الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188578 / تحميل: 6852
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الآيتان

( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) )

التّفسير

سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة الوحي :

توضح الآية الأولى موضع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس وحسناتهم وسيئاتهم وتؤكد أوّلا بأن إطاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي في الحقيقة طاعة لله : و( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) أي لا انفصال بين طاعة الله وطاعة الرّسول ، وذلك لأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخطو أية خطوة خلافا لإرادة الله كل ما يصدر منه من فعل وقول وتقرير إنّما يطابق إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته.

ثمّ تبيّن إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس مسئولا عن الذين يتجاهلون ويخالفون أوامره ، كما أنه ليس مكلّفا بإرغام هؤلاء على ترك العصيان ، بل إن مسئولية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الدعوة للرسالة الإلهية التي بعث بها ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإرشاد الضالين والغافلين تقول الآية :( وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) .

٣٤١

وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة «حفيظ» صفة مشبهة باسم الفاعل ، وتدل على ثبات واستمرار الصفة في الموصوف ، بخلاف اسم الفاعل «حافظ» ، فعبارة «حفيظ» تعني الذي يراقب ويحافظ بصورة دائمة مستمرة ، ويستدل من الآية على أن واجب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو قيادة الناس وهدايتهم وإرشادهم ، ودعوتهم إلى اتّباع الحقّ واجتناب الباطل،ومكافحة الفساد ، وحين يصر البعض على اتّباع طريق الباطل والانحراف عن جادة الحقّ ، فلا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسئول عن هذه الانحرافات ، ولا المطلوب منه أن يراقب هؤلاء المنحرفين في كل صغيرة وكبيرة ، كما ليس المطلوب منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستخدم القوة لإرغام المنحرفين على العدول عن انحرافهم ، ولا يمكنه بالوسائل العادية القيام بمثل هذه الأعمال.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الآية قد تكون ـ أيضا ـ إشارة إلى غزوات كغزوة أحد حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّفا ـ فقط ـ بتجنيد الإمكانيات المتوفرة من الناحية العسكرية في إعداد خطة للدفاع عن المسلمين حيال هجمات الأعداء ، وبديهي أن تكون إطاعة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الأمر إطاعة لله ، ولو افترضنا أنّ أفرادا عصوا الرّسول في هذا المجال وأدى عصيانهم إلى تراجع المسلمين ، فالعاصون ـ وحدهم ـ هم المسؤولون عن ذلك،وليس الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والأمر المهم الآخر في هذه الآية هو أنّها واحدة من أكثر آيات القرآن دلالة على حجّيّة السنّة النّبوية الشّريفة ، فهي حكم بوجوب الإذعان للأحاديث الصحيحة المروية عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستنادا إلى هذه الآية لا يجوز لأحد القول بقبول القرآن وحده وعدم قبول أحاديث وسنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الآية صريحة بأن إطاعة أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثه المروية عنه بطرق صحيحة ، هي بمثابة إطاعة الله.

ومن المنطلق نفسه تثبت حقيقة أخرى ، هي ضرورة إطاعة أئمة أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي ما أكد عليها حديث «الثقلين» الوارد في المصادر الإسلامية السنية والشيعية ، وفيه بيّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ صراحة ـ حجية أحاديث أئمة أهل

٣٤٢

البيتعليهم‌السلام ، ومنه نستنتج أنّ إطاعة أوامرهم هي إطاعة للرسول وبالنتيجة إطاعة لله تعالى ، ولما كانت أحاديث أئمة أهل البيتعليهم‌السلام بمثابة أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يستطيع أحد أن يقول : إنّي أقبل القرآن وأرفض أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ، فذلك نقض للآية المذكورة أعلاه وللآيات المشابهة.

ولذلك نقرأ في الأحاديث التي أوردها صاحب تفسير البرهان في تفسير هذه الآية ما يؤكّد هذه الحقيقة :إنّ الله وهب نبيّه حقّ الأمر والنهي في الآية المذكورة،والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدوره وهب هذا الحق لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام وسائر الأئمّةعليهم‌السلام من بعده ، والناس ملزمون بإطاعة أوامر هذه النخبة الطاهرةعليهم‌السلام ، لأن أوامر ونواهي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيته الكرام هي أوامر ونواهي الله ، وطاعتهم طاعة لله ، وهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم وكل ما جاؤوا به للمسلمين هو من عند الله.(١) أمّا الآية الثّانية ففيها إشارة إلى وضع نفر من المنافقين أو المتذبذبين من ضعاف الإيمان ، الذين يتظاهرون حين يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بأنّهم مع الجماعة ، ويظهرون الطاعة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليدفعوا بذلك الضرر عن أنفسهم وليحموا مصالحهم الخاصّة ، بدعوى الإخلاص والطاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ) .

وبعد أن ينصرف الناس من عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويختلي هؤلاء بأنفسهم يتجاهلون عهودهم في إطاعة النّبي ويتآمرون في ندواتهم الخاصّة ـ السرية الليلية ـ على أقوال النّبي :( فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) .

نعرف من هذه الآية أنّ المنافقين في زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا لا يألون جهدا في التآمر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا يخططون في اجتماعاتهم السرّية للوقوف

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٩٦.

٣٤٣

بوجه الدعوة.

