الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173417 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض ، ولكنه لا يفعل شيئا بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع :( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ) (١) .

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان ، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفرا أبدا ، فتقول الآية :( أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ) (٢) .

* * *

__________________

(١) الغرور يعني في الأصل الأثر الواضح للشيء ، ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه ، ويطلق على كل شيء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

(٢) المحيص مشتق من المصدر «حيص» ويعني العدول والانصراف عن الشيء ، وعلى هذا الأساس فإن المحيص هو وسيلة الانصراف والفرار.

٤٦١

الآية

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) )

التّفسير

لقد بيّنت الآيات السابقة أنّ الذين يتخذون الشيطان وليا لهم ، إنّما ينالهم ضرر واضح ومبين ، وأنّ الشيطان يعدهم زيفا وخداعا ويلهيهم بالأمنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة ، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير.

أمّا في هذه الآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ فقد بيّنت مقابل أولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة ، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها ، حيث تقول الآية :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبدا ، وليست كنعم الدنيا الزائلة ، فالمؤمنون في الجنّة يتمتعون بما أوتوه من خير دائما أبدا ، تؤكّد هذه بعبارة( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) .

وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة ، حيث تقول الآية :

٤٦٢

( وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) .

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع ـ أبدا ـ أن يكون أصدق قولا من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه ، كما تقول الآية :( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً ) وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات.

* * *

٤٦٣

الآيتان

( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) )

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير أخرى ـ أنّ المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض ، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيّهم قد بعث قبل نبيّ الإسلام وإن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين ، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأنّ نبيّهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه هو آخر الكتب السماوية وأكملها.

وفي رواية أخرى ، نقل أنّ اليهود كانوا يدعون أنّهم هم الشعب المختار ، وأنّ نار جهنم لا تمسّهم إلّا لأيّام معدودات ، كما ورد في سورة البقرة ـ الآية (٨٠)( وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) وأن المسلمين كانوا يقولون ، ردّا على كلام اليهود هذا:بأنّهم خير الأمم لأنّ الله قال في شأنهم :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

٤٦٤

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (١) ولذلك نزلت الآية الأخيرة هذه ودحضت كل تلك الدعاوى وحددت قيمة كل شخص بما يقوم به من أعمال.

التّفسير

امتيازات حقيقية وأخرى زائفة :

لقد بيّنت هذه الآية واحدا من أهم أعمدة أو أركان الإسلام ، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب ، لا تمت بصلة إلى دعاوى وأمنيات هذا الإنسان مطلقا ، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان وإيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت ، وسنّة غير قابلة للتغيير ، وقانون تتساوى الأمم جميعها أمامه ، ولذلك تقول الآية في بدايتها :( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ) وتستطرد فتقول :( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

وكذلك الذين يعلمون الخير ، ويتمتعون بالإيمان ، سواء أكانوا من الرجال أو النساء ـ فإنّهم يدخلون الجنّة ولا يصيبهم أقل ظلم أبدا ، حيث تقول الآية :( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (٢) .

وبهذه الصورة يعمد القرآن إلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة ، معتبرا الاعتبارات والارتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية ، ويعتبر الإيمان بمبادئ الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

وفي تفسير الآية الأولى من الآيتين الأخيرتين حديث نقلته مصادر الشيعة

__________________

(١) آل عمران ، ١١٠.

(٢) لقد أوضحنا المراد من عبارة «نقير» في تفسير الاية ٥٣ من نفس هذه السورة.

٤٦٥

والسنّة ، مفاده أنّ المسلمين حين نزلت هذه الآية استولى عليهم الرعب وأخذوا يبكون خوف ، لمعرفتهم بأنّ الإنسان معرض للخطأ ويحتمل كثيرا صدور ذنوب منه ، فلو فرض عدم وجود عفو أو غفران وأن يؤاخذ كل إنسان بجريرته ، فإنّ الأمر سيكون في غاية الصعوبة ، لذلك لجؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروا له أن هذه الآية قد أفقدتهم كل أمل ، فأقسم النّبي لهم بالله أنّه ما جاءت به الآية هو الصحيح ، ولكنه بشّرهم بأنّها ستكون خير محفز لهم للتقرب إلى الله والقيام بالأعمال الصالحة ، وإنّ ما سيصيبهم من محن ومصائب وآلام حتى لو كانت من وخز شوكة سيكون كفارة لذنوبهم(١) .

سؤال :

من الممكن أن يستدل البعض من الجملة القرآنية التالية :( وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) على أنّ قضية الشفاعة ونظائرها قد ألغيت بهذه الآية بصورة تامّة،فيعتبرونها دليلا لإلغاء الشفاعة بصورة مطلقة.

الجواب :

لقد أشرنا سابقا إلى أن الشفاعة لا تعني أنّ الشفعاء من أمثال الأنبياء والأئمة والصالحين لهم جهاز أو تنظيم مستقل يقابل قدرة الله ، بل الصحيح هو أنّ الشفعاء لا يشفعون لأحد إلّا بإذن الله ، وعلى هذا الأساس فإنّ مثل هذه الشفاعة ستعود في النهاية إلى الله وتعتبر فرعا من ولاية ونصرة وعون الله.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥٣.

٤٦٦

الآيتان

( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً(١٢٦) )

التّفسير

لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإيمان والعمل ، كما بيّنت أن اتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع الله لا يغني عن الإنسان شيئا ، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة ، فأوضحت أفضلية شريعة الإسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة ، حيث قالت( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) .

ومع أنّ هذه الآية قد جاءت بصيغة الاستفهام ، إلّا أنّها تهدف إلى كسب الاعتراف من السامع بالحقيقة التي أوضحتها.

لقد بيّنت الآية ـ موضوع البحث ـ أمورا ثلاثة تكون مقياسا للتفاضل بين الشرائع وبيانا لخيرها :

١ ـ الاستسلام والخضوع المطلق لله العزيز القدير ، حيث تقول الآية :( أَسْلَمَ

٤٦٧

وَجْهَهُ لِلَّهِ ) (١) .

