الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173390 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وعنده حقة، أخذت منه، وأعطي معها شاتين أو عشرين درهما. فإن وجبت عليه حقة، وعنده جذعة، أخذت منه، وردّ عليه شاتان أو عشرون درهما.

فأمّا زكاة البقر، فليس في شي‌ء منها زكاة، الى أن تبلغ ثلاثين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها تبيع حولي. ثمَّ ليس فيما زاد عليها شي‌ء، الى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها مسنّة. وكلّ ما زاد على ذلك، كان هذا حكمه: في كلّ ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنّة.

وأمّا الغنم، فليس فيها زكاة، الى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها شاة. ثمَّ ليس فيها شي‌ء، الى أن تبلغ مائة وعشرين. فإذا بلغت ذلك، وزادت واحدة، كان فيها شاتان الى أن تبلغ مائتين. فإذا بلغت وزادت واحدة، كان فيها ثلاث شياه الى أن تبلغ ثلاثمائة. فإذا بلغت ذلك، وزادت واحدة، كان فيها أربع شياه. ثمَّ تترك هذه العبرة فيما زاد عليه، وأخذ من كلّ مائة شاة.

وأمّا الخيل إذا كانت عتاقا كان على كلّ واحدة منها في في كلّ سنة ديناران. وإن كانت براذين كان على كلّ واحدة منها دينار واحد. ومن حصل عنده من كلّ جنس تجب فيه الزّكاة أقلّ من النّصاب الذي فيه الزّكاة، وإن كان لو جمع لكان أكثر من النّصاب والنّصابين، لم يكن عليه شي‌ء، حتى

١٨١

يبلغ كلّ جنس منه، الحدّ الذي تجب فيه الزّكاة. ولو أنّ إنسانا ملك من المواشي ما تجب فيه الزّكاة، وإن كانت في مواضع متفرّقة، وجب عليه فيها الزّكاة. وإن وجد في موضع واحد من المواشي ما تجب فيه الزكاة لملّاك جماعة لم يكن عليهم فيها شي‌ء على حال. ولا بأس أن يخرج الإنسان ما يجب عليه من الزّكاة من غير الجنس الذي يجب عليه فيه بقيمته. وإن أخرج من الجنس، كان أفضل.

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذّهب والفضّة حتّى يحول عليهما الحول بعد حصولهما في الملك. فان كان مع إنسان مال أقلّ ممّا تجب فيه الزّكاة، ثمَّ أصاب تمام النّصاب في وسط السّنة، فليس عليه فيه الزّكاة حتّى يحول الحول على القدر الذي تجب فيه الزّكاة. وإذا استهلّ هلال الشّهر الثّاني عشر، فقد حال على المال الحول، ووجبت فيه الزّكاة. فإن أخرج الإنسان المال عن ملكه قبل استهلال الثّاني عشر، سقط عنه فرض الزّكاة. وإن أخرجه من ملكه بعد دخول الشّهر الثّاني عشر، وجبت عليه الزّكاة، وكانت في ذمّته الى أن يخرج منه.

وأمّا الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب، فوقت الزّكاة فيها حين حصولها بعد الحصاد والجذاذ والصّرام، ثمَّ ليس فيها

١٨٢

بعد ذلك شي‌ء، وإن حال عليها حول، إلّا أن تباع بذهب أو فضّة، وحال عليهما الحول، فتجب حينئذ فيه الزّكاة.

وأمّا الإبل والبقر والغنم، فليس في شي‌ء منها زكاة، حتّى يحول عليها الحول من يوم يملكها. وكلّ ما لم يحل عليه الحول من صغار الإبل والبقر والغنم، لا تجب فيه الزّكاة. ولا يجوز تقديم الزّكاة قبل حلول وقتها. فإن حضر مستحقّ لها قبل وجوب الزّكاة، جاز أن يعطى شيئا ويجعل قرضا عليه. فإذا جاء الوقت، وهو على تلك الصّفة من استحقاقه لها، احتسب له من الزّكاة. وإن كان قد استغنى، أو تغيّرت صفته التي يستحقّ بها الزّكاة، لم يجزئ ذلك عن الزّكاة، وكان على صاحب المال أن يخرجها من الرأس.

وإذا حال الحول فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه على الفور ولا يؤخّره. فإن عدم المستحقّ له، عزله عن ماله، وانتظر به المستحق. فإن حضرته الوفاة، وصى به أن يخرج عنه. وإذا عزل ما يجب عليه من الزّكاة، فلا بأس أن يفرّقه ما بينه وبين شهر وشهرين، ولا يجعل ذلك أكثر منه. وما روي عنهمعليهم‌السلام ، من الأخبار في جواز تقديم الزّكاة وتأخيرها، فالوجه فيه ما قدّمناه في أنّ ما يقدّم منه يجعل قرضا، ويعتبر فيه ما ذكرناه، وما يؤخّر منه إنّما يؤخّر انتظار المستحق، فأمّا مع وجوده، فالأفضل إخراجه إليه على البدار حسب ما قدّمناه.

١٨٣

باب مستحق الزكاة وأقل ما يعطى وأكثر

الذي يستحق الزّكاة هم الثّمانية أصناف الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن: وهم الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، و( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ ) ، والغارمون،( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وابن السّبيل.

فأمّا الفقير فهو الذي له بلغة من العيش. والمسكين الذي لا شي‌ء معه. وأمّا العاملون عليها فهم الذين يسعون في جباية الصّدقات.

وأمّا المؤلّفة فهم الذين يتألّفون ويستمالون إلى الجهاد.

(وَفِي الرِّقابِ ) وهم المكاتبون والمماليك الذين يكونون تحت الشّدة العظيمة. وقد روي أنّ من وجبت عليه كفّارة عتق رقبة في ظهار أو قتل خطإ وغير ذلك، ولا يكون عنده، يشترى عنه ويعتق.

والغارمون هم الذين ركبتهم الدّيون في غير معصية ولا فساد.

( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) وهو الجهاد.

وابن السّبيل وهو المنقطع به. وقيل أيضا: إنّه الضّيف الذي ينزل بالإنسان ويكون محتاجا في الحال، وإن كان له يسار في بلده وموطنه.

١٨٤

فإذا كان الإمام ظاهرا، أو من نصبه الإمام حاصلا، فتحمل الزّكاة إليه، ليفرّقها على هذه الثّمانية الأصناف. ويقسم بينهم على حسب ما يراه. ولا يلزمه أن يجعل لكل صنف جزءا من ثمانية، بل يجوز أن يفضّل بعضهم على بعض، إذا كثرت طائفة منهم وقلّت آخرون.

وإذا لم يكن الإمام ظاهرا، ولا من نصبه الإمام حاصلا، فرّقت الزّكاة في خمسة أصناف من الذين ذكرناهم، وهم الفقراء والمساكين( وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ ) وابن السّبيل. ويسقط سهم( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) وسهم السّعاة وسهم الجهاد، لأنّ هؤلاء لا يوجدون إلّا مع ظهور الإمام. لأن الْمُؤَلَّفَةَ( قُلُوبُهُمْ ) إنّما يتألّفهم الإمام ليجاهدوا معه، والسّعاة أيضا إنّما يكونون من قبله في جميع الزّكوات، والجهاد أيضا إنّما يكون به أو بمن نصبه. فإذا لم يكن هو ظاهرا ولا من نصبه، فرّق فيمن عداهم.