ولكن الله يأمر نبيّه بأن لا يلتفت إلى مكائد هؤلاء ، وأن لا يخافهم ولا يخشى خططهم وأن يتجنب الاعتماد عليهم في مشاريعه ، بل يتوكل على الله الذي هو خير ناصر ومعين :( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

* * *

٣٤٤

الآية

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) )

التّفسير

خلوّ القرآن من الاختلاف دليل حي على إعجازه :

هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد ، وتطلب منهم ـ بصيغة السؤال ـ أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل ، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقض والاختلاف ، وإذا تحقق لديهم عدم وجود الاختلاف ، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من الله تعالى.

والتّدبر من مادة «دبر» وهو مؤخر الشيء وعاقبته «والتدبر» المطلوب في هذه الآية هو البحث عن نتائج آثار الشيء ، والفرق بين التدبر والتفكر هو أنّ الأخير يعني التحقيق في علل وخصائص الموجود ، أمّا التدبر فهو التحقيق في نتائجه وآثاره.

ونستدل من هذه الآية على عدّة أمور :

١ ـ إنّ الناس مكلّفون بالبحث والتحقيق في أصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحقانية القرآن ، وأن يتجنّبوا التقليد

٣٤٥

والمحاكاة في مثل هذه الحالات.

٢ ـ إنّ القرآن ـ خلافا لما يظن البعض ـ قابل للفهم والإدراك للجميع ، ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر الله بالتدبر فيه.

٣ ـ أحد الأدلة التي تثبت أنّ القرآن حقّ ، وأنّه منزل من الله الحكيم العليم خلوه المطلق من كل تناقض أو اختلاف.

ولتوضيح هذه الحقيقة نقول :الجوانب الروحية للإنسان تتغير باستمرار ، «قانون التكامل» ـ في الظروف العادية الخالية من الأوضاع الاستثنائية ـ يستوعب الإنسان وجوانبه الروحية وأفكاره ، وبمرور الأيّام يتغير بموجب هذا القانون كلام الإنسان وفكره وأحاديثه.

لو أمعنا النظر فيما يكتبه الكتاب ، لما وجدنا مؤلفات الكاتب الواحد على نمط واحد ، بل أن بداية كل كتاب تختلف أيضا عن نهايته.

هذا التغيير يزداد سرعة حين يعيش الإنسان في خضم أحداث كبرى كالتي تصاحب إرساء قواعد ثورة فكرية واجتماعية وعقائدية شاملة ، الشخص الذي يعيش مثل هذه التحولات الاجتماعية الكبرى لا يستطيع أن يسيطر على وحدة كلامه ، ولا يمكنه أن يوجد انسجاما كاملا في أقواله ، خاصّة إذا كان هذا الشخص غير متعلم ، وكان ناشئا في بيئة اجتماعية متخلفة.

والقرآن كتاب نزل خلال مدّة (٢٣) عاما بحسب ما يحتاجه الناس من تربية وتوجيه في الظروف المختلفة ، وموضوعات القرآن متنوعة ، فهو لا يشبه كتابا عاديا متخصصا في بحث اجتماعي أو سياسي أو فلسفي أو حقوقي أو تاريخي ، بل هو يتحدث تارة عن التوحيد وأسرار الخليقة ، وتارة يطرح القوانين والأحكام والآداب والسنن ، وتارة يقص علينا أخبار الأمم السابقة ، وتارة يتناول المواعظ والنصائح والعبادات وارتباط العبد بخالقه.

٣٤٦

وكما يقول (غوستاف لوبون) : القرآن ـ كتاب المسلمين السماوي ـ لا يقتصر على التعاليم الدينية ، بل يتناول ـ أيضا ـ الأحكام السياسية والاجتماعية للمسلمين.

مثل هذا الكتاب ـ بهذه الخصائص ـ لا يمكن أن يكون ـ عادة ـ خاليا من التناقض والتضاد والاختلاف والتأرجح ، أمّا حين نرى هذا الكتاب ـ مع كل ذلك ـ متناسقا متوازنا في آياته خاليا من كل تضاد واختلاف نستطيع أن نفهم ـ بوضوح ـ أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر بشري ، بل هو من قبل الله تعالى ، كما تذكر الآية الكريمة أعلاه.

* * *

٣٤٧

الآية

( وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً(٨٣) )

التّفسير

نشر الإشاعات :

تشير هذه الآية إلى حركة منحرفة أخرى من حركات المنافقين أو ضعاف الإيمان،تتمثل في سعيهم إلى تلقف أي نبأ عن انتصار المسلمين أو هزيمتهم ، وبثّه بين الناس في كل مكان ، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره ، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إشاعة عمد أعداء المسلمين إلى بثّها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيئوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم ،( وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) .

بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنبوا دفع المسلمين إلى حالة من الغرور حيال انتصارات خيالية وهمية ، أو إلى إضعاف معنوياتهم بإشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها،( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

٣٤٨

يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) .

«يستنبطونه» من مادة «نبط» التي تعني أوّل ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع،والاستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق ، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.

( أُولِي الْأَمْرِ ) في الآية هم المحيطون بالأمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقيا منها وما كان إشاعة فارغة. وهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بالدّرجة الأولى.

ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل.

روي عن الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام في تفسير( أُولِي الْأَمْرِ ) في هذه الآية قال: «هم الأئمّة» كما في تفسير نور الثقلين ، وهناك روايات أخرى أيضا في هذا المجال بنفس المضمون.

