الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 163831
تحميل: 5298


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163831 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

ضربا طفيفا.

وعلى هذا يمكن أن تكون هذه الوسيلة ناظرة إلى مثل هؤلاء الأفراد الذين يكون التنبيه الجسدي الخفيف بمثابة علاج نفسي لهم.

ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إلى الطاعة،وعادت المرأة إلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على المرأة ، ويعمد إلى إيذائها،ومضايقتها حتى تعود إلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله :( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) .

ولو قيل : إن مثل هذا الطغيان والعصيان والتمرد على الواجبات الزوجية والعائلية قد يقع من قبل الرجال أيضا ، فهل تشمل هذه المراحل الرجال أيضا؟ أي أيمكن ممارسة هذه الأمور ضد الرجل كذلك ، أم لا؟

نقول في الإجابة على ذلك : نعم إنّ الرجال العصاة يعاقبون حتى بالعقوبة الجسدية أيضا ـ كما تعاقب النساء العاصيات الناشزات ـ غاية ما هنالك أن هذه العقوبات حيث لا تتيسر للنساء ، فإن الحاكم الشرعي مكلف بأن يذكر الرجال المتخلفين بواجباتهم وظائفهم بالطرق المختلفة وحتى بالتعزير (الذي هو نوع من العقوبة الجسدية).

وقصّة الرجل الذي أجحف في حق زوجته ورفض الخضوع للحق ، فعمد الإمام عليعليه‌السلام إلى تهديده بالسيف وحمله على الخضوع ، معروفة.

ثمّ أنّ الله سبحانه ذكّر الرجال مرّة أخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم ، وأن يفكروا في قدرة الله التي هي فوق كل قدرة( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) .

* * *

٢٢١

الآية

( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) )

التّفسير

محكمة الصّلح العائلية :

في هذه الآية إشارة إلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين ، فهي تقول :( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين ، ثمّ يقول تعالى :( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) أي ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإصلاح،فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما.

ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثّهما على استخدام حسن النّية ، يقول سبحانه في ختام هذه الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) .

إنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إليها الآية الحاضرة ، هي إحدى مبتكرات الإسلام العظيمة ، فإن هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إليها المحاكم

٢٢٢

الاخرى ، من جملتها.

1 ـ إن البيئة العائلية بيئة عاطفية ، ولذلك فإن المقياس الذي يجب أن يتبع في هذه البيئة ، يختلف عن المقاييس المتبعة في البيئات الاخرى ، يعني كما أنّه لا يمكن العمل في «المحاكم الجنائية» بمقياس المحبّة والعاطفة ، فإنّه لا يمكن ـ في البيئة العائلية ـ العمل بمقياس القوانين الجافة. الضوابط الصارمة الخالية عن روح العاطفة ، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإمكان ، ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإصلاح بين الزوجين ، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم خاصّة دون بقية المحاكم الاخرى.

2 ـ إنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين ـ تحت طائلة الدفاع عن النفس ـ أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار ، ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر،بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا ـ بحكم المحكمة ـ إلى البيت لما عادا إلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة ، بل لبقيا يعيشان بقية حياتهما كشخصين غريبين مجبرين على القيام بوظائف معينة ، ولقد دلّت التجربة وأثبتت أنّ الزوجين اللذين يضطران إلى التحاكم إلى مثل هذه المحاكم لحل ما بينهما من الخلاف لم يعودا ذينك الزوجين السابقين.

بينما لا تطرح أمثال هذه الأمور في محاكم الصلح العائلية للاستحياء من الحضور ، أو إذا اتفق أن طرحت هذه الأمور فإنّها تطرح في جو عائلي ، وأمام الأقرباء فإنّها لن تنطوي على ذلك الأثر السيء الذي أشرنا إليه.

3 ـ إنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات ، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة

٢٢٣

إلى المحكمة ، هل يعود الزوجان إلى البيت على وفاق ، أو ينفصلا مع طلاق؟

في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماما ، فإن الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة ، فإن لافتراق أو صلح الزوجين أثرا كبيرا في حياة الحكمين من الناحية العاطفية ، ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك ، ولهذا فإنّهما يسعيان ـ جهد إمكانهما ـ أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما ، وأن يعيدا المياه إلى مجاريها كما يقول المثل.

