الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173454 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية ٣٤ من سورة الطور ، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطبا :( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيرا فلا بدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والانشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّرا وغرورا ، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم ، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضا ـ بعد أن بيّن أبحاثا متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك :( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) .

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عند ما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

٢٨١

ووفقا لبعض الرّوايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام ، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة ، ومحتواها المؤثّر من جهة اخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة ، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الاولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة كلّ هذه الأمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلّا اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه. ستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتا ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن اعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأنّ نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناء على هذا ، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) بسطوا ألسنتهم وقالوا : تلك الغرانيق العلى!! ولذلك انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النّبي آية السجدة!

٢٨٢

لأنّنا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين ١٩ و٢٠ من هذه السورة].

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها ، ولحن الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب ، أي هي بعد سورة الم السجدة ، وحم السجدة وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلّا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلّا لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك ، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك ، أي رضاك يا ربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العبر ـ لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الاقتفاء على آثارهم

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

انتهت سورة النجّم

٢٨٣
٢٨٤

سورة

القمر

مكّية

وعدد آياتها خمس وخمسون آية

٢٨٥
٢٨٦

«سورة القمر»

محتوى السورة :

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد ، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالأمم لكي يكون درسا وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

٢ ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهيّة ، وهم قوم نوح ، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

٣ ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالحعليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

٢٨٧

لانحرافهم الأخلاقي ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرّباني.

٦ ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة سورة القمر :

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(١) .

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ (بداية سورة القمر).

٢٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) )

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة البارئعزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضا ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

٢٨٩

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا ، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عند ما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عند ما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : «انشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) مشيرا إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اخرى ، فإنّ انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استنادا إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس : اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي : «يا فلان يا فلان ، اشهدوا»(٢) .

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية : (انشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩.

(٢) ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

٢٩٠

الشمسية ، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق ، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة ، وأنكروا كلّ معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا القرآن الكريم ، عند ما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال ، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربّانية ، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث

والحقيقة أنّ مسألة «انشقاق القمر» كانت معجزة ، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك ، ليعلموا أنّ للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة أيضا.

وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز ، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الاطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله ، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

٢٩١

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا : (حبل مرير) أي : محكم ، والبعض فسّرها بمعنى : الطارئ وغير الثابت ، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ ، ومن جهة اخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية ، وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم ، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسئوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ

وبالنسبة لقوله تعالى :( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) ، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والاتّهامات لا تقوى على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه ، حيث إنّ كلّ شيء (خير أو شرّ) يسير بالاتّجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له ، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

٢٩٢

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها ، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.

* * *

بحوث

١ ـ شقّ القمر معجزة كبيرة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك فإنّ بعض الأشخاص السطحيين يصرّون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز ، حيث قالوا : إنّ الآية الكريمة تحدّثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة ، وهي الحوادث التي تسبق وقوع يوم القيامة

لقد غاب عن هؤلاء أنّ الأدلّة العديدة الموجودة في الآية تؤكّد على حدوث هذه المعجزة ، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشقّ) بصيغة الماضي ، وهذا يعني أنّ (أشقّ القمر) شيء قد حدث كما أنّ قرب وقوع يوم القيامة قد تحقّق ، وذلك بظهور آخر الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالإضافة إلى ذلك ، إن لم تكن الآية قد تحدّثت عن وقوع معجزة ، فلا يوجد أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على الرّسول بأنّه (ساحر) وكذلك قوله :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) والتي تخبر الآية هنا عن تكذيبهم للرسالة والرّسول ومعاجزه.

إضافة إلى ذلك فإنّ الرّوايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية ، والتي بلغت حدّ التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة ، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.

ونشير هنا إلى روايتين منها :

الاولى : أوردها الفخر الرازي أحد المفسّرين السنّة ، والاخرى للعلّامة الطبرسي أحد المفسّرين الشيعة.

