الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٢
0%
مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 784
مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 784
الآية
( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) )
التّفسير
مالك كلّ شيء :
هذه في الحقيقة تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول :( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهريّة منها والباطنيّة( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) .
يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أعمالكم الباطنيّة مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبيّة الاخرى سوف تخفى على الله تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض ، فإنّه لا يخفى عليه شيء ، فلا عجب إذا قيل أنّ الله تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبيّة ويجازيكم عليها( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) .
ويحتمل أيضا أنّ الآية أعلاه تشير إلى جميع الأحكام المذكورة في الآيات
السابقة من قبيل الإنفاق الخالص والإنفاق المشوب بالرياء أو المنّة والأذى وكذلك الصلاة والصوم وسائر الأحكام الشرعيّة والعقائد القلبيّة.
في ختام الآية تقول :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فهو عالم بكل شيء يجري في هذا العالم ، وقادر أيضا على تشخيص اللّياقات والملكات ، وقادر أيضا على مجازات المتخلّفين.
* * *
ملاحظتان
1 ـ قد يتصوّر أنّ هذه الآية مخالفة للأحاديث الكثيرة التي تؤكّد على النيّة المجرّدة، ولكنّ الجواب واضح ، حيث إنّ تلك الأحاديث تتعلق بالذنوب التي لها تطبيقات خارجيّة وعمليّة بحيث تكون النيّة مقدّمة لها من قبيل الظلم والكذب وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك ، لا من قبيل الذنوب التي لها جنبة نفسيّة ذاتا وتعتبر من الأعمال القلبيّة مثل (الشرك والرياء وكتمان الشهادة).
وهناك تفسير آخر لهذه الآية ، وهو أنّه يمكن أن يكون لعمل واحد صور مختلفة، مثلا الإنفاق تارة يكون في سبيل الله ، واخرى يكون للرياء وطلب الشهرة ، فالآية تقول:أنّكم إذا أعلنتم نيّتكم أو أخفيتموها فإنّ الله تعالى أعلم بها وسيجازيكم عليها ، فهي في الحقيقة إشارة إلى مضمون الحديث الشريف «لا عمل إلّا بنيّة»(1) .
2 ـ من الواضح أنّ قوله تعالى( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) أنّ إرادته لا تكون بدون دليل ، بل أنّ عفوه أيضا يرتكز على دليل ومبرّر ، وهو لياقة الشخص للعفو الإلهي ، وهكذا في عقابه وعدم عفوه.
* * *
__________________
(1) وسائل الشيعة : ج 1 ص 33.
الآية
( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) )
التّفسير
علائم الإيمان وطريقه :
لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضا كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها ، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.
وقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية أنّه حين نزلت الآية السابقة وأنّ الله تعالى يعلم ما في أنفسكم ويحاسبكم بما أظهرتم وأخفيتم في قلوبكم ، خاف بعض الصحابة وقالوا : ليس أحد منّا إلّا وفي قلبه خطرات ووساوس شيطانيّة ، فعرضوا الأمر على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فنزلت الآية أعلاه ، وبيّنت طريق الحقّ والإيمان ، ومنهج التضرّع والمناجاة والتسليم لأوامر الله تعالى(1) .
__________________
(1) اقتباس من (البحر المحيط) : ج 2 ص 363.
في البداية تقول( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من امتيازات الأنبياء الإلهيين جميعا بأنّهم مؤمنون بما جاءوا به إيمانا قاطعا ، فلا شكّ ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم ، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.
ونقرأ في الآية 158 من سورة الأعراف أنّ هذه الخصيصة تعتبر من صفات الرسول الأكرم ومن امتيازاته حيث تقول :( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ ) .
ثمّ تضيف الآية الكريمة :( وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) (1) وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم ، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم بخلاف البعض من الناس الذين تقول عنهم الآية 150 من سورة النساء( وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) (2) .
المؤمنون لا يرون تفاوتا بين رسل الله من جهة أنّهم مرسلون من قبل الله تعالى ، ويحترمونهم ويقدّسونهم جميعا. ومعلوم أنّ هذا الموضوع لا ينافي مقولة نسخ الشرائع السابقة بواسطة الشريعة البعديّة ، لأنّه كما سبقت الإشارة إليه أنّ تعليمات الأنبياء وشرائعهم من قبيل المراحل الدراسيّة المختلفة من الابتدائية والمتوسطة والاعدادية والجامعة ، فبالرغم من أنّها تشترك جميعا في الأصول والمبادئ الأساسيّة ، إلّا أنّها تختلف في السطوح والتطبيقات المختلفة ، فعند ما يرتقي الإنسان إلى مرحلة أسمى فإنّه يترك البرامج المعدّة للمرحلة السابقة ويأخذ
__________________
(1) جملة «والمؤمنون» يمكن أن تكون جملة مستأنفة كما ذكر في التفسير أعلاه ويمكن أن تكون معطوفة على (الرسول) ولا يختلف المعنى كثيرا وإن كان المعنى الأول أنسب.