4 ـ مضافا إلى كلّ ذلك فإن مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات ، ولا تحتاج إلى أية ميزانيات باهظة ، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع الذي تعاني منه المحاكم العادية ، فهي تستطيع أن تقوم بأهدافها وتحقق أغراضها من دون أية تشريفات وفي أقل مدّة من الزمن.

ولا يخفى أنّه يجب أن يختار الحكمان من بين الأشخاص المحنّكين المطلعين المعروفين ، في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التدبير.

مع هذه المميزات التي عددناها يتبيّن أنّ هذه المحكمة تحظى بفرصة للإصلاح بين الزوجين.

إنّ مسألة الحكمين وما يشترط فيهما من الشروط ، ومدى صلاحيتهما وما يحكمان به في مجال الزوجين ، قد ذكر في الكتب الفقهية بالتفصيل ، منها أن يكون الحكمان بالغين عاقلين عادلين بصيرين بعملهما.

وأمّا مدى نفوذ حكمهما في حق الزوجين ، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى نفوذ كل ما يصدر أنّه من حكم في هذا المجال ، وظاهر التعبير به «حكم» في الآية الحاضرة يفيد هذا المعنى أيضا ، لأن مفهوم الحكمية والقضاء هو نفوذ الحكم مهما كان ، ولكن أكثر الفقهاء يرون نفوذ ما يراه الحكمان في مورد التوفيق بين

٢٢٤

الزوجين ورفع الاختلاف والنزاع بينهما ، بل يرون نفوذ ما يشترطه الحكمان على الزوجين،وأمّا حكمهما في مجال الطلاق والإفتراق بين الزوجين فغير نافذ لوحده ، وذيل الآية الذي يشير إلى مسألة الإصلاح أكثر ملاءمة مع هذا الرأي ، وللتوسع في هذا المجال يجب مراجعة الكتب الفقهية.

* * *

٢٢٥

الآية

( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) )

التّفسير

الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية بما فيها الحقوق الإلهية ، وحقوق العباد ، وآداب العشرة مع الناس ، ويستفاد منها عشرة تعاليم :

1 ـ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا

إنّ الآية تدعو الناس قبل أي شيء إلى عبادة الله والخضوع له وحده ، وترك الشرك والوثنية التي هي أساس كل البرامج والمناهج الإسلامية.

إنّ الدّعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح ، وتخلص النية ، وتقوي الإرادة ، وتشدد من عزيمة الإنسان على الإتيان بأي برنامج مفيد.

وحيث أنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية لذلك فقد

٢٢٦

أشارت إلى حقّ الله على الناس قبل أي شيء وقبل أي حقّ وقالت :( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) .

2 ـ وبالوالدين إحسانا

ثمّ إنّها تشير إلى حقّ الوالدين وتوصي بالإحسان إليهما ولا شك أنّ حقّ الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيرا ، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الاهتمام والعناية ، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم(1) .

من هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمّة ارتباطا بين هاتين المسألتين ، والقضية في الحقيقة كالتالي : حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأولى ، فيما ترتبط بالوالدين في الدرجة الثانية ، لأنّ الولد جزء من وجود الوالدين ، لذلك كان ترك حقوق الوالدين وتجاهلها ، في مصاف الشرك بالله سبحانه.

هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في سورة الإسراء ولقمان بإذن الله تعالى.

3 ـ وبذي القربى

ثمّ أنّها توصي بالإحسان إلى كلّ الأقرباء ، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم اهتماما بالغا تارة تحت عنوان «صلة الرحم» وأخرى بعنوان «الإحسان إلى القربى» وقد أراد الإسلام بهذا ـ في الحقيقة ـ أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافا إلى إيجاد أواصر وعلاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاما مثل

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 83 ، سورة الأنعام ، الآية 151 ، سورة الإسراء ، الآية 23 مضافا إلى الآية الحاضرة.

٢٢٧

«العشيرة» و «العائلة» ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث ، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم.