٢ ـ فعل الخير ، كما تقول الآية :( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) والمقصود بفعل الخير ـ هنا ـ كل خير يفعله الإنسان بقلبه أو لسانه أو عمله ، وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكره صاحب تفسير الثقلين في تفسيره للآية ـ هذه ـ وهو جواب لمن سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحديد معنى الإحسان،فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

فالإحسان في هذه الآية هو كل عمل ينجزه الإنسان ويقصد به التعبد لله والتقرب إليه ، وأن يكون الإنسان لدى إنجازه لهذا العمل قد جعل الله نصب عينيه ، وكأنّه يراه ، فإن كان هو يعجز عن رؤية الله فإن الله يراه ويشهد على أعماله.

٣ ـ إتّباع شريعة إبراهيم النقية الخالصة ، كما في الآية :( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (٢) .

ودليل الاعتماد على شريعة إبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها : إذ تقول:( وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ) .

ما هو معنى الخليل؟

إنّ كلمة «خليل» قد تكون مشتقة من المصدر «خلّة» على وزن «حجّة» الذي يعني الصداقة ، وقد يكون اشتقاقها من المصدر «خلة» على وزن «ضربة» بمعنى الحاجة.

__________________

(١) الوجه في اللغة هو مقدمة الرأس ، أو ذلك الجزء من البدن الذي يشمل الجبهة والعينين والأنف والفم والجبين، ولما كان الوجه بمثابة مرآة لروح الإنسان وقلبه ، وفيه الحواس التي تربط باطن الإنسان بالعالم الخارجي،لذلك جاء في الآية التعبير عنه بذات الإنسان ونفسه.

(٢) إنّ عبارة «ملّة» الواردة في الآية أعلاه تعني «الشريعة أو الدين» والفرق بين الملّة والدين أن الأولى لا تنسب إلى الله ، أي لا يقال «ملّة الله» ويمكن أن تضاف إلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إلى لفظ الجلالة فيقال : «دين الله» أو «شريعة الله» كما يمكن إضافتهما إلى النّبي أيضا ، وعبارة «حنيف» تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

٤٦٨

وقد اختلف المفسّرون في أي المعنيين أقرب إلى مفهوم الآية موضوع البحث.

فرأى البعض منهم أنّ المعنى الثّاني أقرب لحقيقة هذه الآية ، لأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يؤمن بأنّه محتاج إلى الله في كل شؤونه بدون استثناء ، ولكن مفسّرين آخرين يرون أنّه ما دامت الآية تتحدث عن منزلة وهبها الله لنبيه إبراهيم فالمقصود بكلمة «الخليل» الواردة هو «الصديق» لأننا لو قلنا أنّ الله قد انتخب إبراهيم صديقا له ، يكون أقرب كثيرا إلى الذهن من قولنا أن الله انتخب إبراهيم ليكون محتاجا إليه. لأنّ الحاجة إلى الله لا تقتصر على إبراهيم وحده ، بل يشاركه ويساويه فيها جميع المخلوقات ، فالكل محتاجون إلى الله دون استثناء،وكان تقول الآية (١٥) من سورة فاطر :( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) وهذا على عكس الصداقة والخلّة مع الله التي لا يتساوى فيها كل المخلوقات.

وفي رواية عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «أنّه (الله) إنّما اتّخذ إبراهيم خليلا لطاعته ومسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلته» وتدل هذه الرواية(١) أيضا بأن عبارة «خليل» الواردة في الآية المذكورة إنّما تعني الصديق ولا تعني غيره.

وعلى هذا الأساس لنرى ما الذي امتاز به إبراهيم لينال هذه المنزلة العظيمة من الله،لقد ذكرت الروايات الواردة في هذا المجال عللا مختلفة تكون بمجملها دليلا لهذا الانتخاب ، ومن هذه الروايات قول الإمام الصّادقعليه‌السلام «إنّما اتّخذ الله إبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحدا ولم يسأل أحدا غير الله»(٢) .

وتفيد روايات أخرى أن إبراهيم قد حاز هذه الدرجة لكثرة سجوده لله ، وإطعامه للجياع وإقامة صلاة الليل ، أو لسعيه في طريق مرضاة الله وطاعته.

__________________

(١) مجمع البيان في هامش الآية الشريفة.

(٢) عيون أخبار الرضا ، وتفسير الصافي في هامش الآية المذكورة وفي تفسير البرهان الجزء الأوّل ، ص ٤١٧.

٤٦٩

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية الله والمطلقة وإحاطته بجميع الأشياء ، حيث تقول :( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ) وهذه إشارة إلى أنّ الله حين انتخب إبراهيم خليلا له ، ليس من أجل الحاجة إلى إبراهيم فالله منزّه عن الاحتياج لأحد ، بل أن هذا الإختيار قد تمّ لما لإبراهيم من صفات وخصال وسجايا طيبة بارزة لم توجد في غيره.

* * *

٤٧٠

الآية

( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) )

التّفسير

عود على حقوق المرأة :

تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمينوبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبيّن له أنّ الله هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إليك يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول الأحكام الخاصّة بحقوق النساء ، فتقول :( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ).

وتضيف الآية إنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهنّ ، ولم تكونوا لتتزوجوا بهنّ ، ولم تدفعوا أموالهنّ إليهنّ لكي يتزوجن من آخرين، فإنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعلمون من ظلم بحق هؤلاء النسوة ،( وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى

٤٧١

النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ). (١) .

ثمّ توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإرث وفق التقاليد الجاهلية ، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم ، حيث تقول :( وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ) .

كما تعود الآية فتكرر التأكيد على حقوق اليتامى ، فتذكر أن الله يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى :( وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ ) .

وفي الختام تجلب الآية الانتباه إلى أن أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إذا كان في حق اليتامى والمستضعفين ـ فإنّه لا يخفى على الله ـ وإنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية ، حيث تقول الآية :( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً ) .

هذا ويجب الالتفات إلى أنّ عبارة( يَسْتَفْتُونَكَ ) مشتقة من المصدر «فتوى» أو «فتيا» ومعناها الإجابة على كل سؤال معضل ، ولما كانت هذه الكلمة تعود في الأصل إلى كلمة «فتى» أي الشاب اليافع ، فمن الممكن أن الفتوى كانت تستخدم للتعبير عن الإجابة على الأسئلة المستحدثة ، وبعد ذلك أصبحت تطلق بصورة شاملة على كل أنواع الأجوبة الخاصّة بالمسائل المنتخبة.

