الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 163765
تحميل: 5298


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163765 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

كان قد أصابهم مكروه في قتالهم يتحدث المنافقون بابتهاج بأنّ الله قد أنعم عليهم نعمة كبيرة إذ لم يشاركوا المجاهدين في ذلك القتال ، ويفرحون لعدم حضورهم في مشاهد الحرب الرهيبة( فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ) .

وحين تصل الأخبار بانتصار المسلمين المجاهدين ونيلهم المغانم ، يتبدل موقف هؤلاء المنافقين فتبدو الحسرة عليهم ويظهر الندم على وجوههم ، ويشرعون ـ وكأنّهم غرباء لا تربطهم بالمسلمين أية رابطة ـ بترديد عبارات التأسف :( وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) .

في الآية إشارة إلى المفهوم المادي للنصر في نظر المنافقين ، فالذي يرى الشهادة والقتل في سبيل الله مصيبة وبلاء ، ويخال النجاة من القتل أو الشهادة في هذه السبيل نعمة إلهية،لا ينظر إلى النصر والفوز إلّا من خلال منظار كسب الغنائم والمتاع المادي لا غير.

هؤلاء المتلونون الموجودون ـ مع الأسف ـ في كل المجتمعات ، سرعان ما يغيرون أقنعتهم تجاه ما يواجهه المؤمنون من نصر أو هزيمة ، هؤلاء لا يشاركون المؤمنين في معاناتهم ولا يساعدونهم في الملمات ، لكنّهم يتوقعون أن يكون لهم في الانتصارات السّهم الأوفى، وأن يحصلوا على ما يحصل عليه المجاهدون المؤمنون من امتيازات.

* * *

٣٢١

الآية

( فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) )

التّفسير

إعداد المؤمنين للجهاد :

بعد أن أوضحت الآية السابقة إحجام المنافقين عن مشاركة المجاهدين في القتال تتوجه الآية (74) والتي تليها ـ بلغة مشجعة مشوقة ـ إلى المؤمنين فتدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله ، ونزول هذه الآيات حين كان الإسلام مهددا من قبل مختلف الأعداء ـ سواء من الداخل أو الخارج ـ يدل على أهميتها في تربية الروح الجهادية لدى المسلمين.

وتوضح الآية في بدايتها أنّ أعباء الجهاد يجب أن تكون على عاتق أولئك النفر الذين باعوا حياتهم الدنيوية المادية الزائلة ، مقابل فوزهم بالحياة الأخروية الخالدة :( فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ) أي أن المجاهدون الحقيقيون هم وحدهم المستعدون للدخول في هذه الصفقة ، بعد أن انكشفت لهم دناءة الحياة المادية (وهو ما يفهم من لفظ الدنيا) ، فهؤلاء أدركوا أن هذه الحياة لا قيمة لها تجاه الحياة الأبدية الخالدة،أمّا الذين يرون الأصالة في

٣٢٢

الحياة المادية الدنيئة ، ويعتبرونها أرفع وأكبر من الأهداف الإلهية المقدسة والأهداف الإنسانية السامية ، فلا يمكن أن يكونوا أبدا مجاهدين صالحين.

وتستمر الآية مبينة أنّ مصير المجاهدين الحقيقيين الذين باعوا الحياة الدنيا بالآخرة واضح لا يخرج عن حالتين : إمّا النصر على الأعداء ، أو الشهادة في سبيل الله ، وهم في كلتا الحالتين ينالون الأجر والثواب العظيم من الله تعالى( ... وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) وبديهي أن جنودا كهؤلاء لا يفهمون معنى الهزيمة ، فهم يرون النصر إلى جانبهم في الحالتين : سواء تغلّبوا على العدو ، أو نالوا الشهادة في سبيل الله ، ومثل هذه المعنويات كفيلة بأن تمهد الطريق للانتصار على العدو ، ويعتبر التاريخ خير شاهد على أنّ هذه المعنويات هي العامل في انتصار المسلمين على أعداء فأقوهم عددا وعدّة.

ويؤكّد هذا الأمر حتى المفكرون من غير المسلمين ممن كتبوا عن انتصارات المسلمين السريعة التي حققوها في عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي العصور التالية ، فهؤلاء المفكرون يرون أن منطق الفوز بإحدى الحسنيين أحد العوامل الحاسمة في تقدم المسلمين.

