الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173455 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ضربا طفيفا.

وعلى هذا يمكن أن تكون هذه الوسيلة ناظرة إلى مثل هؤلاء الأفراد الذين يكون التنبيه الجسدي الخفيف بمثابة علاج نفسي لهم.

ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إلى الطاعة،وعادت المرأة إلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على المرأة ، ويعمد إلى إيذائها،ومضايقتها حتى تعود إلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله :( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) .

ولو قيل : إن مثل هذا الطغيان والعصيان والتمرد على الواجبات الزوجية والعائلية قد يقع من قبل الرجال أيضا ، فهل تشمل هذه المراحل الرجال أيضا؟ أي أيمكن ممارسة هذه الأمور ضد الرجل كذلك ، أم لا؟

نقول في الإجابة على ذلك : نعم إنّ الرجال العصاة يعاقبون حتى بالعقوبة الجسدية أيضا ـ كما تعاقب النساء العاصيات الناشزات ـ غاية ما هنالك أن هذه العقوبات حيث لا تتيسر للنساء ، فإن الحاكم الشرعي مكلف بأن يذكر الرجال المتخلفين بواجباتهم وظائفهم بالطرق المختلفة وحتى بالتعزير (الذي هو نوع من العقوبة الجسدية).

وقصّة الرجل الذي أجحف في حق زوجته ورفض الخضوع للحق ، فعمد الإمام عليعليه‌السلام إلى تهديده بالسيف وحمله على الخضوع ، معروفة.

ثمّ أنّ الله سبحانه ذكّر الرجال مرّة أخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم ، وأن يفكروا في قدرة الله التي هي فوق كل قدرة( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) .

* * *

٢٢١

الآية

( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) )

التّفسير

محكمة الصّلح العائلية :

في هذه الآية إشارة إلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين ، فهي تقول :( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين ، ثمّ يقول تعالى :( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) أي ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإصلاح،فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما.

ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثّهما على استخدام حسن النّية ، يقول سبحانه في ختام هذه الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) .

إنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إليها الآية الحاضرة ، هي إحدى مبتكرات الإسلام العظيمة ، فإن هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إليها المحاكم

٢٢٢

الاخرى ، من جملتها.

١ ـ إن البيئة العائلية بيئة عاطفية ، ولذلك فإن المقياس الذي يجب أن يتبع في هذه البيئة ، يختلف عن المقاييس المتبعة في البيئات الاخرى ، يعني كما أنّه لا يمكن العمل في «المحاكم الجنائية» بمقياس المحبّة والعاطفة ، فإنّه لا يمكن ـ في البيئة العائلية ـ العمل بمقياس القوانين الجافة. الضوابط الصارمة الخالية عن روح العاطفة ، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإمكان ، ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإصلاح بين الزوجين ، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم خاصّة دون بقية المحاكم الاخرى.

٢ ـ إنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين ـ تحت طائلة الدفاع عن النفس ـ أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار ، ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر،بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا ـ بحكم المحكمة ـ إلى البيت لما عادا إلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة ، بل لبقيا يعيشان بقية حياتهما كشخصين غريبين مجبرين على القيام بوظائف معينة ، ولقد دلّت التجربة وأثبتت أنّ الزوجين اللذين يضطران إلى التحاكم إلى مثل هذه المحاكم لحل ما بينهما من الخلاف لم يعودا ذينك الزوجين السابقين.

بينما لا تطرح أمثال هذه الأمور في محاكم الصلح العائلية للاستحياء من الحضور ، أو إذا اتفق أن طرحت هذه الأمور فإنّها تطرح في جو عائلي ، وأمام الأقرباء فإنّها لن تنطوي على ذلك الأثر السيء الذي أشرنا إليه.

٣ ـ إنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات ، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة

٢٢٣

إلى المحكمة ، هل يعود الزوجان إلى البيت على وفاق ، أو ينفصلا مع طلاق؟

في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماما ، فإن الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة ، فإن لافتراق أو صلح الزوجين أثرا كبيرا في حياة الحكمين من الناحية العاطفية ، ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك ، ولهذا فإنّهما يسعيان ـ جهد إمكانهما ـ أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما ، وأن يعيدا المياه إلى مجاريها كما يقول المثل.

٤ ـ مضافا إلى كلّ ذلك فإن مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات ، ولا تحتاج إلى أية ميزانيات باهظة ، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع الذي تعاني منه المحاكم العادية ، فهي تستطيع أن تقوم بأهدافها وتحقق أغراضها من دون أية تشريفات وفي أقل مدّة من الزمن.

ولا يخفى أنّه يجب أن يختار الحكمان من بين الأشخاص المحنّكين المطلعين المعروفين ، في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التدبير.

مع هذه المميزات التي عددناها يتبيّن أنّ هذه المحكمة تحظى بفرصة للإصلاح بين الزوجين.

