الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 163818
تحميل: 5298


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163818 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

الآية

( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10) )

التّفسير

الوجه الحقيقي لأفعال البشر :

لقد ذكرنا في مطلع هذه السّورة أن آيات هذه السورة نزلت لبناء مجتمع صالح وسليم ، ولهذا تسعى آياتها في تطهير المجتمع من الرواسب الجاهلية وما تبقّى في نفوس بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام من العادات السيئة أوّلا ، لتتهيأ الأرضية لإقامة ذلك المجتمع الصالح المنشود.

وأية عادة ترى أقبح من أكل أموال اليتامى؟ ولهذا ابتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفا غير مشروع ، وغير صحيح ، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات.

تقول هذه الآية :( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) .

ولقد ورد نظير هذه العبارة في موضع آخر من القرآن الكريم وذلك في شأن الذين يكتمون الحق ، ويحرفون الكلم عن مواضعها لتحقيق بعض المكاسب

١٢١

المادية الشخصية إذ يقول سبحانه عنهم :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) (1) .

ثمّ أنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى :( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) .

و «يصلى» من «الصلى» بمعنى الدخول في النار والاحتراق بلهيبها ، وأمّا «السعير» فبمعنى النار المشتعلة.

ويقصد القرآن من هذه الجملة إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى مضافا إلى أنّهم يأكلون النار ـ في الحقيقة ـ في هذه الدنيا سيدخلون عمّا قريب نارا مشتعلة الأوار وحارقة اللهب في الدار الآخرة.

ويستفاد من هذه الآية أن لأعمالنا مضافا إلى وجهها الظاهري وجها واقعيا أيضا،وجها مستورا عنّا في هذه الدنيا ، لا نراه بعيوننا هنا ، ولكنّه يظهر في العالم الآخر،وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإسلامية.

إنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وجورا ، وإن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة ، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة ، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.

إنّ بين الوجه الواقعي للعمل والكيفية الظاهرية للعمل تناسبا وتشابها دائما ، فكما أن أكل مال اليتيم وغصب حقوقه يحرق فؤاد اليتيم ، ويؤذي روحه ، فكذا يكون الوجه الواقعي للعمل نارا محرقة.

إنّ الانتباه إلى هذا الأمر (أي الوجه الحقيقي الواقعي لكل عمل) خير رادع للذين يؤمنون بهذه الحقائق ، كيما لا يرتكبوا المعاصي ولا يقترفوا الذنوب ، فهل يوجد ثمّة من يحب أن يأخذ بيديه قبسات من النار ، ويضعها في فمه ويبتلعها؟

__________________

(1) البقرة ، 174.

١٢٢

إنّه من غير الممكن ـ والحال هذه ـ أن يقدم المؤمنون على أكل مال اليتيم ظلما ، ولو أنّنا وجدنا ثمّة من لا يقدم على هذا الفعل ، بل ولا يفكر في المعصية أبدا (كالأولياء) ، فلأنهم يرون ـ بفضل ما لديهم من الإيمان والعلم ، وما حصلوا عليه من تربية خلقية ـ حقائق الأفعال البشرية ووجوهها الواقعية ، فلا يفكرون في اقتراف هذه الأعمال السيئة ، فضلا عن الهمّ باقترافها.

إنّ الطفل الجاهل هو الذي يمكن أن يسحره ويجذبه جمال الجذوات المتقدمة وألسنة اللهب المندفعة منها فيمد يده إليها ، ولكن الإنسان العاقل الذي جرب حرارة النار وذاق ألمها ، كيف يمكن أن يفكر يوما بذلك.

هذا ولقد وردت أحاديث كثيرة تنهى بشدّة عن أكل مال اليتيم والعدوان على حقوقه، وتؤكد على أنّها كبيرة موبقة ، بل وتعتبر أبسط الأعمال من هذا النوع مشمولا لهذا الحكم الصارم وموضوعا لهذه العقوبة القاسية.

ففي حديث عن الإمام الصادق أو الإمام الباقرعليه‌السلام لما سئل في كم يجب لأكل مال اليتيم من النار؟ قال : في درهمين(1) .

* * *

_________________

(1) تفسير البرهان عند تفسير الآية.

