الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 164056
تحميل: 5312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 164056 / تحميل: 5312
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

وفي آيات أخرى من القرآن الكريم أكّد هذا المعنى بعبارات شبيهة بالعبارة المذكورة في الآية الحاضرة ، فعند ما يشنع على اليهود ويذكر أعمالهم القبيحة يقول :( وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) (1) ويقول في الآية (188) من سورة البقرة( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) كمقدمة للنهي عن جر الناس إلى المحاكم وأكل أموالهم بحجج واهية غير منطقية.

وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الرّبوية ، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماما ، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء ، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.

وتفسير بعض الروايات كلمة «الباطل» بالقمار والرّبا وما شابه ذلك إنّما هو في الحقيقة من باب ذكر المصاديق الواضحة لهذا المفهوم ، وليس من باب الحصر والقصر.

ولعلّنا لا نحتاج إلى التذكير بأنّ التعبير بـ «الأكل» كناية عن كل تصرف ، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس ، أو السكنى أو غير ذلك ، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية ، غير غريب على الاستعمال.

ثمّ إنّ الله سبحانه يقول معقبا على العبارات السابقة :( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) .

وهذه العبارة استثناء من القانون الكلي ، وهو بحسب الاصطلاح «استثناء منقطع»(2) وهو يعني إن ما جاء في هذا العبارة لم يكن مشمولا للحكم السابق من الأساس،بل قد ذكر تأكيدا وتذكيرا ، فهو في حدّ ذاته قانون كلي ، وضابطة عامّة

__________________

(1) النساء ، 161.

(2) الاستثناء المنقطع يأتي ـ غالبا ـ لتأكيد عمومية الحكم العام ، وهو أمر صادق في المقام ، هذا مضافا إلى أنه يكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أن تحريم التصرفات الباطلة لا يقفل عليكم أبواب الرزق والحياة ، بل في إمكانكم أن تحققوا أهدافكم عن طريق التجارة المشروعة والكسب المباح شرعا.

٢٠١

برأسها ، لأنّه يقول : إلّا أن يكون التصرف في أموال الآخرين بسبب التجارة الحاصلة في ما بينكم ، والتي تكون عن رضا الطرفين.

فبناء على هذا تكون جميع أنواع المعاملات المالية والتبادل التجاري الرائج بين الناس ـ في ما إذا تمّ برضا الطرفين وكان له وجه معقول ـ أمرا جائزا من وجهة نظر الإسلام (إلّا الموارد التي ورد فيها نهي صريح لمصالح خاصّة).

ثمّ أنّه تعالى ينهى في ذيل هذه الآية عن قتل الإنسان لنفسه إذ يقول :( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله :( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) النهي عن الانتحار ، يعني أنّ الله الرحيم كما لا يرضى بأن تقتلوا أحدا ، كذلك لا يسمح لكم ولا يرضى بأن تقتلوا أنفسكم بأيديكم ، وقد فسّرت الآية الحاضرة في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بالانتحار أيضا(1) .

وهنا يطرح سؤال وهو : أي ارتباط بين مسألة قتل الإنسان لنفسه ، و «التصرف الباطل في أموال الناس»؟

إنّ الجواب على هذا السؤال واضح تماما ، وفي الحقيقة يشير القرآن بذكر هذين الحكمين بصورة متتالية إلى نكتة اجتماعية مهمّة ، وهي أنّ العلاقات الاقتصادية في المجتمع إذا لم تكن قائمة على أساس صحيح ، ولم يتقدم الإقتصاد الاجتماعي في الطريق السليم ، ووقع الظلم والتصرف العدواني في أموال الغير أصيب المجتمع بنوع من الانتحار ، وآل الأمر إلى تصاعد حالات الانتحار الفردي مضافا إلى الانتحار الجماعي الذي هو من آثار الانتحار الفردي ضمنا.

إنّ الحوادث والثورات التي تقع في المجتمعات العالمية المعاصرة خير شاهد وأفضل دليل على هذه الحقيقة ، وحيث أنّ الله لطيف بعباده رحيم بخلقه فقد أنذرهم وحذرهم من مغبة الأمر ، وحثّهم على تجنب المبادلات الاقتصادية

__________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية ، وتفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 472.

٢٠٢

المالية الغير الصحيحة ، وأخطرهم بأن الإقتصاد المريض يؤدي بالمجتمع إلى السقوط والانهيار،والفناء والاندحار.

