الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173442 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

كل قيد وشرط ، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعا من اللياقة والصلاح لمثل هذا العفو والغفران ، وكما أشرنا إلى ذلك في ما سبق ، فإن مشيئة الله ـ في هذه الآية والآيات المشابهة لها ـ بمعنى الحكمة الإلهية ، لأن مشيئته تعالى لا تنفصل عن حكمته أبدا،ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد العفو الإلهي من دون قابلية وصلاح لذلك.

وعلى هذا الأساس فإن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق ـ بمراتب كثيرة ـ إمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها.

أسباب مغفرة الذنوب :

ثمّ إنّ النقطة الجديرة بالانتباه إنّ هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة ، لأنّ التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك ، بل المراد هو إمكان شمول العفو الإلهي لمن لم يوفق للتوبة ، يعني الذين يموتون قبل الندم من ذنوبهم ، وبعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال الصالحة.

وتوضيح ذلك : أنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أن وسائل التوصل إلى العفو والمغفرة الإلهية متعددة ، ويمكن تلخيصها في خمسة أمور :

١ ـ التوبة والعودة إلى الله تعالى ، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة ، والعزم على الاجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل ، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة (والآيات الدّالة على هذا المعنى كثيرة) ومن جملتها قوله سبحانه :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ) (١) .

٢ ـ الأعمال الصّالحة المهمّة جدّا والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة

__________________

(١) الشورى ، ٢٥.

٢٦١

كما يقول سبحانه :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (١) .

٣ ـ الشّفاعة التي مرّ شرحها في المجلد الأول عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.

٤ ـ الاجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين (٣١ و ٣٢) من هذه السورة.

٥ ـ العفو الإلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له ، كما مرّ بحثه في تفسير هذه الآية.

هذا ونكرر تذكيرنا بأن العفو الإلهي مشروط ومقيد بالمشيئة الإلهية ، ولا يكون قضية مطلقة دون أي قيد أو شرط ، بل تشمل هذه المشيئة والإرادة خصوص الأشخاص الذين يثبتون بصورة عملية لياقتهم وصلاحيتهم لهذه الهبة الإلهية بنحو من الأنحاء.

ومن هنا يتّضح لما ذا لا يكون الشرك ممّا يشمله العفو والغفران الإلهي ، فالسبب في ذلك هو : إنّ المشرك قد قطع صلته بالله بصورة كاملة ، وارتكب ما يخالف كل الشرائع والأديان والقوانين الطبيعية والنّواميس الكونية.

* * *

__________________

(١) هود ، ١١٤.

٢٦٢

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) )

سبب النّزول

روي في كثير من التفاسير في ذيل هذه الآية أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم أمورا وامتيازات ، فهم ـ كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم ـ كانوا يقولون :( نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ ) وربّما قالوا :( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) (الآية (١٨) من سورة المائدة ، والآية (١١١) من سورة البقرة) فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.

التّفسير

تزكية النفس(١) :

قال تعالى في الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ

__________________

(١) يزكون من مادة «تزكية» بمعنى تطهير ، وتأتي أحيانا بمعنى التربية والتنمية ، ففي الحقيقة إذا كانت التزكية مقترنة بالعمل فإنها تعتبر امرا محمودا ، وإلا لو كانت مجرد ادعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.

٢٦٣

أَنْفُسَهُمْ ) وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب ، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس ، وادعاء الفضيلة لها.

ثمّ يقول سبحانه :( بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ) فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقا لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان ، وعلى أساس من الحكمة والمشيئة البالغة ، وليس اعتباطا أو عبثا. ولذلك فهو لا يظلم أحدا مقدار فتيل :( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (١) .

وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها الله سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقا من أنانيتهم ، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.

إن هذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود والنصارى الذين يدعون لأنفسهم بعض الفضائل دونما دليل ، ويعتبرون أنفسهم شعوبا مختارة فيقولون أحيانا :( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) (٢) ويقولون تارة أخرى :( نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٣) إلا أنّ مفهومه لا يختص بقوم دون قوم ، وجماعة دون جماعة ، بل يشمل كل الأشخاص أو الأمم المصابة بمثل هذا المرض الوبي ، وهذه الصفة الذميمة.

إنّ القرآن يخاطب جميع المسلمين في (سورة النجم ـ الآية ٣٢) فيقول :( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) .