١٢٣

الآيتان

( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) )

١٢٤

سبب النّزول

لمّا مات «عبد الرحمن بن ثابت الأنصاري» «أخو حسان بن ثابت» الشاعر المعروف في صدر الإسلام وقد خلف امرأة وخمسة أخوان ، اقتسم إخوانه ميراثه بينهم ولم يعطوا زوجته شيئا ممّا تركه من المال ، فشكت ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآيات الحاضرة التي تبيّن وتحدد سهم الأزواج من الإرث بنحو دقيق.

كمانقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال : مرضت فعادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأغمي عليّ ، فطلب النّبي ماء وتوضأ لبعضه وصب بعضه الآخر علي فأفقت فقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي (أي كيف يجب أن يكون أمره من بعد وفاتي) فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل شيئا ، فنزلت آية المواريث تبيّن نظام الإرث وتحدد أسهم الورثة.

الإرث حق طبيعي :

قبل أن نعمد إلى تفسير الآيات الحاضرة لا بدّ أن نشير إلى عدّة نقاط.

أوّلا : قد يتصور كثيرون أنّ من الأفضل أن تعود أموال الشخص بعد وفاته إلى الملكية العامّة ، وأن تضاف إلى بيت مال المسلمين ، ولكن الإمعان في هذا العمل يكشف لنا عن كونه خلاف العدل ، لأن مسألة الإرث والتوارث مسألة طبيعية منطقية جدا ، فكما أن الآباء والأمهات ينقلون قسما من صفاتهم الجسمية والروحية إلى أبنائهم ـ حسب قانون الوراثة الطبيعي ـ فلما ذا يستثنى من ذلك أموالهم فلا تنتقل إلى أبنائهم؟

هذا مضافا إلى أنّ الأموال المشروعة هي نتاج جهود الإنسان المضنية ، ومساعيه وأتعابه فهي في الحقيقة طاقاته المتجسدة في صورة المال وهيئة الثروة ، ولهذا لا بدّ من الاعتراف بأن كل شخص هو المالك الطبيعي لحاصل

١٢٥

جهوده وثمرة أتعابه ، وهذا هو حكم فطري.

وعلى هذا ، فعند ما يمتنع أن يتصرف الشخص في أمواله بعد وفاته ويحال بينه وبين ثروته بسبب الموت ، تصبح هذه الأموال من حق أقرب الناس إليه ، والذين يعتبرون ـ في الحقيقة ـ بشخصيتهم ووجودهم امتدادا لشخصيته ووجوده.

على هذا الأساس نجد الكثيرين لا يتركون الكد والعمل ، والكسب والتجارة حتى آخر لحظة من حياتهم رغم ما يملكون من ثراء طائل ، وذلك لبغية أن يوفروا لأبنائهم مستقبلا زاهرا ويقيموا لهم حياة سعيدة بعدهم ، وهذا يعني أن الإرث وقانون التوريث قادر على إعطاء العجلة الاقتصادية دفعة قوية ويزيد من حركتها ودورانها ونشاطها ، وأمّا إذا عرف الشخص أنّ أمواله بعد موته ، وامتناع تصرفه في تلك الأموال بسبب الوفاة تعود إلى الملكية العامة ، فإنّه قد يفقد قسطا كبيرا من نشاطه الاقتصادي ، ويصاب بالفتور والكسل.

ويشهد بهذا الأمر ما وقع في فرنسا قبل حين ، عند ما أقدم مجلس النواب الفرنسي ـ كما قيل ـ على إلغاء قانون الإرث قبل مدّة وأقرّ بدل ذلك إلحاق أموال الأشخاص بعد موتهم إلى خزانة الدولة ، وصيرورتها أموالا عامّة ، فتؤخذ من قبل الدولة وتصرف في المصارف العامّة بحيث لا يحصل ورثة الميت على أي شيء من التركة ، فكان لهذا القانون أثر سيء وظاهر على الحركة الاقتصادية ، فقد لوحظ اختلال كبير في أوضاع التصدير والاستيراد، كما خف النشاط الاقتصادي هناك بشكل ملحوظ ، فأقلق ذلك بال الحكومة ، وكان السبب الوحيد وراء هذه الحالة هو «إلغاء قانون الإرث» ممّا دفع بالدولة إلى إعادة النظر في هذا القرار.