4 ـ واليتامى

ثمّ أشارت إلى حقوق «اليتامى» وأوصت المؤمنين ببرهم والإحسان إليهم ، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة ، لا يهدد تناسيهم وإهمالهم وضعهم الخاص فقط ، بل الوضع الاجتماعي بصورة عامّة ، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبّة واللطف يتحولون إلى أفراد منفلتين فاسدين ، بل أشخاص خطرين جناة.

وعلى هذا يكون الإحسان إلى اليتامى إحسانا إلى الفرد وإلى المجتمع معا.

5 ـ والمساكين

ثمّ يذكّر سبحانه ـ في هذه الآية ـ بحقوق الفقراء والمساكين ، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية ، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر يخالف كل الأسس والقيم الإنسانية ، فلا بدّ من تقديم العون إليهم ، ومعالجة حرمانهم.

وأمّا إذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن الانحراف عن مبادئ وأسس العدالة الاجتماعية فإنّه لا بدّ من مكافحتهما أيضا.

6 ـ والجار ذي القربى

ثمّ يوصي بالجيران من ذوي القربى ، وهناك احتمالات متعددة حول المراد من «الجار ذي القربى» أبداها المفسرون ، فبعضهم قال : معناه الجار القريب في النسب ، غير أن هذا التّفسير يبدو بعيدا بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت

٢٢٨

إلى حقوق الأقرباء في هذه الآية ، فلا بدّ أن يكون المراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي،لأن الجيران الأقربين مكانا يستحقون احتراما وحقوقا أكثر من غيرهم ، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إلى الإنسان من الناحية الدينية والاعتقادية.

7 ـ والجار الجنب

ثمّ إنها توصي بالجيران البعيدين ، والمراد ـ كما أسلفنا ـ هو البعد المكاني ، لأنّ كل أربعين دارا من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران ، كما تصرح بعض الروايات(1) ، وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة تقريبا (لأنّنا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل صوب أربعون بيتا لاتّضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة آلاف بيت ، ومن المسلم أن المدن الصغيرة قلّما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت.

والجدير بالتأمل أنّ القرآن يصرّح ـ في هذه الآية ـ مضافا إلى ذكر الجيران القربين ـ بحقّ الجيران البعيدين ، لأنّ لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط ، ولهذا لم يكن بدّا في نظر الإسلام أن يذكر بالجيران البعيدين أيضا.

كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين ، لأنّ حقّ الجوار غير منحصر في نظر الإسلام بالجيران المسلمين ، فهو يعمّ المسلمين وغير المسلمين (اللهم إلّا الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم).

إنّ لحقّ الجوار في الإسلام أهميّة بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام المعروفة : «ما زال (رسول الله) يوصي بهم حتى ظننا أنّه

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 480.

٢٢٩

سيورثهم»(1) (وقد ورد هذا الحديث في مصادر أهل السنة أيضا فقد روي في تفسير المنار وتفسير القرطبي من البخاري مثل هذا المضمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا).

وروي في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال ذات يوم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، فقيل : يا رسول الله ومن؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه»(2) .

كما نقرأ في حديث آخر أيضا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»(3) .

وروي عن الإمام الصّادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام أنّه قال : «حسن الجوار يعمر الدّيار ويزيد في الأعمار»(4) .

في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئا ، بل وربّما لا يتعرف على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألّق هذا التعليم الإسلامي في حق الجار بشكل خاص ، فإنّ الإسلام يقيم للعلاقات العاطفية والتعاون الإنساني وزنا خاصّا ، ويوليها اهتماما كبيرا ، في حين تؤول هذه العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إلى الزوال يوما بعد يوم ، وتعطي مكانها إلى القسوة والجفاء والخشونة.

8 ـ والصّاحب بالجنب

ثمّ أوصت بالرّفيق والصّاحب ، غير أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ لـ «الصاحب بالجنب» معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف ، وفي الحقيقة تشمل كل من رافق أو صاحب الإنسان مرافقة ما سواء كان صديقا دائميا أو صديقا مؤقتا

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ج 3 ، ص 1754.

(2) تفسير المنار ، ج 5 ، ص 192 ، طبعة بيروت.

(3) تفسير الصافي ، ص 130.

(4) تفسير الصافي ، ص 120.