يقول مؤرخ غربي مشهور في كتاب له في هذا المجال : إنّ المسلمين لم يكونوا ليخافوا الموت في سبيل دينهم الجديد ، لما وعدوا به من هبات إلهية في الآخرة ، وأنّهم لم يعتقدوا بأصالة خلود هذه الحياة الدنيا ، ولذلك فهم قد تنازلوا عن هذه الحياة في سبيل العقيدة والهدف(1) .

والجدير ذكره هنا هو أنّ هذه الآية ـ وآيات أخرى من القرآن الكريم ـ اعتبرت الجهاد أمرا مقدسا إذا كان في سبيل الله ، ومن أجل إنقاذ البشر ، وإحياء مبادئ الحق والعدالة والطهارة والتقوى ، على عكس الحروب التي تشن بهدف التوسع وبدافع من التعصب والتوحش والاستعمار والاستغلال.

* * *

__________________

(1) راجع غوستاف لوبون ، تاريخ الحضارة الإسلامية والعربية.

٣٢٣

الآية

( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) )

التّفسير

الاستعانة بالعواطف والمشاعر الإنسانية :

كانت الآية السابقة تطالب المؤمنين بالجهاد معتمدة على إيمانهم بالله واليوم الآخر،وقد اعتمدت أيضا قضية الربح والخسارة في سياق دعوتها إلى الجهاد ، أمّا هذه الآية فتستند في دعوتها الجهادية إلى العواطف والمشاعر الإنسانية وتستثيرها في هذا الاتجاه ـ فهي تخاطب مشاعر المؤمنين وعواطفهم بعرض ما يتحمله الرجال والنساء والأطفال المضطهدون من عذاب وظلم بين مخالب الطغاة الجبارين ، وتطالب المؤمنين ـ مستثيرة عواطفهم في هذا الاتجاه ـ عن طريق عرض المشاهد المأساوية التي يعاني منها المستضعفون وتدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله من أجل إنقاذ هؤلاء المظلومين فتقول الآية :( وَما لَكُمْ لا

٣٢٤

تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ (1) مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ) .

ولأجل إثارة المشاعر أكثر ، تنبّه الآية المؤمنين بأنّ المستضعفين المذكورين لكثرة معاناتهم من البطش والإرهاب والاضطهاد قد انقطع أملهم في النجاة ويئسوا من كل عون خارجي ، فأخذوا يدعون الله لإخراجهم من ذلك المحيط الرهيب المشحون بأنواع البطش والرعب والظلم الفاحش :( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها ) ويطلب المستضعفون من الله ـ أيضا ـ أن يرسل لهم من يتولى الدفاع عنهم وينجيهم من الظالمين بقولهم :( وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) .

الآية ـ في الواقع ـ نشير إلى أنّ الله قد استجاب دعاء المستضعفين ، فهذه الرسالة الإنسانية الكبرى قد أوكلت إليكم أنتم أيّها المسلمون المخاطبون ، فقد أصبحتم أنتم «الولي» المرتقب وأنتم «النصير» من قبل الله تعالى لإنقاذ المستضعفين ، من هنا عليكم أن تنهضوا بهذه المسؤولية وتستثمروا هذه المكانة الكبرى المناطة إليكم ولا تضيعوها.

والآية هذه يستفاد منها أيضا عدّة أمور ، هي :

1 ـ إنّ الجهاد في سبيل الله وكما أشير إليه من قبل ـ ليس من أجل انتزاع الأموال والسلطة والثروات من أيدي الآخرين ، كما أنّه لا يستهدف إيجاد أسواق لاستهلاك البضائع أو لفرض عقائد خاصّة بالقوّة ، بل أنه يستهدف نشر الفضيلة والإيمان والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من النساء والرجال والولدان ، ومن هذا المنطلق يتّضح أنّ للجهاد هدفين شاملين جامعين أشارت الآية إليهما ، أحدهما «ربّاني» ، وآخر «إنساني» يكمل أحدهما الآخر ، ولا ينفصلان ، بل

__________________

(1) إنّ الفرق بين المستضعف والضعيف واضح وجلي ، فالضعيف هو من كان معدوم القدرة والقوّة ، والمستضعف هو من أصابه الضعف بسبب ظلم وجور الآخرين ، سواء كان الاستضعاف فكريا أم ثقافيا أم كان أخلاقيا أو اقتصاديا أم سياسيا أم اجتماعيا ، فالعبارة هنا جامعة شاملة تستوعب جميع أنواع الاستضعاف.