* * *

__________________

(١) بناء على التّفسير الذي أوردناه بشأن الآية أعلاه يتبيّن لنا أنّ عبارة «ما يتلى» مبتدأ وخبرها جملة «يفتيكم فيهنّ» التي حذفت للقرينة الموجودة في القسم السابق من الآية. كما أنّ عبارة «ترغبون» هنا تعني عدم الميل والرغبة ، حيث تشير القرائن إلى تقدير «عن» بعد عبارة «ترغبون» في هذه الآية والفرق بين «رغب عنه» و «رغب فيه» واضح.

٤٧٢

الآية

( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) )

سبب النّزول

لقد ورد في الكثير من كتب التّفسير والحديث ، في سبب نزول هذه الآية ، أنّه كان في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخص يدعى «رافع بن خديج» وكانت له زوجتان ، إحداهما كبيرة السن عجوز ، والأخرى شابة ، فطلق «رافع» زوجته العجوز (اثر خلافات بينهما) لكنه ـ قبل أي تنتهي عدّتها ـ عرض عليها الصلح مشترطا عليها أن لا تضجر إذا قدم عليها زوجته الشابة ، أو أن تصبر حتى تنتهي عدتها فيتم الفصل والفراق بينهما ، فقلبت زوجته العجوز الشرط أو الاقتراح الأوّل ، فاصطلحا ، فنزلت هذه الآية الكريمة مبيّنة حكم هذا العمل.

٤٧٣

التّفسير

الصّلح خير :

لقد قلنا سابقا ـ في هامش الآيتين (٣٤ و ٣٥) من نفس سورة النساء ـ إنّ كلمة «نشوز» مشتقة من المصدر «نشز» بمعنى «الأرض المرتفعة» وحين تستخدم هذه العابرة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك «التكبر» و «الطغيان».

وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة ، وفي هذه الآية إشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إذا أحست من زوجها التكبر والإعراض عنها ، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها ، وتتصالح مع زوجها ، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع ، فتقول :( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ) .

ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعا وعن طيب خاطر ومن غير إكراه فلا ذنب في هذا العمل ، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة «فلا جناح» أي لا ذنب،للدلالة على الحقيقة المذكورة.

وعند النظر إلى سبب نزول الآية ، نستخلص منها مسألتين فقهيتين :

الأولى : إنّ حكما مثل تقسيم أيّام الأسبوع بين الزوجات ، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم ، ولذلك فبإمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إذا شاءت أو بصورة جزئية.

والمسألة الثّانية : إنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال ، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن ، حيث تقول :( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية ، لكنها تبيّن قانونا كليا عاما شاملا ، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات ، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإنسانية السليمة ، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إلّا في

٤٧٤

الحالات الاستثنائية الطارئة.

وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة ، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع.

وقد كان هذا النوع من التفكير سببا في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة ، لكن الإنسان لا يقاس بالحيوانات الأخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإحساس ، وإنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع ، ومن حيث المبدأ فإن الصراع من أجل البقاء حتى في الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل(١) .

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إلى أنّ الإنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل ، بحيث أنّ كل إنسان يسعى إلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها ، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع ، تقول الآية :( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ ) .

ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة ، وسعوا لإصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح،فسوف لا يؤدي هذا إلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب ، بل سيؤدي أيضا إلى إنهاء الكثير من الصراعات الاجتماعية.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية ، وجه الخطاب إليهم في نهايتها ودعوا إلى فعل الخير والتزام التقوى ، ونبهوا إلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائما فليحذروا الانحراف عن جادة الحق والصواب ، تقول الآية في هذا المجال :( وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) .

* * *

__________________

(١) من أجل معرفة تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع راجع الجزء الثّاني من هذا التّفسير في فصل «الصراع من أجل البقاء».

٤٧٥

الآيتان

( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) )

التّفسير

العدالة شرط في تعدد الزّوجات :

نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة ـ التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إلى فعل الخير والتزام التقوى ـ إنّها تعتبر نوعا من التهديد للأزواج من الرجال،بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم.

وقد يرد اعتراض وهو : إنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال ، فكيف يمكن إذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟

وردا على الاعتراض المذكور توضح الآية (١٢٩) من سورة النساء ، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ بين الزوجات أمر غير ممكن ، مهما بذل الإنسان من سعي في هذا المجال فتقول الآية :( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ

٤٧٦

حَرَصْتُمْ ) ويتبيّن من عبارة( وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) هذه وجود أشخاص بين المسلمين كانوا يسعون كثيرا لتحقيق تلك العدالة المطلوبة ، ولعل سعيهم ذلك كان من أجل الحكم المطلق الذي طالب المسلمين باتّباع العدل من زوجاتهم والذي ورد في الآية الثّالثة من سورة النساء،التي تقول :( ... فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) .

بديهي أنّ أي حكم سماوي لا يمكن أن ينزل على خلاف فطرة البشر ، كما لا يمكن أن يكون تكليفا بما لا يطاق ، ولمّا كانت العلاقات القلبية تنتج عن عوامل يكون بعضها خارجا عن إرادة الإنسان ، لم يحكم الله بتحقيق العدالة في مجال الحبّ القلبي بين الزوجات،أمّا فيما يخص الأعمال وأسلوب التعامل ورعاية الحقوق بين الأزواج ممّا يمكن للإنسان تحقيقه ، فقد تمّ التأكيد على تحقيق العدالة فيه.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم ، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإحدى الزوجات إذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبّهم لهنّ جميعا ، كي لا يضيع حق الأخريات ولا يحرن في أمرهنّ ما ذا يفعلن! حيث تقول الآية :( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ).

وتحذر الآية في آخرها أولئك الذين يجحفون في حقّ زوجاتهم ، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإصلاح والتقوى ، ويعرضوا عمّا فات في الماضي ، كي يشملهم الله برحمته وعفوه،فتقول الآية :( وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ).

لقد وردت روايات اشتملت على مواضيع تخص مسألة تحقيق العدالة بين الزّوجات،وتبيّن عظمة هذا الحكم والقانون الإسلامي.

من هذه الروايات ما روي عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان له امرأتان ، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الاخرى»(١) .

__________________

(١) تفسير التبيان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٥٠.