٢٣٠

(كالذي يرافق الإنسان في السفر بعض الوقت) وتفسير لفظة «لصاحب بالجنب» في بعض الروايات بالرفيق مثل «رفيقك في السفر» أو الذي يقصد الإنسان رجاء نفعه مثل : (المنقطع إليك يرجو نفعك» ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم ، بل هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضا ، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمرا كليا وجامعا بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء ، سواء كان صديقا واقعيا ، أو زميلا ، أو رفيق سفر ، أو مراجعا ، أو تلميذا ، أو مشاورا ، أو خادما.

وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة ، وقد روى صاحب تفسير المنار ، وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا المعنى عن عليعليه‌السلام ،ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضا.

9 ـ وابن السبيل

وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة ، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإن كان يمكن أن يكون متمكّنا ذا مال في بلده ، والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل (أي ابن الطريق) إنّما هو لأجل أنّنا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إلى عائلة أو قبيلة أو شخص ، بل لا بدّ أن نحميهم بمجرّد أنّهم مسافرون انقطعوا في السفر ، وبرزت لديهم حاجة إلى المساعدة والعون.

10 ـ وما ملكت أيمانكم

وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإحسان إلى العبيد والأرقاء ، وبهذا تكون الآية ـ في الحقيقة ـ قد بدأت بحق الله ، وختمت بحقوق العبيد ، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.

٢٣١

على أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد ، بل لقد بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أخرى أيضا.

هذا مضافا إلى أنّ الإسلام قد نظم برنامجا دقيقا لتحرير العبيد تدريجا ، والذي يؤول في النتيجة إلى تحريرهم المطلق ، وسوف نتحدّث حول هذه المسألة في ذيل الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً ) وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر الله ، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضا لسخط الله ، وسيحرم من عنايته سبحانه ، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإلهي والعناية الرّبانية حرم من كل خير وسعادة.

وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما عن أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ هذه الآية( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) فذكر الكبر فعظمه ، فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك؟ فقال يا رسول الله : إنّي لأحب الجمال حتى أنّه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال : «فأنت من أهل الجنّة ، أنّه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك،ولكن الكبر من سفه الحقّ وغمص الناس»(1) .

والخلاصة أنّ ما يستفاد من العبارة الاخيرة أنّ مصدر الشرك وهضم حقوق الآخرين هو الانانية والتكبر غالبا ، ولا يتسنى للشخص أداء تلك الحقوق ، وخاصّة حقوق الأيتام والمساكين والأرقاء إلّا من تحلّى بروح التواضع ونكران الذات(2) .

* * *

__________________

(1) غمص الناس : احتقرهم واستصغرهم ولم يرهم شيئا. انظر لسان العرب (غمص).

(2) «مختال» من مادة «خيال» حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيما وكبيرا ، وسمي الخيل خيلا لأن مشيته تشبه مشية المتكبر ، «فخور» من مادة «فخر» والفرق بينها وبين الأولى ان المختال اشارة إلى تخيلات الكبر في مجالها الذهني والاخرى يراد بها الأعمال الصادرة عن كبر في المجال الخارجي.

٢٣٢

الآيات

( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) )

التّفسير

الإنفاق رياء والإنفاق قربة :

الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث ـ هي في الحقيقة ـ تعقيب على الآيات السابقة وإشارة إلى المتكبرين إذ تقول :( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) هذا مضافا إلى أنّهم يسعون دائما أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئا( وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .

ثمّ يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم :( وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أن

٢٣٣

«البخل» ينبع في الغالب من الكفر ، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإلهية العظيمة للمحسنين. إنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إليهم يجرّ إليهم التعاسة والشقاء.

وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء ، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والاستكبار هو العذب المهين.

ثمّ إنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ البخل لا يختص بالأمور المالية ، بل يشمل كل نوع من أنواع الموهبة الإلهية ، فثمّة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة في المجال المالي ، ولكنّهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأمور الاخرى من هذا القبيل.