إنّ مصدر هذا العمل هو الإعجاب بالنفس والغرور ، والعجب الذي يتجلى شيئا فشيئا في صورة امتداح الذات وتزكية النفس ، بينما ينتهي في نهاية المطاف إلى التكبر والاستعلاء على الآخرين.

إنّ هذه العادة الفاسدة ـ مع الأسف ـ من العادات الشائعة بين كثير من

__________________

(١) القتيل في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر ، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة جدا ، وأصله من مادة «فتل» بمعنى البرم.

(٢) البقرة ، ٨٠.

(٣) المائدة ، ١٨.

٢٦٤

الشعوب والفئات والأشخاص ، وهي مصدر الكثير من المآسي الاجتماعية والحروب وحالات الاستعلاء والاستعمار.

إنّ التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على الشعوب والأمم الاخرى تحت وطأة هذا الشعور والإحساس الكاذب ، ولهذا كانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين ، وتتخذهم لأنفسها خولا وعبيدا.

لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والانحطاط والفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه ، يرون أنفسهم «العنصر الأعلى» بل وكانت هذه الحالة سائدة حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى.

ولقد تسبب الإحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإسرائيلي في وقوع الحروب العالمية أو الحروب المحلية.

ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإسلام يعانون ـ أيضا ـ من هذا الإحساس والشعور الخاطئ وهذا الوهم ، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام حقائق الإسلام ، ولهذا السبب شدد القرآن الكريم النكير ـ في الآية اللاحقة الثانية ـ على هذا التصور وشجب هذا الوهم ، وهم التفوق العنصري ، ويعتبره نوعا من الكذب على الله والافتراء عليه سبحانه ، ومعصية كبرى وذنبا بيّنا إذ يقول سبحانه :( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ، وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً ) أي أنظر كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية ، ونسبتها إلى الله من ناحية أخرى ، تكذب على الله ، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلّا هذا لكفى في عقوبتهم.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في حديثه المعروف لـ «همام» الذي يذكر فيه صفات المتقين: «لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون،ومن

٢٦٥

أعمالهم مشفقون إذا زكى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي من نفسي ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل ما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون».

* * *

٢٦٦

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) )

سبب النّزول

قال كثير من المفسّرين ـ في شأن نزول الآيتين الحاضرتين : أنّه بعد معركة «أحد» توجه أحد أقطاب اليهود وهو «كعب بن الأشرف» مع سبعين شخصا من اليهود إلى مكّة للتحالف مع مشركي مكّة ضد رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقض ما كان بينهم وبين رسول الله من الحلف.

فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكّة : أنكم أهل كتاب ومحمّد صاحب كتاب ، فلا نأمن أن يكون هذا مكر منكم ، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين (وأشاروا إليها) وآمن بهما ، ففعل.

ثمّ اقترح كعب بن الأشرف على أهل مكّة قائلا : يا أهل مكّة ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد ربّ هذا البيت لنجهدن على

٢٦٧

قتال محمّد ، ففعلوا ذلك.

فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحقّ ، نحن أم محمّد؟

قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء (وهي الناقة العظيمة السنام) ونسقيهم الماء ، ونقرى الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم، ونعمّر بيت ربّنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمّد فارق دين آبائه ، وقاطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ، ودين محمّد الحديث.

فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد.

فأنزل الله تعالى الآيات الحاضرة إجابة لهم وردا عليهم :

التّفسير

المداهنون :

إن الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين تعكس ـ بملاحظة ـ ما ذكر في سبب النزول قريبا ـ صفة أخرى من صفات اليهود الذميمة ، وهي أنّهم لأجل الوصول إلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات ، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم،وتجاهلوا كل ما قرءوه في كتبهم ، أو عملوا به حول صفات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعظمة الإسلام ، بل وذهبوا ـ بغية إرضاء المشركين ـ إلى ترجيح عقيدة الوثنيين بما فيها من خرافات وتفاهات وفضائح على الإسلام الحنيف ، مع أنّ اليهود كانوا من أهل الكتاب،وكانت المشتركات بينهم وبين الإسلام تفوق بدرجات كبيرة ما يجمعهم مع الوثنيين،ولهذا يقول سبحانه في هذه الآية مستغربا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ) وهي الأصنام؟

ولكنّهم لا يقتنعون بهذا ، ولا يقفون عند هذا الحدّ ، بل :( وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) .