ولعل هناك من يعترض على هذه الرّوايات قائلا : إنّ الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام لميكونوا موجودين في زمن نزول هذه الآية ، ولم يتعين أحد منهم في ذلك الوقت بمنصب الإمامة أو الولاية ، فكيف يمكن القول بأنّهم هم المعنيون بهذه الآية؟

والجواب على هذا الاعتراض : هو أنّ هذه الآية مثل سائر الآيات القرآنية الاخرى لا تقتصر على زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، بل تحمل حكما عاما يشمل كل الأزمنة والقرون التالية لمواجهة الإشاعات التي يبثّها الأعداء أو البسطاء من المسلمين بين الأمّة.

أضرار اختلاق الإشاعة ونشرها :

لقد ابتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات الرهبية ، بسبب بروز ظاهرة اختلاق الإشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت تؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على معنويات أفراد المجتمع ، وتضعف فيهم الروح الاجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد.

٣٤٩

وتبدأ الإشاعة بأن يختلق منافق كذبة ، ثمّ ينشرها بين أفراد مغرضين أو بسطاء،ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها ، بل يهولونها ويفرعونها ممّا يؤدي إلى استنزاف مقدار كبير من طاقات الناس وأفكارهم وأوقاتهم ، وإلى إثارة القلق والاضطراب بينهم ، وكثيرا ما تؤدي الإشاعة إلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع ، وتؤدي إلى خلق حالة من اللامبالاة والتردد في أداء المسؤوليات.

ومع أنّ بعض المجتمعات التي تعاني من الكبت والإرهاب تعمد إلى الإشاعة كأسلوب من الكفاح السلبي ، انتقاما من الحكومات الطاغية الجائرة ، فالإشاعة بحدّ ذاتها تعتبر خطرا كبيرا على المجتمعات السليمة ، فإذا اتجهت الإشاعة إلى الأفراد الكفوئين من المفكرين والخبراء والعاملين في المرافق الهامّة للمجتمع ، فإنّها ستؤدي إلى حالة من البرود في نشاطات هؤلاء ، وقد تصادر مكانتهم الاجتماعية ، وتحرم المجتمع من خدماتهم.

من هنا كافح الإسلام بشدة «اختلاق الإشاعات» والافتراء والكذب والتهمة، مثل ما حارب نشر الإشاعات كما في هذه الآية.

وتؤكد الآية في ختامها على أنّ الله قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإيمان ، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة ، ولو لا الإنقاذ الإلهي ما نجى من الانزلاق في خط الشيطان إلّا قليلا :( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً ) أي أنّ النّبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها ، أمّا أكثرية المجتمع فلا بدّ لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها(١) .

* * *

__________________

(١) يتبيّن ممّا قلناه أن عبارة «إلّا قليلا» هي استثناء من ضمير «اتبعتم» ولا يوجد في الآية تقديم أو تأخير (تأمل بدقّة).

٣٥٠

الآية

( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) )

سبب النّزول

ورد في بعض التفاسير مثل «مجمع البيان» و «القرطبي» و «روح المعاني» في سبب نزول هذه الآية أنّه حين عاد أبو سفيان ومعه جيش قريش منتصرين في واقعة أحد توعدوا المسلمين بالمواجهة مرّة أخرى في موسم «بدر الصغرى» أي وقت إقامة السوق التّجارية في شهر ذي القعدة الحرام في منطقة بدر ، وحين حان موعد المواجهة دعا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين للاستعداد والتوجه إلى المنطقة المذكورة ، إلّا أنّ نفرا من المسلمين ـ الذين كانوا إلى ذلك الحين ما زالوا يعانون من مرارة الهزيمة في واقعة أحد ـ رفضوا التحرك مع النّبي ، فنزلت هذه الآية ، فجدد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدّعوة إلى المسلمين بالتحرك ، فما تبعه غير سبعين رجلا منهم الذين حضروا موقع المواجهة ، ولكن أبا سفيان الذي كان قد تملكه الرعب من مواجهة المسلمين جبن ولم يحضر إلى المكان الموعود وعاد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه سالما إلى المدينة.

٣٥١

التّفسير

كل انسان مسئول عمّا كلّف به :

بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد ، تأتي هذه الآية لتعطي أمرا جديدا وخطيرا إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه مكلّف بمواجهة الأعداء وجهادهم حتى لو بقي وحيدا ولم يرافقه أحد من المسلمين إلى ميدان القتال. لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسئول عن أداء واجبه هو، وليس عليه مسئولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة الى الجهاد:( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

الآية تشتمل على حكم اجتماعي مهم يخصّ القادة ، ويدعوهم إلى التزام الرأي الحازم والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم ، لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها،وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة ، فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصّة القادة الإلهيون الذين يعتمدون على الله مصدر كل قدرة وقوّة في عالم الوجود ، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدّعوة ، لذلك تقول الآية :( عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً (١) وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً ) (٢) .

معنى كلمتي «عسى» و «لعل» في كلام الله :

في كلمة «عسى» طمع وترج ، وفي كلمة «لعل» طمع وإشفاق ، هنا يتبادر إلى

__________________

(١) البأس والبأساء بمعنى الشدّة والقهر والغلبة.

(٢) التنكيل من نكل في الشيء ، أي ضعف وعجز ، والنكل : قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين،والتنكيل :أداء عمل يردع مشاهده عن الذنب وهو العقاب الذي ينزل بالظالمين فيردعهم ويردع من يتعض بمصيرهم.