يقول الفخر الرازي : «والمفسّرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشقّ

٢٩٣

وحصل فيه الإنشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الإنشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشكّ فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب إعتقاد وقوعه»(١) .

أمّا عن نظرية بطليموس والقائلة بأنّ (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن تنفصل أو تلتئم) فإنّها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي ، حيث إنّه ثبت من خلال الأدلّة العقليّة أنّ انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : لقد أجمع المفسّرون والمحدّثون سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا ، أنّ معجزة شقّ القمر كانت في زمن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل أنّ حذيفة ـ وهو أحد الصحابة المعروفين ـ ذكر قصّة شقّ القمر في جمع غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، مع العلم أنّ كثيرا منهم قد عاصر زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة في الدرّ المنثور والقرطبي).

وممّا تقدّم يتّضح جيّدا أنّ مسألة شقّ القمر أمر غير قابل للإنكار ، سواء من الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها ، أو من خلال الأحاديث والرّوايات ، أو أقوال المفسّرين ، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة اخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن شاء الله فيما بعد.

٢ ـ مسألة شقّ القمر والعلم الحديث :

السؤال المهمّ المطروح في هذا البحث هو : هل أنّ الأجرام السماوية يمكنها أن تنفصل وتنشقّ؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨ ، أوّل سورة القمر.

٢٩٤

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصّل إليها العلماء الفلكيون ، فإنّ مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل تصوّره إنّ الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها الباحثون تؤكّد أنّ مثل هذه الحوادث مضافا إلى أنّها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل ولعدّة مرّات مع اختلاف العوامل المؤثّرة في كلّ حالة.

وبعبارة اخرى : فقد لوحظ أنّ مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في المنظومة الشمسية ، بل في سائر الأجرام السماوية.

ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر

أ ـ ظهور المنظومة الشمسية :

إنّ هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول : إنّ جميع كرات المنظومة الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثمّ انفصلت عنها ، حيث أصبحت كلّ واحدة منها تدور في مدارها الخاصّ بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا الانفصال

يعتقد (لا پلاس) أنّ العامل المسبّب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي : (القوّة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها ، حيث أنّ الشمس كانت تعتبر ولحدّ الآن كتلة ملتهبة ، وضمن دورانها حول نفسها فإنّ السرعة الموجودة في المنطقة الإستوائية لها تسبّب تناثر بعض القطع منها في الفضاء ممّا يجعل هذه القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).

ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لا پلاس) توصّلوا من خلال تحقيقاتهم إلى فرضية اخرى تقول : إنّ السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية عن الشمس هو حالة المدّ والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.

٢٩٥

الأشخاص المؤيّدون لهذه النظرية الذين يرون أنّ الحركة الوضعية للشمس في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافعي لأسباب هذا الانفصال ، قالوا : إنّ حالة المدّ والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها. كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط ، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس الواحدة تلو الاخرى إلى الخارج ، ودارت ضمن مدار الكرة الامّ (الشمس).

وعلى كلّ حال فإنّ العامل المسبّب لهذا الانفصال أيّا كان لا يمنعنا من الإعتقاد أنّ ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الإنشقاق والانفصال.

ب ـ (الأستروئيدات):

الأستروئيدات : هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة الشمسية ، ويطلق عليها في بعض الأحيان بـ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب السيارة) يبلغ قطر كبراها (٢٥) كم ، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.

ويعتقد العلماء أنّ «الأستروئيدات» هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار بين مداري المريخ والمشتري تعرّض إلى عوامل غير واضحة ممّا أدّى إلى انفجاره وتناثره.

لقد ثمّ اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحدّ الآن ، وقد تمّ تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة ، وتمّ حساب حجمها ومقدار ومدّة حركتها حول الشمس ، ويعلّق علماء الفضاء أهميّة بالغه على الأستروئيدات ، حيث يعتقدون أنّ بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطّات للسفر إلى المناطق الفضائية النائية.

كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.