وعلى هذا لا يمكن إنكار أن قانون الإرث ومبدأ التوريث مضافا إلى كونه قانونا طبيعيا فطريا ، له أثر قوي وعميق في تنشيط الحركة الاقتصادية.

١٢٦

الإرث في الأمم السابقة :

لما كان لقانون الإرث جذورا فطرية فإنّه شوهد وجود الإرث والتوريث في الشعوب والأمم السابقة في أشكال وصور مختلفة.

أمّا بين اليهود ـ وإن ادعى البعض عدم وجود مبدأ التوارث عندهم ـ ولكننا حينما نراجع التوراة نجدها تذكر هذا القانون في سفر الأعداد بصورة صريحة إذ يقول : وتكلم بني إسرائيل قائلا : أيّما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إلى ابنته ، وإن لم تكن له ابنة تعطوا ملكه لإخوته ، وإن لم يكن له أخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه ، وإن لم يكن لأبيه أخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاء كما أمر الرّب موسى(1) يدور لدى بني إسرائيل.

ويستفاد من هذه العبارات أنّ مبدأ التوارث كان على محور النسب فقط ، ولهذا لم يرد ذكر عن سهم الزوجة في الميراث.

وأمّا في الدين النصراني فالمفروض أن يكون مبدأ الإرث المذكور في التوراة معتبرا أيضا ، وذلك لما نقل عن المسيحعليه‌السلام من أنّه قال : «أنا لم أبعث لأغير من أحكام التوراة شيئا» ولهذا لا نجد في كتابات الفتاوى الدينية أي كلام حول الإرث ، نعم ورد في هذه الكتب بعض مشتقات الإرث في بعض الموارد ، ولكنها تعني جميعا الإرث المعنوي الأخروي.

هذا وقد كان التوارث لدى العرب الجاهليين يتحقق بإحدى هذه الطرق الثلاث :

1 ـ بالنسب ، وكان المقصود منه عندهم هم الأبناء الذكور والرجال خاصّة ، فلا يرث الصغار والنساء أبدا.

__________________

(1) سفر الأعداد الإصحاح السابع والعشرون : 8 ـ 11.

١٢٧

2 ـ بالتبني ، وهو من طرده أهله من الأبناء ، فتكفله وتبناه شخص آخر أو عائلة أخرى ، وفي هذه الصورة يتحقق التوارث بين المتبني والمتبني له.

3 ـ بالعهد ، يعني إذا تعاهد شخصان أن يدافع كل واحد منهما عن الآخر طيلة حياتهما ويرث أحدهما الآخر بعد وفاته ، فإنّه يقع التوارث بينهما بعد وفاة أحدهما.

وقد حرّر الإسلام قانون الإرث الطبيعي الفطري مما علق به من الخرافات ، ولحق به من رواسب التمييز العنصري الظالم الذي كان يفرق بين الرجل والمرأة حينا ، وبين الكبار والأطفال حينا آخر ، وجعل ملاك التوارث في ثلاثة أمور لم تكن معروفة إلى ذلك الحين :

1 ـ النّسب وذلك بمفهومه الوسيع ، وهم كل علاقة تنشأ بين الأشخاص بسبب الولادة في مختلف المستويات من دون فرق بين الرجال والنساء والصغار والكبار.

2 ـ السبب وهي العلاقات الناشئة بين الأفراد بسبب المصاهرة والتزاوج.

3 ـ الولاء وهي العلاقات الناشئة بين شخصين من غير طريق القرابة (السبب والنسب) مثل ولاء العتق ، يعني إذا أعتق رجل عبده ، ثمّ مات العبد وخلف من بعده مالا ولم يترك أحدا ممن يرثونه بالسبب أو النسب ، ورثه المعتق ، وفي هذا حيث على التحرير والإعتاق ، وكذلك ولاء ضمان الجريرة ، وهو أن يركن شخص إلى آخر ـ لا سبب بينهما ولا نسب ـ ويتعاهدان أن يضمن كل منهما جناية الآخر ويدافع كل منهما عن الآخر،ويكون إرث كل منهما للآخر ، و «ولاء الإمامة» يعنى إذا مات أحد ولم يترك من يرثونه ممن ذكر ورثه الإمامعليه‌السلام ، أي أن أمواله تنتقل إلى بيت المال الإسلامي ، وتصرف في شؤون المسلمين العامّة.