كما حذر قائلا :( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ) (1) ( ناراً ) أي أن من يعصي هذه الأحكام ويتجاهل هذا التحذير ، ويأكل أموال الآخرين بالباطل ودون استحقاق ، أو ينتحر بيديه لم يصبه العذاب الأليم في الدنيا فحسب ، بل ستصيبه نار الغضب الإلهي ، وهذا أمر هين على الله :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

* * *

__________________

(1) «الصلي» يعني في الأصل الاقتراب إلى النار ، ويطلق على التدفؤ والاحتراق والاكتواء بالنار أيضا ، وقد استعملت في الآية الحاضرة في معنى الاحتراق بالنار احتراقا.

٢٠٣

الآية

( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) )

التّفسير

المعاصي الكبيرة والصّغيرة :

هذه الآية تقول بصراحة :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) .

ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين :

القسم الأوّل : هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة.

والقسم الثّاني وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسّيئة.

وقد عبّر في الآية (32) من سورة النجم «باللمم»(1) بدلا عن السيئة ، وفي الآية (49) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصّغيرة» في مقابل الكبيرة عند ما يقول :( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

ومن التعابير المذكورة يثبت ـ بوضوح ـ أنّ الذنوب والمعاصي على صنفين محددين،يعبر عنهما تارة بالكبيرة والصغيرة ، وتارة أخرى بالكبيرة والسيئة ،

__________________

(1) «اللمم» (على وزن القسم) تعني الأعمال الصغيرة غير الهامة.

٢٠٤

وثالثة بالكبيرة و «اللمم».

والآن يجب أن نعرف ما هو الملاك والضابطة في تحديد الصّغيرة والكبيرة.

يذهب البعض إلى أنّ هذين الوصفين من الأمور النسبية ، تكون كل معصية بالنسبة إلى ما هو أكبر منها صغيرة ، وبالنسبة إلى ما هو أصغر منها كبيرة(1) .

ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى لا ينجسم مع ظاهر الآية الحاضرة ، لأنّ الآية الحاضرة تقسم الذنوب إلى صنفين مستقلين ، وتعتبرهما نوعين متقابلين ، وتعتبر الاجتناب عن صنف موجبا للعفو والتكفير عن الصنف الآخر.

ولكننا إذا راجعنا المعنى اللغوي للكبيرة وجدنا أنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهميّة من وجهة نظر الإسلام ، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أن القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط ، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم ، مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك ، ولهذاجاء في روايات أهل البيتعليهم‌السلام : «الكبائر التي أوجب اللهعزوجل عليها النار» ،وقد روي مضمون هذا الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام ،والإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (2) .

وعلى هذا الأساس تسهل معرفة المعاصي الكبيرة إذا أخذنا بنظر الإعتبار الضابطة المذكورة ، وما قد ذكر في بعض الروايات من أنّ عدد الكبائر سبع وفي بعضها عشرون وفي بعضها سبعون لا ينافي ما ذكرناه قبل قليل ، إذ أنّ بعض هذه الروايات يشير ـ في الحقيقة ـ إلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الأولى ، وبعضها الآخر يشير إلى المعاصي الكبيرة من الدرجة الثّانية ، وبعضها الثالث يشير إلى جميع الذّنوب الكبيرة.

__________________

(1) وقد نسب العلّامة الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان هذا الإعتقاد إلى علماء الشيعة في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فلكثير من علماء الشيعة رأي آخر سنأتي على ذكره بالتفصيل.

(2) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 473.

٢٠٥

إشكال :

يمكن أن يقال أنّ هذه الآية تشجع الناس على ارتكاب المعاصي والذنوب الصغيرة إذا، كأنّها تقول : لا بأس بارتكاب المعاصي الصغيرة شريطة ترك الكبائر من الذنوب.

الجواب :

إنّ الجواب على هذا الإشكال يتّضح من التعبير المذكور في الآية الحاضرة ، إذ يقول القرآن الكريم :( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) يعني إنّ الاجتناب عن الذنوب الكبار، خصوصا مع توفر أرضية ارتكابها ، يوجد حالة من التقوى الروحية لدى الإنسان يمكنها أن تطهره من آثار الذنوب والمعاصي الصغيرة.

