الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173397 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

مفهوم التحية يشمل ـ أيضا ـ التعامل الودي العملي بين الناس.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الباقر والصّادقعليهما‌السلام أن : «المراد بالتّحية في الآية السلام وغيره من البر».

وفي «المناقب» أنّ جارية أهدت إلى الإمام الحسنعليه‌السلام باقة من الورد فأعتقها،وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى :( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الردّ على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبّة سواء كانت بالقول أو بالعمل ـ وتبيّن الآية في آخرها أنّ الله يعلم كل شيء ، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها ، وأنّه لا يخفى عليه شيء أبدا ، حيث تقول :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

السّلام ، تحية الإسلام الكبرى :

لا يخفى أنّ لكل جماعة إنسانية تقاليد خاصّة في التحية لدى التلاقي فيما بينهم ، بها يتبادلون مشاعر الحبّ والصفاء ، والمودة ، والتحية كما هي صيغة لفظية يمكن أن تكون ـ أيضا ـ حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحبّ والودّ المتبادلة.

وقد جاء الإسلام بكلمة «السّلام» مصطلحا للتحية بين المسلمين ، والآية موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية ، لكن المصداق الأوضح والأظهر لها يتجسد في كلمة «السّلام».

وبناء على ذلك فإنّ المسلمين مكلّفون بردّ السّلام بأحسن منه ، أو على الأقل بما يماثله.

وفي آية أخرى إشارة واضحة إلى أنّ السّلام هو التحية حيث تقول :( فَإِذا

٣٦١

دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (١) ويمكن الاستدلال من هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم» هي في الأصل «سلام الله عليكم» أي ليهبك الله السلامة والأمن ، وهكذا يتّضح لنا أنّ السلام يعتبر دلالة على الحبّ والود المتبادل ، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.

وقد دلت آيات قرآنية أخرى على أنّ السّلام هو تحية أهل الجنّة ، حيث يقول سبحانه :( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً ) (٢) . ويقول تعالى:( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) (٣) .

كما أنّ آيات قرآنية أخرى دلت على أنّ السلام أو أي صيغة أخرى تعادله ، كان سائدا بين الأقوام التي سبقت الإسلام ، وهذا هو ما تشير إليه الآية (٢٥) من سورة الذاريات في قصة إبراهيم مع الملائكة حيث تقول :( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان ـ أيضا ـ تحية أهل الجاهلية(٤) .

إنّ تحية الإسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة ، لدى مقارنتها بما لها من نظائر لدى الأمم والأقوام الاخرى.

النصوص الإسلامية تؤكد كثيرا على السّلام والتّحية، حيث یروى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه»(٥) .

__________________

(١) النّور ، ٦١.

(٢) الفرقان ، ٧٥.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) روي أن «نوبة» وهو من شعراء الجاهلية قال :

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت

علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

(٥) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

٣٦٢

كمايروى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الله يقول : «البخيل من يبخل بالسّلام»(١)

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الله يحبّ إفشاء السلام»(٢) .

وقد ورد في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام ، منها أنّ السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إطار الأصدقاء والأقارب ، فقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل : أي العمل خير : فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف»(٣) .

كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل ، والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمنا ، وقد يكون الأمر حثّا على التزام التواضع ، ونهيا عن التكبر أو محاربة له ، فالتكبر غالبا ما يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسّلام ، وبذلك يضفون على هذا الأمر طابعا استعباديا وثنيا ، بينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل من يبادر الآخرين بالسلام ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدئ بالسلام حتى على الصبية الصغار ، وبديهي أنّ هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حثّ صغار السن على مبادرة كبارهم بالسلام والتحية والاحترام ، لأنّ هذا السلوك يعتبر نوعا من الآداب الإنسانية الحميدة ، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.

ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السّلام على المرابين والفاسقين وأمثالهم،ويعتبر هذا الأمر سلاحا لمحاربة الفساد والربا ، أمّا إذا كان السلام يؤدي إلى التأثير على المفسد والمنحرف ، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد والانحراف ، فلا مانع منه ولا بأس به.

__________________

(١) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(٢) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، في هامش الآية.

٣٦٣

ولا يفوتنا هنا أن نوضح أنّ المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب السلام بعبارات مثل «ورحمة الله» أو «ورحمة الله وبركاته».

ورد في تفسير «الدّر المنثور» أنّ شخصا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : السّلام عليكم. فإجابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السّلام ورحمة الله. ثمّ جاءه آخر وقال :السّلام عليكم ورحمة الله.

فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال :السّلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعليك» ـ وعند ما سئل عن علّة هذا الجواب القصير ، قال : إنّ القرآن يقول : إذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها ، ولكنك لم تبق شيئا»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ردّ التحية بأحسن منها في الموردين السابقين ، أمّا في المورد الثّالث ردّها بالمساوي كلمة «وعليك» تعني أنّ كل ما قلته لي مردود عليك.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٨.

٣٦٤

الآية

( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً(٨٧) )

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات ، فالآية السابقة بعد أن أمرت بردّ التحية قالت :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمّة هي قضية يوم البعث والحساب،حيث محكمة العدل الإلهية العامّة للبشر أجمعين ، وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وعبارة( لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) تدلّ على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلّهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان ٩٣ و ٩٤ من سورة مريم) أشير أيضا إلى هذه الحقيقة حقيقة بعث جميع عباد الله ـ من سكن منهم على هذه الكرة الأرضية أو على كرات أخرى ـ في يوم واحد.

وعبارة( لا رَيْبَ فِيهِ ) الواردة في الآية وفي آيات أخرى ، إنّما هي إشارة

٣٦٥

إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة ، مثل دليل «قانون التكامل» و «حكمة الخلق» و «قانون العدل الإلهي» ، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ الله هو أصدق الصادقين :( مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ) من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من بعث ونشور وغيره من الوعود ، فالكذب لا يصدر إلّا عن جهل أو ضعف وحاجة ، والله أعلم العالمين ، وإليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إلى أحد مطلقا ، فهو منزّه عن صفات الجهل والضعف والعجز ، ولذلك فهو أصدق الصادقين ، بل إن الكذب بالنسبة إلى الله تعالى لا مفهوم له إطلاقا.

