الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173440 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وفي آيات أخرى من القرآن الكريم أكّد هذا المعنى بعبارات شبيهة بالعبارة المذكورة في الآية الحاضرة ، فعند ما يشنع على اليهود ويذكر أعمالهم القبيحة يقول :( وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) (١) ويقول في الآية (١٨٨) من سورة البقرة( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) كمقدمة للنهي عن جر الناس إلى المحاكم وأكل أموالهم بحجج واهية غير منطقية.

وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الرّبوية ، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماما ، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء ، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.

وتفسير بعض الروايات كلمة «الباطل» بالقمار والرّبا وما شابه ذلك إنّما هو في الحقيقة من باب ذكر المصاديق الواضحة لهذا المفهوم ، وليس من باب الحصر والقصر.

ولعلّنا لا نحتاج إلى التذكير بأنّ التعبير بـ «الأكل» كناية عن كل تصرف ، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس ، أو السكنى أو غير ذلك ، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية ، غير غريب على الاستعمال.

ثمّ إنّ الله سبحانه يقول معقبا على العبارات السابقة :( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) .

وهذه العبارة استثناء من القانون الكلي ، وهو بحسب الاصطلاح «استثناء منقطع»(٢) وهو يعني إن ما جاء في هذا العبارة لم يكن مشمولا للحكم السابق من الأساس،بل قد ذكر تأكيدا وتذكيرا ، فهو في حدّ ذاته قانون كلي ، وضابطة عامّة

__________________

(١) النساء ، ١٦١.

(٢) الاستثناء المنقطع يأتي ـ غالبا ـ لتأكيد عمومية الحكم العام ، وهو أمر صادق في المقام ، هذا مضافا إلى أنه يكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أن تحريم التصرفات الباطلة لا يقفل عليكم أبواب الرزق والحياة ، بل في إمكانكم أن تحققوا أهدافكم عن طريق التجارة المشروعة والكسب المباح شرعا.

٢٠١

برأسها ، لأنّه يقول : إلّا أن يكون التصرف في أموال الآخرين بسبب التجارة الحاصلة في ما بينكم ، والتي تكون عن رضا الطرفين.

فبناء على هذا تكون جميع أنواع المعاملات المالية والتبادل التجاري الرائج بين الناس ـ في ما إذا تمّ برضا الطرفين وكان له وجه معقول ـ أمرا جائزا من وجهة نظر الإسلام (إلّا الموارد التي ورد فيها نهي صريح لمصالح خاصّة).

ثمّ أنّه تعالى ينهى في ذيل هذه الآية عن قتل الإنسان لنفسه إذ يقول :( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله :( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) النهي عن الانتحار ، يعني أنّ الله الرحيم كما لا يرضى بأن تقتلوا أحدا ، كذلك لا يسمح لكم ولا يرضى بأن تقتلوا أنفسكم بأيديكم ، وقد فسّرت الآية الحاضرة في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بالانتحار أيضا(١) .

وهنا يطرح سؤال وهو : أي ارتباط بين مسألة قتل الإنسان لنفسه ، و «التصرف الباطل في أموال الناس»؟

إنّ الجواب على هذا السؤال واضح تماما ، وفي الحقيقة يشير القرآن بذكر هذين الحكمين بصورة متتالية إلى نكتة اجتماعية مهمّة ، وهي أنّ العلاقات الاقتصادية في المجتمع إذا لم تكن قائمة على أساس صحيح ، ولم يتقدم الإقتصاد الاجتماعي في الطريق السليم ، ووقع الظلم والتصرف العدواني في أموال الغير أصيب المجتمع بنوع من الانتحار ، وآل الأمر إلى تصاعد حالات الانتحار الفردي مضافا إلى الانتحار الجماعي الذي هو من آثار الانتحار الفردي ضمنا.

إنّ الحوادث والثورات التي تقع في المجتمعات العالمية المعاصرة خير شاهد وأفضل دليل على هذه الحقيقة ، وحيث أنّ الله لطيف بعباده رحيم بخلقه فقد أنذرهم وحذرهم من مغبة الأمر ، وحثّهم على تجنب المبادلات الاقتصادية

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية ، وتفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٧٢.

٢٠٢

المالية الغير الصحيحة ، وأخطرهم بأن الإقتصاد المريض يؤدي بالمجتمع إلى السقوط والانهيار،والفناء والاندحار.

