الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل2%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173341 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الاعتكاف ، وبعد ذكر سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصوم ، كما جاءت في الآيات (٢٢٩ و ٢٣٠) من سورة البقرة ، والآية (١٠) من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق ، وفي الآية (٤) من سورة المجادلة بعد بيان كفارة «الظهار».

وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين منع من تجاوزها ، ولهذا وصفت بكونها «حدود الله»(١) .

ثمّ بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) ، وهو بذلك يشير إلى النّتيجة الأخروية للالتزام بحدود الله واحترامها ، ثمّ يصف هذه النتيجة الأخروية بقوله :( وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

ثمّ يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية ، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ) .

على أنّنا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب الأبدي في النار ، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإنكار لآيات الله ، وفي الحقيقة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يستبعد هذا المعنى إذا لا حظنا أن «حدود» جمع ، وهو مشعر بأن يكون التعدي شاملا لجميع الحدود والأحكام الإلهية ، لأن الذي يتجاهل كل القوانين الإلهية لا يؤمن بالله عادة ، وإلّا فإنّه يحترم ولو بعضها ـ على الأقل.

إنّ الملفت للنظر في الآية السابقة أنّ الله تعالى عبّر عن أهل الجنّة بصيغة الجمع حيث قال تعالى :( خالِدِينَ فِيها ) بينما عبر عن أهل النّار بصيغة المفرد

__________________

(١) لقد مرّ حول «حدود الله» وتفسيره بحث أكثر تفصيلا في المجلد الثاني من هذا التّفسير.

١٤١

حيث قال( خالِداً فِيها ) .

إنّ هذا التفاوت في التعبير ـ في الآيتين المتلاحقتين ـ شاهد واضح على أن لأهل الجنّة اجتماعات (أو بعبارة أخرى أنّ هناك حالة اجتماعية بين أهل الجنّة ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنّة ، ينعم بها ساكنوها وأصحابها ، بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفا عن هذا ، فكل واحد من أهل النار مشغول بنفسه ـ لما فيه من العذاب ـ بحيث لا يلتفت إلى غيره ، ولا يفكر فيه ، بل هو مهتم بنفسه ، يعمل لوحده،وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي والموقف ، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل ، في هذه الدنيا أيضا ، فالفريق الأول يمثل أهل جهنم ، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنّة.

ميزات قانون الإرث الإسلامي :

في قانون الإرث عموما ، وفي نظام الإرث الإسلامي خاصّة مزايا نشير إلى قسم منها في ما يلي :

١ ـ في نظام الإرث الإسلامي ، وفي ضوء ما أقرّ من الطبقات للورثة لا يحرم أي واحد من أقرباء المتوفى من الإرث ، فليس في الإسلام ما كان متعارفا (أو لا يزال) عند العرب الجاهليين ، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان النساء والأطفال من الإرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في الحروب وما شاكل ذلك ، بل يشمل نظام الإرث الإسلامي كل من يمتّ إلى المتوفى بوشيجة القربى.

٢ ـ يلبي هذا النظام الحاجات الإنسانية الفطرية والمشروعة ، لأنّ كل إنسان من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كدّه وكدحه بيد من يعتبره امتدادا لوجوده وشخصيته ، ولهذا يكون سهم الأبناء ـ حسب هذا النظام ـ أكثر من سهام غيرهم ، في حين تكون سهام الآباء والأمهات وغيرهم من

١٤٢

الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاما وأنصبة محترمة وجديرة بالاهتمام أيضا.

٣ ـ إنّ هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من الفعالية في سبيل تحصيل الثروة ، وتشغيل عجلة الإقتصاد.

وذلك لأنّ الإنسان إذا عرف أنّ نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه طوال حياته ستنتقل إلى من يحبّهم ويودّهم ، فإنّه يتشجع على المزيد من العمل والنشاط مهما كان عمره وسنه ، ومهما كانت ظروفه وملابساته ، وبهذا لا يحدث أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقا.