٣٢٥

كلاهما يعودان إلى حقيقة واحدة.

2 ـ إنّ الإسلام يرى أن المحيط السالم الذي يمكن للإنسان أن يعيش فيه ، هو ذلك المحيط الذي يوفّر الحرية للإنسان ، ويضمن له العمل بما يعتقد دون مانع أو أذى ، ويرى الإسلام ـ أيضا ـ أنّ المحيط الذي يسوده الكبت والإرهاب والقمع ، ولا يستطيع المسلم فيه إظهار عقيدته أو إعلان إسلامه ، فهو محيط لا يجدر بالإنسان المسلم أن يبقى فيه ، لذلك فإن الآية تنقل عن المؤمنين دعاءهم إلى الله لكي يخلصهم من مثل هذا الجو المليء بالقمع والإرهاب.

وعلى الرغم من أن مكّة كانت ملجأ وملاذا للمهاجرين ، فإنّ تفشي الظلم فيها جعل المؤمنين يدعون الله لإنقاذهم من ظلم أهل هذه المدينة ، وييسر لهم سبيلا إلى الخروج منها.

3 ـ وفي نهاية الآية نرى أنّ المؤمنين الذين يعانون من محيطهم الظالم ، يسألون الله أن يبعث لهم من يتولى شؤونهم ، وأن يمدهم ـ أيضا ـ بمن ينصرهم على الظالمين ويخلصهم من مخالبهم ، ويفهم من هذه الآية أهمية القيادة الصالحة ، وأهمية قدرة هذه القيادة في إنقاذ المظلومين وضرورة امتلاكها من العدد والعدّة ما يمكنها من القيام بمسؤوليتها الخطيرة هذه.

بذلك نستنتج من الآية العناصر التي يجب أن تتوفر في كل قيادة إسلامية ، وهي كما يلي :

أ ـ أن تكون القيادة صالحة (بما في كلمة الصلاح من شمولية)

ب ـ أن تكون قوية مقتدرة (أن تملك العدد والعدّة الكافيين ، بالإضافة إلى الخطط العسكرية التي تضمن نجاح استخدام القوّة الموجودة).

4 ـ تبيّن الآية أنّ المؤمنين يطلبون حاجاتهم من الله العلي القدير وحده ، ولا يلجئون إلى غيره في حوائجهم ، حتى أنّهم يسألون الله أن يمدهم بمن يتولى الدفاع عنهم وينصرهم على الظالمين.

* * *

٣٢٦

الآية

( الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) )

التّفسير

لقد أوضحت الآيات السابقة قضية الجهاد ، وأبرزت عناصره والمخاطبين به ودوافعه،وفي هذه الآية نلاحظ أنّها تحث المجاهدين على القتال ، وتبيّن أهدافهم ، مؤكّدة أنّهم يقاتلون في سبيل الله ولمصلحة عباد الله ، وأن الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت المتجبر :( الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) أي أنّ الحياة في كل الأحوال لا تخلو من الكفاح والصراع ، غير أن جمعا يقاتلون في طريق الحق،وجمعا يقاتلون في طريق الشيطان والباطل.

لذلك تطلب الآية من أنصار الحق أن ينبروا لقتال أنصار الشيطان دونما رهبة وخوف:( فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ) .

كما توضح هذه الآية حقيقة مهمّة ، هي أنّ الطاغوت والقوى المتجبرة ـ مهما امتلكت من قوة ظاهرية ـ ضعيفة في نفسها وجبانة في باطنها ، وبهذا تطمئن الآية

٣٢٧

المؤمنين كي لا يخافوا من هؤلاء الطواغيت مهما أوتوا من عدّة أو عدد ، لأنّهم خالون من الهدف فارغون من الإيمان ، ولذلك كانت خططهم كلها ضعيفة خاوية كقدرتهم ولأنّهم لا يعتمدون على منشأ القدرة الأزلية الأبدية الذي هو الله العزيز القدير ، بل يعتمدون على قدرة الشيطان الضعيفة الجوفاء :( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً ) .