* * *

٣٦٦

الآية

( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفرا من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين ، وأحجموا لذلك عن الهجرة إلى المدينة،وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين ، إلّا أنّهم اضطروا في النهاية إلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين ، كما حسبوا أن دخولهم إلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين ـ لكن المسلمين انتبهوا الى حقيقة هؤلاء ، غير أنّهم انقسموا إلى فئتين ، فئة منهم رأت ضرورة طرد أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإسلام ، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأمور دون باطنها ، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية

٣٦٧

ولمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّبوة ، وقالوا : أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين : فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها ، وترشدها إلى طريق الحقّ الصواب(١) .

التّفسير

استنادا إلى سبب النزول الذي ذكرناه ، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها ، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين.

فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين ، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين ، حيث تقول :( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) (٢) وتنهي المسلمين عن الاختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم ، وتعاونوا مع المشركين،وأحجموا عن مشاركة المجاهدين ، فظهر بذلك نفاقهم ، ودلت على ذلك أعمالهم،فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإيمان ، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء ، وقد أكّدت الآية السابقة أن :( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ) .

وتبيّن الآية بعد ذلك : إنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح،وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه :( ... وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ) (٣) .

__________________

(١) ذكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها ، وقيل أنّها نزلت في واقعة أحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول ، بل تنسجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه.

(٢) في هذه الجملة ، جملة أخرى محذوفة تتضح لدى الإمعان في الأجزاء الاخرى من الآية والتقدير : «فما لكم تفرقتم في المنافقين فئتين ...».

(٣) «أركسهم» : من ركس وهو قلب الشيء على رأسه ، وتأتي أيضا بمعنى ردّ أوّل الشيء إلى آخره.

٣٦٨

وتدل عبارة «بما كسبوا» على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة ، إنّما يتمّ بعمل الإنسان وفعله ، وحين ينسب الإضلال إلى الله سبحانهعزوجل ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.

وفي الختام تخاطب الآية أولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين ، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه ، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) .

إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه وهذه سنة إلهية فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق ، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء الله؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل(١) .

* * *

__________________

(١) في المجلد الأول من هذا التّفسير بحث عن الهداية والضلالة ، فراجعه.

٣٦٩

الآية

( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٨٩) )

التّفسير

لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم ، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام ، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين :( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ) .

ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار ، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين ، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائما لإفساد المعتقدات ، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبدا ، تقول الآية الكريمة :( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ ) إلّا إذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

٣٧٠

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير ، ويثبتوا صدقهم فيه ، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية:( حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق ، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّا من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.

وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم ، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر ، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول :( لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع ، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة ما لم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإخلاص ، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.

والطريف هنا أنّ الإسلام ـ مع اهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم ـ نراه يشدد كثيرا في التحذير من خطر المنافقين ، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة ، ورغم تظاهرهم بالإسلام يصرح القرآن بأسرهم ، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.

وما هذا التشديد إلّا لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإسلام تحت ستار الإسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.

٣٧١

سؤال :

قد يرى البعض أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه ، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق ، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة.

الجواب :

الحقيقة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع هذا الأسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإسلام ، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أسلوبا غير هذا.

* * *

٣٧٢

الآية

( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) )

سبب النّزول

وردت روايات عديدة تفيد أنّ إثنتين من القبائل العربية في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما قبيلتا «بني ضمرة» و «أشجع» كانت إحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت مع النّبي اتفاقا بترك النزاع ، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأولى دون أن تعقد مثل هذا الاتفاق مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا يشككون في وفاء «بني ضمرة» للمسلمين ، واقترحوا على النّبي أن يهاجم هذه القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين ،فرد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «كلّا ، فإنّهم أبر العرب بالوالدين،وأوصلهم للرّحم ، وأوفاهم بالعهد».

وبعد فترة علم المسلمون أنّ قبيلة «أشجع» وعلى رأسها «مسعود بن رجيلة» قد وصلت حتى مشارف المدينة ، وهي في سبعمائة رجل ، فبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفدا للتعرف على سبب مجيئهم إلى ذلك المكان ، فأجابت هذه القبيلة

٣٧٣

بأنّها جاءت لكي تعقد اتفاقا مع المسلمين مماثلا لاتفاق «بني ضمرة» معهم ، وما أن علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقدارا من التمر هدية لهذه القبيلة ، ثمّ التقى بهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بأنّهم لعجزهم عن موازرة المسلمين في قتال الأعداء ، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين ، لما تربطهم بهم من صلة الجوار ، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين بتحريم العدوان بينهما ، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبيّن للمسلمين ما يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.

ويقول مفسرون آخرون إنّ قسما من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة «بني مدلج» التي جاءت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرته أنّها تريد الاتفاق معه على عدم اللجوء إلى العدوان فيما بينهما ، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه المسلمين ودعوتهم.

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم :

بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام ، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين :

١ ـ من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

٢ ـ من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين ، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) .

ومن الواضح أنّ أفراد الطائفة الأولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا

٣٧٤

القانون احتراما للعقود والعهود ، وأمّا المجموعة الثانية ـ وإن لم تكن معذورة ، بل عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته ـ فقد أعلنت حيادها ، ولذلك فمجابهتها يتعارض مع مبادئ العدالة والمروءة.

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إزاء كل هذه الانتصارات الباهرة ، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم ، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) .

وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار ، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة ، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضررا لأنفسهم.

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم ، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) .

يلفت النظر أنّ القرآن في هذا الموضع ومواضع أخرى يذكر مقترح السلام بعبارة «إلقاء السلام» وقد يكون ذلك إشارة إلى التباعد بين الجانبين المتنازعين قبل الصلح ، حتى أنّ أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على الجانب الآخر.