والذين يفرّق فيهم الزّكاة ينبغي أن يحصل لهم مع الصّفات التي ذكرناها أن يكونوا عارفين بالحقّ معتقدين له. فإن لم يكونوا كذلك، فلا يجوز أن يعطوا الزّكاة. فمن أعطى زكاته لمن لا يعرف الحق، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. ولو أنّ مخالفا أخرج زكاته الى أهل نحلته، ثمَّ استبصر، كان عليه إعادة الزّكاة. ولا يجوز أن يعطى الزّكاة من أهل المعرفة إلّا أهل السّتر والصّلاح. فأمّا الفسّاق وشرّاب

١٨٥

الخمور فلا يجوز أن يعطوا منها شيئا. ولا بأس أن تعطي الزّكاة أطفال المؤمنين. ولا تعطى أطفال المشركين.

ولا يجوز أن يعطي الإنسان زكاته لمن تلزمه النّفقة عليه مثل الوالدين والولد والجدّ والجدة والزّوجة والمملوك. ولا بأس أن يعطي من عدا هؤلاء من الأهل والقرابات من الأخ والأخت وأولادهما والعمّ والخال والعمّة والخالة وأولادهم.

والأفضل أن لا يعدل بالزّكاة عن القريب مع حاجتهم الى ذلك الى البعيد. فإن جعل للقريب قسط، وللبعيد قسط، كان أفضل.

ومتى لم يجد من تجب عليه الزّكاة مستحقّا لها، عزلها من ماله، وانتظر بها مستحقّها، فإن لم يكن في بلده من يستحقّها فلا بأس أن يبعث بها إلى بلد آخر. فإن أصيبت الزّكاة في الطّريق أو هلكت، فقد أجزأ عنه. وإن كان قد وجد في بلده لها مستحقا، فلم يعطه، وآثر من يكون في بلد آخر، كان ضامنا لها، إن هلكت، ووجب عليه إعادتها.

ومن وصّي بإخراج زكاة، أو أعطي شيئا منها ليفرّقه على مستحقيه، فوجده، ولم يعطه. بل أخّره، ثمَّ هلك، كان ضامنا للمال.

ولا تحلّ الصّدقة الواجبة في الأموال لبني هاشم قاطبة. وهم الذين ينتسبون إلى أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، وجعفر

١٨٦

ابن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وعبّاس بن عبد المطّلب. فامّا ما عدا صدقة الأموال، فلا بأس أن يعطوا إيّاها. ولا بأس أن تعطي صدقة الأموال مواليهم. ولا بأس أن يعطي بعضهم بعضا صدقة الأموال. وإنّما يحرم عليهم صدقة من ليس من نسبهم.

وهذا كلّه إنّما يكون في حال توسّعهم ووصولهم إلى مستحقّهم من الأخماس. فإذا كانوا ممنوعين من ذلك ومحتاجين إلى ما يستعينون به على أحوالهم، فلا بأس أن يعطوا زكاة الأموال رخصة لهم في ذلك عند الاضطرار.

ولا يجوز أن تعطى الزّكاة لمحترف يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده وأود عياله. فإن كانت حرفته لا تقوم به، جاز له أن يأخذ ما يتّسع به على أهله. ومن ملك خمسين درهما يقدر أن يتعيّش بها بقدر ما يحتاج إليه في نفقته، لم يجز له أن يأخذ الزكاة. وإن كان معه سبعمائة درهم، وهو لا يحسن أن يتعيّش بها، جاز له أن يقبل الزّكاة، ويخرج هو ما يجب عليه فيما يملكه من الزّكاة، فيتّسع به على عياله. ومن ملك دارا يسكنها وخادما يخدمه، جاز له أن يقبل الزّكاة. فإن كانت داره دار غلّة تكفيه ولعياله، لم يجز له أن يقبل الزّكاة فإن لم يكن له في غلّتها كفاية، جاز له أن يقبل الزّكاة.

وينبغي أن تعطي زكاة الذّهب والفضّة للفقراء والمساكين

١٨٧

المعروفين بذلك، وتعطي زكاة الإبل والبقر والغنم أهل التّجمّل.

فإن عرفت من يستحقّ الزّكاة، وهو يستحيي من التعرّض لذلك، ولا يؤثر إن تعرفه، جاز لك أن تعطيه الزّكاة وإن لم تعرفه أنّه منها، وقد أجزأت عنك.

وإذا كان على إنسان دين، ولا يقدر على قضائه، وهو مستحقّ لها، جاز لك أن تقاصّه من الزّكاة. وكذلك إن كان الدّين على ميّت، جاز لك أن تقاصّه منها. وإن كان على أخيك المؤمن دين، وقد مات، جاز لك أن تقضي عنه من الزّكاة. وكذلك إن كان الدين على والدك أو والدتك أو ولدك، جاز لك أن تقضيه عنهم من الزّكاة.

فإذا لم تجد مستحقا للزّكاة، ووجدت مملوكا يباع، جاز لك أن تشتريه من الزّكاة وتعتقه. فإن أصاب بعد ذلك مالا، ولا وارث له، كان ميراثه لأرباب الزّكاة. وكذلك لا بأس مع وجود المستحقّ أن يشتري مملوكا ويعتقه، إذا كان مؤمنا، وكان في ضرّ وشدّة. فإن كان بخلاف ذلك، لم يجز ذلك على حال.

ومن أعطى غيره زكاة الأموال ليفرقها على مستحقها، وكان مستحقّا للزّكاة، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يعطي غيره. اللهمّ إلّا أن يعيّن له على أقوام بأعيانهم. فإنّه لا يجوز

١٨٨

له حينئذ أن يأخذ منها شيئا، ولا أن يعدل عنهم الى غيرهم.

وأقلّ ما يعطي الفقير من الزّكاة خمسة دراهم أو نصف دينار. وهو أوّل ما يجب في النّصاب الأوّل. فأمّا ما زاد على ذلك، فلا بأس أن يعطى كلّ واحد ما يجب في نصاب نصاب، وهو درهم إن كان من الدراهم، أو عشر دينار إن كان من الدّنانير، وليس لأكثره حد. ولا بأس أن يعطي الرّجل زكاته لواحد يغنيه بذلك.

باب وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه

الفطرة واجبة على كلّ حر بالغ مالك لما تجب عليه فيه زكاة المال. ويلزمه أن يخرج عنه وعن جميع من يعوله من ولد ووالد وزوجة ومملوك ومملوكة، مسلما كان أو ذمّيّا، صغيرا كان أو كبيرا. فإن كان لزوجته مملوك في عياله، أو يكون عنده ضيف يفطر معه في شهر رمضان، وجب عليه أيضا أن يخرج عنهما الفطرة. وإن رزق ولدا في شهر رمضان، وجب عليه أيضا أن يخرج عنه. فإن ولد المولود ليلة الفطر أو يوم العيد قبل صلاة العيد، لم يجب عليه إخراج الفطرة عنه فرضا واجبا. ويستحبّ له أن يخرج ندبا واستحبابا.

وكذلك من أسلم ليلة الفطر قبل الصّلاة، يستحبّ له أن يخرج زكاة الفطرة، وليس ذلك بفرض. فإن كان إسلامه

١٨٩

قبل ذلك، وجب عليه إخراج الفطرة. ومن لا يملك ما يجب عليه فيه الزّكاة، يستحبّ له أن يخرج زكاة الفطرة أيضا عن نفسه وعن جميع من يعوله. فإن كان ممّن يحلّ له أخذ الفطرة أخذها ثمَّ أخرجها عن نفسه وعن عياله. فإن كان به إليها حاجة، فليدر ذلك على من يعوله. حتّى ينتهي إلى آخرهم، ثمَّ يخرج رأسا واحدا إلى غيرهم، وقد أجزأ عنهم كلّهم.

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

أفضل ما يخرجه الإنسان في زكاة الفطرة التّمر ثمَّ الزّبيب. ويجوز إخراج الحنطة والشّعير والأرزّ والأقط واللّبن. والأصل في ذلك أن يخرج كلّ أحد ممّا يغلب على قوته في أكثر الأحوال.