هذا ، ولكل واحدة من هذه الطبقات أحكام وشرائط خاصّة مذكورة في الكتب الفقهية المفصلة.

١٢٨

التّفسير

قال الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الأولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والأمهات) ، ومن البديهي أنّه لا رابطة أقوى وأقرب من رابطة الأبوة والبنوة ولهذا قدموا على بقية الورثة من الطبقات الاخرى.

ثمّ إنّ من الجدير بالاهتمام من ناحية التركيب اللفظي جعل الأنثى هي الملاك والأصل في تعيين سهم الرجل ، أي أن سهمها من الإرث هو الأصل ، وإرث الذكر هو الفرع الذي يعرف بالقياس على نصيب الأنثى من الإرث إذ يقول سبحانه :( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث ، حرمانا كاملا.

وأمّا فلسفة هذا التفاوت بين سهم الأنثى والذكر فذلك ما سنتعرض له عمّا قريب إن شاء الله.

ثمّ يقول سبحانه وتعالى :( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهن الثلثان أي قسم الثلثان بينهن.

ثمّ قال( وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.

وهاهنا سؤال :

القرآن يقول في هذا المجال «فوق اثنتين» أي لو كانت بنات الميت أكثر من بنتين استحققن ثلثي التركة يقسّم بينهن ، وهذا يعني أن القرآن ذكر حكم البنت الواحدة ، وحكم البنات فوق اثنتين ، وسكت عن حكم «البنتين» ، فلما ذا؟

١٢٩

الجواب :

بملاحظة المقطع الأوّل من الآية الحاضرة يتضح جواب هذا السؤال ، ونعني قوله تعالى:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، ولو إجمالا ، لأن ورثة الميت إن انحصروا في ابن واحد وبنت واحدة كان للابن الثلثان وللبنت الثلث ، فإذا كانتا بنتين كان لهما الثلثان حسب هذه العبارة.

وخلاصة القول : أنّه إذا قال للذكر مثل حظ الأنثيين وكان أوّل العدد ذكرا وأنثى وللذكر الثلثان وللأنثى الثلث ، علم من ذلك أن للبنتين الثلثين ، ولعل لوضوح هذا الأمر لم تتعرض الآية لبيانه (أي لذكر سهم الأختين) واكتفت بذكر سهم البنات المتعددات فوق اثنتين ، وهو الثلثان.

على أن هذا المطلب يتّضح أيضا بمراجعة الآية الأخيرة من سورة النساء ، لأنّها جعلت نصيب الأخت الواحدة النصف (مثل نصيب البنت الواحدة) ثمّ تقول :( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ ) فمن هذا يتضح أن سهم البنتين هو الثلثان أيضا.

هذا مضافا إلى ورود مثل هذا التعبير في الأدب العربي ، إذ يقول العرب أحيانا «فوق اثنتين» ويكون مرادهم هم «اثنتان فما فوق».

وبغض النظر عن كل ما قيل أنّ الحكم المذكور من الأحكام القطعية المسلمة من وجهة نظر الفقه الإسلامي والأحاديث الشريفة ، والرجوع إلى السنة المطهرة (أي الأحاديث) كفيل برفع أي إبهام في الجملة المذكورة إن كان.

لما ذا يرث الرّجل ضعف المرأة؟ :

مع أنّ ما يرثه الرجل هو ضعف ما ترثه المرأة ، إلّا أنّه بالإمعان والتأمل يتّضح أنّ المرأة ترث ـ في الحقيقة ـ ضعف ما يرثه الرجل إذا لا حظنا القضية من جانب آخر ، وهذا إنّما هو لأجل ما يوليه الإسلام من حماية لحقوق المرأة.

توضيح ذلك : إن هناك وظائف أنيطت بالرجل (وبالأحرى كلّف بأدائها تجاه

١٣٠

المرأة) تقتضي صرف وإنفاق نصف ما يحصل عليه الرجل على المرأة ، في حين لا يجب على المرأة أي شيء من هذا القبيل.