وفي الحقيقة أنّ الآية الحاضرة تشبه الآية (114) من سورة هود التي تقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) فهي إشارة إلى أحد الآثار الواقعية للأعمال الصالحة وهو يشبه ما إذا قلن ، إذا اجتنب الإنسان المواد السّامة الخطيرة وتوفرت له صحة جيدة ومناعة قوية أمكنه أن يتخلص من الآثار السيئة لبعض الأطعمة غير المناسبة لسلامة مزاجه ، وبسبب مناعته الجسمية.

وبتعبير آخر إنّ التكفير عن الذنوب الصغيرة وغفرانها يعد نوعا من «الأجر المعنوي»لتاركي المعاصي والذنوب الكبيرة ، ولهذا ـ في الحقيقة ـ أثر تشجيعي قوي على ترك الكبائر ، محفز على اجتنابها.

متى تنقلب الصّغيرة إلى كبيرة؟ :

إلّا أنّ هاهنا نقطة مهمّة لا بدّ من الالتفات إليها ، وهي أنّ المعاصي الصغيرة تبقى صغيرة ما لم تتكرر ، هذا مضافا إلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور وطغيان ، لأنّ الصغائر ـ كما يستفاد من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة ـ تتبدل إلى الكبيرة في عدّة موارد هي :

1 ـ إذا «تكررت الصغيرة» ، قال الإمام الصّادقعليه‌السلام : «لا صغيرة مع الإصرار».

٢٠٦

2 ـ إذا استصغر صاحب المعصية معصيته واستحقرها ، فقد جاء في نهج البلاغة : «أشدّ الذّنوب ما استهان به صاحبه».

3 ـ إذا ارتكبها مرتكبها عن عناد واستكبار وطغيان وتمرد على أوامر الله تعالى، وهذا هو ما يستفاد من آيات قرآنية متنوعة إجمالا ، من ذلك قوله تعالى :( فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) (1) .

4 ـ إن صدرت المعصية ممن لهم مكانة اجتماعية خاصّة بين الناس وممن لا تحسب معصيتهم كمعصية الآخرين ، فقد جاء في القرآن الكريم حول نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة الأحزاب الآية (30) :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) ، وقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا).

5 ـ أن يفرح مرتكب المعصية بما اقترفه من المعصية ، ويفتخر بذلك كما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أذنب ذنبا وهو ضاحك دخل النّار وهو باك».

6 ـ أن يعتبر تأخير العذاب العاجل عنه على المعصية دليلا على رضاه تعالى ، ويرى العبد نفسه محصنا من العقوبة آمنا من العذاب ، أو يرى لنفسه مكانة عند الله لا يعاقبه الله على معصية لأجلها ، كما جاء في سورة المجادلة الآية (8) حاكيا عن لسان بعض العصاة المغرورين الذين يقولون في أنفسهم :( لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) ، ثمّ يرد عليهم القرآن الكريم قائلا :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ) (2) .

* * *

__________________

(1) النازعات ، 37 ـ 39.

(2) المحجة البيضاء ، ج 7 ، ص 61.

٢٠٧

الآية

( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) )

سبب النّزول

قال المفسّر الشّهير الطّبرسيرحمه‌الله في «مجمع البيان» : قيل أن أم سلمة (وهي من أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنّما لنا نصف الميراث؟ فليتنا رجال ونغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال ، فنزلت الآية تجيب على جميع هذه التساؤلات.

ونقرأ في تفسير المنار : إنّ جماعة من الرجال المسلمين قالوا : نرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهنّ في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت جماعة من النساء المسلمات : إنا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ، فنزلت الآية.

وقد ذكر سبب النّزول هذا بعينه في تفسير «في ظلال القرآن» وتفسير «روح المعاني» مع فارق بسيط.

٢٠٨

التّفسير

لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإرث ـ كما قرأت في سبب النزول ـ تساؤلا لدى البعض ، ويبدو أنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذا التفاوت إنّما هو لأجل أن النفقة بكاملها على الرجل ، وليس على النساء شيء من نفقات العائلة ، بل نفقة المرأة هي الاخرى مفروضة على الرجل ، ولهذا يكون ما تصيبه المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة، ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية :( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) ،لأنّ لكل نوع من أنواع هذا التفصيل والتفاوت أسرار خفيّة عنكم غير ظاهرة لكم ، سواء كان التفاوت من جهة الخلقة والجنسية وبقية الصفات الجسمية والروحية التي تشكل أساس النظام الاجتماعي فيكم ، أو التفاوت من الناحية الحقوقية بسبب اختلاف الموقع والمكانة كالتفاوت في سهم الإرث ، إنّ جميع أنواع هذا التفاوت قائم على أساس العدل والقانون الإلهي الحكيم ، ولو كانت مصلحتكم في غير ذلك لسنّه وبيّنه لكم.