٤٧٧

وروي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عنءابائهعليهم‌السلام «أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقسم بين نسائه في مرضه ، فيطاف به بينهن».(١)

وكان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاخرى؟(٢) أي أيّهما يقدم أوّلا في الدفن لكي يتجنب ما من شأنه أن يخدش العدل المفروض اتباعه بين الزوجات.

جواب على سؤال ضروري :

كنّا قد نوّهنا ـ في هامش الآية (٣) من نفس هذه السورة ـ بأنّ بعضا ممن ليس لهم علم استنتجوا ـ من ضم تلك الآية إلى هذه الآية ـ أن تعدد الزوجات مشروط بتحقيق العدالة بينهنّ ، وأنّه لمّا كان تحقيق العدالة أمرا غير ممكن ، فلذلك قالوا بأنّ الإسلام قد منع تعدد الزوجات.

ويفهم من الروايات الإسلامية أنّ أوّل من طرح هذا الرأي هو «ابن أبي العوجاء» وكان من أصحاب المذهب المادي ، ومن المعاصرين للإمام الصّادقعليه‌السلام ، وجاء طرحه لرأيه هذا في نقاش له مع المفكر الإسلامي المجاهد «هشام بن الحكم» فلما أعيى «هشاما» الجواب توجه من بلدته الكوفة إلى المدينة المنورة «لمعرفة الجواب» فقدم على الإمام الصّادقعليه‌السلام فتعجب الإمام من مقدمه قبل حلول موسم الحج أم العمرة ، ولكن هشاما أخبر الإمام بسؤال ابن أبي العوجاء ، فكان جواب الإمام الصّادقعليه‌السلام على السؤال هو أنّ المقصود بالعدالة الواردة في الآية الثّالثة من سورة النساء ، هي العدالة في النفقة (وضرورة رعاية الحقوق الزوجية وأسلوب التعامل مع الزوجة) أمّا العدالة الواردة في الآية (١٢٩) من نفس السورة (والتي اعتبر تحقيقها أمرا مستحيلا) فالمقصود بها العدالة في

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

٤٧٨

الميول القلبية ، (وعلى هذا الأساس فإن تعدد الزوجات ليس ممنوعا ولا مستحيلا إذا روعيت فيه الشروط الإسلامية) ، فلما رجع هشام بالجواب إلى ابن أبي العوجاء حلف هذا الأخير أن هذا الجواب ليس من عندك.

ومعلوم أنّ تفسيرنا لكلمتي العدالة ـ الواردتين في الآية الثّالثة والآية (١٢٩) من سورة النساء ـ بمعنين يختلف أحدهما عن الآخر ، إنّما هو للقرينة الواضحة الواردة مع كل من الآيتين المذكورتين ، لأنّ الآية الأخيرة تأمر الإنسان أن لا يميل ميلا شديدا لإحدى زوجاته ويترك الأخريات في الحيرة من شأنهنّ ، ولهذا فهي تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا يحصل إجحاف بحق إحداهنّ لحساب الأخرى ، مع الإذعان باستحالة تحقق المساواة في الحب القلبي لكلا الزوجتين ، أمّا في الآية الثّالثة من سورة النساء فقد ورد التصريح في أوّلها بجواز تعدد الزوجات.

أمّا الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، فهي تشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين ـ الزوج والزوجة ـ واستحال الإصلاح بينهما،فإنّهما ـ والحالة هذه ـ غير مرغمين على الاستمرار في مثل هذه الحياة المرّة الكريهة،بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل ، لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإن الله العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته ، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل ، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال :( وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً ) .

* * *

٤٧٩

الآيات

( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) )

التّفسير

لقد أوضحت الآية السابقة أن إذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن يجدا حلا بديلا عن الانفصال فلا مانع من ذلك ، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل ، لأن الله سيشملهما بكرمه وفضله ، ويزيل احتياجاتهما برحمته وبركته.

أمّا في الآية ـ موضوع البحث ـ فإنّ الله يؤكّد قدرته على إزالة ورفع تلك الاحتياجات،لأنّه مالك ما في السموات وما في الأرض( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) وإنّ من يملك ملكا لا نهاية له كهذا الملك ، ويملك قدرة لا نفاذ

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

أدّاه زاده و من قصّر عنه خاطر بزوال النعمة ، فليركم اللَّه .(١) » .

و حينئذ فليكونوا وجلين من تقصيرهم في شكر النعمة كما ينبغي فيستحقوا سلبها و اخذهم بعقوبة كفرانها .

« انه من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا » جعل ( التحف ) هذا الكلام . خبرا مستقلا ، و هو الوجه لأن التوسعة أعمّ من النعمة ، و إذا كانت استدراجا فهي نقمة ، قال تعالى( فَلمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِه فَتَحنا عَليهم أَبوابَ كُلِّ شي‏ءٍ حَتّى إذا فَرحوا بما اُوتُوا أخذناهُم بَغتةً فإذا هم مُبلِسون ) (٢) ( و الَّذينَ كَذّبُوا بآياتنا سَنَستَدرجُهم مِن حيثُ لا يَعلَمون ) .

( و اُملي لَهُم إِنّ كَيدي متين ) (٣) ( فَذَرني و من يُكَذّب بهذا الحَديث سنَستَدرجُهم من حَيثُ لا يَعلَمُون و اُملي لَهُم إِنَ كَيدي مَتينٌ ) (٤) .

« و من ضيّق عليه فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيّع مأمولا » بدل ( التحف ) قوله « فلم ير ذلك اختبارا » بقوله « فلم يظن ان ذلك حسن نظر من اللَّه » و هو المناسب لقوله « فقد ضيّع مأمولا » ، فإنّما المأمول حسن نظره تعالى لعبده لا اختباره له ، و لعلّ اختباره سبب ضلاله .

و أما كون التضييق حسن نظر منه تعالى لعبده ففي ما ناجى موسى كما روى ( الكافي ) يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين ، و إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجّلت عقوبته(٥) .

و عن الصادقعليه‌السلام : إن اللَّه تعالى ليعتذر إلى عبده المؤمن المحوج في

____________________

( ١ ) تحف العقول : ١٤٢ .

( ٢ ) الأنعام : ٤٤ .