٣٥٢

الذهن سؤال هو : لو كان التمني والترجي جائزين بالنسبة للإنسان لعدم علمه بالغيب ولمحدودية قدرته وعجزه عن فعل وإنجاز كل ما يريد ، فكيف يجوز استخدامهما من قبل الله العالم بالغيب والشهادة والقادر على كل شيء؟! والطمع والترجي يكونان في جاهل عاجز والله منزّه عن ذلك؟

ذهب كثير من العلماء إلى تأويل معنى كلمتي «عسى» و «لعل» الواردتين في كلام الله فقالوا : بأنّهما إذا وردتا في كلامه سبحانهعزوجل فإنّهما تفقدان معانيهما الحقيقية الأصلية وتكتسبان معاني جديدة ، وقالوا : إن كلمة «عسى» إذا أتت في كلام الله جاءت بمعنى «الوعد» وإن كلمة «لعل» تأتي في كلامه ـ عزّ من قائل ـ بمعنى «الطلب».

والحق أنّ هاتين الكلمتين لا يتغير معناهما إذا وردتا في كلام الله ، ولا يستلزمان الجهل أو العجز ، لكن استخدامهما يأتي في مواضع يكون الوصول فيها إلى الهدف بحاجة إلى مقدمات عديدة ، فإن لم تتوفر إحدى هذه المقدمات أو بعضها لم يمكن القطع بتحقق ذلك الهدف ، بل تأتي مسألة تحقق الهدف على شكل احتمال ، ويكون الحكم في هذا المجال احتماليا.

على سبيل المثال يقول القرآن الكريم :( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (١) ولا يعني هنا أنّ رحمة الله تشمل كل من يستمع أو ينصت إلى القرآن أثناء قراءته ، بل أنّ الاستماع والإنصات يكونان مقدمة من مقدمات نيل رحمة الله ، وهناك مقدمات أخرى مثل فهم القرآن وتدبر آياته والعمل بأحكامه.

ويتّضح من هذا أنّ تحقيق مقدمة واحدة لا يكفي لحصول النتيجة المطلوبة ولا يمكن الجزم أو القطع بحتمية تحقق النتيجة ، بل كل ما يمكن الحكم به هو احتمال حدوثها،والحقيقة إن مثل هذه الكلمات حين تأتي في كلام الله ، يكون

__________________

(١) الآية ٢٠٤ من سورة الأعراف.

٣٥٣

الهدف منها تنبيه السامع إلى وجود مقدمات وشروط أخرى يجب تحقيقها للوصول إلى الهدف بالإضافة إلى الشرط أو المقدمة المذكورة المصرح بها في الكلام.

وقد تبيّن لنا أنّ نيل رحمة الله لا يتحقق فقط بالاستماع والإنصات إلى القرآن فقط ، بل يجب لنيل هذه الرحمة توفير المقدمات الاخرى لذلك.

من هنا فإنّ هذه الآية التي نبحث فيها تقول إن قدرة الكفار وقوتهم لا تزول ولا تضمحل بمجرّد دعوة المؤمنين إلى الجهاد وترغيبهم فيه ، بل يجب هنا ـ أيضا ـ أن يسعى المؤمنون لتوفير المقدمات الاخرى للقضاء على قدرة الكفار ، منها إعداد وسائل القتال والالتزام بالخطة التي يضعها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسير عليها من أجل الوصول إلى الهدف النهائي.

وهكذا يتبيّن لنا أنّ لا ضرورة لصرف كلمتي «عسى» و «لعل» وأشباههما عن معانيها الحقيقية متى ما وردت في كلام الله تعالى(١) .

* * *

__________________

(١) يذكر الراغب في «المفردات» احتمالا آخر في تفسير «عسى» و «لعل» هو أنّ الله تعالى إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه راجيا ، لا لأن يكون الله هو الذي يرجو. أي انه يقول للإنسان كن أنت راجيا لا انا الذي أرجو.

٣٥٤

الآية

( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) )

التّفسير

عواقب التّحريض على الخير أو الشرّ :

لقد أشير في الآية السابقة إلى أنّ كل إنسان مسئول عن عمله وعمّا هو مكلّف بأدائه ، ولا يسأل أي إنسان عن أفعال الآخرين.

أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطئ للآية السابقة،فبيّنت أنّ الإنسان إذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيبا من ذلك الخير أو الشر:( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ) .

وهذا بحدّ ذاته ـ حثّ على دعوة الآخرين إلى فعل الخير والتزام جانب الحق ، ونهي الغير عن فعل الشر ، كما تبيّن هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح الاجتماعية لدى المسلمين ، ودعوتهم إلى نبذ الأنانية أو الانطوائية ، وإلى عدم تجاهل الآخرين ، وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشرّ

٣٥٥

والباطل.

وكلمة «الشّفاعة» الواردة في الآية من «الشّفع» وهو ضم الشيء إلى مثله ، وقد يكون هذا الضم أحيانا في عمل الإرشاد والهداية ، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وتكون الشفاعة السيئة أمرا بالمنكر ونهيا عن المعروف.

وإذا حصلت الشفاعة للعاصين لإنقاذهم من نتائج أعمالهم السيئة ، فهي بمعنى الإغاثة للعاصين اللائقين للشفاعة ، بعبارة أخرى قد تحصل الشفاعة قبل القيام بممارسة الذنب ، وفتعني الإرشاد والنصح ، كما تحصل بعد ارتكاب الذنب أو الخطأ ، وتعني ـ هنا ـ إنقاذ المذنب أو الخاطئ من عواقب ونتائج جريرته ، وكلا الحالتين يصدق عليهما معنى ضم شيء إلى آخر.