٢٦٨

الجبت والطّاغوت :

استعملت لفظة «الجبت» في هذه الآية من القرآن الكريم خاصّة ، وهو اسم جامد لا تعريف له في اللغة العربية ، ويقال أنّه يعني «السّحر» أو «السّاحر» أو «الشّيطان» بلغة أهل الحبشة ، ثمّ دخل في اللغة العربية واستعمل بهذا المعنى ، أو بمعنى الصنم أو أي معبود غير الله في هذه اللغة ، ويقال : أنه في الأصل «جبس» ثمّ أبدل «س» إلى «ت».

وأمّا لفظة «الطّاغوت» فقد استعملت في ثمانية موارد من القرآن الكريم ، وهي ـ كما قلنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير لدى الحديث عن الآية (٢٥٦) من سورة البقرة ـ صيغة مبالغة(١) من مادة الطغيان ، بمعنى التعدي وتجاوز الحدّ ، ويطلق على كل شيء موجب لتجاوز الحدّ (ومنها الأصنام) ولهذا يسمى الشيطان ، والصنم والحاكم الجبار المتكبر ، وكل معبود سوى الله ، وكل مسيرة تنتهي إلى غير الحق ، طاغوتا.

هذا هو المعنى الكلي لهاتين اللفظتين.

أمّا المراد منهما في الآية المبحوثة الآن ، فذهب المفسرون فيه مذاهب شتى.

فقال البعض بأنّهما اسمان لصنمين سجد لهم اليهود في القصّة السابقة.

وقال آخرون : الجبت هنا هو الصنم ، والطّاغوت هم عبدة الأصنام ، أو حماتها الذين كانوا يمثلون تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها ليخدعوا الناس(٢) ،وهذا المعنى أوفق لما جاء في سبب النزول وتفسير الآية ، لأنّ اليهود سجدوا للأصنام كما خضعوا أمام عبدتها الوثنيين أيضا.

ثمّ إنّه سبحانه بيّن ـ في الآية الثانية ـ مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلا :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) .

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٣٥ ، وذهب البعض إلى أنه مصدر استعمل بالمعنى الوصفي وصيغة المبالغة.

(٢) تفسير التبيان ، وتفسير روح المعاني.

٢٦٩

إنّ اليهود ـ كما تقول هذه الآية ـ لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على نتيجة،بل انهزموا في النهاية ، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.

إن الآيات الحاضرة وإن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصّة ، ولكنها لا تختص بهم حتما ، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين) الذين يضحّون بشخصيتهم ومكانتهم ، بل وإيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول إلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة.

فإنّ هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة الله في الدنيا والآخرة ، وغالبا ما يؤول أمرهم إلى الهزيمة والفشل.

إنّ الجدير بالانتباه هو أنّ هذه الحالة أو الصفة الذميمة المذكورة لا تزال باقية على قوّتها عند هؤلاء القوم ، فإنا نجد كيف أنهم لا يمتنعون عن أي مداهنة مهما كانت الشروط للوصول إلى أهدافهم ، ولهذا ظلوا يعانون من هزائمهم المنكرة طول تاريخهم الماضي والحاضر.

* * *

٢٧٠

الآيات

( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) )

التّفسير

في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا ـ لإرضاء الوثنيين في مكّة واستقطابهم ـ إلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين ، بل وعمدوا عمليا إلى السجود أمام الأصنام ، وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه أن حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين.

١ ـ إنّ اليهود ليس لهم ـ من جهة المكانة الاجتماعية ـ تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أمورهم ، ولم يفوض الناس إليهم حق الحكم والقضاء بينهم أبدا ليكون لهم مثل هذا العمل :( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ؟

هذا مضافا إلى أنّهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس،لأن روح الاستئثار قد استحكم في كيانهم بقوّة إلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقّه ، بل خصّوا كل شيء

٢٧١

بأنفسهم دون غيرهم( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ) (١) .

فبالنظر إلى أنّ هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية المريضة التي تسعى دائما إلى الاستئثار بكل شيء لأنفسهم أو لغيرهم ممن يعملون لصالحهم ، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام وأن لا يقلقوا لها.