فأمّا أهل مكّة والمدينة وأطراف الشّام واليمامة والبحرين والعراقين وفارس والأهواز وكرمان، فينبغي لهم أن يخرجوا التّمر. وعلى أوساط الشّام ومرو من خراسان والريّ، أن يخرجوا الزّبيب. وعلى أهل الجزيرة والموصل والجبال كلّها وخراسان، أن يخرجوا الحنطة والشّعير، وعلى أهل طبرستان الأرز، وعلى أهل مصر البرّ. ومن سكن البوادي من الأعراب فعليهم الأقط، فإذا عدموه، كان عليهم اللّبن.

١٩٠

ومن عدم أحد هذه الأصناف التي ذكرناها، أو أراد أن يخرج ثمنها بقيمة الوقت ذهبا أو فضة، لم يكن به بأس. وقد روي رواية أنّه يجوز أن يخرج عن كلّ رأس درهما. وقد روي أيضا أربعة دوانيق. والأحوط ما قدّمناه من أنّه يخرج قيمته بسعر الوقت.

فأمّا القدر الذي يجب إخراجه عن كلّ رأس، فصاع من أحد الأشياء التي قدّمنا ذكرها. وقدره تسعة أرطال بالعراقيّ وستّة أرطال بالمدني. وهو أربعة أمداد. والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف. والدرهم ستّة دوانيق. والدّانق ثماني حبّات من أوسط حبّات الشّعير. فأمّا اللّبن فمن يريد إخراجه، أجزأه أربعة أرطال بالمدنيّ أو ستّة بالعراقي.

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة ومن يستحقها

الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة يوم الفطر قبل صلاة العيد. ولو أن إنسانا أخرجها قبل يوم العيد بيوم أو يومين أو من أوّل الشّهر الى آخره، لم يكن به بأس، غير أن الأفضل ما قدّمناه.

فإذا كان يوم الفطر، فليخرجها، ويسلّمها الى مستحقّيها فإن لم يجد لها مستحقّا، عزلها من ماله، ثمَّ يسلّمها بعد الصّلاة أو من غد يومه الى مستحقّيها. فإن وجد لها أهلا، وأخّرها،

١٩١

كان ضامنا لها، الى أن يسلّمها إلى أربابها. وإن لم يجد لها أهلا، وأخرجها من ماله، لم يكن عليه ضمان.

وينبغي أن تحمل الفطرة الى الإمام ليضعها حيث يراه. فإن لم يكن هناك إمام، حملت الى فقهاء شيعته ليفرقوها في في مواضعها. وإذا أراد الإنسان أن يتولّى ذلك بنفسه، جاز له له ذلك، غير أنّه لا يعطيها إلا لمستحقّيها.

والمستحقّ لها، هو كلّ من كان بالصّفة التي تحلّ له معها الزّكاة. وتحرم على كلّ من تحرم عليه زكاة الأموال.

ولا يجوز حمل الفطرة من بلد الى بلد. وان لم يوجد لها مستحقّ من أهل المعرفة، جاز أن تعطى المستضعفين من غيرهم.

ولا يجوز إعطاؤها لمن لا معرفة له، إلّا عند التقية أو عدم مستحقّيها من أهل المعرفة. والأفضل أن يعطي الإنسان من يخافه من غير الفطرة، ويضع الفطرة في مواضعها.

ولا يجوز أن يعطي أقلّ من زكاة رأس واحد لواحد مع الاختيار. فإن حضر جماعة محتاجون وليس هناك من الأصواع بقدر ما يصيب كلّ واحد منهم صاع، جاز أن يفرّق عليهم. ولا بأس أن يعطي الواحد صاعين أو أصواعا.

والأفضل أن لا يعدل الإنسان بالفطرة إلى الأباعد مع وجود القرابات ولا الى الأقاصي مع وجود الجيران. فإن فعل خلاف ذلك، كان تاركا فضلا، ولم يكن عليه بأس.

١٩٢

باب الجزية وأحكامها

الجزية واجبة على أهل الكتاب ممّن أبى منهم الإسلام وأذعن بها، وهم اليهود والنّصارى. والمجوس حكمهم حكم اليهود والنّصارى. وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة إذا كانوا بشرائط المكلّفين وتسقط عن الصّبيان والمجانين والبله والنّساء منهم. فأمّا ما عدا الأصناف المذكورة من الكفّار، فليس يجوز أن يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل. ومن وجبت عليه الجزية وحلّ الوقت، فأسلم قبل أن يعطيها، سقطت عنه، ولم يلزمه أداؤها.

وكلّ من وجبت عليه الجزية، فالإمام مخيّر بين أن يضعها على رءوسهم أو على أرضيهم. فإن وضعها على رءوسهم، فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.

وليس للجزية حدّ محدود ولا قدر موقّت. بل يأخذ الإمام منهم على قدر ما يراه من أحوالهم من الغنى والفقر بقدر ما يكونون به صاغرين.

وكان المستحقّ للجزية في عهد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المهاجرين دون غيرهم. وهي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام والذبّ من سائر المسلمين.

١٩٣

ولا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ممّا أخذوه من ثمن الخمور والخنازير والأشياء التي لا يحلّ للمسلمين بيعها والتّصرف فيها.

باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه منها بالبيع والشرى والتملك وما لا يصح

الأرضون على أربعة أقسام:

ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر، وكانت ملكا لهم، يصحّ لهم التّصرّف فيها بالبيع والشّرى والوقف وسائر أنواع التّصرف.

وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها وقاموا بعمارتها. فإن تركوا عمارتها، وتركوها خرابا، كانت للمسلمين قاطبة. وعلى الإمام أن يقبّلها ممّن يعمّرها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع. وكان على المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة ومئونة الأرض، العشر أو نصف العشر فيما يبقى في حصّته، إذا بلغ الى الحدّ الذي يجب فيه ذلك. وهو خمسة أوسق فصاعدا حسب ما قدّمناه.

والضّرب الآخر من الأرضين، ما أخذ عنوة بالسّيف، فإنّها تكون للمسلمين بأجمعهم. وكان على الإمام أن يقبّلها

١٩٤

لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع. وكان على المتقبّل إخراج ما قد قبل به من حقّ الرّقبة، وفيما يبقى في يده وخاصّه العشر أو نصف العشر.

وهذا الضّرب من الأرضين لا يصحّ التّصرف فيه بالبيع والشرى والتملّك والوقف والصّدقات. وللإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره عند انقضاء مدّة ضمانه، وله التّصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين. وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسم فيهم كلّهم: المقاتلة، وغيرهم. فإن المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلّا ما تحويه العسكر من الغنائم.

والضّرب الثّالث كلّ أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع، وليس عليهم غير ذلك.

فإذا أسلم أربابها، كان حكم أرضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، ويسقط عنهم الصّلح، لأنه جزية بدل من جزية رءوسهم وأموالهم، وقد سقطت عنهم بالإسلام. وهذا الضّرب من الأرضين يصحّ التّصرّف فيه بالبيع والشّرى والهبة وغير ذلك من أنواع التّصرف، وكان للإمام أن يزيد وينقض ما صالحهم عليه بعد انقضاء مدّة الصّلح حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها

١٩٥

والضّرب الرّابع، كلّ أرض انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتا فأحييت، أو كانت آجاما وغيرها ممّا لا يزرع فيها، فاستحدثت مزارع.

فإن هذه الأرضين كلّها للإمام خاصة، ليس لأحد معه فيها نصيب، وكان له التّصرّف فيها بالقبض والهبة والبيع والشّرى حسب ما يراه، وكان له أن يقبّلها بما يراه من النّصف أو الثّلث أو الرّبع، وجاز له أيضا بعد انقضاء مدّة القبالة نزعها من يد من قبّله إيّاها وتقبيلها لغيره، إلّا الأرضين التي أحييت بعد مواتها، فإن الذي أحياها أولى بالتّصرف فيها ما دام يقبلها بما يقبلها غيره. فإن أبى ذلك، كان للإمام أيضا نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه. وعلى المتقبّل بعد إخراجه مال القبالة والمؤن فيما يحصل في حصتّه، العشر أو نصف العشر.

