما قبوله منه ؛ لأنّه أمين متطوّع بحفظه ، فلا يلزمه المقام على ذلك ، فإذا قبضاه فقد بريء العدْل من حفظه. وإن امتنعا من أخذه ، رفع أمرهما إلى الحاكم ليُجبرهما على [ تسلّمه ](١) فإن امتنعا أو استترا ، نصب الحاكم أميناً يقبضه منه لهما ؛ لأنّ للحاكم ولايةً على الممتنع من حقٍّ عليه.
ولو ردّه العَدْل على الحاكم قبل أن يردّه عليهما وقبل امتناعهما من قبضه ، لم يكن له ذلك ، وكان ضامناً ، وكان الحاكم ضامناً أيضاً ؛ لأنّ الحاكم لا ولاية له على غير الممتنع.
وليس للعَدْل أن يدفع الرهن إلى غير المتراهنين مع حضورهما وإمكان الإيصال إليهما ، وكذا لو دفعه العَدْل إلى ثقةٍ أمينٍ مع وجودهما ،
____________________
(١) بدل ما بين المعقوفين في « ج » والطبعة الحجريّة : « تسليمه ». والظاهر ما أثبتناه.
فإنّه يضمن ، ويضمن القابض أيضاً ؛ لأنّه لا يجوز له أن يُخرجه من يده إلى غير المتراهنين ، وليس للعَدْل القابض قبضه ، فضمنه ؛ لأنّه قبضه بغير حقٍّ ، فلزمه الضمان.
ولو دفعه إلى أحد المتراهنين ، فإنّهما يضمنان أيضاً ؛ لأنّه وكيل لهما في حفظه ، فلم يجز له تسليمه إلى أحدهما دون صاحبه ، فإذا سلّمه ، ضمن ، وضمن القابض ؛ لأنّه قبض ما لا يجوز له قبضه.
ولو امتنعا من القبض وليس هناك حاكم فتركه عند ثقةٍ ، جاز ولا ضمان.
ولو امتنع أحدهما فدفعه إلى الآخَر ، ضمن.
والفرق بينهما أنّ العَدْل يمسكه لهما ، فإذا دفعه إلى أحدهما ، كان ماسكاً لنفسه ، فلم يجز.
ولو كانا غائبين فإن كان للعَدْل عذرٌ في الامتناع من بقائه في يده - كسفرٍ عزم عليه ، أو مرضٍ خاف منه ، أو غير ذلك - دفعه إلى الحاكم ، وقبضه الحاكم عنهما ، أو نصب عَدْلاً يقبضه لهما. وإن لم يجد حاكماً ، جاز له أن يودعه عند ثقةٍ ، ولا ضمان على أحدهما.
فإن أودعه عند ثقةٍ مع وجود الحاكم ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّ الولاية في مال الغائب إلى الحاكم.
وللشافعيّة وجهان(١) .
وإن لم يكن له عذرٌ ، قال الشيخرحمهالله : لم يجز له تسليمه إلى
____________________
(١) المهذب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩٩ و ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٦ ، و ٥ : ٢٩.
الحاكم(١) . وهو جيّد.
وفصّل الشافعي فقال : إن كانت غيبتهما طويلةً - وهو السفر الذي يقصر فيه الصلاة - فإنّ الحاكم يقبضه عنهما ، ولا يلجئه إلى حفظه ، وإن لم يجد حاكماً ، أودعه عند ثقة أو أمين : وإن كانت المسافة قصيرةً ، فهو كما لو كانا حاضرَين(٢) .
وإن كان أحدهما غائباً والآخَر حاضراً ، لم يجز تسليمه إلى الحاضر ، وكان كما لو كانا غائبين.
وليس له قسمته وإعطاء الحاضر نصفه ، بخلاف ما لو أودع اثنان وديعةً عند ثالثٍ وغاب أحدهما الآخَر فطالَب ، فإنّ الحاكم يقسّمها بينه وبين الغائب ؛ لأنّ المودعين ما لكان ظاهراً ؛ لثبوت يدهما معاً عليها ، فقسّمها الحاكم ، وهنا الملك لأحدهما وللآخَر حقّ الوثيقة ، وذلك لا يمكن قسمته ، فاختلفا.