* * *

٣٧٥

الآية

( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) )

سبب النّزول

لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآية ، وأشهرها هو أنّ نفرا من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتظاهرون بالإسلام كذبا وخداعا ، وما أن يرجعوا إلى قريش يعودون لعبادة الأصنام ، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءا لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم ، بالإضافة إلى سعيهم لإمرار مصالحهم لدى الطرفين ، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين :

إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها

٣٧٦

الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها ، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين،همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين ، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع ، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة:( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. ).

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكسا على رؤوسهم( كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ).

وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إيذاء المسلمين ، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.

وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من انتقام المسلمين ، وهذه الشروط هي : اعتزال المسلمين ، أو مصالحتهم ، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) .

وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد ، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا ، كما تقول الآية:( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) .

ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء ، تقول الآية في الخاتمة :( أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) .

وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين ، وقد يكون سلطانا ماديا ظاهريا عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.

وتشير عبارة «ثقفتموهم» الواردة في الآية إلى احتياج المسلمين إلى الدقة

٣٧٧

والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة ، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والانفلات من العقاب ، فعبارة «ثقفتموهم» مشتقة من المصدر «ثقافة» الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة ، بينما الفعل «وجد» يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.

* * *

٣٧٨

الآية

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) )

سبب النّزول

ذكروا أنّ مشركا من أهل مكّة وهو «الحارث بن زيد» كان يعذب أحد المسلمين ـ ولفترة طويلة ـ بالتعاون مع أبي جهل ، وكان اسم هذا المسلم «عياش بن أبي ربيعة» ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه ، بل كان يعذب لمجرّد أنّه آمن بالإسلام ، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر «عياش» إليها ، فصادف يوما «الحارث بن زيد» في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنّا منه أنّه ما زال عدوا للمسلمين ، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم ، فعلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحادث ، فنزلت الآية الشّريفة وهي تبيّن حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.

٣٧٩

التّفسير

أحكام القتل النّاتج عن الخطأ :

لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام ، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين ، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا ، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق ، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء ، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد ، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام ، تقول الآية الكريمة :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) .

هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق ، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا ، لأنّ المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد ، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلّا خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.

وعبارة «إلّا خطأ» لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق ، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطئه أنّها ـ إذن ـ تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلّا عن خطأ.

ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع :

فالنّوع الأوّل : هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما ، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فلبس على القاتل أن يدفع شيئا :( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ).

والنّوع الثّاني : من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما ،

٣٨٠

ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إلى أهل القتيل ، لأنّ الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام ، فلا معنى إذن لجبران الخسارة.

أما النّوع الثّالث : من غرامة القتل الناتج عن الخطأ ، فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غير مسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهدا وميثاقا ، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله ، كما أمر ـ أيضا ـ بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراما للعهود والمواثيق تقول الآية :( وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ).

واختلف المفسّرون في قتيل الحالة الثالثة ، هل يجب أن يكون من المسلمين ، أم أن الحكم يشمل غيرهم من الكفار الذميين؟

وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أنّ المقصود فيها هو القتيل «المسلم».

كما اختلف المفسّرون في جواز دفع الدية إلى أهل القتيل غير المسلمين ، حيث أنّ الدية تعتبر جزءا من الإرث ، والكافر لا يرث المسلم ، ولكن ظاهر الآية يدل على وجوب دفع الدية إلى أهل مثل هذا القتيل ، وذلك تأكيدا من الإسلام لاحترامه للعهود والمواثيق.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الدية تدفع في هذه الحالة إلى المسلمين من ورثة القتيل دون الكافرين منهم معتمدين على أنّ الكافر لا يرث المسلم وأنّ الدية هي جزء من الإرث،وقد وردت إشارات إلى هذا المعنى في بعض الروايات أيضا.

بينما ظاهر الآية يدل على أن الورثة ليسوا من المسلمين ، وذلك حين تقول :( مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) لأن العهود والمواثيق كانت في ذلك الزمان

٣٨١

بين المسلمين وبين غيرهم ، ولم تكن بين المسلمين أنفسهم ـ حينذاك ـ عهود أو مواثيق،(وهنا يجب الإمعان والتدقيق كثيرا من الأمر).

وتستطرد الآية في بيان الحكم فتتطرق إلى أولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ ، ولا يسعهم ـ لفقرهم ـ دفع المال دية عن القتيل ، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن ارتكابهم للقتل الخطأ ، وتبيّن حكم هؤلاء ، وتعلن أنهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي ارتكبوه ، بدلا من الدية وتحرير الرقبة،وقد اعتبرت ذلك نوعا من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى الله ، علما أنّ جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ ، إنما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال ، والله يعلم بخفايا الأمور وقد أحاط علمه بكل شيء حيث تقول الآية :( تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

لقد وردت في الآية ـ موضوع البحث ـ أمور عديدة يجدر الانتباه إليها وهي :

1 ـ ذكرت الآية ثلاثة أنواع من التعويض عند حصول قتل عن خطأ ، وكل نوع في حدّ ذاته تعويض عن الخسارة الناجمة عن هذا القتل.

فتحرير رقبة عبد مسلم يعتبر تعويضا عن خسارة اجتماعية ناتجة عن القتل الواقع على إنسان مسلم ، إذ بعد أن خسر المجتمع فردا نافعا من أفراده بسبب وقوع القتل عليه ، حصل على تعويض مماثل وذلك بدخول إنسان نافع آخر بين أفراده عن طريق التحرير.

وأمّا التعويض المادي «الدية» فهو مقابل الخسارة المادية اللاحقة بأهل القتيل نتيجة فقدهم إياه ، والحقيقة أن الدية ليست ثمنا لدم القتيل المسلم البريء ، لأن دمه لا تعادله قيمة ، بل هي ـ وكما أسلفنا ـ نوع من التعويض عن خسارة مادية لاحقة بذوي القتيل بسبب فقدانه.

وأمّا الخيار الثّالث الوارد في حالة تعذر تقديم التعويض المادي ، فيتمثل في

٣٨٢

صيام شهرين متتابعين يقوم به القاتل ، فهو تعويض أخلاقي ومعنوي لخسارة معنوية لحقت بالقاتل نفسه بسبب ارتكابه لحادث قتل ، فالكفارة تتحقق في الدرجة الأولى في تحرير رقبة مؤمنة ، فإن عجز القاتل فصيام شهرين متتابعين ـ ويجب الانتباه هنا إلى أن تحرير العبيد يعتبر بحدّ ذاته عبادة ، لما له من أثر معنوي على العبد الذي يتحرر من قيود الرق.