( ٣ ) الأعراف : ١٨٢ ١٨٣ .

( ٤ ) القلم : ٤٤ ٤٥ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٦٣ ح ١٢ .

٥٨١

الدّنيا كما يعتذر الأخ إلى أخيه ، فيقول : و عزتي و جلالي ما أحوجتك في الدّنيا من هو ان كان بك عليّ فارفع هذا السجف فانظر إلى ما عوّضتك من الدنيا ، فيرفع فيقول ما ضرّني ما منعتني مع ما عوّضتني(١) .

و في خبر آخر : فمن زود أحدكم في دار الدّنيا معروفا فخذوا بيده و ادخلوه الجنة ، و لكلّ عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدّنيا منذ كانت إلى أن انقضت سبعون ضعفا(٢) .

و عنهعليه‌السلام : إنّ فقراء المؤمنين(٣) يتقلّبون في رياض الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ، و مثل ذلك كسفينتين مرّ بهما على عاشر فنظر في إحداهما فلم ير شيئا فقال : أسربوها ، و نظر في الاخرى فإذا هي موقرة فقال : إحبسوها(٤) .

و عنهعليه‌السلام : لو لا إلحاح هذه الشيعة على اللَّه في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى ما هو أضيق(٥) .

٨٢ الحكمة ( ٣٦٥ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ وَ اَلاِعْتِبَارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ وَ كَفَى أَدَباً لِنَفْسِكَ تَجَنُّبُكَ مَا كَرِهْتَهُ لِغَيْرِكَ أقول : كرّر المصنف الفقرة الأخيرة مستقلة في ( ٤١٢ ) سهوا بلفظ

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٦٤ ح ١٨ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٦١ ( ٩ ) ، بحار الأنوار ٧ : ٢٠٠ .

( ٣ ) في بعض النسخ « المسلمين » .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٦٠ ح ١ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٦٤ ح ١٦ .

٥٨٢

« كفاك أدبا لنفسك اجتنابك ما تكرهه لغيرك » .

« الفكر مرآة صافية » في ( الكافي ) سئل الصادقعليه‌السلام عمّا يروى أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة كيف يتفكّر ؟ قال : يمرّ بالخربة أو الدار فيقول : أين ساكنوك ؟ أين بانوك ؟ مالك لا تتكلّمين(١) ؟

« و الاعتبار منذر ناصح »( أَلم تَر أَن اللَّه يُزجي سَحاباً ثم يُؤلّفُ بَينهُ ثُم يَجعَلُه رُكاماً فتَرى الودقَ يَخرُجُ مِن خلاله و يُنَزِّلُ من السّماء من جبال فيها من بردٍ فيُصيب به مَن يشاءُ و يصرفهُ عمّنَ يشاء يَكادُ سَنابرقهِ يذهبُ بالأَبصارِ يُقلِّبُ اللَّه الليلَ و النهارَ إِن في ذلكَ لعبرةً لاُولي الأبصار ) (٢) .

« و كفى أدبا لنفسك تجنّبك ما كرهته من غيرك »( و ما اُريد أن اُخالفكم إلى ما أَنهاكُم عَنهُ ) (٣) .

و مرّ قولهعليه‌السلام « و من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه » و قولهعليه‌السلام « أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله » .

و قيل كتب بعض الكتّاب إلى بعض الملوك :

تضرب الناس بالمهندة البيض

على غدرهم و تنسى الوفاء(٤)

٨٣ الحكمة ( ٣٧١ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ شَرَفَ أَعْلَى مِنَ اَلْإِسْلاَمِ وَ لاَ عِزَّ أَعَزُّ مِنَ اَلتَّقْوَى وَ لاَ مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ اَلْوَرَعِ وَ لاَ شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ اَلتَّوْبَةِ وَ لاَ كَنْزَ أَغْنَى مِنَ اَلْقَنَاعَةِ وَ لاَ

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٥٤ أخرجه عن علي بن إبراهيم عن السكوني .

( ٢ ) النور : ٤٦ ٤٤ .

( ٣ ) هود : ٨٨ .

( ٤ )

٥٨٣

مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مِنَ اَلرِّضَى بِالْقُوتِ وَ مَنِ اِقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ اَلْكَفَافِ فَقَدِ اِنْتَظَمَ اَلرَّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ اَلدَّعَةِ وَ اَلرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ اَلنَّصَبِ وَ مَطِيَّةُ اَلتَّعَبِ وَ اَلْحِرْصُ وَ اَلْكِبْرُ وَ اَلْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى اَلتَّقَحُّمِ فِي اَلذُّنُوبِ وَ اَلشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِئِ اَلْعُيُوبِ أقول : هذا العنوان جزء خطبة الوسيلة رواها ( روضة الكافي ) « لا شرف أعلى من الإسلام » روى ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( صبغَةَ اللَّه وَ مَن أحسنُ من اللَّه صبغَة ) (١) : إنّ الصبغة هي الإسلام(٢) .

و في الخبر : الإسلام يعلو و لا يعلى عليه(٣) .

و عنهعليه‌السلام في مجوسية أسلمت قبل أن يدخل بها زوجها و أبي أن يسلم :

لها عليه نصف الصداق و لم يزدها الإسلام إلاّ عزّا(٤) ، و قال تعالى( اليوم أكملتُ لكُم دينَكُم و أَتمَمتُ عليكم نعمتي و رَضيتُ لكُم الإسلام ديناً ) (٥) ( وَ مَن يَبتَغ غَير الإسلام ديناً فَلن يُقبل منه ) (٦) .

« و لا عز أعز من التقوى »( يا أيُّها الناس إِنّا خلقناكم من ذكرٍ و اُنثى و جَعلناكُم شُعُوباً و قبائِلَ لتعارَفوا إِن أكرمكُم عندَ اللَّه أتقاكم ) (٧) .

« و لا معقل أحسن من الورع »( و مَن يتّق اللَّه يَجعَل لُهُ مَخرَجاً و يَرزُقه من حيثُ لا يَحتَسِبُ ) (٨) .

____________________

( ١ ) البقرة : ١٣٨ .

( ٢ ) روضة الكافي للكليني : ١٨ .

( ٣ ) ٣٩ : ٤٧ رواية ١ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٥ : ٤٣٦ رواية ٦ .

( ٥ ) المائدة : ٣ .