مسألة ١٨٦ : لو جعلا الرهن على يد عَدْلين ، جاز إجماعاً ، ولهما إمساكه ، ولا يجوز لأحدها الانفراد بحفظه. فإن سلّمه أحدها إلى الآخَر ، ضمن النصف ؛ لأنّه القدر الذي تعدّى فيه. ولأنّ الراهن لم يرض بأمانة أحدهما ، وإنّما رضي بأمانتهما جميعاً ، فلا يجوز لأحدها أن ينفرد بحفظه.
ويحتمل عندي أن يكون عليهما معاً ضمان الكلّ.
وليس لهما أن يقتسما الرهن وإن كان ممّا يمكن قسمته من غير ضرر ، مثل الطعام والزيت ، وهذا أحد وجهي الشافعيّة.
____________________
(١) الخلاف ٣ : ٢٤٧ ، المسألة ٤٩ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٢١.
(٢) راجع : المغني ٤ : ٤٢٢ ، والشرح الكبير ٤ : ٤٥٠.
وفي الآخَر : يجوز أن يدفعه أحدهما إلى الآخَر ؛ لأنّ اجتماعهما على حفظه ممّا يشقّ عليهما ويتعذّر ، فحمل الأمر على أنّ لكلّ واحدٍ منهما الحفظ(١) .
وهو ممنوع ؛ لإمكان جَعْله في محرز لهما لكلّ واحدٍ منهما عليه قُفْلٌ.
وقال أبو حنيفة : إن كان ممّا لا ينقسم ، جاز لكلّ واحدٍ منهما إمساك جميعه. وإن كان ممّا يمكن قسمته ، لم يجز ، بل يقتسمانه(٢) .
وقال أبو يوسف ومحمّد : يجوز أن يضعاه في يد أحدهما بكلّ حال(٣) .
احتجّ أبو حنيفة بأنّه إذا كان ممّا ينقسم فقَبْضُ أحد النصفين لا يكون شرطاً في الآخَر ؛ لأنّه ممّا لا يستحقّ عليه بدل ، كما لو وهب لرجل عينين فقَبِل إحداهما ، بخلاف البيع ، فإذا ثبت لأحدهما إمساك نصفه ، لم يُسلّم إلى غيره.
وعلى القول الثاني للشافعيّة - وهو جواز دفع أحدهما إلى الآخَر - لو كان ممّا ينقسم فقسّماه بينهما ، جاز ، وانفرد كلّ واحدٍ منهما بحفظ ما في يده ، فإن أراد أحدهما أن يردّ ما في يده إلى الآخَر ، فوجهان :
أحدهما : يجوز ؛ لأنّه كان يجوز لكلٍّ منهما أن ينفرد بحفظ جميعه.
والثاني : لا يجوز ؛ لأنّه لمـّا اقتسماه بينهما صار في يد كلّ واحدٍ
____________________
(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، المغني ٤ : ٤١٩ - ٤٢٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٩.
(٢ و ٣ ) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٠ ، المغني ٤ : ٤٢٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٩.
ما ينفرد(١) بحفظه ، فلم يكن له ردّه إلى غيره. ولأنّ قبل القسمة جاز ذلك ؛ لحصول المشقّة ، وبعد القسمة زالت المشقّة(٢) .
مسألة ١٨٧ : لو جني على الرهن في يد العَدْل ، وجبت قيمته على الجاني ، وكانت رهناً. وللعَدْل حفظها ؛ لأنّها بدل الرهن ، وله إمساك الرهن وحفظه ، والقيمة قائمة مقامه. وبطلت وكالته في بيع العين بتلفها ، فلا تتعلّق الوكالة بالقيمة ، بل تبطل ؛ لأنّ الوكالة كانت في العين دون قيمتها ، وبطلت الوكالة ؛ لأنّها لم تصر من حقوق الرهن ، وإنّما هي باقية على جوازها ، ولهذا للراهن الرجوعُ ، بخلاف إمساك العَدْل الرهنَ.
ولو كان الرهن في يد العَدْل فقبضه المرتهن ، وجب عليه ردّه إليه ؛ لأنّ الراهن لم يرض بتسليمه إليه ، فإذا ردّه إلى العَدْل ، زال عنه الضمان.
ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدّى فيه ثمّ أزال التعدّي أو سافر به ثمّ ردّه ، لم يزل عنه الضمان ؛ لأنّ استئمانه بطل بذلك ، فلم يعتد بفعله ، ولا تعود الأمانة إلّا بأن يرجع إلى صاحبه ثمّ يردّه إليه أو إلى وكيله أو يبرئه من ضمانه.