(2) النساء : 150.
بالبرامج المعدّة لهذه المرحلة ، ومع ذلك يبقى احترامه وتقديسه للمرحلة السابقة في محلّه.
ثمّ تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافا إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضا كذلك( وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) .
(سمعنا) وردت في بعض الموارد بمعنى فهمنا وصدّقنا من قبيل هذه الآية ، أي أنّنا قبلنا دعوة أنبيائك بجميع وجودنا وعلى استعداد تام للإطاعة والإتّباع.
ولكن يا إلهنا وربّنا نحن بشر وقد تتسلط علينا الغرائز والأهواء وتجرّنا إلى المعصية أحيانا ، ولهذا ننتظر عفوك ونتوقع منك المغفرة لأنّ مصيرنا إليك(1) .
وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الالتزام العملي بجميع الأحكام الشرعيّة والدساتير الإلهيّة.
* * *
__________________
(1) ذهب كثير من المفسّرين إلى أن في الجملة الأخيرة فعل محذوف وتقديره (نسألك) أو (نريد غفرانك).
الآية
( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) )
التّفسير
عدّة حاجات مهمّة :
كما تقدّم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلّقان بالأشخاص الّذين استوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ الله تعالى مطّلع على نيّاتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا : لا أحد منّا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبيّة.
فالآية الحاضرة تقول :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .
(الوسع) لغة تعني القدرة والإستيعاب ، وعليه فإنّ الآية تؤيّد الحقيقة المنطقيّة القائلة أنّ التكاليف والفرائض الإلهيّة لا تتجاوز طاقة الأفراد وميزان تحملّهم
إطلاقا ، لذلك يمكن القول بأنّ كلّ الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان ، ومن البديهي أنّ المشرّع الحكيم والعادل لا يمكن أن يضع قانونا على نحو آخر.
كما أنّ الآية تؤكّد أنّ الأحكام الشرعيّة لا تنفصل أبدا عن أحكام العقل والحكمة،بل هي متواكبة معها في كلّ المراحل.
ثمّ تضيف الآية( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) .
أجل فإنّ كلّ شخص يحصد ما جنته يداه حسنا كان أم سيئا ، وسيواجه في هذا العالم أو في العالم الآخر نتائج وعواقب هذه الأعمال ، فالآية تنبّه الناس إلى مسئولياتهم وعواقب أعمالهم ، أو تفنّد الأساطير التي تبرئ بعض الناس من عواقب أعمالهم ، أو تجعلهم مسئولين عن أعمال الآخرين دون دليل.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية تطلق على الأعمال الصالحة اسم «الكسب» وعلى الأعمال السيّئة اسم «الاكتساب». ولعلّ السبب هو أنّ «الكسب» يستعمل بالنسبة إلى الأمور التي يحقّقها المرء برغبة داخلية وبلا تكليف وهي تناسب فطرته ، بينما «الاكتساب» هو النقطة المقابلة للكسب ، أي الأعمال التي تنافي الفطرة وطبيعة الإنسان. يفهم من هذا أنّ الأعمال الصالحة مطابقة لمسيرة الفطرة وطبيعة الإنسان ، بينما أعمال الشرّ تخالف الفطرة والطبيعة.
أمّا الراغب الإصفهاني في «مفرداته» فيرى رأيا غير هذا وجدير بالملاحظة يقول:الكسب ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ككسب المال ، ويقال فيما أخذه لنفسه ولغيره (كأعمال الخير التي لا تقتصر فائدتها على الفاعل وحده ، بل قد تعمّ الأقارب وغيرهم) في حين أنّ الاكتساب لا يقال إلّا فيما تعود نتائجه على الفاعل نفسه ، وهو الذنب. هذه الاختلافات في المعنى تصلح طبعا عند ما تستعمل الواحدة في قبال الاخرى.
( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) .
لمّا كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال صالحة أو سيئة بموجب قانون «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» لذلك يتضرّعون ويخاطبون الله بلفظ «الرب» الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين : إذا كنّا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب.