ومع أنّ مفهوم الآية عام شامل لكل دعوة إلى الخير أو الشر ، ولكن ورود الآية ضمن آيات الدعوة إلى الجهاد يجعل معنى الشفاعة الحسنة دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين إلى الجهاد ، وحثّهم عليه ، ويجعل معنى الشفاعة السيئة دعوة المنافقين المسلمين إلى ترك الجهاد وعدم المشاركة فيه ، والآية تؤكد بأن كلا الشفيعين ينال نصيبا من شفاعته.

ثمّ إن ورود كلمة الشفاعة هنا ضمن الحديث عن القيادة (القيادة إلى الحسنات أو إلى السيئات) قد يكون إشارة إلى أن حديث القائد (قائد خير كان أم قائد شرّ) لا يدخل قلوب الآخرين إلّا إذا ألغوا كل امتياز يفرقهم عن هؤلاء الآخرين ، فلا بدّ لهم أن يكونوا قرناء للناس ومنضمّين إليهم كي تكون لهم الكلمة النافذة ، وهذه مسألة هامة في تحقيق الأهداف الاجتماعية.

وما ورد عبارة «أخوهم» أو «أخاهم» في الحديث عن الأنبياء والرسل ، ضمن آيات سور الشعراء والأعراف وهود والنمل والعنكبوت ، إلّا للإشارة إلى هذه المسألة.

والشيء الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هنا ، هو أنّ القرآن أتى بعبارة

٣٥٦

«نصيب» لدى الحديث عن الشفاعة الحسنة ، بينما استخدم عبارة «كفل» حين تحدث عن الشفاعة السيئة ، والفرق بين التعبيرين هو أنّ الأولى تستخدم حين يكون الحديث عن حصّة من الربح والفائدة والخير ، أمّا الثّانية فتستخدم إذا كان الكلام عن الخسارة والضرر والشرّ ، فالنصيب تعبير عن نصيب الخير ، والكفل تعبير عن حصّة الشرّ(١) .

وهذه الآية ، تبيّن نظرة إسلامية أصيلة إلى المسائل الاجتماعية ، وتصرّح أنّ الناس شركاء في مصائر ما يقوم به قسم منهم من أعمال عن طريق الشفاعة والتشجيع والتوجيه،من هنا فكل كلام أو عمل ـ بل كل سكوت ـ يؤدي إلى تشجيع الآخرين على الخير ، فإنّ المشجع يناله سهم من نتائج ذلك العمل دون أن ينقص شيء من سهم الفاعل الأصلي.

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به ، فهو شريك ، ومن أمر بسوء أو دل عليه أو أشار به ، فهو شريك».

ويبيّن هذا الحديث الشريف ثلاث مراحل لدعوة الأشخاص إلى الخير أو إلى الشر.

المرحلة الأولى : الأمر ، وهي الأقوى.

والثّانية : الدلالة وهي الوسطى.

والثّالثة : الإشارة وهي المرحلة الضّعيفة.

وعلى هذا الأساس فإن حثّ الآخرين أو تحريضهم على ممارسة فعل معين ، سيجعل للمحرض نصيبا من نتيجة هذا الفعل يتناسب ومدى قوّة التحريض وفق المراحل الثلاث المذكورة.

وبناء على هذه النظرة الإسلامية ، فإن مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم

__________________

(١) الكفل هو عجز الحيوان ومؤخرته التي يصعب ركوبها ويشق ، من هنا فكل ذنب وحصة رديئة كفل ، والكفالة كل عمل ينطوي على تعب وعناء.

٣٥٧

مذنبين ، بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم ، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة أو إعداد الأجواء المساعدة ، بل حتى عن طريق إطلاق كلمة صغيرة مشجعة ، وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها.

ويستشف من الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية أنّ الشفاعة بكلا جانبيها تطلق ـ أيضا ـ على الدعاء بالخير أو بالشر للآخرين ، وإنّ الدعاء للآخرين أو عليهم يعتبر نوعا من الشفاعة لدى الله تعالى.

نقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له وقال له الملك : فلك مثلاه ، فذلك النصيب»(١) .

ولا ينافي هذا التّفسير ما تطرقنا إليه سابقا ، بل يعتبر توسعا في معاني الشفاعة ، فكل إنسان يقدم مساعدة لنظيره الإنسان ، سواء كانت عن طريق الدعوة إلى فعل الخيرات أو الدعاء له أو عن أي طريق آخر ، فسينال نصيبا من ثمار هذه المساعدة.

وبهذا الأسلوب من المشاطرة الفعلية الخيرة يخلق الإسلام لدى الإنسان روحا اجتماعية تخرجه من أنانيته وانطوائيته وتجعله يعتقد أن لن يصيبه ضرر إذا سعى في حاجة أخيه الإنسان أو ساعد على تحقيق مصالح غيره ، بل سيناله الخير ، وسيكون شريكا لأخيه فيما سعى إلى تحقيقه له من مصالح ومنافع.

والآية ـ هذه ـ تؤكد أيضا حقيقة ثابتة أخرى ، وهي أنّ الله قادر على مراقبة الإنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال ، ثمّ محاسبته عليها ، واثابته على خيرها ، ومعاقبته على شرها( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ) .

وعبارة «مقيت» مشتقة من «القوت» وهو الغذاء الذي يساعد جسم الإنسان على البقاء وعلى هذا يكون «مقيت» اسم فاعل من باب افعال ، وتعني هنا

__________________

(١) تفسير الصافي ، في تفسير الآية الكريمة.