كما حذر قائلا :( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ) (١) ( ناراً ) أي أن من يعصي هذه الأحكام ويتجاهل هذا التحذير ، ويأكل أموال الآخرين بالباطل ودون استحقاق ، أو ينتحر بيديه لم يصبه العذاب الأليم في الدنيا فحسب ، بل ستصيبه نار الغضب الإلهي ، وهذا أمر هين على الله :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

* * *

__________________

(١) «الصلي» يعني في الأصل الاقتراب إلى النار ، ويطلق على التدفؤ والاحتراق والاكتواء بالنار أيضا ، وقد استعملت في الآية الحاضرة في معنى الاحتراق بالنار احتراقا.

٢٠٣

الآية

( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) )

التّفسير

المعاصي الكبيرة والصّغيرة :

هذه الآية تقول بصراحة :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) .

ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين :

القسم الأوّل : هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة.

والقسم الثّاني وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسّيئة.

وقد عبّر في الآية (٣٢) من سورة النجم «باللمم»(١) بدلا عن السيئة ، وفي الآية (٤٩) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصّغيرة» في مقابل الكبيرة عند ما يقول :( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

ومن التعابير المذكورة يثبت ـ بوضوح ـ أنّ الذنوب والمعاصي على صنفين محددين،يعبر عنهما تارة بالكبيرة والصغيرة ، وتارة أخرى بالكبيرة والسيئة ،

__________________

(١) «اللمم» (على وزن القسم) تعني الأعمال الصغيرة غير الهامة.

٢٠٤

وثالثة بالكبيرة و «اللمم».

والآن يجب أن نعرف ما هو الملاك والضابطة في تحديد الصّغيرة والكبيرة.

يذهب البعض إلى أنّ هذين الوصفين من الأمور النسبية ، تكون كل معصية بالنسبة إلى ما هو أكبر منها صغيرة ، وبالنسبة إلى ما هو أصغر منها كبيرة(١) .

ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى لا ينجسم مع ظاهر الآية الحاضرة ، لأنّ الآية الحاضرة تقسم الذنوب إلى صنفين مستقلين ، وتعتبرهما نوعين متقابلين ، وتعتبر الاجتناب عن صنف موجبا للعفو والتكفير عن الصنف الآخر.

ولكننا إذا راجعنا المعنى اللغوي للكبيرة وجدنا أنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهميّة من وجهة نظر الإسلام ، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أن القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط ، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم ، مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك ، ولهذاجاء في روايات أهل البيتعليهم‌السلام : «الكبائر التي أوجب اللهعزوجل عليها النار» ،وقد روي مضمون هذا الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام ،والإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (٢) .

وعلى هذا الأساس تسهل معرفة المعاصي الكبيرة إذا أخذنا بنظر الإعتبار الضابطة المذكورة ، وما قد ذكر في بعض الروايات من أنّ عدد الكبائر سبع وفي بعضها عشرون وفي بعضها سبعون لا ينافي ما ذكرناه قبل قليل ، إذ أنّ بعض هذه الروايات يشير ـ في الحقيقة ـ إلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الأولى ، وبعضها الآخر يشير إلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الثّانية ، وبعضها الثالث يشير إلى جميع الذّنوب الكبيرة.

__________________

(١) وقد نسب العلّامة الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان هذا الإعتقاد إلى علماء الشيعة في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فلكثير من علماء الشيعة رأي آخر سنأتي على ذكره بالتفصيل.

(٢) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٧٣.

٢٠٥

إشكال :

يمكن أن يقال أنّ هذه الآية تشجع الناس على ارتكاب المعاصي والذنوب الصغيرة إذا، كأنّها تقول : لا بأس بارتكاب المعاصي الصغيرة شريطة ترك الكبائر من الذنوب.

الجواب :

إنّ الجواب على هذا الإشكال يتّضح من التعبير المذكور في الآية الحاضرة ، إذ يقول القرآن الكريم :( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) يعني إنّ الاجتناب عن الذنوب الكبار، خصوصا مع توفر أرضية ارتكابها ، يوجد حالة من التقوى الروحية لدى الإنسان يمكنها أن تطهره من آثار الذنوب والمعاصي الصغيرة.