باب الخمس والغنائم

الخمس واجب في جميع ما يغنمه الإنسان.

والغنائم كلّ ما أخذ بالسّيف من أهل الحرب الذين أمر الله تعالى بقتالهم من الأموال والسّلاح والكراع والثّياب والمماليك وغيرها ممّا يحويه العسكر وممّا لم يحوه.

ويجب الخمس أيضا في جميع ما يغنمه الإنسان من أرباح

١٩٦

التّجارات والزّراعات وغير ذلك بعد إخراج مئونته ومئونة عياله.

ويجب الخمس أيضا في جميع المعادن من الذّهب والفضّة والحديد والصّفر والملح والرّصاص والنّفط والكبريت وسائر ما يتناوله اسم المعدن على اختلافها.

ويجب أيضا الخمس من الكنوز المذخورة على من وجدها، وفي العنبر وفي الغوص.

وإذا حصل مع الإنسان مال قد اختلط الحلال بالحرام، ولا يتميّز له، وأراد تطهيره، أخرج منه الخمس، وحلّ له التّصرف في الباقي. وإن تميّز له الحرام، وجب عليه إخراجه وردّه الى أربابه. ومن ورث مالا ممّن يعلم أنّه كان يجمعه من وجوه محظورة مثل الرّبا والغضب وما يجري مجراهما، ولم يتميّز له المغصوب منه ولا الرّبا، أخرج منه الخمس، واستعمل الباقي، وحلّ له التّصرف فيه.

والذمّي إذا اشترى من مسلم أرضا، وجب عليه فيها الخمس.

وجميع ما قدّمناه ذكره من الأنواع، يجب فيه الخمس قليلا كان أو كثيرا، إلّا الكنوز ومعادن الذّهب والفضّة، فإنّه لا يجب فيها الخمس إلّا إذا بلغت إلى القدر الذي يجب فيه الزّكاة.

١٩٧

والغوص لا يجب فيه الخمس إلّا إذا بلغ قيمته دينارا.

وأمّا الغلّات والأرباح فإنّه يجب فيها الخمس بعد إخراج حق السّلطان ومئونة الرّجل ومئونة عياله بقدر ما يحتاج اليه على الاقتصاد.

والكنوز إذا كانت دراهم أو دنانير، يجب فيها الخمس فيما وجد منها، إذا بلغ إلى الحدّ الّذي قدّمناه ذكره. وإن كان ممّا يحتاج الى المؤنة والنّفقة عليه، يجب فيه الخمس بعد إخراج المؤنة منه.

باب قسمة الغنائم والأخماس

كلّ ما يغنمه المسلمون من دار الحرب من جميع الأصناف التي قدّمناه ذكرها، ممّا حواه العسكر يخرج منه الخمس. وأربعة أخماس ما يبقى يقسم بين المقاتلة. وما لم يحوه العسكر من الأرضين والعقارات وغيرها من أنواع الغنائم يخرج منه الخمس، والباقي تكون للمسلمين قاطبة: مقاتليهم وغير مقاتليهم، يقسمه الامام بينهم على قدر ما يراه من مئونتهم.

والخمس يأخذه الإمام فيقسمه ستّة أقسام:

قسما لله، وقسما لرسوله، وقسما لذي القربى. فقسم الله وقسم الرّسول وقسم ذي القربى للإمام خاصّة، يصرفه في أمور نفسه وما يلزمه من مئونة غيره.

١٩٨

وسهم ليتامى آل محمّد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم. وليس لغيرهم شي‌ء من الأخماس. وعلى الإمام أن يقسم سهامهم فيهم على قدر كفايتهم ومئونتهم في السّنة على الاقتصاد. فإن فضل من ذلك شي‌ء، كان له خاصّة. وإن نقص كان عليه أن يتمّ من خاصّته.

وهؤلاء الذين يستحقّون الخمس، هم الذين قدّمنا ذكرهم ممّن تحرم عليهم الزّكاة، ذكرا كان أو أنثى. فإن كان هناك من أمّه من غير أولاد المذكورين، وكان أبوه منهم، حلّ له الخمس، ولم تحلّ له الزّكاة. وإن كان ممّن أبوه من غير أولادهم، وأمّه منهم، لم يحلّ له الخمس، وحلّت له الزّكاة.

باب الأنفال

الأنفال كانت لرسول الله خاصّة في حياته، وهي لمن قام مقامه بعده في أمور المسلمين. وهي كلّ أرض خربة قد باد أهلها عنها. وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب أو يسلّمونها هم بغير قتال، ورءوس الجبال وبطون الأودية والآجام والأرضون الموات التي لا أرباب لها، وصوافي الملوك وقطائعهم ممّا كان في أيديهم من غير وجه الغصب، وميراث من لا وارث له.

وله أيضا من الغنائم قبل أن تقسم: الجارية الحسناء،

١٩٩

والفرس الفاره، والثّوب المرتفع، وما أشبه ذلك ممّا لا نظير له من رقيق أو متاع.

وإذا قاتل قوم أهل حرب من غير أمر الإمام، فغنموا، كانت غنيمتهم للإمام خاصّة دون غيره.

وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقّه الإمام من الأنفال والأخماس إلّا بإذنه. فمن تصرّف في شي‌ء من ذلك بغير إذنه، كان عاصيا، وارتفاع ما يتصرّف فيه مردود على الإمام. وإذا تصرّف فيه بأمر الإمام، كان عليه أن يؤدي ما يصالحه الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع.

هذا في حال ظهور الإمام. فأمّا في حال الغيبة، فقد رخّصوا لشيعتهم التصرّف في حقوقهم ممّا يتعلّق بالأخماس وغيرها فيما لا بدّ لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن. فأمّا ما عدا ذلك، فلا يجوز له التصرّف فيه على حال.

وما يستحقّونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول أصحابنا فيه، وليس فيه نصّ معيّن إلا أنّ كلّ واحد منهم قال قولا يقتضيه الاحتياط.

فقال بعضهم: إنّه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر.

وقال قوم: إنّه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا. فإذا حضرته الوفاة، وصّى به الى من يثق به من إخوانه المؤمنين

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

التّفسير

قانونان إسلاميان مهمان :

الآية الحاضرة وإنّ نزلت ـ كالكثير من الآيات ـ في مورد خاص ، إلّا أن من البديهي أنّها تتضمّن حكما عامّا وشاملا للجميع ، فهي تقول بصراحة :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) .

ومن الواضح أنّ للأمانة معنى وسيعا يشمل كلّ شيء مادي ومعنوي ، ويجب على كل مسلم ـ بصريح هذه الآية ـ أن لا يخون أحدا في أية أمانة دون استثناء ، سواء كان صاحب الأمانة مسلما أو غير مسلم ، وهذا هو في الواقع إحدى المواد في «الميثاق الاسلامي لحقوق الإنسان» التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.

والجدير بالذكر أنّ الأمانة المذكورة في سبب النزول لم تكن مجرد أمانة مادية ، ومن جانب آخر كان صاحبها المؤدى إليه تلك الأمانة مشركا.

ثمّ إنّه سبحانه يشير ـ في القسم الثّاني من الآية ـ إلى قانون مهم آخر ، وهو مسألة «العدالة في الحكومة» فيقول :( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) أي إنّ الله يوصيكم أيضا أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم بين الناس ، فتحكموا بعدل.

ثمّ قال سبحانه تأكيدا لهذين التعليمين :( إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) .

ثمّ يقول مؤكدا ذلك أيضا :( إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) فهو يراقب أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم.