ثمّ إن الله سبحانه يذكر صفة أخرى من صفات المتكبرين إذ يقول :( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه ، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه ، وبالتالي ليس هدفهم من الإنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا الله سبحانه ، ولهذا فإنّهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك الاستحقاق ، بل يفكرون دائما في أنّه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إنفاقاتهم ويحققوا ما يطمحون إليه من أغراض شخصية ، وأهداف خاصّة ، كتقوية نفوذهم وتكريس موقعهم في المجتمع مثلا ، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولهذا السبب يفتقر إنفاقهم إلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإنفاق ، بل دافعهم هو الوصول إلى الشّهرة والشّخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل ، وهذا هو أيضا من آثار التكبر ونتائج الأنانية.

إنّ هؤلاء اختاروا الشّيطان رفيقا وقرينا لهم :( مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً ) إنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشّيطان ، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان،وسلوكهم سلوكه سواء بسواء ، إنّه هو الذي يقول لهم : إنّ الإنفاق

٢٣٤

بإخلاص يوجب الفقر( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) (1) ولهذا فإمّا أن يبخلوا ويمتنعوا عن الإنفاق والبذل (كما أشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنّهم ينفقون إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أشير إلى ذلك في الآية الحاضرة).

من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السيء من الأثر في مصير الإنسان ، ذلك الأثر الذي ربّما يبلغ في آخر المطاف إلى السقوط الكامل.

كما يستفاد أنّ علاقة «المتكبرين» بـ «الشيطان والأعمال الشيطانية» علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية ، ذلك لأنّهم اختاروا الشيطان قرينا ورفيقا لأنفسهم.

وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) أي شيء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إلى جادة الصواب وأنفقوا ممّا رزقهم الله من الخير والنعمة في سبيل الله ، بإخلاص لا رياء ، وكسبوا بذلك رضا الله ، وتعرضوا للطفه وعنايته ، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟

فلما ذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولما ذا ترى يتركون طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقا أخرى لا تنتج سوى الشقاء ، ولا تنتهي بهم إلّا إلى الضرر والخسران؟

وعلى كل حال فإنّ الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا :( وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً ) .

والجدير بالانتباه أنّ الإنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول الإنفاق مراءاة نسب إلى الأموال( يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ) ، وفي هذه الآية نسب إلى( مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) ،وهذا التفاوت والاختلاف في التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

__________________

(1) البقرة ، 268.

٢٣٥

ثلاث نقاط :

أوّلا : إنّه في الإنفاق رياء لا تلحظ حلّية المال وحرمته ، في حين تلحظ في الإنفاق لله حلّية المال وأن يكون مصداق( مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) .

ثانيا : إنّه في الإنفاق رياء حيث أنّهم يحسبون أنّ المال الذي ينفقونه خاص بهم ، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمنّ ، في حين أنّ المنفقين لله حيث يعتقدون بأنّ الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال ، وأنّه لا مجال للمنّ إذا هم أنفقوا شيئا من ذلك ، ولذلك يمتنعون من الكبر والسنّ.

ثالثا : إنّ الإنفاق رياء ينحصر غالبا في المال ، لأنّ أمثال هؤلاء محرمون من أي رأسمال معنوي لينفقوا منه ، ولكن الإنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل المواهب الإلهية من المال ، والعلم والجاه ، والمكانة الاجتماعية وما شابه ذلك من الأمور المادية والمعنوية.

* * *

٢٣٦

الآية

( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(40) )

التّفسير

ما هي «الذّرة»؟ :

«الذّرة» في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى ، وقال البعض : هي من أجزاء الهباء والغبار في الكوّة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها ، وقيل أيضا أنّه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإنسان إذا جعلهما على التراب وما شابهه ثمّ نفخهما.

ولكنّها أطلقت تدريجا على كل شيء صغير جدّا ، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإلكترون والبروتون أيضا. لأنّها إذا كانت تطلق سابقا على أجزاء الغبار ، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجراء الجسم ، ولكن حيث ثبت اليوم أنّ أصغر أجزاء «الجسم المركب» هو «المولوكول» أو الجزئية ، وأصغر أجزاء «الجسم البسيط» هو «الذّرات»،اختيرت لفظة «الذّرة» في الاصطلاح العلمي على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجرّدة ، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى الميكروسكوبات الإلكترونية ، وإنّما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدقّ الأجهزة وأقواها، وحيث أن

٢٣٧

«مثقال» يعني الثقل ، فإنّ التعبير بمثقال ذرة يعني جسما في غاية الدقة والصغر.