وفي الحقيقة أنّ الآية الحاضرة تشبه الآية (١١٤) من سورة هود التي تقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) فهي إشارة إلى أحد الآثار الواقعية للأعمال الصالحة وهو يشبه ما إذا قلن ، إذا اجتنب الإنسان المواد السّامة الخطيرة وتوفرت له صحة جيدة ومناعة قوية أمكنه أن يتخلص من الآثار السيئة لبعض الأطعمة غير المناسبة لسلامة مزاجه ، وبسبب مناعته الجسمية.

وبتعبير آخر إنّ التكفير عن الذنوب الصغيرة وغفرانها يعد نوعا من «الأجر المعنوي»لتاركي المعاصي والذنوب الكبيرة ، ولهذا ـ في الحقيقة ـ أثر تشجيعي قوي على ترك الكبائر ، محفز على اجتنابها.

متى تنقلب الصّغيرة إلى كبيرة؟ :

إلّا أنّ هاهنا نقطة مهمّة لا بدّ من الالتفات إليها ، وهي أنّ المعاصي الصغيرة تبقى صغيرة ما لم تتكرر ، هذا مضافا إلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور وطغيان ، لأنّ الصغائر ـ كما يستفاد من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة ـ تتبدل إلى الكبيرة في عدّة موارد هي :

١ ـ إذا «تكررت الصغيرة» ، قال الإمام الصّادقعليه‌السلام : «لا صغيرة مع الإصرار».

٢٠٦

٢ ـ إذا استصغر صاحب المعصية معصيته واستحقرها ، فقد جاء في نهج البلاغة : «أشدّ الذّنوب ما استهان به صاحبه».

٣ ـ إذا ارتكبها مرتكبها عن عناد واستكبار وطغيان وتمرد على أوامر الله تعالى، وهذا هو ما يستفاد من آيات قرآنية متنوعة إجمالا ، من ذلك قوله تعالى :( فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) (١) .

٤ ـ إن صدرت المعصية ممن لهم مكانة اجتماعية خاصّة بين الناس وممن لا تحسب معصيتهم كمعصية الآخرين ، فقد جاء في القرآن الكريم حول نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة الأحزاب الآية (٣٠) :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) ، وقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا).

٥ ـ أن يفرح مرتكب المعصية بما اقترفه من المعصية ، ويفتخر بذلك كما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أذنب ذنبا وهو ضاحك دخل النّار وهو باك».

٦ ـ أن يعتبر تأخير العذاب العاجل عنه على المعصية دليلا على رضاه تعالى ، ويرى العبد نفسه محصنا من العقوبة آمنا من العذاب ، أو يرى لنفسه مكانة عند الله لا يعاقبه الله على معصية لأجلها ، كما جاء في سورة المجادلة الآية (٨) حاكيا عن لسان بعض العصاة المغرورين الذين يقولون في أنفسهم :( لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) ، ثمّ يرد عليهم القرآن الكريم قائلا :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) النازعات ، ٣٧ ـ ٣٩.

(٢) المحجة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٦١.

٢٠٧

الآية

( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) )

سبب النّزول

قال المفسّر الشّهير الطّبرسيرحمه‌الله في «مجمع البيان» : قيل أن أم سلمة (وهي من أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنّما لنا نصف الميراث؟ فليتنا رجال ونغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال ، فنزلت الآية تجيب على جميع هذه التساؤلات.

ونقرأ في تفسير المنار : إنّ جماعة من الرجال المسلمين قالوا : نرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهنّ في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت جماعة من النساء المسلمات : إنا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ، فنزلت الآية.

وقد ذكر سبب النّزول هذا بعينه في تفسير «في ظلال القرآن» وتفسير «روح المعاني» مع فارق بسيط.

٢٠٨

التّفسير

لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإرث ـ كما قرأت في سبب النزول ـ تساؤلا لدى البعض ، ويبدو أنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذا التفاوت إنّما هو لأجل أن النفقة بكاملها على الرجل ، وليس على النساء شيء من نفقات العائلة ، بل نفقة المرأة هي الاخرى مفروضة على الرجل ، ولهذا يكون ما تصيبه المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة، ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية :( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) ،لأنّ لكل نوع من أنواع هذا التفصيل والتفاوت أسرار خفيّة عنكم غير ظاهرة لكم ، سواء كان التفاوت من جهة الخلقة والجنسية وبقية الصفات الجسمية والروحية التي تشكل أساس النظام الاجتماعي فيكم ، أو التفاوت من الناحية الحقوقية بسبب اختلاف الموقع والمكانة كالتفاوت في سهم الإرث ، إنّ جميع أنواع هذا التفاوت قائم على أساس العدل والقانون الإلهي الحكيم ، ولو كانت مصلحتكم في غير ذلك لسنّه وبيّنه لكم.