وقد أشرنا في ما مضى ـ كيف أنّ إلغاء قانون الإرث والتوارث في بعض البلاد،وتأميم أموال الموتى ، وحيازتها من قبل الدولة أدى إلى آثار سيئة في المجال الاقتصادي ، وظهر في صورة ركود اقتصادي مخيف دفع بالدولة إلى إعادة النظر في إلغاء قانون الإرث وحذفه.

٤ ـ إنّ قانون الإرث الإسلامي يمنع من تراكم الثّروة ، لأنّ هذا النظام يقضي بتقسيم الثّروة ـ بعد كلّ جيل ـ بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة ، وهذا ممّا يساعد على تفتيت الثروة ، كما يساعد على التوزيع العادل لها.

هذا والجدير بالاهتمام أنّ هذا التقسيم لا يعاني ممّا تعاني منه بعض الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة ، والتي ترافق غالبا سلسلة من المضاعفات والآلام الاجتماعية السيئة ، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع برحمته ، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.

٥ ـ إنّ الأسهم والأنصبة في قانون الإرث الإسلامي لم تنظم على أساس الارتباط والانتساب إلى المتوفى برابطة النسب خاصّة ، بل على أساس الحاجات الواقعية عند الورثة،فإذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما ترثه الإناث ، أو يرث الأب ـ في بعض الموارد ـ أكثر من الأمّ ، فهو لأجل أنّ الرجال يتحملون مسئولية مالية أكبر في النظام الإسلامي ، ولأنّ عليهم أن

١٤٣

يتحملوا الإنفاق على زوجاتهم وعوائلهم ، ولهذا لا بدّ أن يسهم لهم ـ في الإرث ـ أكثر من الإناث.

ما هو العول ، وما هو التعصيب؟ :

في كتاب الإرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان «العول» ، والآخر تحت عنوان «التعصيب» وهما حالتان تعرضان لمسألة الإرث عند ما تكون الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحيانا ، أو أكثر أحيانا أخرى.

وللمثال نقول : إذا ترك الميت أختين من جانب الأب والأمّ ، وزوجا ، ورثت الأختان ثلثي المال وورث الزوج النصف ، فيكون المجموع ٦ أي بزيادة ٦ على مجموع المال،وهنا يطرح السؤال التالي وهو : ننقص هذا السدس الزائد ٦ من جميع الورثة ـ حسب سهامهم ـ وبصورة عادلة ، أم يجب أن تنقص من نصيب أشخاص معينين خاصّة؟

المعروف عن علماء السنة أنّهم يذهبون إلى إدخال النقص على جميع الورثة ، وسمّى الفقهاء هذا القسم عولا ، لأن العول يعني في اللغة الارتفاع والزيادة.

ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة : إنّ السدس الزائد يجب أن يقسم على الجميع ، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه(١) ، وهكذا يكون العمل في الموارد الاخرى ، وفي الحقيقة ينزل الورثة ـ هنا ـ منزلة الغرماء الذين لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعا وبصورة كاملة ، فهنا يدخل النقص

__________________

(١) فتكون طريقة الحساب هنا هي أنّنا يجب أن ننقص ٦ / ١ من سهم الأختين الذي هو ٦ / ٤ وسهم الزوج الذي هو ٦ / ٣ بمقدار أسهمهم أي نقسم ٦ / ١ على ٧ أقسام فننقص من سهم الأختين بمقدار ٤ ، ومن الزوج بمقدار ٣ ، وذلك طبقا لقانون «الإسهام بالنسبة» المذكورة في الرياضيات فتكون النتيجة أنه ينقص من سهم الأختين بمقدار ٤٢ / ٤ ومن سهم الزوج بمقدار ٤٢ / ٣.

١٤٤

على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهبا آخر ، فهم يدخلون النقص على أشخاص معنيين ، لا على جميع الورثة.

فهم في المثال الحاضر ، مثلا يدخلون النقص على الأختين ، ويقولون كما جاء في حديث شريف : «إن الذي أحصى رمل عالج ـ أي المتراكم من الرمل الداخل بعضه في بعض ـ ليعلم أن السهام لا تعول» أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول إلى الكسر ، فلا بدّ أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانونا ، وذلك هو أن بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر كالزوج والزوجة والأب والأمّ ، ومن ليس سهم كذلك كالأختين والبنتين ، ومن هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائما على من ليس له سهم محدد في جانب القلّة أو الكثرة (أي الذي ليس له حدّ أقل أو حدّ أكثر معين) أي الذي يكون عرضة للتغير والاضطراب ، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج ، فهو يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول ، وإنّما يدخل النقص على سهم الأختين فقط (فلا حظ ذلك بدقّة).