إنّ على الرجل (الزوج) أن يتكفل نفقات زوجته حسب حاجتها من المسكن والملبس والمأكل والمشرب وغير ذلك من لوازم الحياة كما أن عليه أن ينفق على أولاده الصغار أيضا ، في حين أعفيت المرأة من الإنفاق حتى على نفسها ، وعلى هذا يكون في إمكان المرأة تدخر كل ما تحصله عن طريق الإرث ، وتكون نتيجة ذلك أن الرجل يصرف وينفق نصف مدخوله على المرأة ، ونصفه فقط على نفسه ، في حين يبقى سهم المرأة من الإرث باقيا على حاله.

ولمزيد من التوضيح نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي : لنفترض أنّ مجموع الثروات الموجودة في العالم والتي تقسم تدريجا ـ عن طريق الإرث ـ بين الذكور والإناث هو (30) ميليارد دينار ، والآن فلنحاسب مجموع ما يحصل عليه الرجال ونقيسه بمجموع ما تحصل عليه النساء عن طريق الإرث.

فلنفترض أن عدد الرجال والنساء متساو فتكون حصة الرجال هو (20) ميلياردا ، وحصة النساء هي (10) ميلياردات.

وحيث أن النساء يتزوجن ـ غالبا ـ فإن الإنفاق عليهنّ يكون من واجب الرجال ، وهذا يعني أن تحتفظ النساء ب (10) ميلياردات (وهو سهمهنّ من الإرث) ، ويشاركن الرجال في العشرين ميلياردا ، لأن على الرجال أن يصرفوا من سهمهم على زوجاتهم وأطفالهم.

وعلى هذا يصرف الرجال (10) ميلياردات على النساء (وهو نصف سهمهم من الإرث) فيكون مجموع ما تحصل عليه النساء ويملكنه هو (20) ميلياردا وهو ثلثا الثروة العالمية في حين لا يعود من الثروة العالمية على الرجال إلّا (10) ميلياردات ، أي ثلث الثروة العالمية (وهو المقدار الذي يصرفه الرجال على أنفسهم).

١٣١

وتكون النتيجة أنّ سهم المرأة التي تصرفه وتستفيد منه وتتملكه واقعا هو ضعف سهم الرجل ، وهذا التفاوت إنّما لكونهنّ أضعف من الرجال على كسب الثروة وتحصيلها (بالجهد والعمل) ، وهذا ـ في حقيقته ـ حماية منطقية وعادلة قام بها الإسلام للمرأة ، وهكذا يتبيّن أنّ سهمها الحقيقي أكثر ـ في النظام الإسلامي ـ وإن كان في الظاهر هو النصف.

ومن حسن الصدف أنّنا نقف على هذه النقطة إذا راجعنا التراث الإسلامي حيث أنّ هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإسلام وخالج بعض الأذهان ، فكان الناس يسألون أئمّة الدين عن سرّ ذلك بين حين وآخر ، وكانوا يحصلون على إجابات متشابهة في مضمونها ـ على الأغلب ـ وهو أن الله إذ كلف الرجال بالإنفاق على النساء وأمهارهنّ،جعل سهمهم أكثر من سهمهنّ.

إن أبا الحسن الرضاعليه‌السلام كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله علّة إعطاء النساء نصف ما يعطي الرجال من الميراث : لأن المرأة إذا تزوجت أخذت ، والرجل يعطي ، فلذلك وفرّ على الرجال ، وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثل ما يعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت ، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها ، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفرّ على الرجال لذلك(1) .

إرث الأب والأمّ :

وأمّا ميراث الآباء والأمهات الذين هم من الطبقة الأولى ، وفي مصاف الأبناء أيضا،فإن له كما ذكرت الآية الحاضرة (أي الآية الأولى من هذه المجموعة) ثلاث حالات هي:

الحالة الأولى : إنّ الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد ، ورث كل من الأب

__________________

(1) البرهان ، ج 1 ، ص 347.

١٣٢

والأمّ السدس :( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) .

الحالة الثّانية : إن لم يكن للمتوفى ولد ، وانحصر ورثته في الأب والأمّ ، ورثت الأمّ ثلث ما ترك ، يقول سبحانه :( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) وإذا كنّا لا نجد هنا أي ذكر عن سهم الأب فلان سهمه واضح وبيّن وهو الثلثان ، هذا مضافا إلى أنّه قد يخلف الميت زوجة فينقص في هذه الصورة من سهم الأب دون سهم الأم ، وبذلك يكون سهم الأب متغيّرا في الحالة الثانية.