وعلى هذا فإن تمنّى تغيير هذا الوضع نوع من المخالفة للمشيئة الرّبانية التي هي عين الحق والعدالة.

على أنّه يجب أن لا نتصور خطأ أنّ الآية الحاضرة تشير إلى التفاوت المصطنع الذي برز نتيجة الاستعمار والاستغلال الطبقي ، بل تشير إلى الفروق الطبيعية الواقعية ، لأنّ الفروق المصطنعة لا هي من المشيئة الإلهية في شيء ، ولا أن تمني تغييرها مرفوض وغير صحيح ، بل هي فروق ظالمة وغير منطقية يجب السعي في رفعها وإزالتها وتفنيدها ، فللمثال : لا يمكن للنساء أن يتمنين أن يكنّ رجالا ، كما لا يمكن للرجال أن يتمنوا أن يكونوا نساء ، لأنّ وجود هذين الجنسين أمر ضروري للنظام الاجتماعي الإنساني ، ولكن هذا التفاوت الجنسي يجب أن لا يتّخذ ذريعة ، لأن يسحق أحد الجنسين حقوق الجنس الآخر ، ومن هنا فإنّ الذين اتّخذوا هذه الآية ذريعة لإثبات التمييز الاجتماعي الظالم أو

٢٠٩

يتصوروها حجّة على هذا التمييز قد أخطئوا خطأ كبيرا.

ولذا عقب الله سبحانه على الجملة السابقة فورا بقوله :( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) أي لكلّ من الرجال والنساء نصيب من سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية (كالتفاوت والفرق بين جنسي الرجل والمرأة) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الاختيارية.

إنّ الجدير بالالتفات هنا هو : إنّ لكلمة «الاكتساب» التي هي بمعنى التحصيل مفهوما واسعا يشمل الجهود الاختيارية ، كما يشمل ما يحصل عليه الإنسان بواسطة بنيانه الطبيعي.

ثمّ يقول :( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) أي بدل أن تتمنوا هذا التفصيل والتفاوت اطلبوا من فضل الله واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة ، لتكونوا ـ بنتيجة ذلك ـ سعداء رجالا ونساء ، ومن أي عنصر كنتم ، وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم واقعا ، ولا تتمنوا ما هو خيال أو ما تتخيلونه (ولعلّ التعبير بلفظة «من فضله» إشارة إلى المعنى الأخير).

على أنّه من الواضح جدّا أن طلب الفضل والعناية الرّبانية ليس بمعنى أن لا يسعى الإنسان في الأخذ بأسباب كلّ شيء وعوامله ، بل لا بدّ من البحث عن فضل الله ورحمته من خلال الأسباب التي قرّرها وأرساها في الكون.

( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) أي يعلم ما يحتاج إليه نظام المجتمع وما يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية ، ولهذا لا وجود للظلم والحيف ولا لأي شيء من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله ، كما أنّه تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي يتمنى الأماني الخاطئة في قلبه ، ومن يتمنى الأماني الإيجابية الصحيحة البناءة.

٢١٠

التفاوت الطبيعي بين النّاس لما ذا؟ :

إنّ ثمّة كثيرين يطرحون على أنفسهم السّؤال التالي : لما ذا خلق البعض بمواهب وقابليات أكثر ، وآخرون بمواهب وقابليات أقل ، والبعض متحلين بالجمال ، وآخرون خلو منه ، أو بجمال قليل ، والبعض بامتيازات جسمية عالية وقوية متفوقة ، وآخرون عاديين ، هل يتلاءم هذا التفاوت مع العدل الإلهي؟؟.

في الإجابة على هذه التساؤلات لا بدّ من الالتفات إلى النقاط التالية :

١ ـ إنّ بعض الفروق الجسمية والروحية بين الناس ناشئة عن الاختلافات الطبقية والمظالم الاجتماعية ، أو التفريط الفردي الذي لا علاقة له بنظام الخلق وجهاز الإيجاد أبدا ، فمثلا كثير من أبناء الأغنياء أقوى من أبناء الفقراء وأكثر جمالا وتقدما من ناحية المواهب والقابليات بسبب أن الفريق الأوّل (أولاد الأغنياء) يحظى بإمكانيات أكبر من حيث الغذاء والجوانب الصحية ، في حين يعاني الفريق الثاني من حرمان ونقصان من هذه الجهة. أو أن هناك من يخسر الكثير من طاقاته الجسمية والروحية بسبب التواني ، والبطالة، والتفريط والتقصير.