وعلى هذا فإن تمنّى تغيير هذا الوضع نوع من المخالفة للمشيئة الرّبانية التي هي عين الحق والعدالة.

على أنّه يجب أن لا نتصور خطأ أنّ الآية الحاضرة تشير إلى التفاوت المصطنع الذي برز نتيجة الاستعمار والاستغلال الطبقي ، بل تشير إلى الفروق الطبيعية الواقعية ، لأنّ الفروق المصطنعة لا هي من المشيئة الإلهية في شيء ، ولا أن تمني تغييرها مرفوض وغير صحيح ، بل هي فروق ظالمة وغير منطقية يجب السعي في رفعها وإزالتها وتفنيدها ، فللمثال : لا يمكن للنساء أن يتمنين أن يكنّ رجالا ، كما لا يمكن للرجال أن يتمنوا أن يكونوا نساء ، لأنّ وجود هذين الجنسين أمر ضروري للنظام الاجتماعي الإنساني ، ولكن هذا التفاوت الجنسي يجب أن لا يتّخذ ذريعة ، لأن يسحق أحد الجنسين حقوق الجنس الآخر ، ومن هنا فإنّ الذين اتّخذوا هذه الآية ذريعة لإثبات التمييز الاجتماعي الظالم أو

٢٠٩

يتصوروها حجّة على هذا التمييز قد أخطئوا خطأ كبيرا.

ولذا عقب الله سبحانه على الجملة السابقة فورا بقوله :( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) أي لكلّ من الرجال والنساء نصيب من سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية (كالتفاوت والفرق بين جنسي الرجل والمرأة) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الاختيارية.

إنّ الجدير بالالتفات هنا هو : إنّ لكلمة «الاكتساب» التي هي بمعنى التحصيل مفهوما واسعا يشمل الجهود الاختيارية ، كما يشمل ما يحصل عليه الإنسان بواسطة بنيانه الطبيعي.

ثمّ يقول :( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) أي بدل أن تتمنوا هذا التفصيل والتفاوت اطلبوا من فضل الله واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة ، لتكونوا ـ بنتيجة ذلك ـ سعداء رجالا ونساء ، ومن أي عنصر كنتم ، وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم واقعا ، ولا تتمنوا ما هو خيال أو ما تتخيلونه (ولعلّ التعبير بلفظة «من فضله» إشارة إلى المعنى الأخير).

على أنّه من الواضح جدّا أن طلب الفضل والعناية الرّبانية ليس بمعنى أن لا يسعى الإنسان في الأخذ بأسباب كلّ شيء وعوامله ، بل لا بدّ من البحث عن فضل الله ورحمته من خلال الأسباب التي قرّرها وأرساها في الكون.

( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) أي يعلم ما يحتاج إليه نظام المجتمع وما يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية ، ولهذا لا وجود للظلم والحيف ولا لأي شيء من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله ، كما أنّه تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي يتمنى الأماني الخاطئة في قلبه ، ومن يتمنى الأماني الإيجابية الصحيحة البناءة.

٢١٠

التفاوت الطبيعي بين النّاس لما ذا؟ :

إنّ ثمّة كثيرين يطرحون على أنفسهم السّؤال التالي : لما ذا خلق البعض بمواهب وقابليات أكثر ، وآخرون بمواهب وقابليات أقل ، والبعض متحلين بالجمال ، وآخرون خلو منه ، أو بجمال قليل ، والبعض بامتيازات جسمية عالية وقوية متفوقة ، وآخرون عاديين ، هل يتلاءم هذا التفاوت مع العدل الإلهي؟؟.