أما سبب قوة المؤمنين من أنصار الحق فيعود إلى أنهم يسيرون في طريق أهداف وحقائق تنسجم مع قانون الخليقة والوجود ، وتتمتع بالصفة الأزلية الأبدية ، فهم يجاهدون في سبيل تحرير الإنسان ومحو آثار الظلم والعدوان بينما الطاغوت وأنصاره يقاتلون من أجل منافعهم الشخصية أو يعملون في خدمة الطواغيت والمستكبرين من أجل استغلال البشر إرضاء لشهواتهم الفانية الزائلة ، الأمر الذي يدفع في النهاية بالمجتمع إلى الانحطاط والزّوال ، لأنّ عمل الطواغيت يتناقض وسرّ الوجود ويتعارض مع قوانين الفطرة والطبيعة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن المؤمنين باعتمادهم على القوى الروحية يتمتعون بثقة عالية بالنفس وبهدوء باطني يمهّد لهم سبيل النصر والفوز على العدو ، بل ويهبهم القوّة والقدرة على الاندفاع لمواجهة الأعداء ، بينما العدو والكافر لا يعتمد على أساس قوي أبدا.

وتجدر الملاحظة هنا أنّ الآية قرنت الطاغوت بالشيطان ، وهذا يدل على أن القوى الطاغوتية المتجبرة إنّما تستمد القوة والعون من منبع ضعيف يتمثل في القوى الشيطانية والجوفاء.

هذا المضمون تذكره ـ أيضا ـ الآية (27) من سورة الأعراف :( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

* * *

٣٢٨

الآية

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) )

سبب النّزول

روى جمع من المفسّرين كالشّيخ الطوسي في التبيان ، والقرطبي وصاحب المنار عن ابن عباس أنّ نفرا من المسلمين كانوا أثناء وجودهم في مكّة قبل الهجرة يعانون من ضغط المشركين وأذائهم ، فجاءوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يسمح لهم بقتال الأعداء فأجابهم النّبي في حينه أنّه لم يؤمر بالجهاد.

ومضت أيّام على طلب هؤلاء ، حتى هاجر المسلمون إلى المدينة وتهيأت هناك ظروف وشروط الجهاد المسلح ، وأمر الله المسلمين بالجهاد ، فأخذ بعض من أولئك النفر الذين كانوا يصرّون على النّبي للسماح لهم بالجهاد وقتال الأعداء في مكّة يظهرون الكسل والتهاون في تنفيذ الأمر الإلهي ، ولم يبدوا أي حماس أو رغبة في الجهاد ، كما كانوا يظهرون ذلك في مكّة ، فنزلت هذه الآية وهي تحثّ

٣٢٩

المسلمين على الجهاد وتؤنب المتهاونين والمتقاعسين عن هذا الواجب الحسّاس.

وقد تطرقت الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق في هذا الصدد.

التّفسير

قوم بضاعتهم الكلام دون العمل :

تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال ظرف غير مناسب ، وأصرّوا على السماح لهم بذلك ، وقد صدرت الأوامر لهم ـ حينئذ ـ بالصبر والاحتمال ، ودعوا إلى إقامة الصلاة ، وأداء الزكاة ، وبعد أن سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به ، استولى على هؤلاء النفر الخوف والرعب ، وانبروا يعترضون على الأمر الإلهي ويتهاونون في أدائه.

تقول الآية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة : لما ذا أسرع الله في إنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر الله هذا الأمر ولو قليلا! أو يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة(1) ( وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) .

والقرآن الكريم يردّ على هؤلاء أوّلا من خلال عبارة :( يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) أي أن هؤلاء بدل أن يخافوا الله القادر القهار ، أخذتهم الرّجفة واستولى عليهم الرعب من إنسان ضعيف عاجز ، بل أصبح خوفهم من هذا

__________________

(1) تدل بعض الأحاديث أنّ هذا النفر من المسلمين كان قد سمع بحديث نهضة المهدي المنتظر ، فكان البعض منهم يترقب أن يؤخر الجهاد إلى زمن المهديعليه‌السلام ، تفسير نور الثقلين ، الجزء الأوّل ، ص 518.

٣٣٠

الإنسان أكبر من خشيتهم الله العلي القدير.