٢٩٦

ج ـ الشهب :

الشهب : أحجار سماوية صغيرة جدّا ، حتّى أنّ البعض منها لا يتجاوز حجم (البندقة) ، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاصّ حول الشمس وقد يتقاطع مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض ، ونظرا لسرعتها الخاطفة التي تتميّز بها ـ تصطدم بشدّة مع الهواء المحيط بالأرض ، فترتفع درجة حرارتها بشدّة فتشتعل وتتبيّن لنا كخطّ مضيء وهّاج بين طبقات الجوّ ويسمّى بالشهاب.

وأحيانا نتصوّر أنّ كلّ واحدة منها تمثّل نجمة نائية في حالة سقوط ، إلّا أنّها في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحوّل فيما بعد إلى رماد.

ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.

ويقول العلماء : إنّ الشهب هي بقايا نجمة مذنّبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها بسبب جملة عوامل غير واضحة وهذا نموذج آخر من الإنشقاق في الأجرام السماوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإنفجار والإنشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر الجديد ، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية ، ومن هنا فلا معنى حينئذ للقول بأنّ الإعجاز لا يمكن أن يتعلّق بالحال.

هذا كلّه عن مسألة الإنشقاق.

أمّا موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.

ورغم أنّ الإعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس) واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها ـ الواحدة على

٢٩٧

الاخرى ـ فأيّ جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا ، ولذلك فانّ أتباع هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعد ، كما أنّه لا يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر ، ومن ثمّ التئامه ، ولذلك أنكروا مسألة شقّ القمر ، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها للواقع ، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة ، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبّل مثل هذه الآراء.

وغني عن القول أنّ ظاهرة شقّ القمر كانت معجزة ، ولذا فإنّها لم تتأثّر بعامل طبيعي اعتيادي ، والشيء الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة ، لأنّ المعجزة لا تتعلّق بالأمر المحال.

٣ ـ شقّ القمر تاريخيّا :

لقد طرح البعض من غير المطّلعين إشكالا آخر على مسألة شقّ القمر ، حيث ذكروا أنّ مسألة شقّ القمر لها أهميّة بالغة ، فإذا كانت حقيقيّة فلما ذا لم تذكر في كتب التأريخ؟

ومن أجل أن تتوضّح أهميّة هذا الإشكال لا بدّ من الإلمام والدراسة الدقيقة لمختلف جوانب هذا الموضوع ، وهو كما يلي :

أ ـ يجب الالتفات إلى أنّ القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط ، وليس في جميعها ، ولذا فلا بدّ من إسقاط نصف مجموع سكّان الكرة الأرضية من إمكانية رؤية حادثة شقّ القمر وقت حصولها.

ب ـ وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإنّ أكثر الناس في حالة سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.

ج ـ ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من السماء ، وبذلك يتعذّر رؤية القمر لسكّان تلك المناطق.

٢٩٨

د ـ إنّ الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف الكليين الذي يقترن كلّ منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدّة طويلة.

لذلك فإنّ الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أنّ الغالبية من الناس لم تحط به علما ، اللهمّ إلّا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل المنجّمين ، بل يحدث أحيانا خسوف كلّي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.

لذا فإنّ علماء الفلك الذين يقومون بر صد الكواكب أو الأشخاص الذين يتّفق وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطّلعون على هذا الأمر ويخبرون الآخرين به.

وبناء على هذا ونظرا لقصر مدّة المعجزة (شقّ القمر) فلن يكون بالمقدور أن تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي ، خصوصا وأنّ غالبية الناس في ذلك الوقت لم تكن مهتّمة بمتابعة الأجرام السماوية.

ه ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث التأريخية في ذلك الوقت ، ومحدودية الطبقة المتعلّمة ، وكذلك طبيعة الكتب الخطيّة التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث المهمّة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كلّ أنحاء العالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف كلّ هذه الأمور لا بدّ من أخذها بنظر الإعتبار في محدودية الاطلاع على حادثة (شقّ القمر).

ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الاخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على نفيها.