( ٦ ) آل عمران : ٨٥ .

( ٧ ) الحجرات : ١٣ .

( ٨ ) الطلاق : ٢ ٣ .

٥٨٤

« و لا شفيع أنجح من التوبة »( و هو الذي يَقبلُ التوبةَ عن عبادهِ و يعفو عن السيئات ) (١) ( إِن اللَّه يحبُّ التّوابينَ و يُحبُّ المُتَطهرين ) (٢) و قال هود لقومه :

( و يا قوم استغفروا ربَّكُم ثُمَ توبُوا إِليه يُرسِل السَّماءَ عليكم مدراراً و يزدكُم قُوّةً إلى قوتكم ) (٣) ( و أَن استَغفروا ربَّكُم ثم توبوا إليه يُمتِّعكم متاعاً حسناً إِلى أجلٍ مُسمّى و يؤتِ كُلّ ذي فضلٍ فَضلُه ) (٤) .

« و لا كنز أغنى من القناعة » في ( الكافي ) عنهعليه‌السلام من رضي من الدّنيا بما يجزيه كان أيسر ما فيها يكفيه ، و من لم يرض من الدّنيا بما يجزيه لم يكن فيها شي‏ء يكفيه(٥) .

« و لا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت » في ( الروضة ) بعد هذه الفقرات « و لا لباس أجمل من العافية ، و لا غائبا أقرب من الموت ، أيّها الناس إنّه من مشى على وجه الأرض فإنّه يصير إلى بطنها ، و الليل و النهار مسرعان في هدم الأعمار ، و لكلّ ذي رمق قوت و أنت قوت الموت ، و ان من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد ، و لن ينجو من الموت غني بماله و لا فقير لإقلاله »(٦) .

« و من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة و تبوّأ خفض الدعة » أي :

السكون و الاستراحة ، من « ودع » بالضم .

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : اللّهم ارزق محمّدا و آل محمّد الكفاف ، و ارزق من أحبّ

____________________

( ١ ) الشورى : ٢٥ .

( ٢ ) البقرة : ٢٢٢ .

( ٣ ) هود : ٥٢ .

( ٤ ) هود : ٣ .

( ٥ ) الكافي للكليني ٢ : ١٤٠ ح ١١ .

( ٦ ) روضة الكافي للكليني : ١٩ .

٥٨٥

محمدا و آل محمّد العفاف و الكفاف ، و ارزق من أبغضهم المال و الولد(١) .

و عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى : إنّ من أغبط أوليائي رجلا خفيف الحال ذا حفظ من الصلاة أحسن عبادة ربّه بالغيب ، و كان غامضا في الناس جعل رزقه كفافا فصبر عليه عجلت منيته فقلّ تراثه و قلّت بواكيه(٢) .

« و الرغبة » أي : الحرص .

« مفتاح النصب » جعلعليه‌السلام النصب كقفل مفتاحه الرغبة .

« و مطية التعب » المطية ، المركب ، جعلعليه‌السلام التعب كمقصد لا تصل إليه إلاّ بمطيّة الرغبة .

« و الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التقحم » أي : رمي النفس .

« في الذنوب » الحرص كان داعي آدمعليه‌السلام إلى الشجرة المنهية و الكبر كان داعي إبليس إلى ترك السجود لآدم ، و الحسد كان داعي قابيل إلى قتل أخيه هابيل ، و الكبر أول ذنب أهل السماء ، و الحسد أول ذنب أهل الأرض .

« و الشر جامع مساوي » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٣) و الصواب :

( لمساوي ) كما في ابن أبي الحديد(٤) و ابن ميثم(٥) و النسخة الخطية(٦) .

« العيوب » الحرص و الكبر و الحسد و غيرها من البخل و الجبن و العجب و غيرها ، لكن كون الشر أعم أمر واضح ، و الظاهر وقوع تصحيف ، و كون

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ١٤٠ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ١٤٠ .

( ٣ )

( ٤ )

( ٥ )

( ٦ ) النسخة المصرية ٧٤٤ رقم ( ٣٧٠ ) مطابقة لنسخة شرح ابن ميثم المنقحة ٥ : ٤٢٥ رقم ٣٥٢ ، و في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٣٠١ قمم ( ٣٧٧ ) « لمساوي » .

٥٨٦

الشر محرّف البخل ، ففي ( ٣٧٨ ) و قالعليه‌السلام : « البخل جامع لمساوى‏ء العيوب ، و هو زمام يقاد به إلى كلّ سوء » و عليه ففي الثاني تكرار بعض الأول .

٨٤ الحكمة ( ٣٧٦ ) إِنَّ اَلْحَقَّ

ثَقِيلٌ مَرِي‏ءٌ وَ إِنَّ اَلْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِي‏ءٌ أقول : قالعليه‌السلام : هذا الكلام لعثمان مع زيادة « و أنت رجل إن صدقت سخطت و ان كذبت رضيت » كما رواه ابن أبي الحديد في موضع آخر و نقل مثله عن لقمان و ورد : الحقّ أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف(١) .

و في ( الكافي ) قيل للصادقعليه‌السلام : يزعمون أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص في أن نقول : « جئناكم جئناكم جيئونا جيئونا نجئكم نجئكم » فقال : كذبوا إنّ اللَّه تعالى يقول :( و ما خلقنا السماءَ و الأرضَ و ما بينَهُما لاَعِبينَ لو أردنا أن نتَّخِذَ لَهواً لاتخذناهُ من لدُنّا إِن كُنّا فاعلين بل نَقذِفُ بالحقِّ عَلى الباطل فَيَدمَغُهُ فإذا هُو زاهِق و لَكُم الوَيل مِمّا تَصِفُون ) (٢) .

و سئل الباقرعليه‌السلام عن الغناء(٣) فقالعليه‌السلام : إذا ميّز اللَّه بين الحق و الباطل فأين يكون الغناء ؟ قال : مع الباطل فقال : قد حكمت و كذلك سئل عن النرد و الشطرنج فأجاب بكونهما مع الباطل إذا ميّز بينه و بين الحق(٤) .

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٨٨ .

( ٢ ) الأنبياء : ١٦ ١٨ .

( ٣ )

( ٤ ) الكافي للكليني ٦ : ٤٣٦ ح ٩ .