٢ ـ إنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المكرمين ، ولهذا تفقد أية قيمة ، إنّهم إذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم،لذلك لا يحبّون أن يناط هذا المقام الإلهي إلى أي أحد من الناس ، ولذا يحسدون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الذين شملتهم هذه الموهبة الإلهية وأعطوا ذلك المقام الكريم وذلك المنصب الجليل، ولأجل هذا يحاولون بإطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .

ثمّ أن الله سبحانه يقول معقبا على هذا : ولما ذا تتعجبون من إعطائنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع ، وقد أعطاكم الله سبحانه وأعطى ال إبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى وسليمان وداود) ولكنّكم ـ مع الأسف ـ أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم :( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) .

والمراد من الناس في قوله :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ) ـ كما أسلفنا ـ هم رسول الله وأهل بيتهعليهم‌السلام ، لإطلاق لفظة الناس على جماعة من الناس ، وأمّا إطلاقها على شخص واحد (هو النّبي خاصّة) فلا يصح ما لم تكن هناك قرينة على إرادة

__________________

(١) «النقير» مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شيء بحيث يوجد فيه ثقبا واشتق منه المنقار ، وقال بعض :

النقير وقبّة صغيرة جدّا في ظهر النّواة ويضرب به المثل في الشيء الطفيف.

٢٧٢

الواحد فقط(١) .

هذا مضافا إلى أنّ كلمة آل إبراهيم قرينة أخرى على أنّ المراد من «الناس» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ، لأنّه يستفاد ـ من قرينة المقابلة ـ أنّنا إذا أعطينا لبني هاشم مثل هذا المقام ومثل هذه المكانة ـ فلا داعي للعجب ـ فقد أعطينا لآل إبراهيم أيضا تلك المقامات المعنوية والمادية بسبب أهليتهم وقابليتهم.

وقد جاء التصريح في روايات متعددة وردت في مصادر الشيعة والسنة بأنّ المراد من «الناس» هم أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام في ذيل هذه الآية أنّه قال في تفسير الآية : «جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة فكيف يقرّون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمّد»(٢) ؟

وفي رواية أخرى عن الإمام الصّادقعليه‌السلام يجيب الإمام على من يسأل عن المحسودين في هذه الآية قائلا : «نحن محسودون»(٣) .

وروي في الدّر المنثور عن ابن منذر والطبراني عن ابن عباس أنّه قال في هذه الآية : «نحن الناس دون الناس».

ثمّ قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة :( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) . أي أنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإيمان بذلك الكتاب ، بل صدّ الآخرين عن الإيمان وحال دون انتشاره ، أولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذابا وعقوبة. وسينتهي إلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

_________________

(١) الناس اسم جمع ويؤيد ذلك ضمير الجمع الراجع إليه في الآية.

(٢) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٧٦ ، وقد جاء في تفسير روح المعاني حديث مشابه لهذا الحديث في المضمون (روح المعاني ، ج ٥ ، ص ٥٢).

(٣) المصدر السابق.

٢٧٣

دور الحسد في الجرائم :

«الحسد» يعني تمني زوال النعمة عن الآخرين سواء وصلت تلك النعمة إلى الحسود،أم لم تصل إليه ، وعلى هذا الأساس تنصب جهود الحسود على فناء ما لدى الآخرين وزواله عنهم أم تمني ذلك ، لا أن تنتقل تلك النعمة إليه.

إن الحسد منشأ للكثير من المآسي والمتاعب الاجتماعية ، من ذلك.

١ ـ إنّ الحاسد يصرف كل أو جلّ طاقاته البدنية والفكرية ـ التي يجب أن تصرف في ترشيد الأهداف الاجتماعية ـ في طريق الهدم والتحطيم لما هو قائم ، ولهذا فهو يبدد طاقاته الشخصية والطاقات الاجتماعية معا.

٢ ـ إنّ الحسد هو الدافع لكثير من الجرائم في هذا العالم ، فلو أنّنا درسنا العلل الأصلية وراء جرائم القتل والسرقة والعدوان وما شابه ذلك لرأينا ـ بوضوح ـ أنّ أكثر هذه العلل تنشأ من الحسد ، ولعلّه لهذا السبب شبّه الحسد بشرارة من النار يمكنها أن تهدد كيان الحاسد أو المجتمع الذي يعيش في وسطه بالخطر ، وتعرضه للضرر.

يقول أحد العلماء : إنّ الحسد من أخطر الصفات ، ويجب أن يعتبر من أعدى أعداء السعادة ، فيجب أن يجتهد الإنسان لدفعه والتخلص منه.