ولو غصب المرتهن الرهنَ من يد العَدْل ، ضمنه ، فإن ردّه إليه ، زال الضمان ؛ لأنّه قد ردّه إلى وكيله.
ولو اقترض ذمّيّ من مسلمٍ مالاً ورهن عنده خمراً وجعله على يد ذمّيّ ، لم يصح الرهن ، فإذا حلّ الحقّ وباعها الذمّي العَدْل وجاء بالثمن ،
____________________
(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « صار ما في يد كلّ واحدٍ ينفرد ». والظاهر ما أثبتناه.
(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٦.
قال الشيخرحمهالله : جاز له أخذه ، ولا يُجبر عليه(١) .
وللشافعي في إجبار المسلم قبض الثمن وجهان : أحدهما : لا يُجبر ؛لأنّه قد تعيّن ثمن الخمر ، وذلك غير مملوك. والثاني : يُجبر ؛ لأنّ أهل الذمّة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيحة ، فيقال : إمّا أن تقبض ، وإمّا أن تبرئ(٢) .
وإن جعلها على يد مسلم فباعها عند محلّ الحقّ أو باعها الذمّيّ من مسلمٍ ، لم يُجبر المرتهن على قبول الثمن ؛ لأنّ البيع فاسد لا يُقرّان عليه ، ولا حكم له.
مسألة ١٨٨ : إذا أذن الراهن والمرتهن للعَدْل في بيع الرهن ، فإن عيّنا له قدراً أو جنساً ، لم يجز له أن يعدل عمّا ذكراه إلى أقلّ ؛ لأنّ الحقّ لهما لا شيء للعَدْل فيه.
فإن أطلقا البيع ، جاز له البيع بثمن المثل حالّاً بنقد البلد ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة ؛ فإنّه جوّز أن يبيعه ولو بدرهمٍ واحد ؛ لإطلاق الأوّل(٤) .
ليس جيّداً ؛ لأنّ الإطلاق محمول على المعتاد المتعارف بين الناس ، وهو هنا مقيّد بما قلناه.
فإن باعه العَدْل بدون ثمن المثل ، فإن كان بقدر ما يتغابن به الناس ، فالأقوى : الجواز ؛ لأنّه مندرج تحت المتعارف. وإن كان بأزيد ممّا يتغابن به الناس ، لم يصح ، مثل أن يكون الرهن يساوي مائة درهم ويتغابن الناس
____________________
(١) الخلاف ٣ : ٢٤٨ ، المسألة ٥٢ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٢٣.
(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٦٠.
(٣ و ٤ ) المغني ٤ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.
فيه بخمسة دراهم ، فباعه العَدْل بثمانين ، بطل ، ورجع الراهن في العين إن كانت باقيةً ، وإن كانت تالفةً ، كان له الرجوع على أيّهما شاء.
فإن رجع على المشتري ، رجع بقيمتها ، ولا يردّ المشتري علىالعَدْل. وإن رجع على العَدْل ، رجع بجميع القيمة ؛ لأنّه أخرج العين من يده على وجهٍ يجز له ، فضمن جميع قيمتها ، وصار كما لو أتلفها ، فإنّه يرجع عليه بجميع القيمة ، وهو أصحّ قولي الشافعي.
والثاني : أنّه يرجع عليه نقص من ثمن مثلها الذي يتغابن به الناس ، فيرجع بالباقي على المشتري ؛ لأنّ ذلك هو القدر الذي فرّط فيه ، فإنّه لو باعها بما يتغابن الناس بمثله ، نفذ بيعه ، ويلزم عليه المشتري ؛ لأنّه لو اشتراه بما يتغابن الناس عليه(١) لم يرجع عليه بشيء ، ومع هذا يجب عليه جميع القيمة(٢) .
وكذا لو أوجبنا تعميم العطاء في الزكاة وأعطى بعض الأصناف الزكاةَ وحرّم بعضاً ، فكم يضمن؟ للشافعيّة وجهان :
أحدهما : القدر الذي لو أعطاهم في الابتداء جاز ؛ لأنّ التفضيل جائز.