ثمّ يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة : لو أنّهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن يوفّروا لأنفسهم ـ فرضا ـ حياة قصيرة رغيدة هانئة ، فإنّهم سيخسرون هذه الحياة لأنّها زائلة لا محالة ، بينما الحياة الأبدية التي وعد الله بها عباده المؤمنين المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه ، هي خير من تلك الحياة الزائلة ، وإن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كاملا غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم ،( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (1) .

من الضروري الالتفات إلى عدة نقاط في تفسير هذه الآية ، وهي :

1 ـ لما ذا أمرت أولئك النفر بإقامة الصلاة وأداء الزكاة دون غيرهما من الفرائض الكثيرة الاخرى؟

والجواب على هذا السؤال يتلخص في أنّ الصلاة هي سر الاتصال بالله سبحانهعزوجل ، والزكاة تعتبر مفتاحا لباب الاتصال بعباد الله ، وعلى هذا الأساس فقد صدرت الأوامر للمسلمين بأن يعدّوا أنفسهم وأرواحهم ومجتمعهم للجهاد في سبيل الله ، عن طريقة إقامة الصلة الوثيقة بينهم وبين الله وعباده ، وبعبارة أخرى أن يسعوا إلى بناء أنفسهم وإعدادها ، وبديهي أن أي جهاد يحتاج بالضرورة إلى إعداد النفس والروح ، وإلى توثيق عرى التلاحم الاجتماعي ، وبدون ذلك لا يمكن إحراز أي انتصار.

والإنسان يقوي صلته بالله من خلال الصلاة ويربّي بها روحه ومعنوياته ، فيكون بذلك مستعدا لتقديم أغلى التضحيات بما في ذلك التضحية بالنفس ، كما أنّ الزكاة هي الوسيلة الوحيدة لرأب كل صدع اجتماعي ، بالإضافة إلى كونها دعما اقتصاديا في سبيل إعداد ذوي الخبرة والتجربة والعدة الحربية ، وما

__________________

(1) الفتيل يعني الشعيرة الرفيعة جدا الموجودة بين فلقتي نواة التّمر ، وقد تطرفنا إلى شرح ذلك في الآية (49) من سورة النساء وفي هذا المجلد من تفسيرنا هذا.

٣٣١

يحتاجه المسلمون في قتال الأعداء ليكونوا على استعداد لمواجهة العدو إذا صدر الأمر إليهم بذلك.

2 ـ المعروف أنّ حكم الزكاة ورد في آيات نزلت في المدينة (أي أنّها آيات مدنية) ولم يكلف المسلمون بأداء الزكاة في مكّة ـ فكيف إذن يمكن القول إن هذه الآية تتحدث عن وضع المسلمين في مكّة؟

يجيب على هذا السؤال الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسير «التّبيان» فيقول : إنّ المقصود بالزكاة الواردة في هذه الآية هو الزكاة المستحبة التي كانت معروفة في مكّة ، أي أنّ القرآن المجيد كان يحثّ المسلمين حتى في مكّة على تقديم المساعدات المالية إلى مستحقيها ولدعم اقتصاد المجتمع الإسلامي الجديد في مكّة.

3 ـ وتشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقة مهمة ، هي أنّ المسلمين في مكّة كان لهم منهج ، ثمّ أصبح لهم في المدينة منهج آخر ، ففي مكّة انشغل المسلمون ببناء شخصيتهم الإسلامية بعد أن تحرروا من أدران الجاهلية ، فكان سعي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة منصبا على تربية هؤلاء الذين نبذوا عبادة الأصنام ليجعل منهم أناسا يسترخصون النفس والنفيس في مواجهة ما يعترض سبيل المسلمين من تحديات ، فما أحرزه المسلمون من انتصارات باهرة في المدينة المنورة ، كان حصيلة عملية بناء الشخصية الإسلامية ، هذه العملية التي تعهدت بها رسالة الإسلام في مكّة.

لقد تعلم المسلمون الكثير في مكّة ومارسوا تجارب جمّة واكتسبوا استعدادا روحيا ومعنويا عظيما خلال العهد المكي ، ودليل هذا الأمر هو نزول قرابة التسعين سورة ـ من مجموع سور القرآن الكريم البالغة مائة وأربع وعشرة سورة ـ في مكّة ، وقد تناولت هذه السور في الغالب الجوانب العقائدية التربوية الخاصّة بإعداد الشخصية الإسلامية ـ أمّا في المدينة فقد انصرف المسلمون إلى

٣٣٢

تشكيل الحكومة الإسلامية وإقامة أسس المجتمع الإسلامي السليم.