إنّ هذا القانون هو الآخر قانون كلّي وعام ، ويشمل كل نوع من القضاء والحكومة،سواء في الأمور الكبيرة والأمور الصغيرة ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية أنّ صبين ترافعا إلى الإمام الحسن بن علي في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أيّ الخطين أجود ، فبصر به عليّعليه‌السلام فقال : «يا بني انظر

__________________

ذكر في سبب النزول صح أم لا ، فإنّه لا يؤثر في القانون المهم المستفاد من الآية.

٢٨١

كيف تحكم فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة»(١) .

إنّ هذين القانونين المهمّين (حفظ الأمانة ، والعدالة في الحكم والحكومة) يمثلان قاعدة المجتمع الإنساني السليم ، ولا يستقيم أمر مجتمع ، سواء كان ماديا أو إلهيا من دون تنفيذ وإجراء هذين الأصلين.

فالأصل الأوّل يقول : إنّ الأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات والمهام والرساميل الإنسانية والثقافات والتراث والمخلفات التاريخية ، كلها أمانات إلهية سلمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع ، والجميع مكلّفون أن يحفظوا هذه الأمانات ، ويجتهدوا في تسليمها إلى أصحابها الأصليين ، ولا يخونوا فيها أبدا.

ومن جهة أخرى حيث إنّ الاجتماعات تلازم التصادمات والاحتكاكات في المصالح والمنافع ، ولهذا يتطلب الحل والفصل على أساس من الحكومة العادلة والقضاء العادل حتى يزول وينمحي كل أنواع التمييز الظالم من الحياة الاجتماعية.

وكما أسلفنا فإنّ الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس ـ بعضهم عند بعض ـ بل العلماء في المجتمع هم أيضا مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق ، بل حتى أبناء الإنسان وأولاده أمانات إلهية لدى الآباء والأمهات فلا يفرطوا في تربيتهم ، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم ، وإلّا كان ذلك خيانة في الأمانة الإلهية التي أمر الله بأدائها،بل وفوق ذلك كلّه الوجود الإنساني ، فهو وجميع الطاقات المودوعة فيه «أمانات الله» التي يجب على الإنسان أن يجتهد في المحافظة عليها ، كما عليه أن يحافظ على صحّة جسمه وسلامة روحه ، ويحافظ على طاقة الشباب الفياضة ، وفكره ، ولا يفرط فيها ، ولهذا لا يجوز له أن ينتحر أو يلحق الضرر بنفسه ، حتى أنّه يستفاد من بعض الأحاديث والنصوص

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٦٤.

٢٨٢

الإسلامية إنّ علوم الإمامة وأسرارها وودائعها التي يسلمها كل إمام إلى الإمام الذي بعده داخلة في هذه الآية

أيضا(١) . والجدير بالذكر ، إنّ مسألة «أداء الأمانة» قدمت في هذه الآية على مسألة «العدالة» ولعلّ ذلك لأجل أنّ مسألة العدل في القضاء والحكم مترتبة دائما على الخيانة ، لأنّ الأصل هو أن أمناء بالأصالة ، فإذا انحرف شخص أو أشخاص عن هذا الأصل وصل الدور إلى العدالة لتوفّقهم على مسئولياتهم وتعرفهم بوظائفهم.

* * *

أهميّة الأمانة والعدل في الإسلام :

لقد ورد تأكيد كبير على هذه المسألة في المصادر الإسلامية إلى درجة أنّنا قلّما نجد مثله في مورد غيره من الأحكام والمسائل ، والأحاديث القصيرة التالية توضيح هذه الحقيقة :

١ ـ عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(٢) .

٢ ـ جاء في حديث آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «إن عليّا إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة»(٣) .

٣ ـ روي في حديث آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أيضا قال لأحد أصحابه : «أعلم أن ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة»(٤) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٢٨٣

٤ ـ وفي روايات مروية في مصادر الشيعة والسنة عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نلاحظ هذا الحديث السّاطع : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(١) .

٥ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : «سوي بين أخصمين في لحظك ولفظك»(٢) .

* * *

__________________

(١) صحيح الترمذي والنسائي بناء على نقل المنار وقد ورد نفس هذا المضمون في سفينة البحار أيضا.

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٦٤.

٢٨٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) )

التّفسير

هذه الآية وبعض الآيات اللاحقة تبحث عن واحدة من أهم المسائل الإسلامية ، ألا وهي مسألة القيادة ، وتعيين القادة والمراجع الحقيقيين للمسلمين في مختلف المسائل الدينية والاجتماعية.

فهي تأمر المؤمنين ـ أوّلا ـ بأن يطيعوا الله ، ومن البديهي أنّه يجب أن تنتهي جميع الطاعات ـ عند الفرد المؤمن ـ إلى طاعة الله سبحانه ، وكل قيادة وولاية يجب أن تنبع من ولاية الله سبحانه وذاته المقدسة تعالى وتكون حسب أمره ومشيئته ، لأنّه الحاكم والمالك التكويني لهذا العالم ، وكلّ حاكمية ومالكية يجب أن تكون بإذنه وبأمره :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ) .

وفي المرحلة الثّانية تأمر باتّباع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإطاعته ، وهو النّبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ولا ينطلق من الهوس ، والنّبي الذي هو خليفة الله بين الناس ، وكلامه كلام الله ، وقد أعطي هذا المقام من جانب الله سبحانه ، ولهذا تكون

٢٨٥

إطاعة الله ممّا تقتضيه خالقيته وحاكمية ذاته المقدسة ، ولكن إطاعة النّبي واتّباع أمره ناشئ من أمر الله. وبعبارة أخرى فإنّ الله واجب الإطاعة بالذات والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجب الإطاعة بالعرض ، ولعل تكرار «أطيعوا» في هذه الآية للإشارة إلى مثل هذا الفرق بين الطاعتين( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .

وفي المرحلة الثانية يأمر سبحانه بإطاعة أولي الأمر القائمين من صلب المجتمع الإسلامي ، والذين يحفظون للناس أمر دينهم ودنياهم.

من هم أولوا الأمر؟

ثمّة كلام كثير بين المفسّرين في المقصود من أولي الأمر في هذه الآية ، ويمكن تلخيص أوجه النظر في هذا المجال في ما يلي :

١ ـ ذهب جماعة من مفسّري أهل السنّة إلى أنّ المراد من «أولى الأمر» هم الأمراء والحكام في كل زمان ومكان ، ولم يستثن من هؤلاء أحدا ، فتكون نتيجة هذا الرأي هي: إنّ على المسلمين أن يطيعوا كل حكومة وسلطة مهما كان شكلها حتى إذا كانت حكومة المغول ، ودولتهم الجائرة.

٢ ـ ذهب البعض من المفسّرين ـ مثل صاحب تفسير المنار وصاحب تفسير في ظلال القرآن وآخرون ـ إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» ممثلو كافة طبقات الأمة ، من الحكام والقادة والعلماء وأصحاب المناصب في شتى مجالات حياة الناس ، ولكن لا تجب طاعة هؤلاء بشكل مطلق وبدون قيد أو شرط ، بل هي مشروطة بأن لا تكون على خلاف الأحكام والمقررات الإسلامية.

٣ ـ ذهبت جماعة أخرى إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم القادة المعنويون والفكريون ، أي العلماء والمفكرون العدول العارفون بمحتويات الكتاب والسنة معرفة كاملة.

٤ ـ وذهب بعض مفسّري أهل السنة إلى أنّ المراد من هذه الكلمة هم

٢٨٦

«الخلفاء الأربعة» الذين شغلوا دست الخلافة بعد رسول الله خاصّة ولا تشمل غيرهم ، وعلى هذا لا يكون لأولي الأمر أي وجود خارجى في الأعصر الاخرى.