٢٩٩

٤ ـ تأريخ وقوع هذه المعجزة :

من الواضح أنّه لا خلاف بين المفسّرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة شقّ القمر في مكّة وقبل هجرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الذي يستفاد من بعض الرّوايات هو أنّ حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) . في حين يستفاد من البعض الآخر أنّ حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي آخر عهده بمكّة ، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحقّ وأتباعه ، إذ أنّهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة(٢) .

ونقرأ في بعض الرّوايات أيضا أنّ سبب اقتراح شقّ القمر كان من أجل المزيد من الاطمئنان بمعاجز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها لم تكن سحرا لأنّ السحر عادة يكون في الأمور الأرضية(٣) . ومع ذلك فإنّ قسما من المتعصّبين والمعاندين لم يؤمنوا برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز ، وتتعلّلوا بأنّهم ينتظرون قوافل الشام واليمن ، فإنّ أيّدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا ومع إخبار المسافرين لهم بذلك ، إلّا أنّهم بقوا مصرّين على الكفر رافضين للإيمان(٤) .

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أنّ هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز الاخرى ذكرت في التواريخ والرّوايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات والأساطير ، ممّا أدّى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها ، كما في نزول قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإنّ من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها بدقّة وغربلة الصحيح من غيره ، حتّى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة بمقوّماتها الموضوعية.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤ حديث (٨).

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ حديث (١).

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٥ حديث (١٠).

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

مفهوم التحية يشمل ـ أيضا ـ التعامل الودي العملي بين الناس.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الباقر والصّادقعليهما‌السلام أن : «المراد بالتّحية في الآية السلام وغيره من البر».

وفي «المناقب» أنّ جارية أهدت إلى الإمام الحسنعليه‌السلام باقة من الورد فأعتقها،وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى :( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الردّ على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبّة سواء كانت بالقول أو بالعمل ـ وتبيّن الآية في آخرها أنّ الله يعلم كل شيء ، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها ، وأنّه لا يخفى عليه شيء أبدا ، حيث تقول :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

السّلام ، تحية الإسلام الكبرى :

لا يخفى أنّ لكل جماعة إنسانية تقاليد خاصّة في التحية لدى التلاقي فيما بينهم ، بها يتبادلون مشاعر الحبّ والصفاء ، والمودة ، والتحية كما هي صيغة لفظية يمكن أن تكون ـ أيضا ـ حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحبّ والودّ المتبادلة.

وقد جاء الإسلام بكلمة «السّلام» مصطلحا للتحية بين المسلمين ، والآية موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية ، لكن المصداق الأوضح والأظهر لها يتجسد في كلمة «السّلام».

وبناء على ذلك فإنّ المسلمين مكلّفون بردّ السّلام بأحسن منه ، أو على الأقل بما يماثله.

وفي آية أخرى إشارة واضحة إلى أنّ السّلام هو التحية حيث تقول :( فَإِذا

٣٦١

دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (١) ويمكن الاستدلال من هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم» هي في الأصل «سلام الله عليكم» أي ليهبك الله السلامة والأمن ، وهكذا يتّضح لنا أنّ السلام يعتبر دلالة على الحبّ والود المتبادل ، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.

وقد دلت آيات قرآنية أخرى على أنّ السّلام هو تحية أهل الجنّة ، حيث يقول سبحانه :( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً ) (٢) . ويقول تعالى:( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) (٣) .

كما أنّ آيات قرآنية أخرى دلت على أنّ السلام أو أي صيغة أخرى تعادله ، كان سائدا بين الأقوام التي سبقت الإسلام ، وهذا هو ما تشير إليه الآية (٢٥) من سورة الذاريات في قصة إبراهيم مع الملائكة حيث تقول :( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان ـ أيضا ـ تحية أهل الجاهلية(٤) .

إنّ تحية الإسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة ، لدى مقارنتها بما لها من نظائر لدى الأمم والأقوام الاخرى.

النصوص الإسلامية تؤكد كثيرا على السّلام والتّحية، حيث یروى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه»(٥) .