ويدل هذه ـ أيضا ـ على عدم نزول حكم الجهاد والزكاة الواجبين في العصر المكي لأنّ الجهاد من واجبات الحكومة الإسلامية مثل تشكيل بيت المال فإنّه من شؤون الحكومة الإسلامية أيضا.

* * *

٣٣٣

الآيتان

( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (79) )

التّفسير

نستنتج من الآيات السابقة واللاحقة أنّ هاتين الآيتين تقصدان مجموعة من المنافقين تسللوا إلى صفوف المسلمين ، وقد قرأنا في الآيات السابقة أن هؤلاء قد أبدوا الخوف والقلق من المشاركة في مسئولية الجهاد ، وقد ظهر عليهم الضجر والاستياء حين نزول حكم الجهاد،فردّ عليهم القرآن الكريم وأنبّهم لموقفهم هذا بقوله :( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ) (1) موضحا أن الحياة بكل زخارفها سرعان ما تزول ، وإنّ ما يناله المؤمنون الذين يخشون الله

__________________

(1) الآية 77 من نفس السورة.

٣٣٤

ولا يعصونه من الخير والثواب هو خير من كل ما في هذه الدنيا من خيرات.

وفي هذا المقطع القرآني ردّ آخر على أولئك المنافقين ، حيث بيّن أن الموت آتيهم يوما لا محالة ، حتى إذا تحصنوا في قلاع عالية ومنيعة بحسب ظنّهم ، وما دام الموت يدرك الإنسان بهذه الصورة أليس من الخير له أن يموت على طريق مثمر وصحيح كالجهاد؟!

وممّا يلفت الانتباه أنّ القرآن الكريم يطلق في مواقع متعددة اسم «اليقين» على الموت ، كما في الآية (99) من سورة الحجر ، والآية (48) من سورة المدثر ـ ومعنى هذه العبارة القرآنية هو أن الإنسان مهما كانت عقيدته ـ يؤمن بوجود الموت إيمانا لا يخامره فيه شك مطلقا ، ومهما أنكر المرء من حقائق لا يستطيع إنكار الموت الذي يشهده بأم عينه أو يسمع عنه كل يوم ، والإنسان الذي يحب الحياة ويخال أن الموت هو الفناء الذي لا حياة بعده أبدا يخاف من ذكر الموت ويفر من مظاهره.

الآيتان الأخيرتان تؤكدان حقيقة عدم جدوى الفرار من الموت ، فهو يدرك الإنسان يوما ما لا محالة ، وهو حقيقة قطعية يقينية في عالم الوجود.

وعبارة( يُدْرِكْكُمُ ) الواردة في الآية الأولى تعني الملاحقة ، واللاحق هو الموت الذي يدرك الإنسان ، وتوحي بأنّ الفرار لا ينقذ الإنسان من هذا المصير الحتمي.

وتؤكد الحقيقة المذكورة الآية الثّامنة من سورة الجمعة إذ تقول :( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) .

إذن ليس من العقل والمنطق أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة ويفر بعد ذلك من ميدان الجهاد ، ويحرم نفسه أشرف ميتة وهي الشهادة في سبيل الله ، فيموت على فراشه فلو عاش الإنسان بعد فراره من الجهاد أيّاما أو شهورا أو سنوات لتكرر ما فعل ولتكررت أمامه المشاهد الماضية ، فهل من العقل أن يحرم الإنسان نفسه

٣٣٥

لأجل هذه المتكررات من الثواب الأبدي الذي يناله المجاهد في سبيل الله؟! وهنا أمر ثان يجب الانتباه له في الآية الأولى من هاتين الآيتين ، وهو عبارة( بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) (1) التي تؤكد أنّ الموت لا تحول دونه القلاع والحصون المنيعة العالية ، والسرّ في هذا الأمر هو أنّ الموت الطبيعي لا يداهم الإنسان من خارج وجوده ـ خلافا لما يتصورون ـ ولا يحتاج إلى اجتياز القلاع والحصون ، بل يأتي من داخل وجود الإنسان حيث تقف أجهزة الإنسان عن العمل بعد نفاذ قدرتها المحدودة على البقاء.