إنّ المجتمعات التي تتألف من الحاسدين الضيقي النظرة مجتمعات متأخرة متخلفة،والحساد ـ في الأغلب ـ عناصر قلقة وأفراد مرضى يعانون من متاعب وآلام جسدية وعصبية ، وذلك قد أصبح من المسلم اليوم أن أكثر الأمراض والآلام الجسدية تنشأ من علل نفسية ، فإنّنا نلاحظ الآن بحوثا مفصلة في الطب حول الأمراض التي تختص بمثل هذه.

هذا والجدير بالذكر ورود التأكيد على هذه المسألة في أحاديث أئمّة الدين وقادةالإسلام ، ففي رواية عن الإمام عليعليه‌السلام نقرأ قوله : «صحة الجسد من قلّة الحسد» و «العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد».

٢٧٤

بل ووردت روايات تصرح بأن الحسد يضرّ بالحاسد قبل أن يضرّ بالمحسود ، بل ويؤدي إلى القتل والموت تدريجا.

٤ ـ إنّ الحسد يعدّ ـ من الناحية المعنوية ـ من علائم ضعف الشخصية وعقدة الحقارة ، ومن دلائل الجهل وقصر النظر وقلّة الإيمان ، لأنّ الحاسد ـ في الحقيقة ـ يرى نفسه أعجز وأقل من أن يبلغ ما بلغه المحسود من المكانة أو أعلى من ذلك ، ولهذا يسعى الحاسد إلى أن يرجع المحسود إلى الوراء ، هذا مضافا إلى أنّه بعمله يعترض على حكمة الله سبحانه واهب جميع النعم وجميع المواهب ، وعلى إعطائه سبحانه النعم إلى من تفضل بها عليه من الناس ، ولهذا جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام «الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله تعالى ، وهما جناحان للكفر ، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد ، وهلك مهلكا لا ينجو منه أبدا»(١) .

فهذا هو القرآن الكريم يصرّح بأنّ أوّل جريمة قتل ارتكبت في الأرض كان منشؤها الحسد(٢) .

وجاء في نهج البلاغة عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»(٣)

وذلك لأنّ الحاسد يزداد سوء ظنه بالله وبحكمته وعدالته شيئا فشيئا ، وهذا الأمر يؤدي به إلى الخروج عن جادة الإيمان.

إنّ آثار الحسد وأضراره المادية والمعنوية وتبعاته الفردية والاجتماعية كثيرة جدّا ، وما ذكرناه إنّما هو في الحقيقة جدول سريع عن بعض هذه الآثار والمضار.

* * *

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٣٢٧.

(٢) المائدة ، ٢٧.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٦.

٢٧٥

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) )

التّفسير

تعقيبا على الآيات السابقة شرحت هاتان الآيتان مصير المؤمنين والكافرين.

فالآية الأولى تقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ) (١) ( ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

وعلّة تبديل الجلود ـ على الظاهر ـ هي أنّه عند ما تنضج الجلود يخف الإحساس بالألم لدى الإنسان ، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس

__________________

(١) «نصليهم» من مادة «الصلى» بمعنى الإلقاء في النار ، والاشتواء بالنّار ، أو التدفؤ بالنار ، و «نضجت» من مادة «نضج» بمعنى أدركت شيها ، وصارت مشوية.

٢٧٦

الإنسان بالألم إحساسا كاملا ، تبدل الجلود ، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة ، وما هذا إلّا نتيجة الإصرار على تجاهل الأوامر الإلهية ، ومخالفة الحق والعدل ، والإعراض عن طاعة الله.

ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي أنّه قادر بعزّته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة ، وأنّه لا يفعل ذلك اعتباطا ، بل عن حكمة وعلى أساس الجزاء على المعصية.

ثمّ يقول سبحانه في الآية الثانية :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً ) (١) .

أي أنّنا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنّ ندخلهم جنّات تجري من تحت أشجارها الأنهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة ، هذا مضافا إلى ما يعطون من أزواج مطهّرات يستريحون إليهن ، ويجدون في كنفهن لذة الروح والجسد ، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة ، لا تؤذيهم الرياح اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبدا.