٥٨٧

٨٥ الحكمة ( ٣٨١ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَ وَرِقَكَ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَ جَلَبَتْ نِقْمَةً و « صرت وثاقه » في ( الطبعة المصرية )(١) تصحيف ، أي : هو في شدك ابتداء و تصير في شدّه انتهاء .

« فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك و ورقك ، فربّ كلمة سلبت نعمة و جلبت نقمة » فقرة « و جلبت نقمة » ليست في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و إنّما هي في ( الطبعة المصرية )(٢) .

و في السير : نزل النعمان بن المنذر برابية ، فقال له رجل من أصحابه :

أبيت اللعن لو ذبح رجل على رأس هذه الرابية إلى أين كان يبلغ دمه فقال النعمان : المذبوح و اللَّه أنت و لأنظرن أين يبلغ دمك فذبحه(٣) .

و في ( العيون ) : قال ابن إسحاق : النّسناس خلق باليمن لأحدهم عين و يد و رجل يقفز بها و أهل اليمن يصطادونهم ، فخرج قوم في صيدهم فرأوا ثلاثة منهم ، فأدركوا واحدا منهم فعقروه و ذبحوه و توارى اثنان في الشّجر ، فقال الذي ذبح الأول انّه لسمين ، فقال الثاني انّه أكل ضروا فأخذوه و ذبحوه ، فقال الذي ذبحه ما انفع الصمت فقال الثالث فها أنا الصمت فأخذوه و ذبحوه(٤) .

____________________

( ١ ) صححت في الطبعة الثانية المنقحة : ٧٤٨ رقم ( ٣٨١ ) .

( ٢ ) النسخة المصرية : ٧٤٨ و شرح ابن ميثم ٥ : ٤٣٣ متطابقان و الحذف في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٣٢٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٩٢ .

( ٤ ) العيون ٢ : ١٧٦ و ذكره الدميري .

٥٨٨

و في ( الأغاني ) : صلب الحجّاج رجلا من الشّراة بالبصرة و راح عشيّا لينظر إليه ، فإذا برجل بازائه مقبل بوجهه عليه ، فدنا منه فسمعه يقول للمصلوب « طال ما ركبت فأعقب »(١) فقال الحجّاج : من هذا ؟ فقالوا : شظاظ اللص قال : لا جرم و اللَّه ليعقبنّك ، ثم وقف و أمر بالمصلوب فأنزل و صلب شظاظا مكانه(٢) .

٨٦ الحكمة ( ٣٨٤ ) و قالعليه‌السلام :

اَلرُّكُونُ إِلَى اَلدُّنْيَا مَعَ مَا تُعَايِنُ جَهْلٌ وَ اَلتَّقْصِيرُ فِي حُسْنِ اَلْعَمَلِ إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ غَبْنٌ وَ اَلطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ اَلاِخْتِبَارِ لَهُ عَجْزٌ في ( الجهشياري ) قيل لعتابة أمّ جعفر بن يحيى بعد نكبتهم و هي بالكوفة في يوم أضحى ما أعجب ما رأيت ؟ فقالت : لقد رأيتني في مثل هذا اليوم و على رأسي مائة و صيفة لبوس كلّ واحدة منهنّ و حليها خلاف لبوس الاخرى و حليها ، و أنا يومي هذا اشتهي لحما فما أقدر عليه(٣) .

و في ( المروج ) : لمّا دخل عمرو بن ليث إلى بغداد من المصلّى العتيق رافعا يديه يدعو و هو على جمل فالح و هو ذو السنامين و كان أنفذه إلى المعتضد في هدايا تقدّمت له قبل أسره قال ابن فهم :

ألم تر هذا الدهر كيف صروفه

يكون عسيرا مرّة و يسيرا

____________________

( ١ ) معناه : اترك عقبك و من يخلفك .

( ٢ ) الأغاني ٢٢ : ٣٠٠ نقله عن أبي ميثم .

( ٣ ) الجهشياري ، الوزراء و الكتّاب : ٢٤١ .

٥٨٩

و حسبك بالصفّار نبلا و عزّة

يروح و يغدو في الجيوش أميرا

حباهم جمالا و هو لم يدر أنّه

على جمل منها يقاد أسيرا

و قال ابن بسام :

أيّها المغتر بالدنيا

أما أبصرت عمرا

مقبلا قد أركب الفالح

بعد الملك قهرا

و عليه برنس السّخطة

إذلالا و قهرا

رافعا كفّيه يدعو اللّه

إسرارا و جهرا

أن ينجّيه من القت

ل و ان يعمل صفرا(١)

و في ( المعجم ) : كان أبو الفتح بن العميد قد دبّر على الصاحب بن عبّاد حتّى أزاله عن كتابة مؤيّد الدولة و أبعده عن حضرته بالريّ إلى اصفهان ، و انفرد هو بتدبير الأمور له كما كان يدبّرها لأبيه ركن الدولة ، و استدعى يوما ندماءه و عبأ لهم مجلسا عظيما و أظهر من الزينة و آلات الذهب و الفضة و الصيني و ما شاكله ما يفوت الحصر ، و شرب و استفزّه الطرب و كان قد شرب يومه و ليلته و عمل شعرا غني به :

دعوت المنى و دعوت العلا

فلمّا أجابا دعوت القدح

و شرب عليه إلى أن سكر و قال لغلمانه : غطوا المجلس و لا تسقطوا منه شيئا لأصطبح في غد عليه ، و قال لندمائه : باكروني ، و قام إلى بيت منامه و انصرف عنه الندماء ، فدعاه مؤيّد الدولة في السحر فلم يشك أنّه لمهم فقبض عليه و أنفذ إلى داره من استولى على جميع ما فيها و أعاد ابن عبّاد إلى وزارته و تطاول بابن العميد النكبة حتى مات فيها(٢) .

____________________

( ١ )

( ٢ ) الحموي ، معجم الأدباء ٦ : ٢٥١ .