٥ ـ يفسر بعض المفسّرين «أولي الأمر» بصحابة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦ ـ هناك احتمال آخر يقول ـ في تفسير أولي الأمر ـ إنّ المراد منه هم القادة العسكريون المسلمون ، وأمراء الجيش والسرايا.

٧ ـ ذهب كلّ مفسّري الشيعة بالاتفاق إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام الذين أنيطت إليهم قيادة الأمة الإسلامية المادية والمعنوية في جميع حقول الحياة من جانب الله سبحانه والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تشمل غيرهم ، اللهم إلّا الذي يتقلد منصبا من قبلهم ، ويتولى أمرا في إدارة المجتمع الإسلامي من جانبهم ـ فإنّه يجب طاعته أيضا إذا توفرت فيه شروط معينة ، ولا تجب طاعته لكونه من أولي الأمر ، بل لكونه نائبا لأولي الأمر ووكيلا من قبلهم.

والآن لنستعرض التفاسير المذكورة أعلاه باختصار:لا شك أنّ التّفسير الأوّل لا يناسب مفهوم الآية وروح التعاليم الإسلامية بحال ، إذ لا يمكن أن تقترن طاعة كل حكومة ـ مهما كانت طبيعتها ـ ومن دون قيد أو شرط بإطاعته الله والنّبي ، ولهذا تصدى كبار علماء السنة لنفي هذا الرأي والتّفسير مضافا إلى علماء الشيعة.

وكذا التّفسير الثّاني : فإنّه لا يناسب إطلاق الآية الشريفة ، لأنّ الآية توجب إطاعة أولي الأمر من دون قيد أو شرط.

وهكذا التّفسير الثّالث ، يعني تفسير «أولي الأمر» بالعلماء والعدول والعارفين بالكتاب والسنة ، فهو لا يناسب إطلاق الآية ، لأنّ لإطاعة العلماء وإتباعهم شروطا من جملتها أن لا يكون كلامهم على خلاف الكتاب والسنة ، وعلى هذا لو ارتكبوا خطأ (لكونهم عرضة للخطأ وغير معصومين) أو انحرفوا

٢٨٧

عن جادة الحقّ لأي سبب آخر لم تجب طاعتهم ، في حين توجب الآية الحاضرة إطاعة أولي الأمر بنحو مطلق كإطاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى أنّ إطاعة العلماء إنّما هي في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسنة ، وعلى هذا لا تكون إطاعتهم شيئا غير إطاعة الله وإطاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا حاجة إلى ذكرها بصورة مستقلة.

وأمّا التّفسير الرّابع (وهو حصر عنوان أولي الأمر بالخلفاء الأربعة الأوائل) فمؤداه عدم وجود مصداق لأولي الأمر بين المسلمين في هذا الزمان هذا مضافا إلى عدم وجود دليل على مثل هذا التخصيص.

والتّفسير الخامس والسّادس : يعنيان تخصيص هذا العنوان بالصحابة أو القادة العسكريين المسلمين ، ويرد عليها نفس الإشكال الوارد على التّفسير الرّابع ، يعني أنّه لا يوجد أي دليل على مثل هذا التخصيص أيضا.

وقد أراد جماعة من مفسّري السنة مثل «محمّد عبده» العالم المصري المعروف ـ تبعا لبعض ما قاله المفسّر المعروف الفخر الرازي ـ أن يقبل بالاحتمال الثّاني (القاضي بأنّ أولي الأمر هم ممثلو مختلف طبقات المجتمع الإسلامي من العلماء والحكام وغير هؤلاء من طبقات وفئات المجتمع الإسلامي) مشروطا ببعض الشروط ومقيدا ببعض القيود ، مثل أن يكونوا مسلمين (كما يستفاد من كلمة «منكم» في الآية) وأن لا يكون حكمهم على خلاف الكتاب والسنة ، وأن يحكموا عن اختيار لا جبر ولا قهر ، وأن يحكموا وفق مصالح المسلمين ، وأن يتحدثوا في مسائل يحقّ لهم التدخل فيها (لا مثل العبادات التي لها قوانين وأحكام ثابتة في الإسلام) وأن لا يكون قد ورد في الحكم الذي أصدروه نص خاص من الشرع ، وأن يكونوا ـ فوق كل هذا ـ متفقين في الرأي والحكم.

وحيث إنّ هؤلاء يعتقدون أن مجموع الأمّة أو مجموع ممثليها لا تخطأ ولا تجتمع على خطأ ، ـ وبعبارة أخرى ـ أن مجموع الأمّة معصومة (أو أنّ الأمّة

٢٨٨

بوصفها معصومة) تكون نتيجة هذه الشروط وجوب إطاعة مثل هذا الحكم بشكل مطلق ومن دون قيد أو شرط تماما مثل إطاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ومؤدى هذا الكلام هو حجّيّة الإجماع). ولكن ترد على هذا التّفسير أيضا إشكالات واعتراضات عديدة وهي :

أوّلا : إنّ الاتفاق في الرأي في المسائل الاجتماعية قلّما يتفق وقلّما يتحقق ، وعلى هذا فإن هذا الرأي يستلزم وجود حالة من الفوضى والانتظام في أغلب شؤون المسلمين وبصورة دائمة.

وأمّا إذا أراد هؤلاء قبول رأي الأكثرية فيرد عليه : إنّ الأكثرية لا تكون معصومة أبدا،ولهذا لا تجب إطاعتها بنحو مطلق.

ثانيا : لقد ثبت في علم الأصول ، أنّه ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع الأمّة من دون وجود الإمام المعصوم بينهم.

ثالثا : إنّ أحد الشرائط التي يذكرها أنصار هذا التّفسير هو أن لا يكون حكم هؤلاء «أي أولوا الأمر» على خلاف الكتاب والسنة ، فيجب حينئذ أن نرى من الذي يشخّص أن هذا الحكم مخالف للكتاب والسنة أو لا ، لا شك أن ذلك من مسئولية المجتهدين والفقهاء العارفين بالكتاب والسنة ، ويعني هذا إنّ إطاعة أولي الأمر لا يجوز بدون إجازة المجتهدين والعلماء ، بل تلزم أن تكون إطاعة العلماء أعلى من إطاعة أولي الأمر ، وهذا لا يناسب ولا يوافق ظاهر الآية الشريفة.

صحيح أن هؤلاء اعتبروا العلماء جزء من أولي الأمر «ولكن الحقيقة أن العلماء والمجتهدين ـ وفق هذا التّفسير ـ اعترف بهم على أنّهم المراقبون والمراجع العليا من بقية ممثلي مختلف فئات الأمّة ، لا أنّهم في مستوى بقية الممثلين المذكورين ، لأنّ على العلماء والفقهاء أن يشرفوا على أعمال الآخرين ويشخصوا موافقتها للكتاب والسنة ، وبهذا يكون العلماء مراجع عليا لهم ، وهذا لا

٢٨٩

يناسب التّفسير المذكور ولا يوافقه.

وعلى هذا الأساس يواجه التّفسير الحاضر (أي الثّاني) إشكالات ومآخذ من وجهات عديدة.

فيبقى تفسير واحد سليما من جميع الاعتراضات السابقة وهو التّفسير السّابع : (وهو تفسير أولي الأمر بالأئمّة المعصومينعليهم‌السلام لموافقة هذا التّفسير لإطلاق وجوب الإطاعة المستفاد من الآية المبحوثة هنا ، لأن مقام «العصمة» يحفظ الإمام من كلّ معصية ويصونه عن كل خطأ ، وبهذا الطريق يكون أمره ـ مثل أمر الرّسول ـ واجب الإطاعة من دون قيد أو شرط ، وينبغي أن يوضع في مستوى إطاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل وإلى درجة أنها تعطف على إطاعة الرّسول من دون تكرار «أطيعوا».