نعم ، الموت غير الطبيعي يأتي الإنسان طبعا من خارج وجوده ، وبذلك قد تنفع القلاع والحصون في تأخير هذا النوع من الموت عنه.

ولكن ما ذا ستكون النهاية والنتيجة؟ هل بمقدور القلاع والحصون أن تحول دون وصول الموت الطبيعي الذي سيدرك الإنسان ـ دون شك ـ في يوم من الأيّام؟!

من أين تأتي الانتصارات والهزائم؟

يشير القرآن في هاتين الآيتين إلى وهم آخر من أوهام المنافقين ، حين يوضح أن هؤلاء إذا أحرزوا نصرا أو غنموا خيرا قالوا : إنّ الله هو الذي أنعم عليهم بذلك ، وزعموا أنّهم أهل لهذه النعمة :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

أمّا إذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال ، ألقوا اللوم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافتروا عليه بقولهم إنّ ما نالهم من سوء هو من عنده ، متهمين خططه

__________________

(1) «مشيدة» في الأصل من مادة «شيد» على وزن فيل ، بمعنى الجص والمواد الاخرى التي تستخدم لتقوية البنيان ، وبما أن أكثر المواد استعمالا في البناء في تلك الازمنة هو الجص فان هذه الكلمة تطلق عليه عادة ، فيكون معنى «بروج مشيدة» هو القلاع الرصينة والمتينة ، وقد تستعمل ويراد بها المرتفعة والعالية. وذلك أيضا لنفس السبب لأنّه من دون استخدام الجص لم يكن بالإمكان بناء تلك الابنية المرتفعة.

٣٣٦

العسكرية بالضعف ، من ذلك ما حدث في غزوة أحد ، تقول الآية :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) .

ويحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الآية قد نزلت بشأن اليهود ، ويرون أنّ المقصود بالحسنة والسيئة ـ هنا ـ هو ما كان يحدث من وقائع سارة وضارة ، حيث كان اليهود حين بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينسبون كلّ حدث سار ونافع إلى الله ، ويعزون حدوث الوقائع الضّارة إلى وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين ظهرانيهم ، بينما اتصال الآية بالآيات السابقة والتالية ـ التي يدور الحديث فيها عن المنافقين ـ يدل على أنّ المقصود في هذه الآية الأخيرة هم المنافقون.

ومهما يكن من أمر ، فإنّ القرآن الكريم يردّ على هؤلاء مؤكدا إنّ الإنسان المسلم الموحد الذي يؤمن صادقا بالله ويعبده ولا يعبد سواه ، إنّما يعتقد بأنّ كل الوقائع والأحداث والانتصارات والهزائم هي بيد الله العليم الحكيم ، فالله هو الذي يهب الإنسان ما يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية ، وفي هذا المجال تقول الآية :( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

والآية ـ هذه ـ تحمل في آخرها تقريعا وتأنيبا للمنافقين الذين لا يتفكرون ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة ، حيث تقول :( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) .

وبعد هذا ـ في الآية التالية ـ يصرّح القرآن بأنّ كل ما يصيب الإنسان من خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وانتصار هو من عند الله ، وإن ما يحصل للإنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإنسان نفسه تقول الآية :( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) وتردّ الآية في آخرها على أولئك الذين كانوا يرون وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سببا لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول :( وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ) .

٣٣٧

جواب على سؤال مهم :

السّؤال المهم الذي يتبادر إلى الذهن حين قراءة هاتين الآيتين الأخيرتين هو : لما ذا نسب الخير والشر في الآية الأولى كلّه لله؟ ولما ذا حصرت الآية التالية الخير ـ وحده ـ لله،ونسبت الشرّ إلى الإنسان؟

حين نمعن النظر في الآيتين تواجهنا عدّة أمور ، يمكن لكل منها أن يكون هو الجواب على هذا السؤال.