والثاني : يضمن بقدر ما يخصّهم إذا سوّى بين العدد(٣) . وكذا لو قالوا(٤) في الاُضحية(٥) .
____________________
(١) كذا ، والظاهر : « بمثله » بدل « عليه ».
(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣١.
(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٨٠ ، المجموع ٦ : ٢١٨ ، الوجيز ١ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٤٠٨ ، روضة الطالبين ٢ : ١٩١ - ١٩٢.
(٤) كذا ، والظاهر : « وكذا قالوا ».
(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٤٧ ، المجموع ٨ : ٤١٦ ، الحاوي الكبير ١٥ : ١١٨ ، =
فأمّا إذا باعه بثمن مثله أو بما يتغابن الناس بمثله ، صحّ البيع.
وإن باعه العَدْل بغير نقد البلد أو باعه بثمن مؤجَّل ، لم يصحّ البيع ، ويجب ردّ العين ، فإن كانت باقيةً ، استرجعها ، وإن كانت تالفةً ، رجع بقيمتها على مَنْ شاء منهما ، فإن رجع على العَدْل ، رجع العَدْل على المشتري ؛ لأنّ التلف كان في يده ، وإن رجع على المشتري ، لم يرجع على العَدْل.
مسألة ١٨٩ : إذا باع العَدْل بثمن المثل أو بما يتغابن به الناس ، صحّ البيع ؛ لأنّ ما يتغابن به الناس لا يمكن الاحتراز عنه ، وهو يقع لأهل الخبرة والبصيرة ، والمرجع في ذلك إليهم.
فإن جاء بعد البيع مَنْ زاد في ثمنه ، فإن كان بعد لزوم البيع وانقطاع الخيار بينهما ، لم يعتد بهذه الزيادة ؛ لأنّه لا يجوز له قبولها ، ولا يملك فسخ البيع في هذه الحال.
وإن كان ذلك من زمن الخير مثل أن يكون قبل التفرّق عن المجلس أو في زمن خيار الشرط ، فإنّه يجوز له قبول الزيادة ، وفسخ العقد ، فإن لم يقبل الزيادة ، لم ينفسخ العقد ، قاله الشيخ(١) رحمهالله ؛ لأنّ العقد قد صحّ ، وهذه الزيادة مظنونة ، فلا ينفسخ بها العقد ، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال في الآخَر : إنّه ينفسخ ؛ لأنّه مأمور بالاحتياط ، وحالة الخيار بمنزلة حال العقد ، ولو دفع إليه زيادة في حالة العقد وباع بالنقصان لم يصح بيعه وإن كان قد باع بثمن المثل ، فكذا هنا(٢) .
____________________
= حلية العلماء ٣ : ٣٧٦ ، الوجيز ٢ : ٢١٤ ، العزيز شرح الوجيز ١٢ : ١٠٩ ، روضة الطالبين ٢ : ٤١٩.
(١) الخلاف ٣ : ٢٤٥ ، المسألة ٤٥.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣١ - ٣٣٢.
فلو بدا للراغب فإن كان قبل التمكّن من البيع منه ، فالبيع الأوّل بحاله. وإن كان بعده ، فقد ارتفع ذلك البيع ، فلا بدّ من بيعٍ جديد.
وقال بعض الشافعيّة : إذا بدا له ، كان البيع بحاله ، كما لو بذل الابن الطاعة لأبيه في الحجّ وجعلناه مستطيعاً به ثمّ رجع عن الطاعة قبل أن يحجّ أهل بلده ، عرفنا عدم الوجوب(١) .
ولو لم يفسح العَدْل البيعَ الأوّل وباع من الراغب ، ففي كونه فسخاً لذلك البيع ثمّ في صحّته خلاف تقدّم.
ولهم خلاف في أنّ الوكيل بالبيع لو باع ثمّ فسخ البيع هل يتمكّن من البيع مرّةً اُخرى؟(٢) .
مسألة ١٩٠ : إذا باع العَدْل الرهنَ بإذنهما ، فالثمن يكون أمانةً في يده لا ضمان عليه فيه إجماعاً ، ويكون من ضمان الراهن إلى أن يتسلّمه المرتهن ، فإن تلف في يده من غير تفريطٍ ، لم يسقط من دَيْن المرتهن شيء - وبه قال الشافعي وأحمد(٣) - لأنّ العَدْل وكيل الراهن في البيع ، والثمن ملكه ، وهو أمين له في قبضه ، فإذا تلف ، كان من ضمانه ، كسائر الأُمناء.