إنّ مسألة الحكمين وما يشترط فيهما من الشروط ، ومدى صلاحيتهما وما يحكمان به في مجال الزوجين ، قد ذكر في الكتب الفقهية بالتفصيل ، منها أن يكون الحكمان بالغين عاقلين عادلين بصيرين بعملهما.

وأمّا مدى نفوذ حكمهما في حق الزوجين ، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى نفوذ كل ما يصدر أنّه من حكم في هذا المجال ، وظاهر التعبير به «حكم» في الآية الحاضرة يفيد هذا المعنى أيضا ، لأن مفهوم الحكمية والقضاء هو نفوذ الحكم مهما كان ، ولكن أكثر الفقهاء يرون نفوذ ما يراه الحكمان في مورد التوفيق بين

٢٢٤

الزوجين ورفع الاختلاف والنزاع بينهما ، بل يرون نفوذ ما يشترطه الحكمان على الزوجين،وأمّا حكمهما في مجال الطلاق والإفتراق بين الزوجين فغير نافذ لوحده ، وذيل الآية الذي يشير إلى مسألة الإصلاح أكثر ملاءمة مع هذا الرأي ، وللتوسع في هذا المجال يجب مراجعة الكتب الفقهية.

* * *

٢٢٥

الآية

( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) )

التّفسير

الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية بما فيها الحقوق الإلهية ، وحقوق العباد ، وآداب العشرة مع الناس ، ويستفاد منها عشرة تعاليم :

١ ـ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا

إنّ الآية تدعو الناس قبل أي شيء إلى عبادة الله والخضوع له وحده ، وترك الشرك والوثنية التي هي أساس كل البرامج والمناهج الإسلامية.

إنّ الدّعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح ، وتخلص النية ، وتقوي الإرادة ، وتشدد من عزيمة الإنسان على الإتيان بأي برنامج مفيد.

وحيث أنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية لذلك فقد

٢٢٦

أشارت إلى حقّ الله على الناس قبل أي شيء وقبل أي حقّ وقالت :( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) .

٢ ـ وبالوالدين إحسانا

ثمّ إنّها تشير إلى حقّ الوالدين وتوصي بالإحسان إليهما ولا شك أنّ حقّ الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيرا ، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الاهتمام والعناية ، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم(١) .

من هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمّة ارتباطا بين هاتين المسألتين ، والقضية في الحقيقة كالتالي : حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأولى ، فيما ترتبط بالوالدين في الدرجة الثانية ، لأنّ الولد جزء من وجود الوالدين ، لذلك كان ترك حقوق الوالدين وتجاهلها ، في مصاف الشرك بالله سبحانه.

هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في سورة الإسراء ولقمان بإذن الله تعالى.

٣ ـ وبذي القربى

ثمّ أنّها توصي بالإحسان إلى كلّ الأقرباء ، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم اهتماما بالغا تارة تحت عنوان «صلة الرحم» وأخرى بعنوان «الإحسان إلى القربى» وقد أراد الإسلام بهذا ـ في الحقيقة ـ أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافا إلى إيجاد أواصر وعلاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاما مثل

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٨٣ ، سورة الأنعام ، الآية ١٥١ ، سورة الإسراء ، الآية ٢٣ مضافا إلى الآية الحاضرة.

٢٢٧

«العشيرة» و «العائلة» ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث ، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم.

٤ ـ واليتامى

ثمّ أشارت إلى حقوق «اليتامى» وأوصت المؤمنين ببرهم والإحسان إليهم ، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة ، لا يهدد تناسيهم وإهمالهم وضعهم الخاص فقط ، بل الوضع الاجتماعي بصورة عامّة ، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبّة واللطف يتحولون إلى أفراد منفلتين فاسدين ، بل أشخاص خطرين جناة.

وعلى هذا يكون الإحسان إلى اليتامى إحسانا إلى الفرد وإلى المجتمع معا.

٥ ـ والمساكين

ثمّ يذكّر سبحانه ـ في هذه الآية ـ بحقوق الفقراء والمساكين ، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية ، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر يخالف كل الأسس والقيم الإنسانية ، فلا بدّ من تقديم العون إليهم ، ومعالجة حرمانهم.

وأمّا إذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن الانحراف عن مبادئ وأسس العدالة الاجتماعية فإنّه لا بدّ من مكافحتهما أيضا.

٦ ـ والجار ذي القربى

ثمّ يوصي بالجيران من ذوي القربى ، وهناك احتمالات متعددة حول المراد من «الجار ذي القربى» أبداها المفسرون ، فبعضهم قال : معناه الجار القريب في النسب ، غير أن هذا التّفسير يبدو بعيدا بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت

٢٢٨

إلى حقوق الأقرباء في هذه الآية ، فلا بدّ أن يكون المراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي،لأن الجيران الأقربين مكانا يستحقون احتراما وحقوقا أكثر من غيرهم ، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إلى الإنسان من الناحية الدينية والاعتقادية.