الحالة الثالثة : إذا ترك الميت أبا وأمّا وأخوة من أبويه أو من أبيه فقط ، ولم يترك أولادا، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الأم إلى السدس ، وذلك لأن الأخوة يحجبون الأم عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون ، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب،وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه :( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) .

وفلسفة هذا الحكم واضحة ، إذ وجود أخوة للميت يثقل كاهل الأب ، لأن على الأب الإنفاق على أخوة الميت حتى يكبروا ، بل عليه أيضا أن ينفق عليهم بعد أن يكبروا،ولهذا يوجب وجود أخوة للميت من الأبوين أو من الأب خاصّة تدني سهم الأمّ ، ولا يوجب تدني سهم الأب ، ولا يحجبونها عن إرث ما زاد على السدس إذا كانوا من ناحية الأمّ خاصّة ، إذ لا يجب لهم على والد الميت شيء من النفقات. كما هو واضح.

سؤال :

ويرد هنا سؤال ، وهو أن القرآن استعمل في المقام صيغة الجمع إذ قال :( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) ونحن نعلم أن أقل الجمع هو ثلاثة ، في حين يذهب جميع الفقهاء إلى أن الأخوين يحجبان أيضا ، فكيف التوفيق بينهما؟

الجواب :

إنّ الجواب يتّضح من مراجعة الآيات القرآنية الاخرى ، وإذ لا يلزم أن يكون

١٣٣

المراد كلّما استعملت صيغة الجمع ، الثلاثة فما فوق ، بل استعملت أحيانا على شخصين فقط كما في الآية (78) من سورة الأنبياء( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) .

والآية ترتبط بقضاء داود وسليمان ، وقد استخدم القرآن الكريم ضمير الجمع في شأنهما ، فقال «لحكمهم».

ومن هنا يتّضح أنّه قد تستعمل صيغة الجمع في شخصين أيضا ، ولكن هذا يحتاج طبعا إلى قرينة وشاهد ، والشاهد في المقام هو ورود الدليل من أئمّة الدين على ذلك ، وإجماع المسلمين ، إذ أجمع فقهاء المسلمين سنة وشيعة (إلّا ابن عباس) إن الحكم المذكور في الآية يشمل الأخوين أيضا.

الإرث بعد الوصية والدّين :

ثمّ إنّ الله سبحانه يقول :( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) فلا بدّ من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته ، أو أداء ما عليه من دين أوّلا ، ثمّ تقسيم البقية بين الورثة.

(وقد ذكرنا في باب الوصية أنّ لكل أحد أن يوصى بأمور في مجال الثلث الخاص به فقط ، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلّا أن يأذن الورثة بذلك).

ثمّ قال سبحانه :( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) وهذه العبارة تفيد أن قانون الإرث المذكور قد أرسى على أساس متين من المصالح الواقعية ، وأن تشخيص هذه المصالح بيد الله ، لأن الإنسان يعجز عن تشخيص مصالحه ومفاسده جميعا ، فمن الممكن أن يظن البعض أنّ الآباء والأمهات أكثر نفعا لهم ، ولذلك فهم أولى بالإرث من الأبناء وإن عليه أن يقدمهم عليهم ، ومن الممكن أن يظن آخرون العكس ، ولو كان أمر الإرث وقسمته متروكا إلى الناس لذهبوا في ذلك ألف مذهب ، ولآل الأمر إلى الهرج والمرج والفوضى ، وانتهى إلى الاختلاف والتشاجر ، ولكن الله الذي يعلم بحقائق الأمور كما هي أقام قانون

١٣٤

الإرث على نظام ثابت يكفل خير البشرية ويتضمّن صلاحها

ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر من الأمور ، ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد ، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش ، يقول سبحانه :( فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث.

سهم الأزواج بعضهم من بعض :

في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والأمهات ، وفي الآية التي تليها يقول الله سبحانه :( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ) ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض ، فإن الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد ، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط ، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية :( فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ) .

على أن هذا التقسيم يجب أن يتمّ بعد تنفيذ وصايا المتوفاة ، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه :( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .

وأمّا إرث الزوجة مما يتركه الزوج ، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من زوجة أخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه :( فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ) .

ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه :( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ) .

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ أيضا من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة :( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .

والملفت للنظر في المقام هو انخفاض سهام الأزواج إلى النصف إذا كان

١٣٥

للميت ولد ، وذلك رعاية لحال الأولاد.

وأمّا العلّة لكون سهم الأزواج ضعف سهم الزوجات فهي ما ذكرناه في البحث السابق حول علّة الفرق بين سهم الذكر والأنثى.

ثمّ إنّ هاهنا نقطة مهمة يجب التنبيه إليها أيضا ، وهي أنّ السهم المعين للنساء (سواء الربع أو الثمن) خاص بمن ترك زوجة واحدة فقط (فإنّها ترث كل الربع أو كل الثمن) وأمّا إذا ترك الميت زوجات متعددة قسم ذلك السهم (الربع أو الثمن) بينهن بالتساوي ، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية مورد البحث أيضا.

إرث أخوة الميت وأخواته :

ثمّ أنّه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض ، يعمد إلى ذكر أسهم أخوة الميت وأخواته فيقول :( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) .

وفي هذه العبارة نواجه مصطلحا جديدا ورد في موضعين من القرآن فقط ، أحدهما،في الآية المبحوثة هنا ، والثاني ، في آخر آية من سورة النساء وهي كلمة «كلالة».

إنّ ما يستفاد من كتب اللغة هو اشتقاق كلالة من الكلال ، وهو ذهاب القوّة ، فقد جاء في صحاح اللغة : الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة.

ولكنّها استعملت في ما بعد في أخوة الميت وأخواته الذين يرثونه ، ولعل التشابه بين المعنى الأوّل والثّاني هو أن الأخوة والأخوات يعتبرون من الطبقة الثانية في طبقات الإرث،وهم لا يرثون إلّا مع عدم وجود الأب والأمّ والأولاد للميت ومثل هذا الفاقد للأب والأم والأبناء لا بدّ أن يعاني من الضعف الشديد ، وذهاب القوّة ، ولهذا قيل له كلالة ، قال الراغب في كتابه المفردات : «الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة».

١٣٦

وروي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الكلالة ، فقال : من مات وليس له ولد ولا والد،فجعله اسما للميت ، كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا.

وأمّا تعبير القرآن الكريم عن أخوة الميت وأخواته بالكلالة فلعله لأنّ على أمثال هؤلاء ممن عدموا الآباء والأمهات والأولاد أن يعلموا أن أموالهم ستقع من بعدهم في أيدي من يمثلون ضعفه ، ويدلون على ذهاب قوتهم ، ولذلك ينبغي لهم أن يصرفوها في مواضع أكثر ضرورة ولزوما ، وينفقونها في سبيل المحتاجين وفي حفظ المصالح العامّة.

عودة إلى تفسير الآية :

يقول الله سبحانه تعالى :( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) أي إن مات رجل ولم يترك إلّا أخا أو أختا ، أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو أخت ، يورث كل منهما السدس من التركة ، هذا إذا كان الوارث أخا واحدا وأختا واحدة.

أمّا إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثا واحدا ، أي قسم مجموع الثلث بينهم :( فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) .

ثمّ أضاف القرآن :( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ) أي تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى ، أو يسددوا ما عليه من ديون ، ثمّ قال :( غَيْرَ مُضَارٍّ ) أي فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرّا بالورثة ، أي أن لا يكون أكثر من الثلث ، لأن تجاوز الوصية أو الدين عن حد الثلث إضرار ، كما أنّه يتوقف إمضاء الزائد على الثلث على إذن الورثة ورضاهم بذلك ، أو أن يخبر الميت عن ديون كذبا ، ليحرم ورثته عن الإرث ويضرّ بهم ، كما نصت على ذلك روايات كثيرة مروية عن رسول

١٣٧

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام .

ثمّ أنّه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول :( وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) أي أنّ هذا المطلب وصية من الله يجب أن تحترموها ، لأنّه العالم بمصلحتكم وخيركم ، فهو أمركم بهذا عن حكمة ، كما أنّه تعالى عالم بنيات الأوصياء ، هذا مع أنّه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فورا ، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.