إنّنا يجب أن نعتبر هذه الفروق وهذا التفاوت تفاوتا ومصطنعا ومزيفا ، وغير مبرر،ويتحقق القضاء عليها من خلال القضاء على النظام الطبقي ، وتعميم العدالة الاجتماعية في الحياة البشرية ، والقرآن الكريم والإسلام لا يقرّ أي شيء من هذه الفروق،وأي لون من ألوان هذا التفاوت والتمييز أبدا.

٢ ـ إنّ القسم الآخر من الفروق وألوان التفاوت أمر طبيعي ، وشيء لازم من لوازم الجبلة البشرية ، بل وضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية ، يعني أنّ مجتمعا من المجتمعات حتى إذا كان يحظى بالعدالة الاجتماعية الكاملة لا يمكن أن يكون جميع أفراده متساوين وعلى نمط واحد وصورة واحدة مثل منتجات معمل. بل لا بدّ أن يكون هناك بعض التفاوت ، ولكن يجب أن نعلم أنّ المواهب

٢١١

الإلهية والقابليات الجسمية والروحية قد قسمت ـ في الأغلب ـ تقسيما يصيب فيه كل واحد قسطا من تلك المواهب والقابليات. لا أن يحظى بعض بجميع المواهب ، ويحرم آخرون من أي شيء منها ، وبمعنى أنّه قل أن يوجد هناك من تجتمع فيه كل المواهب جملة واحدة،بل هناك من يحظى بالمقدرة البدنية الكافية ، وآخر يحظى بموهبة رياضية جيدة ، ومن يحظى بذوق شعري رفيع ، وآخر يحظى برغبة كبيرة في التجارة ، ومن يتمتع بذكاء وافر في مجال الزراعة ، وآخر بمواهب وقابليات خاصّة أخرى.

المهم أن يكتشف المجتمع أو الأفراد أنفسهم تلك المواهب والقابليات ، وأن يقوموا بتربيتها وتنميته في بيئة سليمة ، حتى يتمكن كل إنسان إظهار ما ينطوي عليه من نقطة ضعف ويستفيد منها.

٣ ـ يجب أن نذكر القارئ أيضا بأنّ المجتمع مثل الجسد الإنساني بحاجة إلى الأنسجة والعضلات والخلايا المختلفة ، يعني كما أنّ البدن لو تألف جميعه من خلايا دقيقة ورقيقة مثل خلايا العين والمخ لم يدم طويلا ، ولو تألف جميعه من خلايا غليظة وخشنة لا تعرف انعطافا مثل خلايا العظام ، فقدت القدرة الكافية على القيام بوظائفها ، بل لا بدّ أن تكون الخلايا المكونة للجسم متنوعة ، ليصلح بعضها للقيام بوظيفة التفكير ، وبعضها للمشاهدة والنظر ، وآخر على الاستماع ورابع على التحدث ، هكذا لا بدّ لوجود «المجتمع الكامل» من وجود عناصر ذات مواهب وقابليات وأذواق ، وتراكيب مختلفة متنوعة ، بدنية وفكرية،لكن لا يعني هذا أن يعاني بعض أعضاء الجسد الاجتماعي من حرمان ، أو تستصغر خدماته أو يستحقر دوره ، تماما كما تستفيد كل خلايا البدن الواحد رغم ما بينها من تفاوت وفروق من الغذاء والهواء وغيرها من الحاجات بالمقدار اللازم لكل واحد.

وبعبارة أخرى : إنّ الفروق وأشكال التفاوت في البينة الروحية والجسمية

٢١٢

في الجوانب الطبيعة (التي لا هي ظالمة ولا هي مفروضة) إنّما هي في الحقيقة مقتضى «الحكمة الرّبانية» ، والعدل لا يمكنه بحال أن ينفصل عن الحكمة.