٧ ـ والجار الجنب

ثمّ إنها توصي بالجيران البعيدين ، والمراد ـ كما أسلفنا ـ هو البعد المكاني ، لأنّ كل أربعين دارا من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران ، كما تصرح بعض الروايات(١) ، وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة تقريبا (لأنّنا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل صوب أربعون بيتا لاتّضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة آلاف بيت ، ومن المسلم أن المدن الصغيرة قلّما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت.

والجدير بالتأمل أنّ القرآن يصرّح ـ في هذه الآية ـ مضافا إلى ذكر الجيران القربين ـ بحقّ الجيران البعيدين ، لأنّ لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط ، ولهذا لم يكن بدّا في نظر الإسلام أن يذكر بالجيران البعيدين أيضا.

كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين ، لأنّ حقّ الجوار غير منحصر في نظر الإسلام بالجيران المسلمين ، فهو يعمّ المسلمين وغير المسلمين (اللهم إلّا الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم).

إنّ لحقّ الجوار في الإسلام أهميّة بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام المعروفة : «ما زال (رسول الله) يوصي بهم حتى ظننا أنّه

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٨٠.

٢٢٩

سيورثهم»(١) (وقد ورد هذا الحديث في مصادر أهل السنة أيضا فقد روي في تفسير المنار وتفسير القرطبي من البخاري مثل هذا المضمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا).

وروي في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال ذات يوم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، فقيل : يا رسول الله ومن؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه»(٢) .

كما نقرأ في حديث آخر أيضا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»(٣) .

وروي عن الإمام الصّادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام أنّه قال : «حسن الجوار يعمر الدّيار ويزيد في الأعمار»(٤) .

في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئا ، بل وربّما لا يتعرف على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألّق هذا التعليم الإسلامي في حق الجار بشكل خاص ، فإنّ الإسلام يقيم للعلاقات العاطفية والتعاون الإنساني وزنا خاصّا ، ويوليها اهتماما كبيرا ، في حين تؤول هذه العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إلى الزوال يوما بعد يوم ، وتعطي مكانها إلى القسوة والجفاء والخشونة.

٨ ـ والصّاحب بالجنب

ثمّ أوصت بالرّفيق والصّاحب ، غير أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ لـ «الصاحب بالجنب» معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف ، وفي الحقيقة تشمل كل من رافق أو صاحب الإنسان مرافقة ما سواء كان صديقا دائميا أو صديقا مؤقتا

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١٧٥٤.

(٢) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٩٢ ، طبعة بيروت.

(٣) تفسير الصافي ، ص ١٣٠.

(٤) تفسير الصافي ، ص ١٢٠.

٢٣٠

(كالذي يرافق الإنسان في السفر بعض الوقت) وتفسير لفظة «لصاحب بالجنب» في بعض الروايات بالرفيق مثل «رفيقك في السفر» أو الذي يقصد الإنسان رجاء نفعه مثل : (المنقطع إليك يرجو نفعك» ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم ، بل هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضا ، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمرا كليا وجامعا بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء ، سواء كان صديقا واقعيا ، أو زميلا ، أو رفيق سفر ، أو مراجعا ، أو تلميذا ، أو مشاورا ، أو خادما.

وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة ، وقد روى صاحب تفسير المنار ، وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا المعنى عن عليعليه‌السلام ،ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضا.

٩ ـ وابن السبيل

وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة ، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإن كان يمكن أن يكون متمكّنا ذا مال في بلده ، والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل (أي ابن الطريق) إنّما هو لأجل أنّنا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إلى عائلة أو قبيلة أو شخص ، بل لا بدّ أن نحميهم بمجرّد أنّهم مسافرون انقطعوا في السفر ، وبرزت لديهم حاجة إلى المساعدة والعون.

١٠ ـ وما ملكت أيمانكم

وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإحسان إلى العبيد والأرقاء ، وبهذا تكون الآية ـ في الحقيقة ـ قد بدأت بحق الله ، وختمت بحقوق العبيد ، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.

٢٣١

على أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد ، بل لقد بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أخرى أيضا.

هذا مضافا إلى أنّ الإسلام قد نظم برنامجا دقيقا لتحرير العبيد تدريجا ، والذي يؤول في النتيجة إلى تحريرهم المطلق ، وسوف نتحدّث حول هذه المسألة في ذيل الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً ) وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر الله ، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضا لسخط الله ، وسيحرم من عنايته سبحانه ، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإلهي والعناية الرّبانية حرم من كل خير وسعادة.

وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما عن أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ هذه الآية( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) فذكر الكبر فعظمه ، فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك؟ فقال يا رسول الله : إنّي لأحب الجمال حتى أنّه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال : «فأنت من أهل الجنّة ، أنّه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك،ولكن الكبر من سفه الحقّ وغمص الناس»(١) .

والخلاصة أنّ ما يستفاد من العبارة الاخيرة أنّ مصدر الشرك وهضم حقوق الآخرين هو الانانية والتكبر غالبا ، ولا يتسنى للشخص أداء تلك الحقوق ، وخاصّة حقوق الأيتام والمساكين والأرقاء إلّا من تحلّى بروح التواضع ونكران الذات(٢) .

* * *

__________________

(١) غمص الناس : احتقرهم واستصغرهم ولم يرهم شيئا. انظر لسان العرب (غمص).

(٢) «مختال» من مادة «خيال» حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيما وكبيرا ، وسمي الخيل خيلا لأن مشيته تشبه مشية المتكبر ، «فخور» من مادة «فخر» والفرق بينها وبين الأولى ان المختال اشارة إلى تخيلات الكبر في مجالها الذهني والاخرى يراد بها الأعمال الصادرة عن كبر في المجال الخارجي.

٢٣٢

الآيات

( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) )

التّفسير

الإنفاق رياء والإنفاق قربة :

الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث ـ هي في الحقيقة ـ تعقيب على الآيات السابقة وإشارة إلى المتكبرين إذ تقول :( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) هذا مضافا إلى أنّهم يسعون دائما أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئا( وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .

ثمّ يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم :( وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أن

٢٣٣

«البخل» ينبع في الغالب من الكفر ، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإلهية العظيمة للمحسنين. إنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إليهم يجرّ إليهم التعاسة والشقاء.

وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء ، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والاستكبار هو العذب المهين.

ثمّ إنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ البخل لا يختص بالأمور المالية ، بل يشمل كل نوع من أنواع الموهبة الإلهية ، فثمّة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة في المجال المالي ، ولكنّهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأمور الاخرى من هذا القبيل.

ثمّ إن الله سبحانه يذكر صفة أخرى من صفات المتكبرين إذ يقول :( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه ، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه ، وبالتالي ليس هدفهم من الإنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا الله سبحانه ، ولهذا فإنّهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك الاستحقاق ، بل يفكرون دائما في أنّه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إنفاقاتهم ويحققوا ما يطمحون إليه من أغراض شخصية ، وأهداف خاصّة ، كتقوية نفوذهم وتكريس موقعهم في المجتمع مثلا ، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولهذا السبب يفتقر إنفاقهم إلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإنفاق ، بل دافعهم هو الوصول إلى الشّهرة والشّخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل ، وهذا هو أيضا من آثار التكبر ونتائج الأنانية.

إنّ هؤلاء اختاروا الشّيطان رفيقا وقرينا لهم :( مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً ) إنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشّيطان ، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان،وسلوكهم سلوكه سواء بسواء ، إنّه هو الذي يقول لهم : إنّ الإنفاق

٢٣٤

بإخلاص يوجب الفقر( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) (١) ولهذا فإمّا أن يبخلوا ويمتنعوا عن الإنفاق والبذل (كما أشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنّهم ينفقون إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أشير إلى ذلك في الآية الحاضرة).

من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السيء من الأثر في مصير الإنسان ، ذلك الأثر الذي ربّما يبلغ في آخر المطاف إلى السقوط الكامل.

كما يستفاد أنّ علاقة «المتكبرين» بـ «الشيطان والأعمال الشيطانية» علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية ، ذلك لأنّهم اختاروا الشيطان قرينا ورفيقا لأنفسهم.

وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) أي شيء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إلى جادة الصواب وأنفقوا ممّا رزقهم الله من الخير والنعمة في سبيل الله ، بإخلاص لا رياء ، وكسبوا بذلك رضا الله ، وتعرضوا للطفه وعنايته ، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟

فلما ذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولما ذا ترى يتركون طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقا أخرى لا تنتج سوى الشقاء ، ولا تنتهي بهم إلّا إلى الضرر والخسران؟

وعلى كل حال فإنّ الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا :( وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً ) .

والجدير بالانتباه أنّ الإنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول الإنفاق مراءاة نسب إلى الأموال( يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ) ، وفي هذه الآية نسب إلى( مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) ،وهذا التفاوت والاختلاف في التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٨.

٢٣٥

ثلاث نقاط :

أوّلا : إنّه في الإنفاق رياء لا تلحظ حلّية المال وحرمته ، في حين تلحظ في الإنفاق لله حلّية المال وأن يكون مصداق( مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) .