2 ـ ورود عبارة( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) بالنسبة إلى أهل القتيل الذين هم من المسلمين،أي أن يتنازلوا عن «دية» قتيلهم ، حيث لم ترد هذه العبارة بالنسبة لغير المسلمين ـ وسبب ذلك واضح ، وهو لأن الأرضية للصفح والعفو متوفرة لدى المسلمين حيال أمثالهم ، بينما لا تتوفر مثل هذه الأرضية لدى غير المسلمين تجاه المسلمين ، كما أن المسلم يجب أن لا يقبل معروفا أو منّة من غير المسلم في هذه الحالات.

3 ـ وممّا يجلب الانتباه أنّ الحالة الثالثة الواردة في آية موضوع البحث ، قد قدمت كفارة الدية على كفارة التحرير ، وهذه الحالة تتناول مسألة القتل الخطأ الواقع على شخص لا ينتمي أهله إلى الإسلام ، بينما الحالة الأولى ـ التي كان القتيل فيها من عائلة إسلامية ـ تقدمت فيها كفارة التحرير على كفارة الدية.

ويمكن الاستنتاج من هذا التقديم والتأخير أن مسألة دفع الدية في موعد متأخر بالنسبة للمسلمين فيما بينهم ، لا تترك أثرا سلبيا عليهم ـ في الغالب ـ بينما لو كان أهل القتيل من غير المسلمين لوجب التعجيل في دفع الدية ـ أوّلا ـ اتقاء للفتنة ، ولكي لا يفسّر أهل القتيل وقومه مسألة القتل الحاصلة بأنّها نقض للعهد من جانب المسلمين.

4 ـ لم تحدد الآية الكريمة مقدار الدية أو مبلغها في أي من الحالات الثلاثة المذكورة،ويستنتج من هذا أن مسألة التحديد هذه إنّما أوكلت إلى السنة التي عينت بالفعل مقدارها الكامل بألف مثقال من الذهب ، أو بمائة بعير ، أو مائتين من

٣٨٣

البقر ، ويمكن أن يكون ثمن هذه الأنواع مالا إذا حصل اتفاق بين طرفي القضية ، (وبديهي أن تخصيص الذهب أو نوع من أنواع الماشية دية عن القتل ، إنما هو سنة إسلامية تستند مبرراتها على الأمور الطبيعية لا الوضعية المتغيرة بتغير الزمان).

5 ـ قد يرد هذا الوهم لدى البعض بأنّ القتل الواقع خطأ ، يجب أن لا يكون بإزائه غرامة أو عقوبة ، لأن القاتل لم يرتكب جريمة عن عمد أو سبق إصرار وإن الخطأ لا عقوبة أو غرامة مالية عليه.

وجواب هذا ـ أو توضيحه ـ هو أن القتل ، دون سواه من الجرائم ، تدخل فيه قضية بالغة الأهمية وهي قضية الدم المراق فيها والحياة الإنسانية التي تسلب عضو من أعضاء المجتمع ولكي يبيّن الإسلام اهتمامه الكبير بحياة الأفراد ، ويدفع معتنقيه إلى التزام الحيطة والحذر الدقيقين لعدم التورط في ارتكاب مثل هذه الأخطاء ، شدد في مسألة الغرامة والعقوبة حرصا منه على حياة أفراد المجتمع ، ولكي لا يصبح الخطأ عذرا يتوسل به من شاء في إهدار دماء الأبرياء من الناس.

والعبارة الأخيرة من الآية الكريمة التي هي( تَوْبَةً مِنَ اللهِ ) قد تكون إشارة إلى أنّ وقوع الخطأ يكون غالبا بسبب التهاون وقلة الحذر ، وان الخطأ إذا كان كبيرا كالقتل ـ يجب التعويض عنه أوّلا وإرضاء أهل القتيل لكي تشمل القاتل أو الخاطئ بعد ذلك التوبة الإلهية.

* * *

٣٨٤

الآية

( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) )

سبب النّزول

ذكروا أنّ «المقيس بن صبابة الكناني» كان قد وجد قاتل أخيه «هشام» في محلة بني النجار ، وأخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأمر ، فبعثه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع «قيس بن هلال المهري» إلى زعماء بني النجار يأمرهم أن يسلموا قاتل «هشام» إلى أخيه «المقيس» وإن لم يكن لهم علم به أو بمكانه فليدفعوا إلى «المقيس» دية أخيه القتيل ، فدفع بنو النجار الدية لعدم علمهم بمكان القاتل ، فأخذ «المقيس» الدية وتوجه إلى المدينة مع «قيس بن هلال المهري» إلّا أنه في الطريق راودته نعرة من نعرات الجاهلية ، فظن أنه قد جلب على نفسه العار بقبوله المال بدل دم أخيه ، فعمد إلى قتل رفيق سفره ، أي قيس بن هلال الذي كان من قبيلة بني النجار ، انتقاما لدم أخيه على حسب ظنّه ، ثمّ هرب «المقيس» إلى مكّة وارتد عن إسلامه ، فاستباح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دم هذا القاتل ، أي «المقيس» لخيانته ، وقد نزلت هذه الآية في هذه المناسبة وهي تبيّن عقوبة مرتكب القتل العمد.

٣٨٥

التّفسير

عقوبة القتل العمد :

لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة ـ أو غرامة ـ القتل الناتج عن الخطأ ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إصرار ، في حالة إذا كان القتيل من المؤمنين ، وبما أن جريمة قتل الإنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب ، وان التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده ، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم ، لذلك فإنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة ، حتى أنّه اعتبر قتل النفس الواحدة قتلا للناس جميعا ، إلّا أن يكون القتل عقابا لقتل مثله أو عقابا لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في هذا المجال :( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) (1) .