فعلى سبيل المثال إذا كانت خلايا الجسم البشري مخلوقة في شكل واحد كان ذلك بعيدا عن الحكمة كما أنّه خال عن العدل الذي يعني وضع كل شيء في محله وموضعه المناسب ، وكذلك إذا تشابه الناس في يوم من الأيّام في التفكير أو تشابهوا في القابلية والموهبة لتهافت بنيان المجتمع برمته في ذلك اليوم.

إذن فما ورد في هذه الآية في مجال التفصيل والتفاوت في جبلة الرجل والمرأة وخلقتهما إنّما هو في الواقع إشارة إلى هذا الموضوع ، لأنّه من البديهي إذا كان البشر جميعا رجالا ، أو كانوا جميعا نساء لانقرض النوع البشري عاجلا ، هذا مضافا إلى انتفاء قسم من ملاذ البشر المشروعة.

فإذا اعترض جماعة قائلين لما ذا خلق البشر صنفين رجالا ونساء ، وزعموا بأنّ هذا الأمر لا يتلاءم مع العدالة الإلهية. لم يكن هذا الاعتراض منطقيا ، لأنهم لم يلتفتوا إلى حكمة هذا التفاوت ، ولم يتدبروا فيها.

* * *

٢١٣

الآية

( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) )

التّفسير

يعود القرآن مرّة أخرى إلى مسألة الإرث إذ يقول :( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) (١) ( مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) أي لكل رجل أو امرأة جعلنا ورثة يرثون ممّا ترك الوالدان والأقربون الذي يجب أن يقسّم بينهم طبق برنامج خاص.

إنّ هذه العبارة هي ـ في الحقيقة ـ خلاصة أحكام الإرث التي مرّ ذكرها في الآيات السابقة في مجال الأقرباء ، وهي مقدمة لحكم سيأتي بيانه في ما بعد.

ثمّ إنّ الله تعالى يضيف قائلا :( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي ادفعوا إلى الذين عقدتم معهم عقدا نصيبهم من الإرث.

والتعبير عن الميثاق بعقد اليمين (وهو العقد باليد اليمنى) لأجل أنّ الإنسان

__________________

(١) «الموالي» جمع مولى ، وهي في الأصل من مادة الولاية بمعنى الاتصال والارتباط ، وتطلق على جميع الأفراد الذين يرتبط بعضهم ببعض بنوع من الارتباط ، غاية ما هناك أنّها تكون في بعض الموارد بمعنى ارتباط الولي ، مع أتباعه ، وأمّا في الآية الحاضرة فتكون بمعنى الورثة.

٢١٤

غالبا ما يستفيد من يده اليمنى للقيام بأعماله ، كما أنّ الميثاق يشبه نوعا من العقد (في مقابل الحل).

والآن لننظر من هم الذين عقد معهم الميثاق ، الذين لا بدّ أن يعطوا نصيبهم من الإرث؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد هو الزوج والزوجة لأنّهما عقدا في ما بينهما رابطة الزوجية.

ولكن هذا الاحتمال يبدو مستبعدا ، لأنّ التعبير عن الزواج بعقد اليمين ونظيره في القرآن الكريم قليل جدا ، هذا مضافا إلى أنّه يعد تكرارا للمواضيع السابقة.

إنّ ما هو أقرب إلى مفهوم الآية هو عقد «ضمان الجريرة» الذي كان رائجا قبل الإسلام ، وقد عدله الإسلام بعد أن أقرّه لما فيه من ناحية إيجابية وهو : «أن يتعاقد شخصان فيما بينهما على أن يتعاونا فيما بينهما بشكل أخوي أن يعين أحدهما الآخر عند المشكلات ، وإذا مات أحدهما قبل الآخر ورثه الباقي» ولقد أقر الإسلام هذا النوع من التعاقد الأخوي الودي ، ولكنّه أكد على أنّ التوارث بسبب هذا الميثاق إنّما يمكن إذا لم يكن هناك ورثة من طبقات الأقرباء ، يعني إذا لم يبق أحد من الأقرباء ورث ضامن الجريرة الذي وقع بينه وبين الآخر مثل هذا العقد (لمعرفة التفاصيل أكثر راجع بحث الإرث في الكتب الفقهية)(١) .

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) أي إذا قصرتم في إعطاء نصيب الورثة ولم تعطوهم حقوقهم كاملة ، علم الله بذلك ولم يخف عليه ما فعلتم ، لأنّه على كل شيء شهيد وبكل شيء عليم.