ثانيا : إنّه في الإنفاق رياء حيث أنّهم يحسبون أنّ المال الذي ينفقونه خاص بهم ، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمنّ ، في حين أنّ المنفقين لله حيث يعتقدون بأنّ الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال ، وأنّه لا مجال للمنّ إذا هم أنفقوا شيئا من ذلك ، ولذلك يمتنعون من الكبر والسنّ.

ثالثا : إنّ الإنفاق رياء ينحصر غالبا في المال ، لأنّ أمثال هؤلاء محرمون من أي رأسمال معنوي لينفقوا منه ، ولكن الإنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل المواهب الإلهية من المال ، والعلم والجاه ، والمكانة الاجتماعية وما شابه ذلك من الأمور المادية والمعنوية.

* * *

٢٣٦

الآية

( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(٤٠) )

التّفسير

ما هي «الذّرة»؟ :

«الذّرة» في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى ، وقال البعض : هي من أجزاء الهباء والغبار في الكوّة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها ، وقيل أيضا أنّه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإنسان إذا جعلهما على التراب وما شابهه ثمّ نفخهما.

ولكنّها أطلقت تدريجا على كل شيء صغير جدّا ، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإلكترون والبروتون أيضا. لأنّها إذا كانت تطلق سابقا على أجزاء الغبار ، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجراء الجسم ، ولكن حيث ثبت اليوم أنّ أصغر أجزاء «الجسم المركب» هو «المولوكول» أو الجزئية ، وأصغر أجزاء «الجسم البسيط» هو «الذّرات»،اختيرت لفظة «الذّرة» في الاصطلاح العلمي على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجرّدة ، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى الميكروسكوبات الإلكترونية ، وإنّما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدقّ الأجهزة وأقواها، وحيث أن

٢٣٧

«مثقال» يعني الثقل ، فإنّ التعبير بمثقال ذرة يعني جسما في غاية الدقة والصغر.

إنّ الآية الحاضرة تقول : إنّ الله لا يظلم قط زنة ذرة ، بل يضاعف الحسنة إذا قام بها أحد ، ويعطي من لدنه على ذلك أجرا عظيما :( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) .

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة : إنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي في الحقيقة إلّا جزاء ما قمتم به من الأعمال ، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله ، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.

ثمّ أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أن لفظة «ضعف» و «المضاعف» تعني في اللغة العربية ما يعادل الشيء أو يربو عليه مرّات عديدة ، وعلى هذا الأساس لا تنافي هذه الآية الآيات الاخرى التي تقول : إن أجر الإنفاق قد يصل إلى عشرة أضعاف ، وقد يصل إلى سبعمائة مرّة وعلى أي حال فإنّها تحكي عن لطف الله بالنسبة إلى عباده ، حيث لا يعاقبهم على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر ممّا عملوا ، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إذا أتوا بحسنة واحدة.

يبقى أن نعرف لما ذا لا يظلم الله سبحانه؟ فإنّ السبب فيه واضح ، لأن الظلم عادة ـ إمّا ناشئ عن الجهل ، وإمّا ناشئ عن الحاجة ، وإمّا ناشئ عن نقص نفسي.

ومن كان عالما بكل شيء ، وكان غنيّا عن كل شيء ، ولم يكن يعاني من أي نقص،لا يمكن صدور الظلم منه ، فهو لا يظلم أساسا ، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم،ولا أن الظلم غير متصوّر في حقّه (كما تذهب إليه طائفة من الأشاعرة) ، بل مع قدرته تعالى على الظلم ـ لا يظلم أبدا لحكمته وعلمه ، فهو يضع كل شيء في عالم الوجود موضعه ، ويعامل كل أحد حسب عمله ، وطبقا لسلوكه وسيرته.

* * *

٢٣٨

الآيتان

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) )

التّفسير

شهود يوم القيامة :

تعقيبا على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين. جاءت هذه الآية تشير إلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) وهكذا يكون نبي كل أمّة شهيدا عليها ، مضافا إلى شهادة أعضاء الإنسان وجوارحه ، وشهادة الأرض التي عليها عاش،وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته ، ويكون نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخر أنبياء الله ورسله وأعظمهم ، شاهدا على أمّته أيضا ، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إنكار حقيقة من الحقائق ، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

ثمّ إنّ نظير هذا المضمون قد جاء أيضا في عدّة آيات قرآنية أخرى ، منها الآية (١٤٣) من سورة البقرة ، والآية (٨٩) من سورة النحل ، والآية (٧٨) من سورة الحج.

٢٣٩

والآن يطرح هذا السؤال ، وهو : كيف تتمّ شهادة الأنبياء على أعمال أممهم ، وكيف تكون؟

إذا كانت كلمة «هؤلاء» إشارة إلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع البيان ، فإن الجواب على هذا السؤال يكون واضحا ، لأنّ كل نبيّ ما دام موجودا بين ظهراني أمّته فهو شاهد على أعمالهم ، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأمّة ، ولهذا جاء في حق المسيحعليه‌السلام أنّه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إيّاه :( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) .

ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة «هؤلاء» إشارة إلى شهود الأمم السابقة ، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيدا على شهداء الأمم من الأنبياء ، وقد أشير في بعض الروايات إلى هذا التّفسير(٢) وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا : إنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية ، وهكذا الحال بالنسبة إلى رسول الإسلام ، فإنّ روحه الطاهرة ناظرة ـ عن هذا الطريق أيضا ـ على أعمال أمّته وجميع الأمم السابقة ، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم ، بل وحتى الصلحاء من الأمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الاطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة ، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بدء الخلق ، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور ، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح ، لأنّ الآية المذكورة تقول : إنّ المسيح لم يكن شاهدا على أمّته جمعاء ، بل كان شاهدا عليها ما دام في الحياة (فتأمل).

__________________

(١) المائدة ، ١١٧.

(٢) راجع تفسير نور الثقلين والبرهان في ذيل الآية.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية ٣٤ من سورة الطور ، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطبا :( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيرا فلا بدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والانشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّرا وغرورا ، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم ، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضا ـ بعد أن بيّن أبحاثا متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك :( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) .

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عند ما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

٢٨١

ووفقا لبعض الرّوايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام ، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة ، ومحتواها المؤثّر من جهة اخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة ، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الاولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة كلّ هذه الأمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلّا اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه. ستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتا ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن اعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأنّ نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناء على هذا ، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) بسطوا ألسنتهم وقالوا : تلك الغرانيق العلى!! ولذلك انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النّبي آية السجدة!

٢٨٢

لأنّنا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين ١٩ و٢٠ من هذه السورة].

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها ، ولحن الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب ، أي هي بعد سورة الم السجدة ، وحم السجدة وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلّا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلّا لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك ، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك ، أي رضاك يا ربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العبر ـ لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الاقتفاء على آثارهم

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

انتهت سورة النجّم

٢٨٣
٢٨٤

سورة

القمر

مكّية

وعدد آياتها خمس وخمسون آية

٢٨٥
٢٨٦

«سورة القمر»

محتوى السورة :

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد ، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالأمم لكي يكون درسا وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

٢ ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهيّة ، وهم قوم نوح ، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

٣ ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالحعليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

٢٨٧

لانحرافهم الأخلاقي ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرّباني.

٦ ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة سورة القمر :

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(١) .

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ (بداية سورة القمر).

٢٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) )

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة البارئعزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضا ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

٢٨٩

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا ، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عند ما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عند ما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : «انشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) مشيرا إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اخرى ، فإنّ انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استنادا إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس : اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي : «يا فلان يا فلان ، اشهدوا»(٢) .

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية : (انشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩.

(٢) ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

٢٩٠

الشمسية ، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق ، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة ، وأنكروا كلّ معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا القرآن الكريم ، عند ما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال ، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربّانية ، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث

والحقيقة أنّ مسألة «انشقاق القمر» كانت معجزة ، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك ، ليعلموا أنّ للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة أيضا.

وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز ، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الاطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله ، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

٢٩١

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا : (حبل مرير) أي : محكم ، والبعض فسّرها بمعنى : الطارئ وغير الثابت ، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ ، ومن جهة اخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية ، وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم ، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسئوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ

وبالنسبة لقوله تعالى :( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) ، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والاتّهامات لا تقوى على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه ، حيث إنّ كلّ شيء (خير أو شرّ) يسير بالاتّجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له ، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

٢٩٢

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها ، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.

* * *

بحوث

١ ـ شقّ القمر معجزة كبيرة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك فإنّ بعض الأشخاص السطحيين يصرّون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز ، حيث قالوا : إنّ الآية الكريمة تحدّثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة ، وهي الحوادث التي تسبق وقوع يوم القيامة

لقد غاب عن هؤلاء أنّ الأدلّة العديدة الموجودة في الآية تؤكّد على حدوث هذه المعجزة ، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشقّ) بصيغة الماضي ، وهذا يعني أنّ (أشقّ القمر) شيء قد حدث كما أنّ قرب وقوع يوم القيامة قد تحقّق ، وذلك بظهور آخر الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالإضافة إلى ذلك ، إن لم تكن الآية قد تحدّثت عن وقوع معجزة ، فلا يوجد أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على الرّسول بأنّه (ساحر) وكذلك قوله :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) والتي تخبر الآية هنا عن تكذيبهم للرسالة والرّسول ومعاجزه.

إضافة إلى ذلك فإنّ الرّوايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية ، والتي بلغت حدّ التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة ، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.