والجدير بالانتباه إلى أنّ بعض العلماء المعروفين من أهل السنة ، ومنهم المفسر المعروف الفخر الرازي اعترف بهذه الحقيقة في مطلع حديثه عند تفسير هذه الآية حيث قال : «إنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بإطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ أن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت إن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ».

وأضاف قائلا : «ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمّة أو بعض الأمّة ، ولا يجوز أن يكون بعض الأمّة لأن إيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم ، ونحن عاجزون عن الوصول إليهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمّة ، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك

٢٩٠

المعصوم الذي هو المراد بقوله : «وأولي الأمر» هم أهل الحل والعقد ومن الأمّة (أي الأمّة كلها وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمّة حجّة)(١) .

وهكذا نرى الفخر الرازي مع ما نعهد منه من كثيرة الإشكال في مختلف المسائل العلمية ، قد قبل دلالة هذه الآية على أنّ أولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين ، غاية ما في الأمر حيث أنّه لم يكن عارفا بمذهب أهل البيت النبويعليهم‌السلام وأئمّة هذا المذهب تجاهل احتمال أن يكون «أولي الأمر» أشخاصا معنيين من الامة ، فاضطر إلى تفسير «أولي الأمر» بمجموع الامّة (أو ممثلي عموم فئات الامّة) ، في حين أن هذا الاحتمال لا يمكن القبول به ، لأن أولي الأمر ـ كما قلنا في ما سبق ـ يجب أن يكونوا قادة المجتمع الإسلامي ، وتتمّ الحكومة الإسلامية والحكم بين المسلمين بهم ، ونعلم أنه لا يمكن لا في الحكومة الجماعية (المتألفة من مجموعة الأمّة) بل ولا من ممثلي فئاتها أن يتحقق اجتماع واتفاق في الرأي مطلقا ، لأنّ الحصول على إجماع من جانب الامّة جميعا أو من جانب ممثليها في مختلف المسائل الاجتماعية والسياسية والثقافية والخلقية والاقتصادية ، لا يتيسر ولا يتحقق في الأغلب ، كما أنّ إتّباع الأكثرية ـ كذلك ـ لا يعد اتّباعا لأولي الأمر ، ولهذا يلزم من كلام الرازي ومن تبعه من العلماء المعاصرين أن تتعطل مسألة إطاعة «أولي الأمر» ، أو تصير مسألة نادرة واستثنائية جدا

ومن كل ما قلناه نستنتج أنّ الآية الشريفة تثبت قيادة وولاية الأئمّة المعصومين الذين يشكلون نخبة من الامّة الإسلامية (تأمل).

أجوبة على أسئلة :

ثمّ إنّ هناك اعتراضات ومآخذ على هذا التّفسير (السّابع) يجدر طرحها هنا

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ١٤٤ ، طبعة مصر ، عام ١٣٥٧.

٢٩١

بتجرّد وموضوعية :

١ ـ إذا كان المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون ، فإنّ ذلك لا يناسب مع كلمة «أولي» التي هي بصيغة الجمع ، لأنّ الإمام المعصوم في كل عصر ، شخص واحد لا أكثر.

والجواب على هذا السؤال : أنّ الإمام المعصوم وإن كان في كل عصر شخصا واحدا لا أكثر ، إلّا أنّ الأئمة المتعددين في الأعصر المختلفة يشكلون جماعة ، ونحن نعلم أنّ الآية لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد.

٢ ـ إنّ أولي الأمر ـ بهذا المعنى ـ لم يكونوا في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف أمر القرآن الكريم بإطاعتهم؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح أيضا من الكلام السابق ، لأنّ الآية لا تنحصر (أو لا تعني) زمانا خاصا ، بل توضح وتبيّن وظيفة المسلمين وواجبهم في جميع العصور والقرون.

وبعبارة أخرى ، يمكن أن نقول أن أولي الأمر في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شخص النّبي بالذات ، لأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له منصبان منصب «الرسالة» الذي أشير إليه في الآية المذكورة تحت عنوان( أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) والآخر منصب «قيادة الأمّة الإسلامية» الذي ذكره القرآن الكريم تحت عنوان( أُولِي الْأَمْرِ ) .

وعلى هذا يكون القائد وولي الأمر المعصوم في عهد النّبي هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو مضافا إلى ما له من منصب الرسالة وإبلاغ الأحكام الإسلامية ، له منصب قيادة الأمّة وولاية أمرها ، ولعل عدم تكرار جملة (وأطيعوا» بين (الرّسول» و «أولي الأمر» لا يخلو عن الإشارة إلى هذه النقطة.

وبعبارة أخرى إن منصب «الرسالة» ومنصب «أولي الأمر» منصبان مختلفان اجتمعا في شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المنصب الثّاني فقط يتوفر في كل إمام على حدة ، فللإمام منصب اولي الأمر فقط.

٢٩٢

٣ ـ إذا كان المقصود من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون ، فلما ذا أشار سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال :( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) فإنّنا لا نشاهد هنا أي حديث عن «أولي الأمر» بل أشير إلى الله تعالى (كتاب الله ـ القرآن) والنّبي (السنة) كمرجع يجب أن يرجع إليه المسلمون عند الاختلاف والتنازع.

في الإجابة على هذا الإشكال يجب أن نقول :

أوّلا : إنّ هذا الإشكال لا يختص بالتّفسير الشّيعي لهذه الآية ، بل يردّ على بقية التفاسير أيضا ، إذا أمعنا النظر قليلا.

وثانيا : لا شك أنّ المراد من الاختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام،لا في المسائل المتعلقة بجزئيات الحكومة والقيادة الإسلامية ، لأنّه في هذه المسائل يجب إطاعة أولي الأمر(كما صرّح بذلك في الجملة الأولى من الآية المبحوثة هنا).

وعلى هذا فالمراد من الاختلاف هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الكلية الإسلامية التي يعود أمر تشريعها إلى الله سبحانه ونبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّنا نعلم أنّ الإمام مجرّد منفذ للأحكام الإلهية وليس مشرعا ، ولا ناسخا لشيء من تلك الأحكام ، وإنّما عليه فقط أن يطبق الأحكام والأوامر الإلهية والسنة النّبوية في حياة الأمة ، ولهذا جاء في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام إنّهم قالوا : «إذا بلغكم عنّا ما يخالف كتاب الله وسنة نبيّه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه» أي يستحيل أن نقول ما يخالف كتاب الله وسنة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى هذا فإنّ أوّل مرجع يرجع إليه المسلمون لحل خلافاتهم في الأحكام الإسلامية هو الله سبحانه والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يوحى إليه ، وإذا ما بيّن الأئمّة المعصومون أحكاما ، فإنّ تلك الأحكام ليست سوى اقتباس من كتاب الله ، أو هي

٢٩٣

من العلوم التي وصلت إليهم من النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا تتّضح علّة عدم ذكر أولي الأمر إلى جانب المرجع في حلّ الاختلاف في الأحكام المذكورة في هذا الجزء من الآية(١) .

شهادة الأحاديث :

هذا وقد وردت في المصادر الإسلامية أيضا أحاديث تؤيد تفسير «أولي الأمر» بأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام منها :

١ ـ ما كتبه المفسّر الإسلامي المعروف أبو حيان الأندلسي المغربي (المتوفي عام ٧٥٦) في تفسيره البحر المحيط : من أنّ هذه الآية نزلت في حقّ عليعليه‌السلام وأهل بيته(٢) .

٢ ـ روى العالم السني أبو بكر بن مؤمن الشيرازي في رسالة الإعتقاد (حسب نقل الكاشي في المناقب) عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في عليعليه‌السلام عند ما خلفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة (في غزوة تبوك) فقال عليعليه‌السلام : يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال أخلفني في قومي وأصلح فقالعزوجل :( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٣) .