وقد يكون مجموع الأسهم أقلّ من مجموع المال ـ فيفضل شيء من المال بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه.

فمثلا إذا توفي رجلا وخلف بنتا واحدة وأمّا ، فإن سهم الأم هو ٦/١ وسهم البنت هو ٦/٣ فيكون مجموع الأسهم هو ٦/٤ أي يفصل ٦/٢ من المال ، في هذه الصورة يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إلى إعطاء هذا الفاضل من التركة إلى عصبة الميت(١) وهم رجال الطبقة الثانية من الإرث (كالأخوة) ويسمى هذا القسم بالتعصيب.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إلى أنّ ذلك الفاضل يجب أن يقسّم بين الوارثين

__________________

(١) العصبة هم الرجال الذين ينتسبون إلى الميت بلا واسطة كالأخوة.

١٤٥

المذكورين أي بنسبة ١ و ٣ ، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إلى الطبقة اللاحقة ، هذا مضافا إلى أن إعطاء الفاضل من التركة إلى رجال الطبقة اللاحقة يشبه ما كان سائدا في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإرث.

هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة ، وقد أعطينا هنا خلاصة موضحة منه تبعا للحاجة ، وأما التفصيل فموكول إلى محله في الكتب الفقهية المفصّلة.

* * *

١٤٦

الآيتان

( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) )

التّفسير

تعني لفظة «الفاحشة» حسب اللّغة : العمل أو القول القبيح جدّا ـ كما أسلفنا ـ ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد ، وقد وردت هذه اللفظة في (١٣) موردا من القرآن الكريم، وقد استعملت تارة في «الزّنا» وأخرى في «اللواط» وتارة في الأفعال الشديدة القبح على العموم.

والآية الأولى ـ من هاتين الآيتين ـ تشير كما فهم أكثر المفسرين ـ إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول :( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) .

وما يدل على أنّ الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة ـ مضافا إلى القرينة

١٤٧

المذكورة في الآية اللاحقة ـ التعبير بـ «من نسائكم» أي زوجاتكم ، لأنّ التعبير بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.

ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله :( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) فإذن لا بدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهنّ إلى الأبد حتى يأتي أجلهنّ ، أو يعين لهنّ قانون جديد من جانب الله سبحانه.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت ، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنّه سوف ينزل في حقهنّ قانون جديد ، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك) حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهنّ ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبدا) من ذلك السجن إذا كن على قيد الحياة طبعا ، ولا يشملهنّ حكم جزائي آخر ، وليس الخلاص من السجن إلّا بسبب إلغاء الحكم السابق ، وأما عدم شمول الحكم الجديد لهنّ فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه ، وبهذا يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد ـ مهما كان ـ سببا لنجاة هذه السجينات ، على أنّ هذا الحكم الجديد يشمل حتما كل الذين سيرتكبون هذا المنكر في ما بعد. (فلا حظ بدقّة هذه النقطة).

وأمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من قوله تعالى :( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) هو أنّ الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد ، يجعل وبذلك سيكون للسجينات سبيلا إلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن ، فهو احتمال مردود ، لأنّ لفظة «لهنّ سبيلا» لا تتلاءم أبدا مع مسألة الأعدام ، فعبارة «لهنّ» تعني ما يكون نافع لهنّ وليس الاعدام سبيلا لنجاتهنّ ، والحكم الذي قرّره الله في الإسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعا،وإن لم ترد في القرآن الكريم

١٤٨

أية إشارة إليها).