العقاب على النسيان والخطأ :
لماذا الدعاء لأن يغفر الله الذنوب المرتكبة نسيانا أو خطأ؟
فهل الله يعاقب على مثل هذه الذنوب؟
في الجواب لا بدّ من القول بأنّ النسيان يكون أحيانا من باب التماهل والتساهل من جانب الإنسان نفسه. بديهيّ أنّ هذا النوع من النسيان لا يضع المسؤولية عن الإنسان، كما جاء في القرآن.
( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (1) وعليه فإنّ النسيان الناشئ عن التساهل يوجب العقاب.
ثمّ لا بدّ من ملاحظة أنّ هناك فرقا بين النسيان والخطأ. فالخطأ يقال عادة في الأمور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم انتباه منه ، كأن يطلق رصاصة ليصيد صيدا فتصيب رصاصته إنسانا فتجرحه. أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنّه ينسى كيف يقوم بذلك ، كأن يعاقب المرء إنسانا برئيا ظنّا منه أنّه المذنب ، لنسيانه مميّزات المذنب الحقيقي.
__________________
(1) السجدة : 14.
( رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) .
«الإصر» عقد الشيء وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة. وكذلك العهد المؤكّد الذي يقيّد الإنسان. ولهذا تطلق هذه الكلمة على العقاب أيضا.
وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين : الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله ، وهذا هو ما ورد على لسان النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم بشأن التعاليم الإسلامية ، إذ قال «بعثت بالشريعة السهلة السمحة»(1) .
هنا قد يسأل سائل : إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة ، فلما ذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها؟
في الجواب نقول : تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة ، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر(2) .
وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الامتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق( وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) . ونرى في الفقرة السابقة صيغة( لا تَحْمِلْ ) ، وهنا نرى عبارة( لا تَحْمِلْ ) ، فالأولى تستعمل عادة في الأمور الصعبة ، والثانية فيما لا يطاق.
فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا.
«عفا» بمعنى أزال آثار الشيء ، وأكثر استعمالها مع الذنب بمعنى محو آثار
__________________
(1) بحار الأنوار : ج 65 ص 319 ط بيروت ، وورد مثله في فروع الكافي : ج 5 ص 494 باب كراهة الرهبانية.
(2) الأنعام : 146 ، النساء : 160.
الإثم ، وتشمل الآثار الطبيعية والآثار الجزائية والعقوبات.
أمّا «الغفران» فتعني أن يصون الله العبد من أن يمسّه العذاب عقوبة على ذنبه.
وعليه ، فإنّ استعمال الكلمتين يفيد أنّ المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم ، لكي لا تصيبهم عواقبها السيّئة.
كما أنّهم طلبوا منه أن لا يقعوا تحت طائلة عقابها. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كلّ شيء.
( أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) .
وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والإنتصار على الأعداء.
في هاتين الآيتين خلاصة لسورة البقرة كلّها ، وهما تهدياننا إلى روح التسليم أمام ربّ العالمين ، وتشيران إلى أن المؤمنين إذا أرادوا من الله أن يغفر لهم زلّاتهم وأن ينصرهم على الأعداء كافّة ، فلا بدّ لهم أن ينفذوا برنامج «سمعنا وأطعنا» أن يقولوا : إنّنا سمعنا دعوات الداعين وقبلناها بكلّ جوارحنا وإنّنا متّبعوها ، ولن ندخّر وسعا في حثّ السير على هذا السبيل. وعندئذ لهم أن يطلبوا الإنتصار على الموانع والأعداء.
إنّ تكرار كلمة «ربّ» أي الذي يلطف بعباده ويربّيهم يكمل هذه الحقيقة. ولهذا حثّنا أئمة الدين في أحاديثهم على قراءة هاتين الآيتين ، وبيّنوا ما فيهما من أبواب الثواب. فإذا تناغم اللسان والقلب في تلاوتهما ولم تكن التلاوة مجرّد ألفاظ تجري على اللسان ، تغدو حينئذ برنامجا حياتيا ، فإنّ تلاوتهما تربط بين القلب وخالق الكون ، وتضفي الصفاء على الروح وتكون عاملا على التحرّك والنشاط.
يستفاد جيّدا من هذه الآية أنّ (التكليف بما لا يطاق) لا يوجد في الشريعة المقدّسة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاخرى ، والأصل هو حريّة الإنسان
وإرادته لأنّ الآية تقول : أنّ كلّ إنسان يلاقي جزاء أعماله الحسنة والسيئة ، فما عمله من حسنات فسيعود إليه ، وما ارتكبه من سيئات فعليه ، ومن هذا المنطلق يكون طلب العفو والمغفرة والصفح.