وقد قررت الآية ـ موضوع البحث ـ أربع عقوبات أخروية لمرتكب القتل العمد ، وعقوبة أخرى دنيوية هي القصاص ، والعقوبات الأخروية هي :

1 ـ الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم ، حيث تقول الآية :( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) .

2 ـ احاطة غضب الله وسخطه بالقاتل :( وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ) .

3 ـ الحرمان من رحمة الله :( وَلَعَنَهُ ) .

4 ـ العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة :( وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ) والملاحظ هنا أن العقاب الأخروي الذي خصصه الله للقاتل في حالة العمد ، هو أشدّ أنواع العذاب والعقاب بحيث لم يذكر القرآن عقابا أشدّ منه في مجال آخر أو لذنب آخر.

أمّا العقاب الدنيوي الذي وردت تفاصيله في الآية (179) من سورة البقرة ،

__________________

(1) الآية 32 من سورة المائدة.

٣٨٦

فهو القصاص ، وقد تطرقنا إليه لدى تفسير هذه الآية في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.

جريمة القتل العمد والعقاب الأبدي :

يرد سؤال في هذا المجال ، وهو أن الخلود في العذاب قد ورد بالنسبة إلى من يموت كافرا ، بينما قد يكون مرتكب جريمة القتل العمد مؤمنا ، كما يحتمل أن يندم على ما ارتكبه من إثم ويتوب عن ذلك في الدنيا ، ويسعى إلى تعويض وتلافي ما حصل بسبب جريمته ، فكيف إذن يستحق مثل هذا الإنسان عذابا أبديا وعقابا يخلد فيه؟

إنّ جواب هذا السؤال يشتمل على ثلاث حالات هي :

1 ـ قد يكون المراد بقتل المؤمن ـ الوارد في الآية موضوع البحث ـ هو القتل بسبب إيمان الشخص ، أي استباحة دم المؤمن ، وواضح من هذا إنّ الذي يعمد إلى ارتكاب جريمة قتل كهذه إنما هو كافر عديم الإيمان ، وإلا كيف يمكن لمؤمن أن يستبيح دم أخيه المؤمن ، وبناء على هذا يستحق القاتل الخلود في النار ويستحق العذاب والعقاب المؤبد، وقد نقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام حديث بهذا الفحوى(1) .

2 ـ كما يحتمل أن يموت مرتكب جريمة القتل العمد مسلوب الإيمان بسبب تعمده قتل إنسان مؤمن بريء ، فلا يحظى بفرصة للتوبة عن جريمته ، فينال في الآخرة العذاب العظيم المؤبد.

3 ـ ويمكن أيضا ـ أن يكون المراد بعبارة «الخلود» الواردة في الآية هو العذاب الذي يستمر لآماد طويلة وليس العذاب المؤبد.

ويمكن أن يطرح سؤال آخر ـ في هذا المجال ـ وهو هل أنّ جريمة القتل

__________________

(1) فقد ورد في كتاب الكافي وتفسير العياشي في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «إن من قتل مؤمنا على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله تعالي في كتابه عنه : «وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً».

٣٨٧

العمد قابلة للتوبة؟!

لقد ردّ جمع من المفسّرين بالنفي صريحا على هذا السؤال ، وقالوا : أن هذه الجريمة التي ورد ذكرها في الآية موضوع البحث غير قابلة للتوبة مطلقا ، حيث أشارت الروايات الواردة في هذا الأمر إلى ذلك ، فقد صرحت الروايات بأنّ لا توبة لقاتل المؤمن عمدا.

ولكن الذي نستنتجه من روح التعاليم الإسلامية ، وروايات الأئمّةعليهم‌السلام ، وغيرهم من علماء الدين الكبار ، وكذلك من فلسفة التوبة القائمة على أساس التربية والوقاية من الوقوع في الذنوب والخطايا في مستقبل الفرد المسلم المستخلص من ذلك كله هو أنه لا يوجد ذنب غير قابل للتوبة ، لكن التوبة من بعض الذنوب تكون مقيدة بشروط قاسية جدا يصعب بل يستحيل أحيانا على الفرد تحقيقها.

والدليل على هذا الأمر هو قول القرآن الكريم :( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (1) .

وقد قلنا في تفسير هذه الآية : إنّها وردت في شأن العفو عن الذنوب بواسطة الشفاعة وما شاكل ذلك ، ولكن المعروف أنّه حتى الشرك ـ ذاته ـ يعتبر من الجرائم والذنوب القابلة للتوبة ، إذا تخلى الإنسان عنه وعاد فآمن بالله الواحد الأحد وأسلم وجهه لله ، كما حصل للجاهليين الذين تخلوا عن شركهم وقبلوا الإسلام وتابوا إلى الله فعفا عنهم وغفر لهم ذنوبهم السابقة.

ويتبيّن من هذا العرض الموجز أنّ كل الذنوب ـ حتى الشرك ـ قابلة للتوبة ، وتؤكد على ذلك الآيتان (53 و 54) من سورة الزمر حيث يقول تعالى :( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) .

وقد ذكر بعض المفسّرين أن الآيات التي تتحدث عن غفران جميع الذنوب

__________________

(1) النساء ، 47.

٣٨٨

هي آيات عامّة قابلة للتخصيص ـ ولكن لا يمكن الحكم بصحة هذا القول ، لأنه يتناقض ومنطق هذه الآية التي اعتبرت التوبة نعمة ومنة من الله على المذنبين ، وأكدت ذلك بالقرائن، لذلك لا يمكن تخصيص هذه الآيات ، فهي ـ كما في الاصطلاح ـ تأبى التخصيص.

إضافة إلى ذلك كلّه فقد يحتمل أن يلجأ مرتكب القتل العمد إلى التوبة ، ويخلص الطاعة لله في بقية عمره ، ويتجنب ارتكاب الذنوب ولا يعصي الله بعد ذلك ، ولا يعمد إلى ارتكاب جريمة قتل مشابهة ، فهل يصح أن ييأس التائب ـ في مثل هذه الحالة ـ من رحمة الله وعفوه ومغفرته؟ وهل يجوز القول بأن هذا الشخص مع توبته وندمه وسيبقى مشمولا بعذاب الله المؤبد؟ إن القول برفض توبة إنسان كهذا يكون مخالفا لروح التعاليم الدينية السامية التي جاء بها الأنبياء لتربية البشر وهدايتهم في جميع مراحل التاريخ.