من كلّ ما قلناه اتّضح أنّ الآية الحاضرة لم تنسخ قط ، لأنّ النسخ إنّما يكون في الأحكام التي تردّ مطلقة من أوّل الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك ، والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثّاني ، أي أنّه حكم مؤقت محدود ، وما نجده في بعض الرّوايات من التصريح بأنّ الآية الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة ، فالمراد منه ليس هو النسخ المصطلح ، لأنّ النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق على كل تقييد وتخصيص (فلا حظ ذلك بدقّة وعناية).

ثمّ لا بدّ من الالتفات إلى ناحية مهمّة ، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من النساء في «البيوت» من صالحهن من بعض الجهات ، لأنّه أفضل ـ بكثير ـ من سجنهن في السجون العامّة المتعارفة ، هذا مضافا إلى أن التجربة قد دلّت أن للسجون والمتعقلات العامّة أثرا سيئا وعميقا في إفساد المجتمع ، إذ أنّ هذه المراكز تتحول ـ شيئا فشيئا ـ إلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها ـ من خلال المعاشرة واللقاء وفي سعة من الوقت وفراغ من الشغل ـ تجاربهم في الجريمة.

ثمّ أنّ الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن إحصان إذ يقول :( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا».

والآية وإن كانت لا تذكر قيد «عدم الإحصان» ، صراحة ، إلّا أنّها حيث جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة ، أستفيد منها إنها واردة في حق الزنا عن غير إحصان، وإنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير

١٤٩

المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة ، وبالتالي حيث أن الآية السابقة اختصّت ـ بالقرينة التي ذكرت ـ بالزانية المحصنة استنتجنا أنّ هذه الآية تبيّن حكم الزنا عن غير إحصان.

كما أنّ هناك نقطة واضحة أيضا ، وهي أنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية ، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أن حدّ الزنا هو (١٠٠) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيرا وتوضيحا لهذه الآية وتعيينا للحكم الوارد فيها ، ولهذا لا يكون هذا الحكم منسوخا أيضا.

ففي تفسير العياشي روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما».

وعلى هذا يكون المراد من «اللذان» ـ وإن كان للإشارة إلى مثنى مذكر ـ هو الرجل والمرأة أي من باب التغلب.

هذا وقد احتمل جماعة من المفسرين أن يكون الحكم الوارد في هذه الآية واردا في مجال «اللواط» واعتبروا الحكم في الآية السابقة واردا في مجال «المساحقة» ، ولكن رجوع الضمير في «يأتيانها» إلى «الفاحشة» في الآية السابقة يفيد أن العمل المستلزم لهذا الحكم الصارم في هذه الآية هو من نوع العمل المذكور في الآية السابقة لا من نوع آخر،ولهذا فإن اعتبار أنّ هذه الآية واردة في شأن اللوط ، والآية السابقة واردة في شأن المساحقة خلاف الظاهر ، (وإن كان كلا العملين اللواط والمساحقة يشتركان في عنوان كلي، وهو الميل إلى الجنس الموافق) وعلى هذا تكون كلتا الآيتين واردتين في حدّ الزنا وحكمه.

هذا مضافا إلى أننا نعلم أنّ عقوبة «اللواط» في الإسلام هو القتل والإعدام وليست الإيذاء والجلد ، وليس ثمّة أي دليل على انتساخ الحكم المذكور في الآية الحاضرة.

ثمّ إنّ الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل

١٥٠

هؤلاء العصاة ، فيقول :( فَإِنْ تابا ، وَأَصْلَحا ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) .

وهذا التعليم هو في الحقيقة يفتح طريق العودة ويرسم خط الرجعة لمثل هؤلاء العصاة،فإن على المجتمع الإسلامي أن يحتضن هؤلاء إذا تابوا ورجعوا إلى الطهر والصواب وأصلحوا،ولن يطردوا من المجتمع بعد هذا بحجّة الفساد والانحراف.

هذا ويستفاد من هذا الحكم أيضا ـ أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة ، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة ، فإذا كان الحكم الشرعي والعقوبة الإلهية يسقطان بسبب التوبة والإنابة ، فإنّ من الأولى أن يغض الناس الطرف عن سوابقهم ، وهذا بنفسه جار في من نفذ فيه الحدّ الشرعي ثمّ تاب بعد ذلك ، فإنّه يجب أن تشمله مغفرة المسلمين وعفوهم.