__________________

(١) النّور ، ٦١.

(٢) الفرقان ، ٧٥.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) روي أن «نوبة» وهو من شعراء الجاهلية قال :

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت

علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

(٥) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

٣٦٢

كمايروى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الله يقول : «البخيل من يبخل بالسّلام»(١)

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الله يحبّ إفشاء السلام»(٢) .

وقد ورد في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام ، منها أنّ السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إطار الأصدقاء والأقارب ، فقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل : أي العمل خير : فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف»(٣) .

كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل ، والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمنا ، وقد يكون الأمر حثّا على التزام التواضع ، ونهيا عن التكبر أو محاربة له ، فالتكبر غالبا ما يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسّلام ، وبذلك يضفون على هذا الأمر طابعا استعباديا وثنيا ، بينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل من يبادر الآخرين بالسلام ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدئ بالسلام حتى على الصبية الصغار ، وبديهي أنّ هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حثّ صغار السن على مبادرة كبارهم بالسلام والتحية والاحترام ، لأنّ هذا السلوك يعتبر نوعا من الآداب الإنسانية الحميدة ، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.

ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السّلام على المرابين والفاسقين وأمثالهم،ويعتبر هذا الأمر سلاحا لمحاربة الفساد والربا ، أمّا إذا كان السلام يؤدي إلى التأثير على المفسد والمنحرف ، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد والانحراف ، فلا مانع منه ولا بأس به.

__________________

(١) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(٢) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، في هامش الآية.

٣٦٣

ولا يفوتنا هنا أن نوضح أنّ المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب السلام بعبارات مثل «ورحمة الله» أو «ورحمة الله وبركاته».

ورد في تفسير «الدّر المنثور» أنّ شخصا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : السّلام عليكم. فإجابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السّلام ورحمة الله. ثمّ جاءه آخر وقال :السّلام عليكم ورحمة الله.

فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال :السّلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعليك» ـ وعند ما سئل عن علّة هذا الجواب القصير ، قال : إنّ القرآن يقول : إذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها ، ولكنك لم تبق شيئا»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ردّ التحية بأحسن منها في الموردين السابقين ، أمّا في المورد الثّالث ردّها بالمساوي كلمة «وعليك» تعني أنّ كل ما قلته لي مردود عليك.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٨.

٣٦٤

الآية

( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً(٨٧) )

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات ، فالآية السابقة بعد أن أمرت بردّ التحية قالت :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمّة هي قضية يوم البعث والحساب،حيث محكمة العدل الإلهية العامّة للبشر أجمعين ، وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وعبارة( لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) تدلّ على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلّهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان ٩٣ و ٩٤ من سورة مريم) أشير أيضا إلى هذه الحقيقة حقيقة بعث جميع عباد الله ـ من سكن منهم على هذه الكرة الأرضية أو على كرات أخرى ـ في يوم واحد.

وعبارة( لا رَيْبَ فِيهِ ) الواردة في الآية وفي آيات أخرى ، إنّما هي إشارة

٣٦٥

إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة ، مثل دليل «قانون التكامل» و «حكمة الخلق» و «قانون العدل الإلهي» ، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ الله هو أصدق الصادقين :( مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ) من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من بعث ونشور وغيره من الوعود ، فالكذب لا يصدر إلّا عن جهل أو ضعف وحاجة ، والله أعلم العالمين ، وإليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إلى أحد مطلقا ، فهو منزّه عن صفات الجهل والضعف والعجز ، ولذلك فهو أصدق الصادقين ، بل إن الكذب بالنسبة إلى الله تعالى لا مفهوم له إطلاقا.

* * *

٣٦٦

الآية

( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفرا من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين ، وأحجموا لذلك عن الهجرة إلى المدينة،وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين ، إلّا أنّهم اضطروا في النهاية إلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين ، كما حسبوا أن دخولهم إلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين ـ لكن المسلمين انتبهوا الى حقيقة هؤلاء ، غير أنّهم انقسموا إلى فئتين ، فئة منهم رأت ضرورة طرد أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإسلام ، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأمور دون باطنها ، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية

٣٦٧

ولمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّبوة ، وقالوا : أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين : فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها ، وترشدها إلى طريق الحقّ الصواب(١) .