ونشير هنا إلى روايتين منها :

الاولى : أوردها الفخر الرازي أحد المفسّرين السنّة ، والاخرى للعلّامة الطبرسي أحد المفسّرين الشيعة.

يقول الفخر الرازي : «والمفسّرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشقّ

٢٩٣

وحصل فيه الإنشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الإنشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشكّ فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب إعتقاد وقوعه»(١) .

أمّا عن نظرية بطليموس والقائلة بأنّ (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن تنفصل أو تلتئم) فإنّها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي ، حيث إنّه ثبت من خلال الأدلّة العقليّة أنّ انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : لقد أجمع المفسّرون والمحدّثون سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا ، أنّ معجزة شقّ القمر كانت في زمن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل أنّ حذيفة ـ وهو أحد الصحابة المعروفين ـ ذكر قصّة شقّ القمر في جمع غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، مع العلم أنّ كثيرا منهم قد عاصر زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة في الدرّ المنثور والقرطبي).

وممّا تقدّم يتّضح جيّدا أنّ مسألة شقّ القمر أمر غير قابل للإنكار ، سواء من الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها ، أو من خلال الأحاديث والرّوايات ، أو أقوال المفسّرين ، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة اخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن شاء الله فيما بعد.

٢ ـ مسألة شقّ القمر والعلم الحديث :

السؤال المهمّ المطروح في هذا البحث هو : هل أنّ الأجرام السماوية يمكنها أن تنفصل وتنشقّ؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨ ، أوّل سورة القمر.

٢٩٤

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصّل إليها العلماء الفلكيون ، فإنّ مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل تصوّره إنّ الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها الباحثون تؤكّد أنّ مثل هذه الحوادث مضافا إلى أنّها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل ولعدّة مرّات مع اختلاف العوامل المؤثّرة في كلّ حالة.

وبعبارة اخرى : فقد لوحظ أنّ مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في المنظومة الشمسية ، بل في سائر الأجرام السماوية.

ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر

أ ـ ظهور المنظومة الشمسية :

إنّ هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول : إنّ جميع كرات المنظومة الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثمّ انفصلت عنها ، حيث أصبحت كلّ واحدة منها تدور في مدارها الخاصّ بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا الانفصال

يعتقد (لا پلاس) أنّ العامل المسبّب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي : (القوّة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها ، حيث أنّ الشمس كانت تعتبر ولحدّ الآن كتلة ملتهبة ، وضمن دورانها حول نفسها فإنّ السرعة الموجودة في المنطقة الإستوائية لها تسبّب تناثر بعض القطع منها في الفضاء ممّا يجعل هذه القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).

ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لا پلاس) توصّلوا من خلال تحقيقاتهم إلى فرضية اخرى تقول : إنّ السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية عن الشمس هو حالة المدّ والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.

٢٩٥

الأشخاص المؤيّدون لهذه النظرية الذين يرون أنّ الحركة الوضعية للشمس في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافعي لأسباب هذا الانفصال ، قالوا : إنّ حالة المدّ والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها. كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط ، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس الواحدة تلو الاخرى إلى الخارج ، ودارت ضمن مدار الكرة الامّ (الشمس).

وعلى كلّ حال فإنّ العامل المسبّب لهذا الانفصال أيّا كان لا يمنعنا من الإعتقاد أنّ ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الإنشقاق والانفصال.

ب ـ (الأستروئيدات):

الأستروئيدات : هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة الشمسية ، ويطلق عليها في بعض الأحيان بـ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب السيارة) يبلغ قطر كبراها (٢٥) كم ، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.

ويعتقد العلماء أنّ «الأستروئيدات» هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار بين مداري المريخ والمشتري تعرّض إلى عوامل غير واضحة ممّا أدّى إلى انفجاره وتناثره.

لقد ثمّ اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحدّ الآن ، وقد تمّ تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة ، وتمّ حساب حجمها ومقدار ومدّة حركتها حول الشمس ، ويعلّق علماء الفضاء أهميّة بالغه على الأستروئيدات ، حيث يعتقدون أنّ بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطّات للسفر إلى المناطق الفضائية النائية.

كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.

٢٩٦

ج ـ الشهب :

الشهب : أحجار سماوية صغيرة جدّا ، حتّى أنّ البعض منها لا يتجاوز حجم (البندقة) ، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاصّ حول الشمس وقد يتقاطع مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض ، ونظرا لسرعتها الخاطفة التي تتميّز بها ـ تصطدم بشدّة مع الهواء المحيط بالأرض ، فترتفع درجة حرارتها بشدّة فتشتعل وتتبيّن لنا كخطّ مضيء وهّاج بين طبقات الجوّ ويسمّى بالشهاب.