العقوبات الإسلامية السهل الممتنع :

قد يتساءل البعض أحيانا : لما ذا قرر الإسلام عقوبات صارمة ، وأحكاما جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا : لما ذا حكم بالحبس الأبدي أوّلا على الزانية عن إحصان ، ثمّ قرّر الحكم القتل والإعدام في شأنهما في ما بعد ، ألم يكن من الأفضل أن يتّخذ الإسلام موقفا أكثر تسامحا ولينا تجاه هذه الأفعال ، لتتعادل الجريمة والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟

غير أنّ العقوبات الإسلامية وإن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة ، إلّا أنّ إثبات الجريمة في الإسلام في المقام ليس سهلا ، أيضا فقد عين الإسلام وحدد لإثبات الجريمة شروطا لا تثبت ـ في الأغلب ـ إلّا إذا وقعت الجريمة علنا.

١٥١

فمثلا : تصعيد عدد الشهود في الزنا إلى الأربعة ـ كما في الآية الحاضرة ـ من الأمور الصعبة جدّا بحيث لا يثبت بها إلّا من كان مجرما جسورا جدّا ، ولا شك أن مثل هؤلاء لا بدّ أن ينالوا عقابا ثقيلا وقاسيا ليعتبر بهم الآخرون ، فتطهر بذلك البيئة الاجتماعية من لوث الفساد والانحراف والتورط في الجريمة ، كما أن المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها ، وعدم الاكتفاء بالقرائن ، ومثل الاتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إثبات الجريمة أصعب جدّا.

وبهذا الطريق جعل الإسلام احتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين ، وهو احتمال مهما كان ضعيفا من شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص ، وكبح جماحهم ، وأمّا الدقّة في كيفية إثبات هذه الجريمة ، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة ، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها على أقل الموارد ، وفي الحقيقة أراد الإسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا القانون الجزائي من دون أن يعرض أفرادا كثيرين لعقوبة الإعدام من جانب آخر.

ونتيجة ذلك هي أنّ هذا الأسلوب الإسلامي في تعيين العقوبة وطريق إثبات الجريمة من أكثر الأساليب تأثيرا ونجاحا في خلاص المجتمع من التورط في الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون ، وبهذا نصف هذا الأسلوب بالأسلوب «السهل الممتنع».

* * *

١٥٢

الآيتان

( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) )

التّفسير

شرائط قبول التوبة :

في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إذا تابوا وأصلحوا ، ثمّ عقب ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) مشيرا بذلك إلى قبول التوبة من جانب الله أيضا.

وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) .

وهنا يجب أن نرى ما ذا تعني «الجهالة» هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية ، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟

١٥٣

إنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معان مختلفة ، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز ، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان ، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية ، إلّا أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة ، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره ، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.

وأمّا إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة ، بل كان عن إنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء ، فإن ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر ، ولهذا لا تقبل التوبة منه ، إلّا أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإنكاره وتمرده.

وفي الحقيقة إنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإمام السجادعليه‌السلام في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إذ يقول : «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي».

ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول :( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) .

هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من «قريب» فقد ذهب كثيرون إلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه ، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة ، ويشير إلى أن التوبة لا تقبل إذ ظهرت علامات الموت.

ولعل استعمال لفظة «قريب» إنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.

ولكن بعض المفسرين ذهب إلى تفسير لفظة «من قريب» بالزمان القريب من وقت حصول المعصية ، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا ، ويندموا على ما فعلوه

١٥٤

بسرعة ، ويتوبوا إلى الله ، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب ، ولا يمكن هذا إلّا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها ، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية ، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإنسانية ، وتعشعش في خلايا قلبه ، فالتوبة الكاملة ـ إذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت،ولفظة «قريب» أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.

صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا ، إلّا أنّها ليست التوبة الكاملة ، ولعل التعبير بجملة «على الله» (أي على الله قبولها) كذلك إشارة إلى هذا المعنى ، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم ، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد ، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقا.