وهذا المعنى يتطابق تماما مع منطق العقل ومسألة الحسن والقبح ، لأنّ الله تعالى حكيم ولا يمكن أن يكلّف العباد بما لا طاقة لهم به ، وهذا بنفسه دليل على نفي مسألة الجبر ، فكيف يحتمل أنّ الله تعالى يجبر العباد على ارتكاب الذنب والإثم وفي نفس الوقت ينهاهم عنه؟!
ولكنّ التكاليف الشاقّة والصعبة ليست بالأمر المحال كما قرأنا عن تكاليف بني إسرائيل الشاقّة ، وهذه التكاليف أيضا ناشئة من أعمالهم وعبارة عن عقوبة لما ارتكبوه من آثام.
* * *
سورة آل عمران
مدنية
وعدد آياتها مائتين آية
آل عمران
فضيلة تلاوة هذه السورة :
ورد في الحديث الشريف عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قوله : «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنم»(1) .
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليهالسلام قوله : «من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة يظلّانه على رأسه مثل الغمامتين»(2) .
محتوى السورة :
ذهب بعض المفسّرين المعروفين أنّ هذه السورة نزلت بين السنة الثانية والثالثة للهجرة أي بين غزوة بدر واحد فهي تعكس في طيّاتها فترة من أشد الفترات حساسيّة في صدر الإسلام(3) .
وعلى كلّ حال ، فإنّ المحاور الأصلية في أبحاث هذه السورة عبارة عن :
1 ـ إنّ قسما مهمّا من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات الله والمعاد والمعارف الإسلامية الاخرى.
__________________
(1) مجمع البيان : ج 1 ص 405.
(2) نور الثقلين : ج 1 ص 309.
(3) تشير الآية (13) إلى «غزوة بدر» ومن آية (121) إلى (128) تشير إلى غزوة بدر واحد ، ثمّ تعقب في الآيات (139) إلى (144) إلى نفس المسألة وكذلك الآيات الاخرى.
2 ـ وقسم آخر منها يتعلّق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمّة والدقيقة ، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر وأحد ، وبيان الإمداد الإلهي للمؤمنين ، والحياة الخالدة الأخرويّة للشهداء في سبيل الله.
3 ـ وفي قسم من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحجّ وبيت الله الحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولّي والتبرّي ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل الله وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهيّة المختلفة وذكر الله على كلّ حال.
4 ـ وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدّث عن تاريخ الأنبياءعليهمالسلام ومنهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء وقصّة مريم وكرامتها ومنزلتها عند الله، وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهوديّة والمسيحيّة ضدّ الإسلام والمسلمين.
إنّ مواضيع هذه السورة منسجمة ومتناغمة بشكل كأنّها نزلت في وقت واحد.
* * *
الآيات
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )
( الم (1) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) )
سبب النّزول
يقول بعض المفسّرين : إنّ ثمانين آية ونيفا من هذه السورة قد نزلت في وفد مسيحيّي نجران(1) الذي قدم المدينة للتحقيق في أمر الإسلام.
كان الوفد يتألّف من ستّين شخصا ، فيهم أربعة عشر شخصا من أشراف نجران وشخصيّاتها. ثلاثة من هؤلاء الأربعة عشر كانت لهم صفة الرئاسة ، وإليهم يرجع المسيحيّون لحلّ مشاكلهم. أحدهم يدعى «عاقب» ويسمّى «عبد المسيح» أيضا ،
__________________
(1) «نجران» منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء ، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم «يعوق». ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان : نجران اسم لعدد من المواضع.
كان زعيم قومه المطاع بينهم. والثاني يدعى «السيّد» ويسمّونه «أيهم» أيضا ، وهو المسؤول عن تنظيم برنامج الرحلة ومعتمد المسيحيّين. والثالث «أبو حارثة» وكان عالما وصاحب نفوذ ، وبنيت كنائس عديدة باسمه. وحفظ عن ظهر قلب جميع كتب المسيحيّين الدينية.
دخل هؤلاء المدينة وهم بملابس قبيلة بني كعب ، وجاؤوا إلى مسجد النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . كان النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قد انتهى من صلاة العصر مع المسلمين. وأثار هؤلاء انتباه المسلمين بملابسهم اللامعة الملوّنة الزاهية حتّى قال بعض صحابة النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : ما رأينا مبعوثين بهذا الجمال!