وأحيانا نتصوّر أنّ كلّ واحدة منها تمثّل نجمة نائية في حالة سقوط ، إلّا أنّها في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحوّل فيما بعد إلى رماد.

ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.

ويقول العلماء : إنّ الشهب هي بقايا نجمة مذنّبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها بسبب جملة عوامل غير واضحة وهذا نموذج آخر من الإنشقاق في الأجرام السماوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإنفجار والإنشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر الجديد ، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية ، ومن هنا فلا معنى حينئذ للقول بأنّ الإعجاز لا يمكن أن يتعلّق بالحال.

هذا كلّه عن مسألة الإنشقاق.

أمّا موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.

ورغم أنّ الإعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس) واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها ـ الواحدة على

٢٩٧

الاخرى ـ فأيّ جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا ، ولذلك فانّ أتباع هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعد ، كما أنّه لا يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر ، ومن ثمّ التئامه ، ولذلك أنكروا مسألة شقّ القمر ، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها للواقع ، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة ، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبّل مثل هذه الآراء.

وغني عن القول أنّ ظاهرة شقّ القمر كانت معجزة ، ولذا فإنّها لم تتأثّر بعامل طبيعي اعتيادي ، والشيء الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة ، لأنّ المعجزة لا تتعلّق بالأمر المحال.

٣ ـ شقّ القمر تاريخيّا :

لقد طرح البعض من غير المطّلعين إشكالا آخر على مسألة شقّ القمر ، حيث ذكروا أنّ مسألة شقّ القمر لها أهميّة بالغة ، فإذا كانت حقيقيّة فلما ذا لم تذكر في كتب التأريخ؟

ومن أجل أن تتوضّح أهميّة هذا الإشكال لا بدّ من الإلمام والدراسة الدقيقة لمختلف جوانب هذا الموضوع ، وهو كما يلي :

أ ـ يجب الالتفات إلى أنّ القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط ، وليس في جميعها ، ولذا فلا بدّ من إسقاط نصف مجموع سكّان الكرة الأرضية من إمكانية رؤية حادثة شقّ القمر وقت حصولها.

ب ـ وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإنّ أكثر الناس في حالة سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.

ج ـ ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من السماء ، وبذلك يتعذّر رؤية القمر لسكّان تلك المناطق.

٢٩٨

د ـ إنّ الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف الكليين الذي يقترن كلّ منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدّة طويلة.

لذلك فإنّ الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أنّ الغالبية من الناس لم تحط به علما ، اللهمّ إلّا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل المنجّمين ، بل يحدث أحيانا خسوف كلّي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.

لذا فإنّ علماء الفلك الذين يقومون بر صد الكواكب أو الأشخاص الذين يتّفق وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطّلعون على هذا الأمر ويخبرون الآخرين به.

وبناء على هذا ونظرا لقصر مدّة المعجزة (شقّ القمر) فلن يكون بالمقدور أن تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي ، خصوصا وأنّ غالبية الناس في ذلك الوقت لم تكن مهتّمة بمتابعة الأجرام السماوية.

ه ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث التأريخية في ذلك الوقت ، ومحدودية الطبقة المتعلّمة ، وكذلك طبيعة الكتب الخطيّة التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث المهمّة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كلّ أنحاء العالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف كلّ هذه الأمور لا بدّ من أخذها بنظر الإعتبار في محدودية الاطلاع على حادثة (شقّ القمر).

ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الاخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على نفيها.

٢٩٩

٤ ـ تأريخ وقوع هذه المعجزة :

من الواضح أنّه لا خلاف بين المفسّرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة شقّ القمر في مكّة وقبل هجرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الذي يستفاد من بعض الرّوايات هو أنّ حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) . في حين يستفاد من البعض الآخر أنّ حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي آخر عهده بمكّة ، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحقّ وأتباعه ، إذ أنّهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة(٢) .

ونقرأ في بعض الرّوايات أيضا أنّ سبب اقتراح شقّ القمر كان من أجل المزيد من الاطمئنان بمعاجز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها لم تكن سحرا لأنّ السحر عادة يكون في الأمور الأرضية(٣) . ومع ذلك فإنّ قسما من المتعصّبين والمعاندين لم يؤمنوا برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز ، وتتعلّلوا بأنّهم ينتظرون قوافل الشام واليمن ، فإنّ أيّدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا ومع إخبار المسافرين لهم بذلك ، إلّا أنّهم بقوا مصرّين على الكفر رافضين للإيمان(٤) .

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أنّ هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز الاخرى ذكرت في التواريخ والرّوايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات والأساطير ، ممّا أدّى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها ، كما في نزول قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإنّ من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها بدقّة وغربلة الصحيح من غيره ، حتّى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة بمقوّماتها الموضوعية.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤ حديث (٨).

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ حديث (١).

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٥ حديث (١٠).

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710