٣٥٨

الشخص الذي يعطي الآخرين قوتهم وغذاءهم ، وهو بهذه الوسيلة يكون حافظا لحياتهم ولهذا تأتي كلمة «مقيت» بمعنى «حافظ» والحافظ يمتلك القدرة على الحفظ ، ومن هنا تكون كلمة «مقيت» بمعنى «المقتدر» أيضا ، كما أن المقتدر يمتلك حساب من يعملون ضمن قدرته فتكون عندئذ كلمة «المقيت» بمعنى «الحسيب» أيضا ، وقد يكون معنى الكلمة في الآية شاملا لكل هذه المعاني.

* * *

٣٥٩

الآية

( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً(٨٦) )

التّفسير

دعوة إلى مقابلة الودّ بالودّ :

رغم أنّ بعض المفسّرين يرون أنّ العلاقة بين هذه الآية والآيات السابقة ناشئة عن كون الآيات تلك تناولت موضوع الجهاد والحرب ، والآية الأخيرة تدعو المسلمين إلى أن يواجهوا كل بادرة سليمة من قبل العدو بموقف يناسبها ، ولكن هذه الصلة لا تمنع أن تكون الآية الأخيرة حكما عاما يشمل كل أقسام تبادل المشاعر الخيرة النّبيلة بين مختلف الأطراف والأفراد ، وهذه الآية تأمر المسلمين بمقابلة مشاعر الحبّ بما هو أحسن منها ، أو على الأقل بما يساويها أو يكون مثلها ، فتقول الآية :( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) .

و «التّحية» مشتقة من «الحياة» وتعني الدعاء لدوام حياة الآخرين ، سواء كانت التحية بصيغة «السّلام عليكم» أو «حياك الله» أو ما شاكلهما من صيغ التحية والسلام،ومهما تنوعت صيغ التحية بين مختلف الأقوام تكون صيغة «السلام» المصداق الأوضح من كل تلك الأنواع ، ولكن بعض الروايات والتفاسير تفيد أنّ

٣٦٠

مفهوم التحية يشمل ـ أيضا ـ التعامل الودي العملي بين الناس.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الباقر والصّادقعليهما‌السلام أن : «المراد بالتّحية في الآية السلام وغيره من البر».

وفي «المناقب» أنّ جارية أهدت إلى الإمام الحسنعليه‌السلام باقة من الورد فأعتقها،وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى :( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الردّ على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبّة سواء كانت بالقول أو بالعمل ـ وتبيّن الآية في آخرها أنّ الله يعلم كل شيء ، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها ، وأنّه لا يخفى عليه شيء أبدا ، حيث تقول :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

السّلام ، تحية الإسلام الكبرى :

لا يخفى أنّ لكل جماعة إنسانية تقاليد خاصّة في التحية لدى التلاقي فيما بينهم ، بها يتبادلون مشاعر الحبّ والصفاء ، والمودة ، والتحية كما هي صيغة لفظية يمكن أن تكون ـ أيضا ـ حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحبّ والودّ المتبادلة.

وقد جاء الإسلام بكلمة «السّلام» مصطلحا للتحية بين المسلمين ، والآية موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية ، لكن المصداق الأوضح والأظهر لها يتجسد في كلمة «السّلام».

وبناء على ذلك فإنّ المسلمين مكلّفون بردّ السّلام بأحسن منه ، أو على الأقل بما يماثله.

وفي آية أخرى إشارة واضحة إلى أنّ السّلام هو التحية حيث تقول :( فَإِذا

٣٦١

دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (1) ويمكن الاستدلال من هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم» هي في الأصل «سلام الله عليكم» أي ليهبك الله السلامة والأمن ، وهكذا يتّضح لنا أنّ السلام يعتبر دلالة على الحبّ والود المتبادل ، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.

وقد دلت آيات قرآنية أخرى على أنّ السّلام هو تحية أهل الجنّة ، حيث يقول سبحانه :( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً ) (2) . ويقول تعالى:( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) (3) .

كما أنّ آيات قرآنية أخرى دلت على أنّ السلام أو أي صيغة أخرى تعادله ، كان سائدا بين الأقوام التي سبقت الإسلام ، وهذا هو ما تشير إليه الآية (25) من سورة الذاريات في قصة إبراهيم مع الملائكة حيث تقول :( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان ـ أيضا ـ تحية أهل الجاهلية(4) .

إنّ تحية الإسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة ، لدى مقارنتها بما لها من نظائر لدى الأمم والأقوام الاخرى.

النصوص الإسلامية تؤكد كثيرا على السّلام والتّحية، حيث یروى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه»(5) .

__________________

(1) النّور ، 61.

(2) الفرقان ، 75.

(3) إبراهيم ، 23.

(4) روي أن «نوبة» وهو من شعراء الجاهلية قال :

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت

علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

(5) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

٣٦٢

كمايروى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الله يقول : «البخيل من يبخل بالسّلام»(1)

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الله يحبّ إفشاء السلام»(2) .

وقد ورد في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام ، منها أنّ السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إطار الأصدقاء والأقارب ، فقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل : أي العمل خير : فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف»(3) .

كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل ، والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمنا ، وقد يكون الأمر حثّا على التزام التواضع ، ونهيا عن التكبر أو محاربة له ، فالتكبر غالبا ما يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسّلام ، وبذلك يضفون على هذا الأمر طابعا استعباديا وثنيا ، بينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل من يبادر الآخرين بالسلام ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدئ بالسلام حتى على الصبية الصغار ، وبديهي أنّ هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حثّ صغار السن على مبادرة كبارهم بالسلام والتحية والاحترام ، لأنّ هذا السلوك يعتبر نوعا من الآداب الإنسانية الحميدة ، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.

ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السّلام على المرابين والفاسقين وأمثالهم،ويعتبر هذا الأمر سلاحا لمحاربة الفساد والربا ، أمّا إذا كان السلام يؤدي إلى التأثير على المفسد والمنحرف ، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد والانحراف ، فلا مانع منه ولا بأس به.

__________________

(1) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(2) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(3) تفسير في ظلال القرآن ، في هامش الآية.

٣٦٣

ولا يفوتنا هنا أن نوضح أنّ المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب السلام بعبارات مثل «ورحمة الله» أو «ورحمة الله وبركاته».

ورد في تفسير «الدّر المنثور» أنّ شخصا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : السّلام عليكم. فإجابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السّلام ورحمة الله. ثمّ جاءه آخر وقال :السّلام عليكم ورحمة الله.

فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال :السّلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعليك» ـ وعند ما سئل عن علّة هذا الجواب القصير ، قال : إنّ القرآن يقول : إذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها ، ولكنك لم تبق شيئا»(1) .

وفي الحقيقة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ردّ التحية بأحسن منها في الموردين السابقين ، أمّا في المورد الثّالث ردّها بالمساوي كلمة «وعليك» تعني أنّ كل ما قلته لي مردود عليك.

* * *

__________________

(1) الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 8.

٣٦٤

الآية

( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً(87) )

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات ، فالآية السابقة بعد أن أمرت بردّ التحية قالت :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمّة هي قضية يوم البعث والحساب،حيث محكمة العدل الإلهية العامّة للبشر أجمعين ، وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وعبارة( لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) تدلّ على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلّهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان 93 و 94 من سورة مريم) أشير أيضا إلى هذه الحقيقة حقيقة بعث جميع عباد الله ـ من سكن منهم على هذه الكرة الأرضية أو على كرات أخرى ـ في يوم واحد.

وعبارة( لا رَيْبَ فِيهِ ) الواردة في الآية وفي آيات أخرى ، إنّما هي إشارة

٣٦٥

إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة ، مثل دليل «قانون التكامل» و «حكمة الخلق» و «قانون العدل الإلهي» ، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ الله هو أصدق الصادقين :( مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ) من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من بعث ونشور وغيره من الوعود ، فالكذب لا يصدر إلّا عن جهل أو ضعف وحاجة ، والله أعلم العالمين ، وإليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إلى أحد مطلقا ، فهو منزّه عن صفات الجهل والضعف والعجز ، ولذلك فهو أصدق الصادقين ، بل إن الكذب بالنسبة إلى الله تعالى لا مفهوم له إطلاقا.

* * *

٣٦٦

الآية

( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) )

سبب النّزول

نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفرا من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين ، وأحجموا لذلك عن الهجرة إلى المدينة،وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين ، إلّا أنّهم اضطروا في النهاية إلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين ، كما حسبوا أن دخولهم إلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين ـ لكن المسلمين انتبهوا الى حقيقة هؤلاء ، غير أنّهم انقسموا إلى فئتين ، فئة منهم رأت ضرورة طرد أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإسلام ، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأمور دون باطنها ، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية

٣٦٧

ولمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّبوة ، وقالوا : أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين : فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها ، وترشدها إلى طريق الحقّ الصواب(1) .

التّفسير

استنادا إلى سبب النزول الذي ذكرناه ، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها ، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين.

فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين ، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين ، حيث تقول :( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) (2) وتنهي المسلمين عن الاختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم ، وتعاونوا مع المشركين،وأحجموا عن مشاركة المجاهدين ، فظهر بذلك نفاقهم ، ودلت على ذلك أعمالهم،فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإيمان ، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء ، وقد أكّدت الآية السابقة أن :( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ) .

وتبيّن الآية بعد ذلك : إنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح،وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه :( ... وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ) (3) .

__________________

(1) ذكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها ، وقيل أنّها نزلت في واقعة أحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول ، بل تنسجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه.

(2) في هذه الجملة ، جملة أخرى محذوفة تتضح لدى الإمعان في الأجزاء الاخرى من الآية والتقدير : «فما لكم تفرقتم في المنافقين فئتين ...».

(3) «أركسهم» : من ركس وهو قلب الشيء على رأسه ، وتأتي أيضا بمعنى ردّ أوّل الشيء إلى آخره.

٣٦٨

وتدل عبارة «بما كسبوا» على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة ، إنّما يتمّ بعمل الإنسان وفعله ، وحين ينسب الإضلال إلى الله سبحانهعزوجل ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.

وفي الختام تخاطب الآية أولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين ، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه ، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) .

إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه وهذه سنة إلهية فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق ، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء الله؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل(1) .

* * *

__________________

(1) في المجلد الأول من هذا التّفسير بحث عن الهداية والضلالة ، فراجعه.

٣٦٩

الآية

( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(89) )

التّفسير

لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم ، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام ، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين :( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ) .

ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار ، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين ، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائما لإفساد المعتقدات ، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبدا ، تقول الآية الكريمة :( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ ) إلّا إذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

٣٧٠

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير ، ويثبتوا صدقهم فيه ، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية:( حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق ، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّا من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.

وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم ، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر ، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول :( لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع ، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة ما لم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإخلاص ، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.

والطريف هنا أنّ الإسلام ـ مع اهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم ـ نراه يشدد كثيرا في التحذير من خطر المنافقين ، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة ، ورغم تظاهرهم بالإسلام يصرح القرآن بأسرهم ، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.