في الإجابة على هذه التساؤلات لا بدّ من الالتفات إلى النقاط التالية :

1 ـ إنّ بعض الفروق الجسمية والروحية بين الناس ناشئة عن الاختلافات الطبقية والمظالم الاجتماعية ، أو التفريط الفردي الذي لا علاقة له بنظام الخلق وجهاز الإيجاد أبدا ، فمثلا كثير من أبناء الأغنياء أقوى من أبناء الفقراء وأكثر جمالا وتقدما من ناحية المواهب والقابليات بسبب أن الفريق الأوّل (أولاد الأغنياء) يحظى بإمكانيات أكبر من حيث الغذاء والجوانب الصحية ، في حين يعاني الفريق الثاني من حرمان ونقصان من هذه الجهة. أو أن هناك من يخسر الكثير من طاقاته الجسمية والروحية بسبب التواني ، والبطالة، والتفريط والتقصير.

إنّنا يجب أن نعتبر هذه الفروق وهذا التفاوت تفاوتا ومصطنعا ومزيفا ، وغير مبرر،ويتحقق القضاء عليها من خلال القضاء على النظام الطبقي ، وتعميم العدالة الاجتماعية في الحياة البشرية ، والقرآن الكريم والإسلام لا يقرّ أي شيء من هذه الفروق،وأي لون من ألوان هذا التفاوت والتمييز أبدا.

2 ـ إنّ القسم الآخر من الفروق وألوان التفاوت أمر طبيعي ، وشيء لازم من لوازم الجبلة البشرية ، بل وضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية ، يعني أنّ مجتمعا من المجتمعات حتى إذا كان يحظى بالعدالة الاجتماعية الكاملة لا يمكن أن يكون جميع أفراده متساوين وعلى نمط واحد وصورة واحدة مثل منتجات معمل. بل لا بدّ أن يكون هناك بعض التفاوت ، ولكن يجب أن نعلم أنّ المواهب

٢١١

الإلهية والقابليات الجسمية والروحية قد قسمت ـ في الأغلب ـ تقسيما يصيب فيه كل واحد قسطا من تلك المواهب والقابليات. لا أن يحظى بعض بجميع المواهب ، ويحرم آخرون من أي شيء منها ، وبمعنى أنّه قل أن يوجد هناك من تجتمع فيه كل المواهب جملة واحدة،بل هناك من يحظى بالمقدرة البدنية الكافية ، وآخر يحظى بموهبة رياضية جيدة ، ومن يحظى بذوق شعري رفيع ، وآخر يحظى برغبة كبيرة في التجارة ، ومن يتمتع بذكاء وافر في مجال الزراعة ، وآخر بمواهب وقابليات خاصّة أخرى.

المهم أن يكتشف المجتمع أو الأفراد أنفسهم تلك المواهب والقابليات ، وأن يقوموا بتربيتها وتنميته في بيئة سليمة ، حتى يتمكن كل إنسان إظهار ما ينطوي عليه من نقطة ضعف ويستفيد منها.

3 ـ يجب أن نذكر القارئ أيضا بأنّ المجتمع مثل الجسد الإنساني بحاجة إلى الأنسجة والعضلات والخلايا المختلفة ، يعني كما أنّ البدن لو تألف جميعه من خلايا دقيقة ورقيقة مثل خلايا العين والمخ لم يدم طويلا ، ولو تألف جميعه من خلايا غليظة وخشنة لا تعرف انعطافا مثل خلايا العظام ، فقدت القدرة الكافية على القيام بوظائفها ، بل لا بدّ أن تكون الخلايا المكونة للجسم متنوعة ، ليصلح بعضها للقيام بوظيفة التفكير ، وبعضها للمشاهدة والنظر ، وآخر على الاستماع ورابع على التحدث ، هكذا لا بدّ لوجود «المجتمع الكامل» من وجود عناصر ذات مواهب وقابليات وأذواق ، وتراكيب مختلفة متنوعة ، بدنية وفكرية،لكن لا يعني هذا أن يعاني بعض أعضاء الجسد الاجتماعي من حرمان ، أو تستصغر خدماته أو يستحقر دوره ، تماما كما تستفيد كل خلايا البدن الواحد رغم ما بينها من تفاوت وفروق من الغذاء والهواء وغيرها من الحاجات بالمقدار اللازم لكل واحد.

وبعبارة أخرى : إنّ الفروق وأشكال التفاوت في البينة الروحية والجسمية

٢١٢

في الجوانب الطبيعة (التي لا هي ظالمة ولا هي مفروضة) إنّما هي في الحقيقة مقتضى «الحكمة الرّبانية» ، والعدل لا يمكنه بحال أن ينفصل عن الحكمة.