التّفسير

استنادا إلى سبب النزول الذي ذكرناه ، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها ، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين.

فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين ، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين ، حيث تقول :( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) (٢) وتنهي المسلمين عن الاختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم ، وتعاونوا مع المشركين،وأحجموا عن مشاركة المجاهدين ، فظهر بذلك نفاقهم ، ودلت على ذلك أعمالهم،فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإيمان ، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء ، وقد أكّدت الآية السابقة أن :( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ) .

وتبيّن الآية بعد ذلك : إنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح،وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه :( ... وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ) (٣) .

__________________

(١) ذكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها ، وقيل أنّها نزلت في واقعة أحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول ، بل تنسجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه.

(٢) في هذه الجملة ، جملة أخرى محذوفة تتضح لدى الإمعان في الأجزاء الاخرى من الآية والتقدير : «فما لكم تفرقتم في المنافقين فئتين ...».

(٣) «أركسهم» : من ركس وهو قلب الشيء على رأسه ، وتأتي أيضا بمعنى ردّ أوّل الشيء إلى آخره.

٣٦٨

وتدل عبارة «بما كسبوا» على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة ، إنّما يتمّ بعمل الإنسان وفعله ، وحين ينسب الإضلال إلى الله سبحانهعزوجل ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.

وفي الختام تخاطب الآية أولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين ، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه ، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) .

إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه وهذه سنة إلهية فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق ، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء الله؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل(١) .

* * *

__________________

(١) في المجلد الأول من هذا التّفسير بحث عن الهداية والضلالة ، فراجعه.

٣٦٩

الآية

( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٨٩) )

التّفسير

لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم ، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام ، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين :( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ) .

ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار ، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين ، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائما لإفساد المعتقدات ، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبدا ، تقول الآية الكريمة :( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ ) إلّا إذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

٣٧٠

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير ، ويثبتوا صدقهم فيه ، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية:( حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق ، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّا من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.

وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم ، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر ، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول :( لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع ، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة ما لم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإخلاص ، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.

والطريف هنا أنّ الإسلام ـ مع اهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم ـ نراه يشدد كثيرا في التحذير من خطر المنافقين ، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة ، ورغم تظاهرهم بالإسلام يصرح القرآن بأسرهم ، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.

وما هذا التشديد إلّا لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإسلام تحت ستار الإسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.

٣٧١

سؤال :

قد يرى البعض أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه ، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق ، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة.

الجواب :

الحقيقة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع هذا الأسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإسلام ، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أسلوبا غير هذا.

* * *

٣٧٢

الآية

( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) )

سبب النّزول

وردت روايات عديدة تفيد أنّ إثنتين من القبائل العربية في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما قبيلتا «بني ضمرة» و «أشجع» كانت إحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت مع النّبي اتفاقا بترك النزاع ، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأولى دون أن تعقد مثل هذا الاتفاق مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا يشككون في وفاء «بني ضمرة» للمسلمين ، واقترحوا على النّبي أن يهاجم هذه القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين ،فرد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «كلّا ، فإنّهم أبر العرب بالوالدين،وأوصلهم للرّحم ، وأوفاهم بالعهد».

وبعد فترة علم المسلمون أنّ قبيلة «أشجع» وعلى رأسها «مسعود بن رجيلة» قد وصلت حتى مشارف المدينة ، وهي في سبعمائة رجل ، فبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفدا للتعرف على سبب مجيئهم إلى ذلك المكان ، فأجابت هذه القبيلة

٣٧٣

بأنّها جاءت لكي تعقد اتفاقا مع المسلمين مماثلا لاتفاق «بني ضمرة» معهم ، وما أن علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقدارا من التمر هدية لهذه القبيلة ، ثمّ التقى بهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بأنّهم لعجزهم عن موازرة المسلمين في قتال الأعداء ، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين ، لما تربطهم بهم من صلة الجوار ، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين بتحريم العدوان بينهما ، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبيّن للمسلمين ما يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.