وعند ما وصلوا إلى المسجد كان موعد صلاتهم قد أزف ، فقرعوا نواقيسهم بحسب طقوسهم واتّجهوا نحو الشرق وشرعوا يصلّون ، فحاول بعض أصحاب النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يمنعهم ، إلّا أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم طلب من الصحابة أن يتركوهم وشأنهم.
وبعد الصلاة أقبل «عاقب» و «السيّد» على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وبدءا يحادثانه، فدعاهم الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الدخول في الإسلام والاستسلام لله.
قالا : قد أسلمنا قبلك.
قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير.
قالا : إن لم يكن عيسى ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى.
فقال لهم النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولدا إلّا ويشبه أباه؟
قالوا : بلى.
قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت ، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟
قالوا : بلى.
قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء ويحفظه ويرزقه؟
قالوا : بلى.
قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟
قالوا : لا.
قال : ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟
قالوا : بلى.
قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟
قالوا : لا.
قال : فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث.
قالوا : بلى.
قال : ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ، ثمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثمّ غذّي كما يغذّي الصبيّ ، ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث؟
قالوا : بلى.
قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية(1) .
التّفسير
تفسير الحروف المقطّعة بالعقول الإلكترونية :
فيما يتعلّق بالحروف المقطّعة في القرآن ، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة ، فلا موجب لتكرار ذلك. وما ينبغي عرضه هنا هو النظرية المثيرة التي تقدّم بها مؤخّرا عالم مصري نورد هنا خلاصة لها لأهميّتها ، لا شكّ أنّ الحكم على صحتها أو بطلانها يستلزم بحوثا دقيقة يقع عبؤها على الأجيال القادمة. إنّما
__________________
(1) تفسير مجمع البيان : ج 1 ص 406.
نوردها كنظرية لا غير(1) .
مجلة «آخر ساعة» المصرية المعروفة نشرت تقريرا عن تحقيقات عجيبة قام بها عالم مصري مسلم بخصوص تفسير بعض آيات القرآن المجيد بوساطة العقول الإلكترونية أثارت إعجاب الناس في مختلف أنحاء العالم.
تلك التحقيقات التي أجراها الدكتور «رشاد خليفة» العالم الكيمياويّ المصري خلال ثلاث سنوات متواصلة ، أثبتت أنّ هذا الكتاب السماويّ العظيم ليس من نتاج عقل بشري ، وأنّ الإنسان غير قادر على الإتيان بمثله.
أجرى الدكتور رشاد تحقيقاته في مدينة «سانت لويس» بمقاطعة «ميسوري» الأمريكية واستخدم في تحقيقاته العقول الإلكترونية لفترات طويلة مع أنّ أجرتها في كلّ دقيقة 10 دولارات تبرّع بها المسلمون المقيمون هناك.
كان كلّ جهد الأستاذ المذكور ينصبّ على معرفة معاني الحروف المقطّعة في القرآن،مثل «ق ، الم ، يس». لقد استطاع بحسابات معقّدة أن يثبت وجود علاقة قوية بين هذين الحروف والسورة التي تقطع في صدرها (فتأمّل).
لقد استعان بالعقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات الخاصّة لمعرفة أعداد حروف السور ونسبة وجود كلّ حرف منها ، لا لتفسير القرآن.
ولولا هذه الأجهزة ما استطاع أحد أن يجري تلك الحسابات على الورق.
والآن نوجز الاكتشافات الذي توصّل إليه العالم المصري : يقول الدكتور رشاد : نعلم أنّ القرآن يضمّ 114 سورة ، منها 86 سورة نزلت في مكّة و 28 سورة في المدينة ، ومن بين مجموع سور القرآن 29 سورة تبدأ بحروف مقطعة.
من الجدير بالذكر أنّ مجموع هذه الحروف يبلغ نصف حروف الهجاء العربية ، وهي (أ ـ ح ـ ر ـ س ـ ص ـ ط ـ ع ـ ق ـ ك ـ ل ـ م ـ ن ـ ه ـ ي) وقد يصفونها بالحروف النيّرة.
__________________
(1) مع الأسف أن هذا العالم الذي يعيش في أمريكا ، وقع تحت تأثير المحيط الفاسد هناك وقد أنكر بصراحة بعض المسائل والأحكام الإسلامية المسلمة ما دعا ادعاءات باطلة.