فعلى سبيل المثال إذا كانت خلايا الجسم البشري مخلوقة في شكل واحد كان ذلك بعيدا عن الحكمة كما أنّه خال عن العدل الذي يعني وضع كل شيء في محله وموضعه المناسب ، وكذلك إذا تشابه الناس في يوم من الأيّام في التفكير أو تشابهوا في القابلية والموهبة لتهافت بنيان المجتمع برمته في ذلك اليوم.

إذن فما ورد في هذه الآية في مجال التفصيل والتفاوت في جبلة الرجل والمرأة وخلقتهما إنّما هو في الواقع إشارة إلى هذا الموضوع ، لأنّه من البديهي إذا كان البشر جميعا رجالا ، أو كانوا جميعا نساء لانقرض النوع البشري عاجلا ، هذا مضافا إلى انتفاء قسم من ملاذ البشر المشروعة.

فإذا اعترض جماعة قائلين لما ذا خلق البشر صنفين رجالا ونساء ، وزعموا بأنّ هذا الأمر لا يتلاءم مع العدالة الإلهية. لم يكن هذا الاعتراض منطقيا ، لأنهم لم يلتفتوا إلى حكمة هذا التفاوت ، ولم يتدبروا فيها.

* * *

٢١٣

الآية

( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) )

التّفسير

يعود القرآن مرّة أخرى إلى مسألة الإرث إذ يقول :( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) (1) ( مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) أي لكل رجل أو امرأة جعلنا ورثة يرثون ممّا ترك الوالدان والأقربون الذي يجب أن يقسّم بينهم طبق برنامج خاص.

إنّ هذه العبارة هي ـ في الحقيقة ـ خلاصة أحكام الإرث التي مرّ ذكرها في الآيات السابقة في مجال الأقرباء ، وهي مقدمة لحكم سيأتي بيانه في ما بعد.

ثمّ إنّ الله تعالى يضيف قائلا :( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي ادفعوا إلى الذين عقدتم معهم عقدا نصيبهم من الإرث.

والتعبير عن الميثاق بعقد اليمين (وهو العقد باليد اليمنى) لأجل أنّ الإنسان

__________________

(1) «الموالي» جمع مولى ، وهي في الأصل من مادة الولاية بمعنى الاتصال والارتباط ، وتطلق على جميع الأفراد الذين يرتبط بعضهم ببعض بنوع من الارتباط ، غاية ما هناك أنّها تكون في بعض الموارد بمعنى ارتباط الولي ، مع أتباعه ، وأمّا في الآية الحاضرة فتكون بمعنى الورثة.

٢١٤

غالبا ما يستفيد من يده اليمنى للقيام بأعماله ، كما أنّ الميثاق يشبه نوعا من العقد (في مقابل الحل).

والآن لننظر من هم الذين عقد معهم الميثاق ، الذين لا بدّ أن يعطوا نصيبهم من الإرث؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد هو الزوج والزوجة لأنّهما عقدا في ما بينهما رابطة الزوجية.

ولكن هذا الاحتمال يبدو مستبعدا ، لأنّ التعبير عن الزواج بعقد اليمين ونظيره في القرآن الكريم قليل جدا ، هذا مضافا إلى أنّه يعد تكرارا للمواضيع السابقة.

إنّ ما هو أقرب إلى مفهوم الآية هو عقد «ضمان الجريرة» الذي كان رائجا قبل الإسلام ، وقد عدله الإسلام بعد أن أقرّه لما فيه من ناحية إيجابية وهو : «أن يتعاقد شخصان فيما بينهما على أن يتعاونا فيما بينهما بشكل أخوي أن يعين أحدهما الآخر عند المشكلات ، وإذا مات أحدهما قبل الآخر ورثه الباقي» ولقد أقر الإسلام هذا النوع من التعاقد الأخوي الودي ، ولكنّه أكد على أنّ التوارث بسبب هذا الميثاق إنّما يمكن إذا لم يكن هناك ورثة من طبقات الأقرباء ، يعني إذا لم يبق أحد من الأقرباء ورث ضامن الجريرة الذي وقع بينه وبين الآخر مثل هذا العقد (لمعرفة التفاصيل أكثر راجع بحث الإرث في الكتب الفقهية)(1) .

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) أي إذا قصرتم في إعطاء نصيب الورثة ولم تعطوهم حقوقهم كاملة ، علم الله بذلك ولم يخف عليه ما فعلتم ، لأنّه على كل شيء شهيد وبكل شيء عليم.