بحث عن الآية :

من الأمور الجديرة بالاهتمام والمستفادة من المقايسة بين هاتين الآيتين هو عموم الرحمة الإلهية وسبق رحمته على غضبه ، لأنّ في الآية الأولى ذكرت عقوبة الكفار مبدوءة بكلمة «سوف» في حين بدأ الوعد الإلهي للمؤمنين بـ «السين» «سندخلهم» ، ومن المعلوم استعمال سوف في اللغة العربية في المستقبل البعيد ، واستعمال السين في المستقبل القريب ، مع أننا نرى أنّ كلتا الآيتين

__________________

(١) «الظليل» من مادة «الظل» بمعنى الفيء ، واستعمل هنا للتأكيد ، لأن معناه الظل المظلل أو الظل الظليل وهو كناية عن غاية الراحة والدعة والرفاه.

٢٧٧

ترتبطان بالعالم الآخر ، وجزاء المؤمنين وعقوبة الكافرين في ذلك العالم ـ من الناحية الفاصلة الزمانية ـ بالنسبة إلينا سواء.

فيكون الاختلاف والتفاوت بين التعبيرين للإشارة إلى سرعة وسعة الرحمة الإلهية، وبعد ومحدودية الغضب الإلهي ، وهو يشابه نفس العبارة التي نرددها في الأدعية وهي : «يا من سبقت رحمته غضبه».

سؤال :

من الممكن أن يعترض معترض هنا قائلا بأنّ الآية الحاضرة تقول : إنّنا كلّما نضجت جلود العصاة الكفرة بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العقوبة الإلهية ، في حين أنّ الجلود العاصية هي الجلود الأصلية ، فيكون تعذيب الجلود الجديدة مخالفا للعدل الإلهي ، فكيف ذلك؟

جواب :

لقد طرح هذا السؤال بعينه من قبل ابن أبي العوجاء الرجل المادي المعروف على الإمام الصّادقعليه‌السلام حيث قال بعد تلاوة هذه الآية «وما ذنب الغير»؟ يعني ما ذنب الجلود الجديدة؟ فردّ الإمام على هذا السؤال بجواب مختصر في غاية العمق حيث قال: «هي هي وهي غيرها»

يعني أنّ الجلود الجديدة هي نفس الجلود السابقة في حين أنّها غيرها.

فقال ابن أبي العوجاء الذي كان يعلم أنّ في هذه العبارة القصيرة سرّا : مثل لي في ذلك شيئا من أمر الدنيا.

فقال الإمامعليه‌السلام : «أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ، ثمّ ردها في ملبنها،فهي هي ، وهي غيرها»(١) .

ويستفاد من هذه الرّواية أن الجلود الجديدة تتألف من نفس عناصر الجلود القديمة،أي أن العناصر هي ذات العناصر وإن اختلف التركيب.

__________________

(١) مجالس ، للشّيخ الطّوسيرحمه‌الله ، والإحتجاج ، للطّبرسيرحمه‌الله .

٢٧٨

ثمّ إنّه لا بدّ الالتفات إلى أن الثواب والعقاب يرتبطان ـ في الحقيقة ـ بروح الإنسان وقوّة إدراكه ، والجسم ـ دائما ـ وسيلة لانتقال الثواب والعذاب إلى روح الإنسان.

* * *

٢٧٩

الآية

( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) )

سبب النّزول

وروي في تفسير مجمع البيان وتفاسير إسلامية أخرى إنّ هذه الآية نزلت عند ما دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة المكرمة منتصرا فاتحا ، فاستحضر عثمان بن طلحة وكان سادن الكعبة فطلب منه مفتاح الكعبة المعظمة ، ليطهرها من الأصنام والأوثان الموضوعة فيها، فلمّا فرغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك سأله العباس أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين منصب السقاية ومنصب السدانة الذي له في العرب شان وشاو مجيد (والظاهر أنّ العباس أراد أن يستفيد من نفوذ ومكانة ابن أخيه الاجتماعية والسياسية لمصلحته الشخصية) ، ولكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل خلاف ذلك ، فإنّه بعد ما طهر الكعبة من الأصنام والأوثان ، أمر علياعليه‌السلام أن يردّ المفتاح إلى «عثمان بن طلحة» ففعل ذلك وهو يتلو الآية الحاضرة :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (١) .

__________________

(١) ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية الحاضرة قبل فتح مكّة ، وأنّ ما ذكر في سبب النزول ليس بصحيح ، ولكن ما

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710