* * *

__________________

(١) صورة عقد ضمان الجريرة هكذا «عاقدتك على أن تنصرني وأنصرك وتعقل عني وأعقل عنك وترثني وأرثك» فيقول الآخر : «قبلت».

٢١٥

الآية

( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

القوامة في النّظام العائلي :

قال الله تعالى في مطلع هذه الآية( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ولا بدّ لتوضيح هذه العبارة من الالتفات إلى أنّ العائلة وحدة اجتماعية صغيرة ، وهي كالاجتماع الكبير لا بدّ لها من قائد وقائم بأمورها ، لأن القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معا ، لا معنى لها ولا مفهوم ، فلا بدّ أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة ، ويكون «رئيسا» للعائلة ، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إشراف الرئيس.

إنّ القرآن يصرّح ـ هنا ـ بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لا بدّ أن يعطي للرجل (ويجب أن لا يساء فهم هذا الكلام ، فليس المقصود من هذا التعبير هو

٢١٦

الاستبداد والإجحاف والعدوان ، بل المقصود هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسئولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الإعتبار).

إنّ هذه المسألة تبدو واضحة في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى ، وهي أن أية هيئة حتى المؤلفة من شخصين مكلفة بالقيام بأمر لا بدّ أن يتولى أحدهما زعامة تلك الهيئة فيكون رئيسها ، بينما يقوم الآخر بمساعدته فيكون بمثابة (المعاون أو العضو) ، وإلّا سادت الفوضى أعمال تلك الهيئة واختلت نشاطاتها وأخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة،وهكذا الحال بالنسبة إلى العائلة ، فلا بدّ من إسناد إدارة العائلة إلى الرجل.

وإنّما تعطى هذه المكانة للرجل لكونه يتمتع بخصوصيات معينة مثل القدرة على ترجيح جانب العقل على جانب العاطفة والمشاعر ، (على العكس من المرأة التي تتمتع بطاقة فياضة وطاغية من الأحاسيس والعواطف) ومثل امتلاك بنية داخلية وقوة بدنية أكبر ليستطيع بالأولى أن يفكر ويخطط جيدا ، ويستطيع بالثانية أن يدافع عن العائلة ويذّب عنها.

هذا مضافا إلى أنّه يستحق ـ لقاء ما يتحمله من الإنفاق على الأولاد والزوجة،ولقاء ما تعهده من القيام بكل التكاليف اللازمة من مهر ونفقة وإدارة مادية لائقة للعائلة ـ أن تناط إليه وظيفة القوامة والرئاسة في النظام العائلي.

نعم يمكن أن يكون هناك بعض النسوة ممن يتفوقن على أزواجهنّ في بعض الجهات،إلّا أن القوانين ـ كما أسلفنا مرارا ـ تسن بملاحظة النوع ومراعاة الأغلبية لا بملاحظة الأفراد ، فردا فردا ، ولا شك أنّ الحالة الغالبة في الرجال أنّهم يتفوقون على النساء في القابلية على القيام بهذه المهمّة ، وإن كانت النسوة يمكنهنّ أن يتعهدن القيام بوظائف أخرى لا يشك في أهميتها.

إنّ جملة( بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) إشارة

٢١٧

أيضا إلى هذه الحقيقة ، لأنّ القسم الأوّل من هذه الفقرة يقول : إن هذه القوامة إنّما هو لأجل التفاوت الذي أوجده الله بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة تقتضيها حياة النوع البشري ، بينما يقول في القسم الثاني منها : وأيضا لأجل أن الرجال كلفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإنفاق والبذل.

ولكن غير خفي أن إناطة مثل هذه الوظيفة والمكانة إلى الرجل لا تدل على أفضلية شخصية الرّجل من الناحية البشرية ، ولا يبرر تميزه في العالم الآخر (أي يوم القيامة) لأنّ التميز والأفضلية في عالم الآخرة يدور مدار التقوى فقط ، كما أنّ شخصية المعاونة الإنسانية قد تترجح في بعض الجهات المختلفة على شخصية الرئيس ، ولكن الرئيس يتفوق على معاونه في الإرادة التي أنيطت إليه ، فيكون أليق من المعاون في هذا المجال.