* * *

__________________

(1) صورة عقد ضمان الجريرة هكذا «عاقدتك على أن تنصرني وأنصرك وتعقل عني وأعقل عنك وترثني وأرثك» فيقول الآخر : «قبلت».

٢١٥

الآية

( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) )

التّفسير

القوامة في النّظام العائلي :

قال الله تعالى في مطلع هذه الآية( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ولا بدّ لتوضيح هذه العبارة من الالتفات إلى أنّ العائلة وحدة اجتماعية صغيرة ، وهي كالاجتماع الكبير لا بدّ لها من قائد وقائم بأمورها ، لأن القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معا ، لا معنى لها ولا مفهوم ، فلا بدّ أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة ، ويكون «رئيسا» للعائلة ، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إشراف الرئيس.

إنّ القرآن يصرّح ـ هنا ـ بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لا بدّ أن يعطي للرجل (ويجب أن لا يساء فهم هذا الكلام ، فليس المقصود من هذا التعبير هو

٢١٦

الاستبداد والإجحاف والعدوان ، بل المقصود هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسئولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الإعتبار).

إنّ هذه المسألة تبدو واضحة في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى ، وهي أن أية هيئة حتى المؤلفة من شخصين مكلفة بالقيام بأمر لا بدّ أن يتولى أحدهما زعامة تلك الهيئة فيكون رئيسها ، بينما يقوم الآخر بمساعدته فيكون بمثابة (المعاون أو العضو) ، وإلّا سادت الفوضى أعمال تلك الهيئة واختلت نشاطاتها وأخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة،وهكذا الحال بالنسبة إلى العائلة ، فلا بدّ من إسناد إدارة العائلة إلى الرجل.

وإنّما تعطى هذه المكانة للرجل لكونه يتمتع بخصوصيات معينة مثل القدرة على ترجيح جانب العقل على جانب العاطفة والمشاعر ، (على العكس من المرأة التي تتمتع بطاقة فياضة وطاغية من الأحاسيس والعواطف) ومثل امتلاك بنية داخلية وقوة بدنية أكبر ليستطيع بالأولى أن يفكر ويخطط جيدا ، ويستطيع بالثانية أن يدافع عن العائلة ويذّب عنها.

هذا مضافا إلى أنّه يستحق ـ لقاء ما يتحمله من الإنفاق على الأولاد والزوجة،ولقاء ما تعهده من القيام بكل التكاليف اللازمة من مهر ونفقة وإدارة مادية لائقة للعائلة ـ أن تناط إليه وظيفة القوامة والرئاسة في النظام العائلي.

نعم يمكن أن يكون هناك بعض النسوة ممن يتفوقن على أزواجهنّ في بعض الجهات،إلّا أن القوانين ـ كما أسلفنا مرارا ـ تسن بملاحظة النوع ومراعاة الأغلبية لا بملاحظة الأفراد ، فردا فردا ، ولا شك أنّ الحالة الغالبة في الرجال أنّهم يتفوقون على النساء في القابلية على القيام بهذه المهمّة ، وإن كانت النسوة يمكنهنّ أن يتعهدن القيام بوظائف أخرى لا يشك في أهميتها.

إنّ جملة( بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) إشارة

٢١٧

أيضا إلى هذه الحقيقة ، لأنّ القسم الأوّل من هذه الفقرة يقول : إن هذه القوامة إنّما هو لأجل التفاوت الذي أوجده الله بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة تقتضيها حياة النوع البشري ، بينما يقول في القسم الثاني منها : وأيضا لأجل أن الرجال كلفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإنفاق والبذل.

ولكن غير خفي أن إناطة مثل هذه الوظيفة والمكانة إلى الرجل لا تدل على أفضلية شخصية الرّجل من الناحية البشرية ، ولا يبرر تميزه في العالم الآخر (أي يوم القيامة) لأنّ التميز والأفضلية في عالم الآخرة يدور مدار التقوى فقط ، كما أنّ شخصية المعاونة الإنسانية قد تترجح في بعض الجهات المختلفة على شخصية الرئيس ، ولكن الرئيس يتفوق على معاونه في الإرادة التي أنيطت إليه ، فيكون أليق من المعاون في هذا المجال.