ثمّ أنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول :( فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) مشيرا بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثمّ يقول تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) وهو إشارة إلى من لا تقبل توبته.

وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة ، لأن الإنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار ، فيرى ما لم يكن يراه من قبل ، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر ، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا ، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة

١٥٥

محسوسة ، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة ، ويفرّ منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.

ومن المسلم أن التكليف الإلهي والإختيار الرباني للبشر لا يقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات ، بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب ، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.

ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة ، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إذ يقول :( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) .

كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية ١٢ من سورة السجدة) إنّ العصاة يندمون عند ما يشاهدون العذاب الإلهي في الآخرة ، ولكن لات حين مندم ، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت ، إن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة ، فمن الواضح أنّ مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد فضيلة ، ولا مفخرة ولا تكاملا ، ولهذا لا يكون أي تأثير.

على أنّ هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة ، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه ، وبعبارة أخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.

هذا عن الطائفة الأولى الذين لا تقبل توبتهم ، وهم من يتوبون عند ما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره.

__________________

(١) يونس ، ٩٠ ـ ٩١.

١٥٦

وأمّا الطائفة الثّانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفارا ، إذ يقول سبحانه :( وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) .

ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم(١) .

وهنا يطرح سؤال وهو : متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفارا؟

احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر ، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة ـ في هذا المقام ـ ليس هو توبة العباد ، بل توبة الله ، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له.

ولكن الظاهر هو أنّ الآية تهدف أمرا آخر وتقول : إن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

وتوضيح ذلك : إنّنا نعلم إن من شرائط قبول الأعمال «الموافاة على الإيمان» بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا ، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية(٢) . وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصورة أيضا.

وخلاصة القول إنّ قبول التوبة مشروط بأمرين.

الأوّل : أنّ تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.

والثّاني : أن يموت وهو مؤمن.

ثمّ أنّه يستفاد من هذه الآية أيضا إن على الإنسان أن لا يؤخر توبته ، إذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة ، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ.

والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية

__________________

(١) آل عمران ـ ٩١ ، البقرة ، ١٦١ ، البقرة ، ٢١٧ ، محمّد ـ ٣٤.

(٢) البقرة ، ٢١٧.

١٥٧

الحاضرة بالموت حال الكفر ، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن.

ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية :( أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) ، ولا حاجة إلى التذكير بأنّ للتوبة مضافا إلى ما قيل شرائط اخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.

* * *

١٥٨

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) )

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : «نزلت في الرجل يحبس المرأة ـ من دون أن يعاملوها كالزّوجة ـ عنده لا حاجة له إليها ينتظر موتها حتى يرثها» ، أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

وروي عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في الذين أمهروا نساءهم بمهور كبيرة ثمّ يحبسونهن من دون حاجة إليهن ، ولا يطلقونهن لغلاء المهر وثقله ، ويؤذونهن حتى يقبلن بالطلاق بعد أن يتنازلن عن تلك المهور.

وقد روى جماعة من المفسرين سببا آخر لنزول هذه الآية لا يناسب هذه الآية ، بل يناسب الآية (٢٢) من هذه السورة ، وسنذكر ذلك الرأي عند تفسير تلك الآية بإذن الله تعالى.

١٥٩

التّفسير

الدفاع عن حقوق المرأة أيضا :

قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أنّ آيات هذه السورة تهدف إلى مكافحة الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد الجاهلي ، وفي هذه الآية بالذات أشير إلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها ، وتلك هي :

١ ـ لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهنّ ، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية ـ كما ذكرنا في سبب نزول الآية ـ أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال ، ثمّ كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهنّ ، ولا يعاملونهنّ كالزوجات ، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن ، فقالت الآية الحاضرة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.

٢ ـ لا تضغطوا على أزواجكم ليهبنّ لكم مهورهنّ ، فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضا أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهنّ،ويقبلن بالطلاق ، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلا باهظا ، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها :( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) أي من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد أشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية :( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها ، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها ، وتهبه له ويطلقها عند ذلك،وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة ، وأشبه ما يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء.

هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا ، أو كل

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710