ثمّ إنّه سبحانه يضيف قائلا :( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ) ، وهذا يعني أن النساء بالنسبة إلى الوظائف المناطة إليهنّ في مجال العائلة على صنفين :

الطّائفة الأولى : وهنّ «الصالحات» أي غير المنحرفات «القانتات» أي الخاضعات تجاه الوظائف العائلية «الحافظات للغيب» اللاتي يحفظن حقوق الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب ، بل يحفظنهم في غيبتهم ، يعني أنهنّ لا يرتكبن أية خيانة سواء في مجال المال ، أو في المجال الجنسي ، أو في مجال حفظ مكانة الزوج وشأنه الاجتماعي ، وأسرار العائلة في غيبته ، ويقمن بمسئولياتهنّ تجاه الحقوق التي فرضها الله عليهنّ والتي عبّر عنها في الآية بقوله :( بِما حَفِظَ اللهُ ) خير قيام.

ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة ، وحفظ حقوقهنّ،وعدم إضاعتها.

٢١٨

النّساء المقصرات النّاشزات

الطّائفة الثّانية : هنّ النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهنّ وواجباتهنّ ، وتبدو عليهنّ علائم النشوز وأماراته فإن على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لا بدّ من القيام بها مرحلة فمرحلة ، وعلى كل حال يجب أن يراعوا جانب العدل ولا يخرجوا عن حدوده وإطار ، وهذه الوظائف هي بالترتيب :

١ ـ المواعظة

إنّ المرحلة الأولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة ، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة :( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَ ) (١) . وعلى هذا فإن النساء اللاتي يتجاوزن حدود النظام العائلي وحريمه لا بدّ قبل أي شيء أن يذكرن ـ من خلال الوعظ والإرشاد ـ بمسئولياتهنّ وواجباتهنّ ونتائج العصيان والنشوز.

٢ ـ الهجر في المضاجع

وتأتي هذه المرحلة إذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِع ) ، وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة ، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهنّ.

٣ ـ الضرب :

وأمّا إذا تجاوزن في عصيانهنّ ، والتمرد على واجباتهنّ ومسئولياتهنّ الحدّ ، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتد عن بالأساليب السابقة ، فلا النصيحة تفيد ، ولا العظة تنفع ، ولا الهجر ينجح ، ولم يبق من سبيل إلّا استخدام العنف ، فحينئذ يأتي دور الضرب ف( اضْرِبُوهُنَ ) لدفعهنّ إلى القيام بواجباتهنّ الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شيء من العنف ، ولهذا

__________________

(١) «النشوز» من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة ، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.

٢١٩

سمح الإسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهنّ ودفعهنّ إلى القيام بواجباتهنّ من خلال التنبيه الجسدي.

اشكال :

يمكن أن يعترض معترض في هذا المقام قائلا : كيف سمح الإسلام للرجال بأن يتوسلوا بأسلوب التنبيه الجسدي المتمثل بالضرب؟

الجواب :

إنّ الجواب على هذا الاعتراض يبدو غير صعب بملاحظة معنى الآية والروايات الواردة لبيان مفادها وما جاء في توضيحها في الكتب الفقهية ، وأيضا بملاحظة ما يعطيه علماء النفس اليوم من توضيحات علمية في هذا المجال ، ونلخص بعض هذه الأمور في نقاط :

أوّلا : إنّ الآية تسمح بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفة وواجباته،الذي لا تنفع معه أية وسيلة أخرى ، ومن حسن الصدف أن هذا الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإسلام في حياة البشر ، فجميع القوانين العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق السلمية لدفعه إلى تحمل مسئولياته والقيام بواجباته ، فإن هذه القوانين ربّما لا تقتصر على وسيلة الضرب ، بل تتجاوز ذلك ـ في بعض الموارد الخاصّة ـ إلى ممارسة عقوبات أشد تبلغ حدّ الإعدام والقتل.

ثانيا : إنّ التّنبيه الجسدي المسموح به هنا يجب أن يكون خفيفا ، وأن يكون الضرب ضربا غير مبرح ، أي لا يبلغ الكسر والجرح ، بل ولا الضرب البالغ حد السواد كما هو مقرر في الكتب الفقهية.

ثالثا : إنّ علماء التحليل النفسي ـ اليوم ـ يرون أن بعض النساء يعانين من حالة نفسية هي «المازوخية» التي تقتضي أن ترتاح المرأة لضربها وأن هذه الحالة قد تشتد في المرأة إلى درجة تحس باللّذة والسكون والرضا إذا ضربت

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710