ثمّ إنّه سبحانه يضيف قائلا :( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ) ، وهذا يعني أن النساء بالنسبة إلى الوظائف المناطة إليهنّ في مجال العائلة على صنفين :

الطّائفة الأولى : وهنّ «الصالحات» أي غير المنحرفات «القانتات» أي الخاضعات تجاه الوظائف العائلية «الحافظات للغيب» اللاتي يحفظن حقوق الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب ، بل يحفظنهم في غيبتهم ، يعني أنهنّ لا يرتكبن أية خيانة سواء في مجال المال ، أو في المجال الجنسي ، أو في مجال حفظ مكانة الزوج وشأنه الاجتماعي ، وأسرار العائلة في غيبته ، ويقمن بمسئولياتهنّ تجاه الحقوق التي فرضها الله عليهنّ والتي عبّر عنها في الآية بقوله :( بِما حَفِظَ اللهُ ) خير قيام.

ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة ، وحفظ حقوقهنّ،وعدم إضاعتها.

٢١٨

النّساء المقصرات النّاشزات

الطّائفة الثّانية : هنّ النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهنّ وواجباتهنّ ، وتبدو عليهنّ علائم النشوز وأماراته فإن على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لا بدّ من القيام بها مرحلة فمرحلة ، وعلى كل حال يجب أن يراعوا جانب العدل ولا يخرجوا عن حدوده وإطار ، وهذه الوظائف هي بالترتيب :

1 ـ المواعظة

إنّ المرحلة الأولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة ، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة :( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَ ) (1) . وعلى هذا فإن النساء اللاتي يتجاوزن حدود النظام العائلي وحريمه لا بدّ قبل أي شيء أن يذكرن ـ من خلال الوعظ والإرشاد ـ بمسئولياتهنّ وواجباتهنّ ونتائج العصيان والنشوز.

2 ـ الهجر في المضاجع

وتأتي هذه المرحلة إذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِع ) ، وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة ، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهنّ.

3 ـ الضرب :

وأمّا إذا تجاوزن في عصيانهنّ ، والتمرد على واجباتهنّ ومسئولياتهنّ الحدّ ، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتد عن بالأساليب السابقة ، فلا النصيحة تفيد ، ولا العظة تنفع ، ولا الهجر ينجح ، ولم يبق من سبيل إلّا استخدام العنف ، فحينئذ يأتي دور الضرب ف( اضْرِبُوهُنَ ) لدفعهنّ إلى القيام بواجباتهنّ الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شيء من العنف ، ولهذا

__________________

(1) «النشوز» من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة ، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.

٢١٩

سمح الإسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهنّ ودفعهنّ إلى القيام بواجباتهنّ من خلال التنبيه الجسدي.

اشكال :

يمكن أن يعترض معترض في هذا المقام قائلا : كيف سمح الإسلام للرجال بأن يتوسلوا بأسلوب التنبيه الجسدي المتمثل بالضرب؟

الجواب :

إنّ الجواب على هذا الاعتراض يبدو غير صعب بملاحظة معنى الآية والروايات الواردة لبيان مفادها وما جاء في توضيحها في الكتب الفقهية ، وأيضا بملاحظة ما يعطيه علماء النفس اليوم من توضيحات علمية في هذا المجال ، ونلخص بعض هذه الأمور في نقاط :

أوّلا : إنّ الآية تسمح بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفة وواجباته،الذي لا تنفع معه أية وسيلة أخرى ، ومن حسن الصدف أن هذا الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإسلام في حياة البشر ، فجميع القوانين العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق السلمية لدفعه إلى تحمل مسئولياته والقيام بواجباته ، فإن هذه القوانين ربّما لا تقتصر على وسيلة الضرب ، بل تتجاوز ذلك ـ في بعض الموارد الخاصّة ـ إلى ممارسة عقوبات أشد تبلغ حدّ الإعدام والقتل.

ثانيا : إنّ التّنبيه الجسدي المسموح به هنا يجب أن يكون خفيفا ، وأن يكون الضرب ضربا غير مبرح ، أي لا يبلغ الكسر والجرح ، بل ولا الضرب البالغ حد السواد كما هو مقرر في الكتب الفقهية.

ثالثا : إنّ علماء التحليل النفسي ـ اليوم ـ يرون أن بعض النساء يعانين من حالة نفسية هي «المازوخية» التي تقتضي أن ترتاح المرأة لضربها وأن هذه الحالة قد تشتد في المرأة إلى درجة تحس باللّذة والسكون والرضا إذا ضربت

٢٢٠