1 ـ لو أجرينا تحليلا على عناصر تكوين الشر لرأينا أنّ لها اتجاهين : أحدهما إيجابي والآخر سلبي ، والاتجاه الأخير هو الذي يجسد شكل الشر أو السيئة ويبرزه على صورة «خسارة نسبية» فالإنسان الذي يقدم على قتل نظيره بسلاح ناري أو سلاح بارد يكون قد ارتكب بالطبع عملا شريرا وسيئا ، فما هي إذن عوامل حدوث هذا العمل الشرير؟

إنّها تتكون من : أوّلا : قدرة الإنسان وعقله وقدرة السلاح والقدرة على الرمي والتهديف الصحيحين واختيار المكان والزمان المناسبين ، وهذه تشكل عناصر الاتجاه الإيجابي للقضية ، لأنّ كل عنصر منها يستطيع في حدّ ذاته أن يستخدم كعامل لفعل حسن إذا استغل الاستغلال الحكيم ، أمّا الاتجاه السلبي فهو في استغلال كل من هذه العناصر في غير محله ، فبدلا من أن يستخدم السلاح لدرء خطر حيوان مفترس أو للتصدي لقاتل ومجرم خطير ، يستخدم في قتل إنسان بريء ، فيجسد بذلك فعل الشر ، وإلّا فإنّ قدرة الإنسان وعقله وقدرته على الرمي والتهديف ، وأصل السلاح وكل هذه العناصر ، يمكن أن يستفاد منها في مجال الخير.

وحين تنسب الآية الأولى الخير والشرّ كلّه لله ، فإن ذلك معناه أنّ مصادر القوّة جميعها بيد الله العليم القدير حتى تلك القوّة التي يساء استخدامها ، ومن هذا المنطلق تنسب الخير والشرّ لله ، لأنّه هو واهب القوى.

٣٣٨

والآية الثّانية : تنسب «السيئات» إلى الناس انطلاقا من مفهوم «الجوانب السلبية» للقضية ومن الإساءة في استخدام المواهب الإلهية.

تماما مثل والد وهب ابنه مالا ليبني به دارا جديدة ، لكن هذا الولد بدلا من أن يستخدم هذا المال في بناء البيت المطلوب ، اشترى مخدرات ضارة أو صرفه في مجالات الفساد والفحشاء ، لا شك أنّ الوالد هو مصدر هذا المال ، لكن أحدا لا ينسب تصرف الابن لوالده ، لأنه أعطاه للولد لغرض خيري حسن ، لكن الولد أساء استغلال المال ، فهو فاعل الشرّ ، وليس لوالده دخل في فعلته هذه.

2 ـ ويمكن القول ـ أيضا ـ بأنّ الآية الكريمة إنّما تشير إلى موضوع «الأمر بين الأمرين».

وهذه قضية بحثت في مسألة الجبر والتفويض ، وخلاصة القول فيها أنّ جميع وقائع العالم خيرا كانت أم شرّا ـ هي من جانب واحد تتصل بالله سبحانه القدير لأنّه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوّة وحرية الانتخاب والإختيار ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ما يختاره الإنسان ويفعله بإرادته وحريته لا يخرج عن إرادة الله ، لكن هذا الفعل ينسب للإنسان لأنّه صادر عن وجوده ، وإرادته هي التي تحدد اتجاه الفعل.

ومن هنا فإنّنا مسئولون عن أعمالنا ، واستناد أعمالنا إلى الله ـ بالشكل الذي أوضحناه ـ لا يسلب عنّا المسؤولية ولا يؤدي إلى الإعتقاد بالجبر.

وعلى هذا الأساس حين تنسب «الحسنات» و «السيئات» إلى الله سبحانه وتعالى ، فلفاعلية الله في كل شيء ، وحين تنسب السيئة إلى الإنسان فلإرادته وحريته في الإختيار.

وحصيلة هذا البحث إنّ الآيتين معا تثبتان قضية الأمر «الأمر بين الأمرين» (تأمل بدقّة)!

3 ـ هناك تفسير ثالث للآيتين ورد فيما أثر عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو أنّ

٣٣٩

المقصود من عبارة السّيئات جزاء الأعمال السيئة وعقوبة المعاصي التي ينزلها الله بالعاصين،ولما كانت العقوبة هي نتيجة لأفعال العاصين من العباد ، لذلك تنسب أحيانا إلى العباد أنفسهم وأحيانا أخرى إلى الله ، وكلا النسبتين صحيحتان ، إذ يمكن القول في قضية إنّ القاضي هو الذي قطع يد السارق ، كما يجوز أن يقال إنّ السارق هو السبب في قطع يده لارتكابه السرقة.

* * *

٣٤٠