والذي نلاحظه في تاريخنا الإسلامي ، هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عفا عن أخطر المجرمين من أمثال «وحشي» الذي قتل «حمزة بن عبد المطلب» عم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبل النّبي توبته، وكذلك لا يمكن القول بأن ارتكاب جريمة القتل في حال الشرك يختلف عنه في حال الإيمان ، بحيث يقال باحتمال التغاضي والعفو عن الجريمة في الحالة الأولى ، وعدم احتماله في حالة الإيمان ، وقد سبق أن علمنا أن ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله ، وعرفنا أنّ هذا الذنب ـ أيضا ـ قابل للتوبة وان الله يعفو عن المشرك إذا تاب عن شركه واعتنق الإسلام فكيف ـ والحالة هذه ـ يمكن القول بأنّ جريمة القتل العمد ـ التي لم يذكر القرآن أنّها أعظم الجرائم ليست قابلة للتوبة أو العفو؟

إنّ قولنا بأنّ جريمة قتل العمد قابلة للتوبة والعفو لا يقلل من عظم خطورة هذه الجريمة، وقبول التوبة في هذا المجال لا يعني أنّ التوبة متيسرة بسيطة في مثل هذه الحالة ، بل أنّها من أصعب الأمور ، وهي إن أريد تحقيقها ـ تحتاج إلى

٣٨٩

بذل وتضحيات كبيرة للتعويض عما خلفته الجريمة من آثار خطيرة وسيئة على المجتمع، والتعويض في هذا المجال ليس بالأمر اليسير(1) ولكننا أردنا من ذلك أن نبين أن باب التوبة ليست مغلقة على من تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى ، حتى لو كان قد ارتكب في وقت من الأوقات جريمة كالقتل المتعمد.

ما هي أنواع القتل؟

لقد قسم الفقهاء القتل إلى ثلاثة أنواع : كما ورد في كتب القصاص والديات ، وقد استندوا في هذا التقسيم على ما استلهموه من الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الواردة في هذا المجال وهذه الأنواع هي :

1 ـ القتل العمد.

2 ـ القتل شبه العمد.

3 ـ القتل الخطأ.

والقتل العمد هو الذي يحصل باستخدام وسائل القتل مع وجود سبق إصرار على ارتكاب هذه الجريمة ، مثل أن يعمد إنسان إلى قتل إنسان آخر مستخدما في ذلك وسائل كالسكين أو العصي أو الحجارة أو غير ذلك من الوسائل القاتلة.

أمّا القتل شبه العمد فهو الذي يكون مسبوقا بإصرار القاتل على إيذاء القتيل دون استهداف قتله ، فيؤدي الإيذاء إلى القتل ، كأن يضرب شخص شخصا آخر ، دون أن يقصد قتله ، فيؤدي الضرب إلى قتل المضروب.

والقتل الخطأ هو القتل الذي يحصل دون أن يكون لدى القاتل سبق إصرار على ارتكاب هذه الجريمة ، ولم يكن يهدف إلى إيذاء القتيل ، ويحدث هذا ـ مثلا ـ

__________________

(1) إنّ الآيات التي وردت في بيان خطورة قتل الأبرياء لها أثر يهز الإنسان من الأعماق ، وفي حديث عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لاشرك في دمه»من تفسير المنار ، الجزء الخامس ، ص 361.

٣٩٠

لدى محاولة إنسان اصطياد بعض الحيوانات بنوع من أنواع السلاح ، فبدل أن يقع السلاح في الحيوان يقع سهوا على إنسان آخر فيقتله.

وقد وردت الأحكام المختلفة لهذه الأنواع الثلاثة من القتل في الكتب الفقهية.

* * *

٣٩١

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) )

سبب النّزول

لقد ذكرت الرّوايات والتفاسير الإسلامية أسباب عدة لنزول هذه الآية ، وكلها تتشابه مع بعضها الآخر ، ومن ذلك أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين عاد من واقعة خيبر بعث أسامة بن زيد مع جمع من المسلمين إلى يهود كانوا يسكنون في قرية فدك ، من أجل دعوتهم إلى الإسلام أو الإذعان لشروط الذمّة ، مرداس اليهودي ، وهو أحد الذين عرفوا بقدوم جيش الإسلام وكان قد أخذ أمواله وأولاده ولجأ بهم إلى أحد الجبال ، هبّ لاستقبال المسلمين وهو يشهد بوحدانية الله ورسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ظن أسامة بن زيد أن هذا اليهودي يتظاهر بالإسلام خوفا على نفسه وحفظا لماله وأنه لا يبطن الإسلام في الحقيقة فعمد أسامة إلى قتل هذا اليهودي واستولى على أغنامه ، وما أن وصل نبأ هذه الواقعة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأثر تأثرا شديدا منها وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما معناه إن أسامة لم يكن ليعرف ما في نفس هذا

٣٩٢

الإنسان فلعله كان قد أسلم حقيقة.

عند ذلك نزلت الآية المذكورة فحذرت المسلمين من أن تكون الغنائم الحربية أو أمثالها سببا في رفض إسلام من يظهر الإسلام ، مؤكدة ضرورة قبول إسلام مثل هذا الإنسان.

التّفسير

بعد أن وردت التأكيدات اللازمة ـ في الآيات السابقة ـ فيما يخص حماية أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إلى حماية أرواح الأبرياء الذين قد يعرضون إلى الاتهام من قبل الآخرين ، إذ تقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) .

تأمر هذه الآية المسلمين أن يستقبلوا ـ بكل رحابة صدر ـ أولئك الذين يظهرون الإسلام وأن يتجنبوا إساءة الظن بإيمان أو إسلام هؤلاء ، وتؤكد الآية بعد ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سببا في اتهام أفراد أظهروا الإسلام ، أو قتلهم على أنّهم من الأعداء والاستيلاء على أموالهم ، إذ تقول الآية :( ... تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (1) .وتؤكّد على أنّ النعم الخالدة القيمة هي عند الله بقوله :( ... فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) .