ويقول مفسرون آخرون إنّ قسما من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة «بني مدلج» التي جاءت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرته أنّها تريد الاتفاق معه على عدم اللجوء إلى العدوان فيما بينهما ، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه المسلمين ودعوتهم.

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم :

بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام ، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين :

١ ـ من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

٢ ـ من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين ، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) .

ومن الواضح أنّ أفراد الطائفة الأولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا

٣٧٤

القانون احتراما للعقود والعهود ، وأمّا المجموعة الثانية ـ وإن لم تكن معذورة ، بل عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته ـ فقد أعلنت حيادها ، ولذلك فمجابهتها يتعارض مع مبادئ العدالة والمروءة.

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إزاء كل هذه الانتصارات الباهرة ، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم ، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) .

وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار ، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة ، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضررا لأنفسهم.

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم ، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) .

يلفت النظر أنّ القرآن في هذا الموضع ومواضع أخرى يذكر مقترح السلام بعبارة «إلقاء السلام» وقد يكون ذلك إشارة إلى التباعد بين الجانبين المتنازعين قبل الصلح ، حتى أنّ أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على الجانب الآخر.

* * *

٣٧٥

الآية

( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) )

سبب النّزول

لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآية ، وأشهرها هو أنّ نفرا من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتظاهرون بالإسلام كذبا وخداعا ، وما أن يرجعوا إلى قريش يعودون لعبادة الأصنام ، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءا لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم ، بالإضافة إلى سعيهم لإمرار مصالحهم لدى الطرفين ، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين :

إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها

٣٧٦

الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها ، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين،همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين ، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع ، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة:( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. ).

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكسا على رؤوسهم( كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ).

وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إيذاء المسلمين ، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.

وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من انتقام المسلمين ، وهذه الشروط هي : اعتزال المسلمين ، أو مصالحتهم ، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) .

وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد ، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا ، كما تقول الآية:( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) .

ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء ، تقول الآية في الخاتمة :( أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) .

وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين ، وقد يكون سلطانا ماديا ظاهريا عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.

وتشير عبارة «ثقفتموهم» الواردة في الآية إلى احتياج المسلمين إلى الدقة

٣٧٧

والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة ، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والانفلات من العقاب ، فعبارة «ثقفتموهم» مشتقة من المصدر «ثقافة» الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة ، بينما الفعل «وجد» يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.

* * *

٣٧٨

الآية

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) )

سبب النّزول

ذكروا أنّ مشركا من أهل مكّة وهو «الحارث بن زيد» كان يعذب أحد المسلمين ـ ولفترة طويلة ـ بالتعاون مع أبي جهل ، وكان اسم هذا المسلم «عياش بن أبي ربيعة» ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه ، بل كان يعذب لمجرّد أنّه آمن بالإسلام ، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر «عياش» إليها ، فصادف يوما «الحارث بن زيد» في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنّا منه أنّه ما زال عدوا للمسلمين ، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم ، فعلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحادث ، فنزلت الآية الشّريفة وهي تبيّن حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.

٣٧٩

التّفسير

أحكام القتل النّاتج عن الخطأ :

لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام ، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين ، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا ، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق ، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء ، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد ، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام ، تقول الآية الكريمة :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) .

هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق ، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا ، لأنّ المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد ، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلّا خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.

وعبارة «إلّا خطأ» لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق ، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطئه أنّها ـ إذن ـ تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلّا عن خطأ.

ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع :

فالنّوع الأوّل : هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما ، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فلبس على القاتل أن يدفع شيئا :( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ).

والنّوع الثّاني : من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما ،

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710