وقال أبو حنيفة ومالك : يكون من ضمان المرتهن(٤) .
أمّا أبو حنفية فبناه على أصله من أنّ الرهن مضمون على المرتهن والثمن بدله ، فيكون مضموناً.
____________________
(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.
(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.
(٤) حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.
وليس بجيّد ؛ لما عرفت من أنّ الرهن أمانة.
وأمّا مالك فإنّه يقول : البيع حقّ للمرتهن ، وهو تابع لحقّه ، والثمن يكون للمرتهن ، ويبرأ الراهن ببيع الرهن.
وقوله : « الثمن يكون للمرتهن » ليس بصحيح ؛ لأنّه بدل الرهن ، وإنّما تعلّق حقّ المرتهن باستيفاء الثمن منه ؛ لما روي عن النبيّصلىاللهعليهوآله أنّه قال : « الرهن من راهنه »(١) بمعنى من ضمان راهنه ، وهذه عادة العرب في حذف المضاف.
ولو باع العَدْل وتلف الثمن في يده من غير تفريطٍ ثمّ خرج الرهن مستحقّاً ، فإن كان العَدْل قد أعلم المشتري أنّه وكيل الراهن ، فإنّ العهدة على الراهن ، وكذا كلّ وكيلٍ باع مالَ غيره وبه قال الشافعي وأحمد(٢) لأنّه نائبه في عقدٍ عن غيره ، فلم يلزمه الضمان ، كأمين الحاكم وسائر الوكلاء.
ولا يكون العَدْل طريقاً للضمان في أصحّ وجهي الشافعيّة ؛ لأنّه نائب الحاكم ، والحاكم لا يطالب فكذا نائبه.
والثاني : يكون طريقاً ، كالوكيل والوصي(٣) .
وقال أبو حنيفة : العهدة على الوكيل ، ويرجع على الراهن. وبنى ذلك على أنّ حقوق العهدة تتعلّق - عنده - بالوكيل(٤) .
____________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٦٠ ، الهامش (٢)
(٢) المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.
(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠.
(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.
وهو ممنوع على ما يأتي في الوكالة.
وقال مالك : لا عهدة على العَدْل ، ولكن يرجع المشتري على المرتهن ، ويعود دَيْنه في ذمّة الراهن كما كان ؛ لأنّ البيع وقع للمرتهن بمطالبته واستحقاقه ، وكانت العهدة عليه ، كالموكّل(١) .
وقد بيّنّا أنّه نائب عن الراهن وكيلٌ له دون المرتهن.
ولو خرج مستحقّاً بعد ما دفع الثمن إلى المرتهن ، فإنّ للمشتري أن يرجع على الراهن(٢) ، وبه قال الشافعي(٣) .
وقال أبو حنيفة : يرجع على العَدْل ويرجع العَدْل على المرتهن أو على الراهن أيّهما شاء(٤) .
وإن كان المشتري ردّه عليه بعيبٍ ، لم يكن له الرجوعُ على المرتهن ؛ لأنّه قبضه بحقٍّ ، وإنّما يرجع على الراهن.
وإن كان العَدْل حين باعه لم يُعلم المشتري أنّه وكيل ، كان للمشتري الرجوعُ عليه ، ويرجع هو على الراهن إن أقرّ بذلك أو قامت به بيّنة ، وإن أنكر ذلك ، كان القولُ قولَ العَدْل مع يمينه ، فإن نكل عن اليمين ، حلف المشتري ، ويرجع عليه ، ولم يرجع هو على الراهن ؛ لأنّه مُقرٌّ بأنّه ظلمه.
مسألة ١٩١ : لو باع العَدْل وقبض الثمن ثمّ ادّعى تلفه في يده من غير تفريطٍ ، فالقول قوله مع اليمين ، ولا يكلَّف إقامة البيّنة على ذلك ؛ لأنّه أمين ، ويتعذّر عليه إقامة البيّنة على ذلك ، فإن كلّفناه البيّنة ، شقّ عليه ،
____________________
(١) حلية العلماء ٤ : ٤٦٢.
(٢) في المغني والشرح الكبير : « المرتهن » بدل « الراهن ».
(٣) المغني ٤ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.
(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٩ ، المغني ٤ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.