وتشير الآية أيضا إلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل السلب والنهب فتقول :( ... كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) (2) وتضيف ـ مخاطبة المسلمين ـ أنّهم في ظل الإسلام ولطف الله وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك الوضع السيء مؤكّدة أنّ شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت

__________________

(1) العرض كلمة على وزن (مرض) وتعني كل شيء زائل لا دوام له ، وعلى هذا الأساس فإن «عرض الحياة الدنيا» معناه رؤوس الأموال الدنيوية التي يكون مصير جميعها إلى الزوال والفناء لا محالة.

(2) وقد ورد في تفسير هذه الآية احتمال آخر ، هو أنّها تخاطب المسلمين بأنهم كان لهم نفس الحالة عند إسلامهم ، أي أنّهم أقروا بالإسلام بألسنتهم وقبل منهم إسلامهم ، وفي حين لم يكن أحد غير الله يعلم بما يخفونه في سرائرهم.

٣٩٣

من الأمور ، إذ تقول الآية :( ... فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) .

الجهاد الإسلامي نفي من البعد المادي :

توضح الآية السالفة هذه الحقيقة بصورة جلية ، وهي أنّ أي مسلم يجب أن لا يتقدم إلى ساحة الجهاد بأهداف مادية ، ولذلك عليه أن يقبل ـ منذ الوهلة الأولى ـ من العدو إظهاره للإيمان ويلبي نداءه للصلح والسلام ، حتى لو حرم المسلم بقبوله إيمان العدو الكثير من الغنائم المادية ، والسبب في ذلك أن هدف الجهاد في الإسلام ليس التوسع ولا الاستيلاء على الغنائم المادية ، بل الهدف من الجهاد الإسلامي هو تحرير البشر من قيود العبودية لغير الله ، سواء كان هذا الغير هم الطغاة الجبابرة ، أو كانت العبودية للمال وللثروة والجاه، ويجب على كل مسلم أن يسعى إلى هذه الحقيقة كلما برقت له بارقة أمل صوبها.

وتذكّر الآية الكريمة المسلمين بعهدهم في الجاهلية ، حيث كانوا يحملون الأفكار المادية الدنيئة قبل إسلامهم ، فكانوا يتسببون في إراقة سيول من الدماء لأسباب مادية محضة، وقد نجوا اليوم بفضل إسلامهم وإيمانهم من تلك الحروب وتغير أسلوب حياتهم.

كما تشير الآية إلى حقيقة أخرى ، وهي أنّ المسلمين ساعة إظهارهم الإسلام لم يكن أحد ليعرف حقيقة هذا الإظهار أو حقيقة ما ينويه المظهر للإسلام ، وتؤكد لهم ضرورة أن يطبقوا ما كانوا هم عليه عند إسلامهم على من يظهر الإسلام أمامهم من الأعداء.

سؤال :

قد يطرأ على الذهن سؤال ، وهو لو أنّ الإسلام قبل دعوى كل من يتظاهر بالإسلام منذ الوهلة الأولى دون التحقيق من حقيقة هذه الدعوى ، لأصبح ذلك

٣٩٤

سببا في إيجاد أرضية النفاق وظهور المنافقين في المحيط الإسلامي ، وبهذا الأسلوب يمكن للكثير من الأعداء إساءة استغلال هذه الظاهرة والتستر في ظل الإسلام ، ومن خلال ذلك القيام بأعمال عدائية ضد الإسلام؟

الجواب :

من الممكن القول أن ليس هناك قانون في العالم لا يمكن إساءة استغلاله أبدا ، بل المهم في القانون هو أن يحوي في أغلب جوانبه النفع للعموم ، لو رفضنا ـ منذ الوهلة الأولى ـ إسلام من يظهر الإسلام من الأعداء وغيرهم لمجرّد عدم معرفتنا بسريرة هذا الذي يظهر الإسلام ، لأدى رفضنا في كثير من الحالات إلى مفاسد لا تحمد عقباها ، بل ستكون أكثر ضررا على الإسلام ، إذ أنّها تعني سحق المبادئ والعواطف الإنسانية ، ويكون ـ هذا الرفض ـ عند ذلك وسيلة بيد كل من يضمر العداء لصاحبه ليتهمه بأنّ إظهاره للإسلام لم يكن إظهارا حقيقيا مخلصا أو مطابقا لما في سريرته ، وبهذه الصورة من الممكن أن تراق دماء كثيرة لأناس أبرياء.

وفوق كل ذلك فإنّ الكثيرين لدى بدء كل دعوة ممن تكون توجهاتهم لهذه الدّعوة بسيطة وشكيلة وظاهرية ، ولكنهم بمرور الزمان واتصالهم الدائم بتلك الدّعوة ـ تتجذر في نفوسهم مبادئ الدعوة وتتأصل وتتعزز ، لذلك لا يمكن القبول برفض مثل هؤلاء الضعيفي الصلة بالدّعوة.

* * *

٣٩٥

الآيتان

( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) )

التّفسير

تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد ، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين ، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي ، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد ،( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) .

وواضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أولئك المؤمنون بالإسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إلى العزم الكافي

٣٩٦

لذلك ، وتبيّن هنا ـ أيضا ـ أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجبا عينيا ، فلو كان واجبا عينيا لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب.

وعلى هذا الأساس فإنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجبا عينيا ، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقا ، وعدوانا ويجب الانتباه ـ أيضا ـ إلى أنّ عبارة( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) لها مفهوم واسع يشمل كل أولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد ، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد ، فهؤلاء مستثنون من ذلك.

وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة ، وتؤكد في نهاية المقارنة ، أنّ الله وهب المجاهدين أجرا عظيما ،( فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) (1) .

ولكن ـ كما أسلفنا ـ لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجبا عينيا أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة ، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمانه وأعمال صالحة أخرى فقد وعدوا خيرا حيث تقول الآية الكريمة :( ... وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) إلّا أنّه من البديهي أن هناك فرقا شاسعا بين الخير الذي وعد به المجاهدون ، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد.

وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال : أنّ لكل عمل صالح نصيب محفوظ من

__________________

(1) لقد وردت عبارة «درجة» في الآية على صيغة النكرة ، وتؤكد كتب الأدب بأن النكرة في مثل هذه الحالات تأتي لبيان العظمة والأهمية ـ أي أن درجة المجاهدين من السمو والرفعة بحيث لا يمكن للبشر معرفتها بصورة كاملة ـ وهذا شبيه بالعبارة التي تطلق لبيان القيمة العظيمة لشيء يجهل قيمته البشر.

٣٩٧

الثواب لا يغفل ولا ينسى ، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه ساميا مقدسا ، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجبا عينيا قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإن أولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة ، أمّا أولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إلّا أنّهم كانوا يرغبون في الاشتراك في الجهاد برغبة جامحة ، بل كانوا يعشقون الجهاد ، لذلك فإنّ لهم ـ أيضا ـ سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين ، كما جاء في حديث مروي عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب فيه جند الإسلام فيقول : «لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم ، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره».(1)

وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جدا ، لذلك تتطرق الآية مرّة أخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجرا عظيما يفوق كثيرا أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز،( ... وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) .

وتشرح الآية التالية ـ وهي الآية (96) من سورة النساء ـ نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه :( دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ) فلو أنّ أفرادا من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة ، فقد وعدهم الله بالمغفرة والعفو ، حيث يقول في نهاية الآية:( ... وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

نكات مهمة حول المجاهدين :

1 ـ لقد كررت الآية (95) عبارة المجاهدين ثلاث مرات : في المرّة الأولى ذكر المجاهدون مع الهدف والوسيلة الخاصّة بالجهاد :

__________________

(1) تفسير الصافي ، هامش الآية المذكورة.

٣٩٨

( الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) .

وفي الثّانية : ذكر اسم المجاهدين مقرونا بوسيلة الجهاد ، ولم يذكر شيء عن الهدف:( الْمُجاهِدُونَ (فِي سَبِيلِ اللهِ) بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) .

وأمّا في المرحلة الأخيرة فقد جاءت الآية باسم المجاهدين فقط ، حيث يدل ذلك بوضح على الأسلوب البلاغي الرفيع في الكلام القرآني ، حيث يتعرف السامع شيئا فشيئا بواسطته على الموضوع وتخف قيوده وصفاته لديه ، وتصل درجة التعرف إلى مرحلة يفهم السامع بها كل شيء من خلال إشارة واحدة.

2 ـ لقد ذكرت الآية في البداية تفوق المجاهدين على القاعدين بعبارة مفردة وهي «درجة» بينما في الآية التالية جاءت هذه العبارة بصيغة الجمع «درجات» وجلّى أن لا تناقض بين هاتين العبارتين ، لأن القصد من العبارة الأولى تبيان تفوق المجاهدين على غيرهم،ولكن العبارة الثانية تشرح هذا التفوق حين تقترن بذكر عبارات «المغفرة» و «الرحمة»،وبعبارة أخرى فإن الفرق بين هاتين العبارتين «درجة» و «درجات» هو الفرق بين المجمل والمفصل.

كما يمكن الاستفادة من عبارة «درجات» على أنّها تعني أن المجاهدين ليسوا كلّهم في درجة أو مستوى واحد ، بل تختلف درجاتهم باختلاف درجة إخلاصهم وتفانيهم وتحملهم للمشاق ، وتختلف بذلك منزلتهم المعنوية ، لأنّه من البديهي أن الذين يجاهدون الأعداء في صف واحد ليسوا جميعا بمستوى جهادي واحد ، كلها تختلف درجات الإخلاص لدى كل واحد منهم بالقياس إلى أمثالهم ، ولذلك فإنّ لكل واحد منهم ثوابا خاصا به يتناسب مع عمله الجهادي ونيّته في هذا العمل.

الأهمية بالبالغة للجهاد :

إنّ الجهاد قانون عام في عالم الخليقة ، فإنّ كل مخلوق سواء كان من

٣٩٩

النباتات أو الحيوانات يسعى لإزالة ما يعترض طريقه من موانع بواسطة الجهاد ، لكي يستطيع كل واحد منهم بلوغ الكمال المطلوب في التكوين.

وعلى سبيل المثال فجذر النبات الذي ينشط للحصول على الغذاء والطاقة بصورة دائمة ، لو ترك نشاطه ، هذا وكف عن السعي لاستحال عليه إدامة حياته.

ولذلك فإن هذا الجذر حين يعترض طريقه مانع في عمق الأرض يحال تخطيه بثقبه،والعجيب هنا أنّ الجذور الرقيقة تعمل في مثل هذه الحالة كالمسمار الفولاذي في ثقب الموانع التي تعترضها ، فلو عجزت في هذا المجال لحرفت طريقها واجتازت المانع عن طريق الالتفات حوله.

وفي داخل وجود الإنسان أيضا وحتى في ساعات النوم هناك صراع غريب ومستمر ما دام الإنسان حيا ، وهو الصراع بين كريات الدم البيضاء والأجسام المعادية المهاجمة ، فلو أن هذا الصراع توقف لساعة واحدة وتخلت الكريات البيض عن الدفاع ، لتسلطت الجراثيم والمكروبات المتنوعة على كافة أجهزة جسم الإنسان ولعرضت حياته إلى الخطر.

إنّ ما هو موجود في أوساط المجتمعات والقوميّات والشعوب في العالم من كفاح من أجل البقاء ، هو عين ذلك الكفاح والجهاد الذي لمسناه في النبات وفي جسم الإنسان.

وعلى هذا الأساس فإن كل من يواصل «الجهاد» و «المراقبة» تكون الحياة من نصيبه وهو منتصر دائما ـ أما الذين تلهيهم عن الجهاد الأهواء والملذات والشهوات والأنانية وحبّ الذات فلن ينالهم غير الفناء والدمار عاجلا أو آجلا ، وسيحل محلهم أناس يمتازون بالحيوية والنشاط والكفاح الدؤوب.

وهذا هو الشيء الذي يؤكّد عليه رسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول : «فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته ، ومحقا في دينه ، إنّ الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710