إنّ الآية الحاضرة تقول : إنّ الله لا يظلم قط زنة ذرة ، بل يضاعف الحسنة إذا قام بها أحد ، ويعطي من لدنه على ذلك أجرا عظيما :( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) .

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة : إنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي في الحقيقة إلّا جزاء ما قمتم به من الأعمال ، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله ، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.

ثمّ أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أن لفظة «ضعف» و «المضاعف» تعني في اللغة العربية ما يعادل الشيء أو يربو عليه مرّات عديدة ، وعلى هذا الأساس لا تنافي هذه الآية الآيات الاخرى التي تقول : إن أجر الإنفاق قد يصل إلى عشرة أضعاف ، وقد يصل إلى سبعمائة مرّة وعلى أي حال فإنّها تحكي عن لطف الله بالنسبة إلى عباده ، حيث لا يعاقبهم على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر ممّا عملوا ، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إذا أتوا بحسنة واحدة.

يبقى أن نعرف لما ذا لا يظلم الله سبحانه؟ فإنّ السبب فيه واضح ، لأن الظلم عادة ـ إمّا ناشئ عن الجهل ، وإمّا ناشئ عن الحاجة ، وإمّا ناشئ عن نقص نفسي.

ومن كان عالما بكل شيء ، وكان غنيّا عن كل شيء ، ولم يكن يعاني من أي نقص،لا يمكن صدور الظلم منه ، فهو لا يظلم أساسا ، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم،ولا أن الظلم غير متصوّر في حقّه (كما تذهب إليه طائفة من الأشاعرة) ، بل مع قدرته تعالى على الظلم ـ لا يظلم أبدا لحكمته وعلمه ، فهو يضع كل شيء في عالم الوجود موضعه ، ويعامل كل أحد حسب عمله ، وطبقا لسلوكه وسيرته.

* * *

٢٣٨

الآيتان

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (42) )

التّفسير

شهود يوم القيامة :

تعقيبا على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين. جاءت هذه الآية تشير إلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) وهكذا يكون نبي كل أمّة شهيدا عليها ، مضافا إلى شهادة أعضاء الإنسان وجوارحه ، وشهادة الأرض التي عليها عاش،وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته ، ويكون نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخر أنبياء الله ورسله وأعظمهم ، شاهدا على أمّته أيضا ، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إنكار حقيقة من الحقائق ، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

ثمّ إنّ نظير هذا المضمون قد جاء أيضا في عدّة آيات قرآنية أخرى ، منها الآية (143) من سورة البقرة ، والآية (89) من سورة النحل ، والآية (78) من سورة الحج.

٢٣٩

والآن يطرح هذا السؤال ، وهو : كيف تتمّ شهادة الأنبياء على أعمال أممهم ، وكيف تكون؟

إذا كانت كلمة «هؤلاء» إشارة إلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع البيان ، فإن الجواب على هذا السؤال يكون واضحا ، لأنّ كل نبيّ ما دام موجودا بين ظهراني أمّته فهو شاهد على أعمالهم ، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأمّة ، ولهذا جاء في حق المسيحعليه‌السلام أنّه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إيّاه :( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (1) .

ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة «هؤلاء» إشارة إلى شهود الأمم السابقة ، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيدا على شهداء الأمم من الأنبياء ، وقد أشير في بعض الروايات إلى هذا التّفسير(2) وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا : إنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية ، وهكذا الحال بالنسبة إلى رسول الإسلام ، فإنّ روحه الطاهرة ناظرة ـ عن هذا الطريق أيضا ـ على أعمال أمّته وجميع الأمم السابقة ، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم ، بل وحتى الصلحاء من الأمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الاطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة ، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بدء الخلق ، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور ، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح ، لأنّ الآية المذكورة تقول : إنّ المسيح لم يكن شاهدا على أمّته جمعاء ، بل كان شاهدا عليها ما دام في الحياة (فتأمل).

__________________

(1) المائدة ، 117.

(2) راجع تفسير نور الثقلين والبرهان في ذيل الآية.

٢٤٠