بحوث أخرى عند هذه الآية :

هذا وتجب والإشارة ـ هنا ـ إلى عدّة أمور :

1 ـ إنّ ما ورد في الآية السابقة حول إرث الأخوة والأخوات وإن كان في ظاهره مطلقا يشمل الأخوة والأخوات من الأبوين أو من الأب وحده أو من الأم وحدها ، إلّا أنّه بملاحظة آخر آية من سورة النساء (التي يأتي تفسيرها قريبا) يتّضح أنّ المراد ـ هنا ـ هو الأخوة والأخوات من جانب الأم فقط (أي الذين ينتسبون إلى الميت من جانب الأم فقط)، في حين أنّ المقصود في الآية الأخيرة من السورة هو الأخوة والأخوات من جانب الأبوين أو من جانب الأب خاصّة (سنتعرض لذكر الأدلة على هذا الأمر عند تفسير الآية الأخيرة من هذه السورة إن شاء الله).

وعلى هذا الأساس فإن الآيتين وإن كانتا حول إرث «الكلالة» (أي أخوة الميت وأخواته) ويبدو للنظر تعارض الآيتين ، إلّا أن التدبر والإمعان في مضمون الآيتين يكشف لنا أنّ كل واحدة منهما تقصد طائفة خاصّة من أخوة الميت وأخواته ، وأنّه لا تعارض بين مفاد الآيتين أبدا.

2 ـ من الواضح أن هذه الطبقة لا ترث إلا عند فقدان الطبقة الأولى (وهو الأب والأم ، والأولاد) مطلقا ، ويدل على ذلك قوله تعالى :( وَأُولُوا الْأَرْحامِ

١٣٨

بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) (1) كما تدل عليه روايات متظافرة وردت في هذا الصعيد تعين طبقات الإرث ، وترجح بعضها على البعض الآخر.

3 ـ إنّ لفظة( فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) تفيد أن أخوة الميت وأخواته أي «الكلالة» إن كانوا أكثر من أخ وأخت يقتسمون الثلث فيما بينهم بالتساوي ، من دون فرق بين الذكور والإناث ، لأنّ المفهوم من «الشركاء في الثلث» هو تساوي الأسهم.

4 ـ يستفاد من الآية المبحوثة أنّه لا يحق للإنسان أن يعترف بديون ـ كذبا ـ ليضرّ بالورثة ويضيع حقوقهم ويحرمهم من إرثه ، أنّه يجب عليه فقط أن يعترف ـ في آخر فرصة من حياته ـ بما عليه من الديون واقعا ، كما له أن يوصي بوصايا عادلة عبّر عنها في الروايات بأن تكون في حد «الثلث» وإطاره.

فقد وردت في روايات الأئمّةعليهم‌السلام ـ في هذا الصعيد ـ عبارات شديدة النكير على من يوصي بوصايا مضرّة بالورثة منها قولهم : «إنّ الضرار في الوصية من الكبائر»(2) .

إنّ الإسلام الحنيف بسنّه لهذا القانون يكون قد حفظ للميت نفسه شيئا من الحق في مسألة ، إذ يهيئ له إمكانية الاستفادة والانتفاع بمقدار الثلث ، كما حفظ حقوق الورثة أيضا حتى لا ينشأ في أفئدتهم أية ضغينة ، وحتى لا تتزعزع وشائج المودّة وروابط القربى التي يجب أن تستمر بعد وفاة المورث.

* * *

__________________

(1) الأنفال ، 75.

(2) مجمع البيان.

١٣٩

الآيتان

( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) )

التّفسير

«الحدود» جمع حدّ ، ويعني في أصل اللّغة لمنع ، ثمّ اطلق على كلّ حائل وحاجز بين شيئين يفصل بينهما ويميز ، فحدّ البيت والبستان والدّولة يراد منه الموضع الذي يفصل هذه النقطة عن غيرها من النقاط الاخرى.

هذا ولقد بدأت الآية الأولى من هاتين الآيتين بالإشارة إلى قوانين الإرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة «تلك» إذ قال سبحانه :( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ) أي تلك حدود الله التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد ، فإن من تعدى هذه الحدود كان عاصيا مذنبا.

وقد وردت هذه العبارة( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ) في مواضع عديدة من القرآن الكريم،وقد جاءت دائما بعد ذكر سلسلة من الأحكام والقوانين والمقررات الاجتماعية ، ففي الآية 187 من سورة البقرة مثلا تأتي هذه العبارة بعد الإعلان

١٤٠