٣ ـ وروى الشيخ سليمان الحنفي القندوزي وهو من أعلام أهل السنة المشهورين في كتابه «ينابيع المودة» من كتاب «المناقب» عن «سليم بن قيس

__________________

(١) وإذا رأيناه سبحانه يرجع الأمّة في حلّ بعض اختلافاتها إلى أولي الأمر في الآية (٨٣) من هذه السورة فالمراد منه ليس هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الإسلامية الكلية ، بل هو ـ كما سيأتي في تفسير هذه الآية ـ الاختلاف في المسائل المتعلقة بطريقة تطبيق الأحكام الإسلامية ، وسيأتي شرح مفصل في هذا المجال عند تفسير الآية بإذن الله.

(٢) البحر المحيط ، ج ٣ ، طبعة مصر ، ص ٤٢٥.

(٣) إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٢٥.

٢٩٤

الهلالي» قال سمعت عليا صلوات الله عليه يقول : أتاه رجل فقال أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمنا ، وأدنى ما يكون به العبد كافرا ، وأدنى ما يكون به العبد ضالا فقال : قد سألت فافهم الجواب وأمّا أدنى ما يكون العبد به ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر اللهعزوجل عباده بطاعته وفرض ولايته. قلت : يا أمير المؤمنين. صفهم لي. قال : الذين قرنهم الله تعالى : بنفسه وبنبيّه فقال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

فقلت له : جعلني الله فداك أوضح لي؟ فقال : الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه اللهعزوجل إليه : «إنّي تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما : كتاب اللهعزوجل وعترتي أهل بيتي»(١) .

٤ ـ وكذلك كتب نفس العالم في كتاب «ينابيع المودة» : وفي المناقب في تفسير مجاهد : إنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليعليه‌السلام (٢) .

٥ ـ رويت أحاديث كثيرة في مصادر الشيعة مثل كتاب الكافي وتفسير العياشي وكتب الصدوق ومصنفاته وغيرها تشهد جميعها بأنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون ، حتى أن بعضها ذكرت أسماء الأئمّةعليهم‌السلام واحدا واحدا(٣) .

* * *

__________________

(١) ينابيع المودة طبعة النجف الأشرف (الطبعة السابعة ص ١٣٦ ـ ١٣٧).

(٢) ينابيع المودة النجف ، ص ١٣٤.

(٣) راجع تفسير البرهان ، ج ١ ، تفسير الآية.

٢٩٥

الآية

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) )

سبب النّزول

كان بين رجل من اليهود ورجل من المسلمين المنافقين خصومة واختلاف ، فعزما على أن يحتكما إلى شخص ، وحيث كان اليهودي يعرف بعدل النّبي وحياده ولأنّه علم أنّه لا يأخذ الرّشوة ولا يجور في الحكم قال : أحاكم إلى محمّد ، ولكن المنافق قال : لا، بل بيني وبينك كعب بن الأشرف ، (لأنّه يأخذ الرّشوة وهو من أقطاب اليهود) ، وبذلك رفض التحاكم إلى رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية توبّخ أمثال هذا الشخص،وتشجب بشدّة موقفهم المشين هذا(١) .

وقد ذكر بعض المفسرين أسبابا أخرى لنزول هذه الآية تشهد بأنّ بعض المسلمينالحديثي العهد بالإسلام كانوا ـ على عادتهم في الجاهلية ـ يحتكمون ـ في مطلع الإسلام ـ إلى علماء اليهود أو الكهنة ، فنزلت الآية الحاضرة تنهى عن

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، نقل هذا السبب عن أكثر المفسرين.

٢٩٦

هذه العادة المقيتة بشدّة(١) .

التّفسير

حكومة الطّاغوت :

الآية الحاضرة ـ هي في الواقع ـ مكملة للآية السابقة ، لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إلى طاعة الله والرّسول وأولي الأمر ، والتحاكم إلى الكتاب والسنة ، وهذه الآية تنهي عن التحاكم إلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه.

والطّاغوت ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ مشتقّة من الطغيان ، وهذه الكلمة مع جميع مشتقاتها تعني التجاوز والتعدي وكسر الحدود وتجاهل القيود ، أو كل شيء يكون وسيلة للطغيان أو التمرّد.

وعلى هذا الأساس يكون كل من يحكم بالباطل طاغوتا ، لأنّه تجاوز حدود الله وتعدي على قوانين الحقّ والعدل ، ففي الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «الطّاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحقّ».

والآية الحاضرة تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إلى مثل هؤلاء الحكام وتقول :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) .

ثمّ يضيف القرآن قائلا :( وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) أي أنّ التحاكم إلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم.

وغير خفي أن الآية الحاضرة ـ شأنها شأن سائر الآيات القرآنية الاخرى ـ تتضمّن حكما عاما ، وتبيّن قانونا خالدا لجميع المسلمين في جميع العصور والدهور. وتحذرهم من مراجعة الطواغيت ، وطلب الحكم منهم ، وإنّ ذلك لا

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٢٢٢.

٢٩٧

يناسب الإيمان بالله والكتب السماوية ، هذا مضافا إلى كونه يضل الإنسان عن طريق الحقّ،ويلقيه في مجاهيل الباطل بعيدا عن الحق.

إنّ مفاسد وتبعات مثل هذه الأقضية والأحكام ، وأثرها في تحطيم كيان المجتمع البشري وتخريب علاقاته وروابطه وأسسه ممّا لا يخفى على أحد ، فهي أحد العوامل المؤثرة في انحطاط المجتمعات وتأخرها.

* * *

٢٩٨

الآيات

( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) )

التّفسير

نتائج حكم الطّاغوت :

في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية ، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إلى الطّواغيت وحكام الجور والباطل.

ففي الآية الأولى يقول سبحانه :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ) .

وفي الحقيقة يقول القرآن في هذه الآية : إنّ التحاكم إلى الطاغوت ليس خطأ عابرا يمكن أن يعالج ببعض التذكير ، بل إنّ الإصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم ، وإلّا لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إلى رشدهم على

٢٩٩

دعوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ويعترفوا بخطئهم :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ) .

ثمّ في الآية الثّانية يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أن هؤلاء المنافقين عند ما يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم ، ويواجهون طريقا مسدودة يعودون إليك عن اضطرار ويأس :( فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ ) .

ويحلفون في هذه الحالة أنّ هدفهم من التحاكم إلى الآخرين لم يكن إلّا الإحسان والتوصل إلى الوفاق بين طرفي الدّعوي :( يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً ) .

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين :

الأولى : أن نرى ما هو المقصود من المصيبة التي تصيبهم؟

لا يبعد أن تكون المصيبة هي ما ينشأ من مضاعفات ومآسي وويلات من حكم الطواغيت ، لأنّه لا شك في أن الحكم الصادر من الأشخاص غير الصالحين والظالمين وإن كان ينطوي على منفعة آنية لأحد جانبي الدعوى ، ولكن لا يمضي زمان إلّا ويوجب هذا الحكم ظهور الفساد وانتشار الظلم والجور ، وسيادة الهرج والمرج وتبعثر الكيان الاجتماعي،ولهذا فإنّه سرعان ما تواجه هؤلاء المتحاكمين إلى الطواغيت تبعات ومفاسد عملهم هذا ، وسرعان ما يندمون على فعلهم هذا.

هذا ويحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من «المصيبة» هو الفضيحة التي تلحق بالمنافقين ، أو المصائب التي تصيبهم بأمر الله سبحانه (كالمآسي والمحن الغير المتوقعة).

النّقطة الثّانية : إنّ مقصود المنافقين من «الإحسان» هل هو الإحسان إلى طرفي الدعوى ، أو إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ يمكن أن يكون مرادهم كلا الأمرين ، فهم تذرعوا

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710