وما هذا التشديد إلّا لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإسلام تحت ستار الإسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.

٣٧١

سؤال :

قد يرى البعض أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه ، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق ، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة.

الجواب :

الحقيقة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع هذا الأسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإسلام ، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أسلوبا غير هذا.

* * *

٣٧٢

الآية

( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) )

سبب النّزول

وردت روايات عديدة تفيد أنّ إثنتين من القبائل العربية في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما قبيلتا «بني ضمرة» و «أشجع» كانت إحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت مع النّبي اتفاقا بترك النزاع ، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأولى دون أن تعقد مثل هذا الاتفاق مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا يشككون في وفاء «بني ضمرة» للمسلمين ، واقترحوا على النّبي أن يهاجم هذه القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين ،فرد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «كلّا ، فإنّهم أبر العرب بالوالدين،وأوصلهم للرّحم ، وأوفاهم بالعهد».

وبعد فترة علم المسلمون أنّ قبيلة «أشجع» وعلى رأسها «مسعود بن رجيلة» قد وصلت حتى مشارف المدينة ، وهي في سبعمائة رجل ، فبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفدا للتعرف على سبب مجيئهم إلى ذلك المكان ، فأجابت هذه القبيلة

٣٧٣

بأنّها جاءت لكي تعقد اتفاقا مع المسلمين مماثلا لاتفاق «بني ضمرة» معهم ، وما أن علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقدارا من التمر هدية لهذه القبيلة ، ثمّ التقى بهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بأنّهم لعجزهم عن موازرة المسلمين في قتال الأعداء ، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين ، لما تربطهم بهم من صلة الجوار ، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين بتحريم العدوان بينهما ، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبيّن للمسلمين ما يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.

ويقول مفسرون آخرون إنّ قسما من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة «بني مدلج» التي جاءت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرته أنّها تريد الاتفاق معه على عدم اللجوء إلى العدوان فيما بينهما ، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه المسلمين ودعوتهم.

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم :

بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام ، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين :

1 ـ من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

2 ـ من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين ، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) .

ومن الواضح أنّ أفراد الطائفة الأولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا

٣٧٤

القانون احتراما للعقود والعهود ، وأمّا المجموعة الثانية ـ وإن لم تكن معذورة ، بل عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته ـ فقد أعلنت حيادها ، ولذلك فمجابهتها يتعارض مع مبادئ العدالة والمروءة.

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إزاء كل هذه الانتصارات الباهرة ، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم ، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) .

وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار ، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة ، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضررا لأنفسهم.

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم ، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) .

يلفت النظر أنّ القرآن في هذا الموضع ومواضع أخرى يذكر مقترح السلام بعبارة «إلقاء السلام» وقد يكون ذلك إشارة إلى التباعد بين الجانبين المتنازعين قبل الصلح ، حتى أنّ أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على الجانب الآخر.

* * *

٣٧٥

الآية

( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) )

سبب النّزول

لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآية ، وأشهرها هو أنّ نفرا من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتظاهرون بالإسلام كذبا وخداعا ، وما أن يرجعوا إلى قريش يعودون لعبادة الأصنام ، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءا لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم ، بالإضافة إلى سعيهم لإمرار مصالحهم لدى الطرفين ، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين :

إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها

٣٧٦

الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها ، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين،همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين ، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع ، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة:( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. ).

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكسا على رؤوسهم( كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ).

وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إيذاء المسلمين ، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.

وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من انتقام المسلمين ، وهذه الشروط هي : اعتزال المسلمين ، أو مصالحتهم ، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) .

وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد ، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا ، كما تقول الآية:( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) .

ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء ، تقول الآية في الخاتمة :( أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) .

وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين ، وقد يكون سلطانا ماديا ظاهريا عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.

وتشير عبارة «ثقفتموهم» الواردة في الآية إلى احتياج المسلمين إلى الدقة

٣٧٧

والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة ، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والانفلات من العقاب ، فعبارة «ثقفتموهم» مشتقة من المصدر «ثقافة» الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة ، بينما الفعل «وجد» يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.

* * *

٣٧٨

الآية

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) )

سبب النّزول

ذكروا أنّ مشركا من أهل مكّة وهو «الحارث بن زيد» كان يعذب أحد المسلمين ـ ولفترة طويلة ـ بالتعاون مع أبي جهل ، وكان اسم هذا المسلم «عياش بن أبي ربيعة» ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه ، بل كان يعذب لمجرّد أنّه آمن بالإسلام ، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر «عياش» إليها ، فصادف يوما «الحارث بن زيد» في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنّا منه أنّه ما زال عدوا للمسلمين ، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم ، فعلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحادث ، فنزلت الآية الشّريفة وهي تبيّن حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.

٣٧٩

التّفسير

أحكام القتل النّاتج عن الخطأ :

لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام ، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين ، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا ، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق ، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء ، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد ، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام ، تقول الآية الكريمة :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) .

هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق ، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا ، لأنّ المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد ، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلّا خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.

وعبارة «إلّا خطأ» لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق ، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطئه أنّها ـ إذن ـ تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلّا عن خطأ.

ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع :

فالنّوع الأوّل : هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما ، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فلبس على القاتل أن يدفع شيئا :( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ).

والنّوع الثّاني : من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما ،

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710