٥٩٠

و لبعضهم في الفضل بن مروان وزير المعتصم و كان قبله الفضل بن يحيى البرمكي و الفضل بن الربيع الحاجب وزيري الرشيد و الفضل بن سهل وزير المأمون :

تجبرت(١) يا فضل بن مروان فاعتبر

فقبلك كان الفضل و الفضل و الفضل

ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم

أبادهم الموت المشتت و القتل

فإنّك قد أصبحت في النّاس ظالما

ستودي كما أودى الثلاثة من قبل(٢)

« و التقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن » فقد قال تعالى :

( مَثَلُ الذين يُنفقونَ أَموالَهم في سَبيل اللَّه كَمَثَلِ حَبةٍ أنبتت سَبعَ سنابِلَ في كلّ سُنبلةٍ مائة حبّةٍ و اللَّه يُضاعف لِمن يشاء ) (٣) و قال تعالى :( تتجافى جُنوبهم عن المضاجِع يدعون رَبّهم خوفاً و طمعاً و ممّا رزقناهم يُنفقون فلا تَعلَمُ نَفسٌ ما اُخفي لَهُم مِن قُرّةِ أَعيُنٍ جَزاءً بما كانوا يَعمَلون ) (٤) فإذا كان واثقا بذلك و قصر كان مغبونا ألبتّة .

« و الطمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار له عجز » فليس كلّ أحد صادقا .

٨٧ الحكمة ( ٣٨٦ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ قيل : هو نظير قولهم : « من طلب شيئا وجدّ وجد »(٥) و قولهم « من قرع

____________________

( ١ ) عند ابن خلفكان بلفظ « تفرعنت » .

( ٢ ) ابن خلكان ٤ : ٤٥ .

( ٣ ) البقرة : ٢٦١ .

( ٤ ) السجدة : ١٦ ١٧ .

( ٥ ) المثل بلفظ من طلب شيئا وجده ٢ : ٣٥٧ ، مجمع الأمثال للميداني .

٥٩١

قرع بابا و لجّ ولج » و قال تعالى( و الَّذين جاهدوا فينا لنَهديَّنهم سُبُلنا ) .(١) .

و في ( الأمثال ) : إن عامر بن الطرف لمّا كبر قال له قومه : إجعل لنا قائدا بعدك ، فقال : من طلب شيئا وجده و ان لم يجده يوشك أن يوقع قريبا منه(٢) .

٨٨ الحكمة ( ٣٩٢ ) و قالعليه‌السلام :

تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ أقول : الفقرة الثانية تكرار من المصنف لعنوانه ( ١٤٨ ) « المرء مخبوء تحت لسانه » .

و كيف كان فمرّ في الديباجة قول الشعبي إنّهعليه‌السلام تكلّم بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في المناجاة و ثلاث منهن في الحكمة إلى أن قال و أمّا اللاتي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوّ تحت لسانه(٣) .

هذا ، و قد غيّروا كلامهعليه‌السلام « المرء مخبوّ تحت لسانه » فقالوا « المرء مخبو تحت طي لسانه لا طيلسانه » .

« تكلموا تعرفوا » قال تعالى :( فلمّا كَلَّمهُ قال إنَّكَ اليوم لدينا

___________________

( ١ ) العنكبوت : ٦٩ .

( ٢ ) الأمثال ، ذكره الميداني في ٢ : ١٨٣ .

( ٣ ) الصدوق ، الخصال : ٤٢٠ ح ١٤ ، و ذكره المؤلف في صفحة ٥٧ من الجزء الأول .

٥٩٢

مَكينٌ أَمين ) (١) .

و في ( تاريخ بغداد ) : دخل عبد العزيز بن يحيى المكي و كانت خلقته شنعة على المأمون و عنده المعتصم ، فضحك منه فأقبل على المأمون و قال :

لم ضحك هذا ؟ لم يصطف اللَّه يوسف لجماله و إنّما اصطفاه لدينه و بيانه ، و لم يقل الملك لمّا رأى جماله إنّك اليوم لدينا مكين أمين بل لمّا كلّمه ، بياني أحسن من وجه هذا فأعجب المأمون قوله(٢) .

و في ( العيون ) عن ربيعة الرأي : الساكت بين النائم و الأخرس و ذكروا أفضلية الكلام و الصمت فقال أبو مسهّر : كلاّ إنّ النجم ليس كالقمر ، إنّك تصف الصمت بالكلام و لا تصف الكلام بالصمت و قال يونس : ليس لعييّ مروّة ، و لا لمنقوص البيان بهاء و لو بلغ يافوخه أعنان السماء(٣) .

و في ( تاريخ بغداد ) : قال ابن عمّار : كنت إذا نظرت إلى يحيى بن سعيد القطان ظننت انّه رجل لا يحسن شيئا فإذا تكلّم أنصت له الفقهاء(٤) .

و في ( الطبري ) في قدوم الحجّاج الكوفة و صعوده المنبر فطال سكوته فتناول محمد بن عمير حصى أراد أن يحصبه بها و قال : قاتله اللَّه ما أعياه و اللَّه إنّي لأحسب خبره كروائه ، فلمّا تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتثر من يده و لا يعقل به(٥) .

و في ( البلاذري ) : سعى عبد اللَّه بن الأهتم خليفة قتيبة على مرو بقتيبة إلى الحجّاج ، فأرسل الحجّاج كتابه إلى قتيبة فأحس بالشرّ ، فهرب إلى الشام

____________________

( ١ ) يوسف : ٥٤ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ، ١٠ : ٤٥٠ في ترجمة عبد الزيز بن يحيى .

( ٣ ) ابن قتيبة ، عيون الأخبار ٢ : ١٧٥ .

( ٤ ) تاريخ بغداد ١٤ : ١٤٠ في ترجمة يحيى بن سعيد ( رقم ٧٤٦١ ) .

( ٥ )

٥٩٣

و وضع قطنة على احدى عينيه ثم عصبها و اكتنى بأبي قطنة ، و كان يبيع الزيت حتى إذا هلك الوليد و قام سليمان ألقى عنه ذاك الدنس و قام بخطبة تهنئة لسليمان و وقوعا في الحجّاج و قتيبة و كانا خلعا سليمان فتفرّق الناس و هم يقولون أبو قطنة الزيّات أبلغ الناس(١) .

هذا ، و عنهعليه‌السلام : اللسان معيار أطاشه الجهل و أرجحه العقل(٢) .

و روي أنّهعليه‌السلام سئل أيّ شي‏ء أحسن ؟ فقال : الكلام فقال : أيّ شي‏ء أقبح ؟ فقال : الكلام ثم قال : بالكلام ابيضّت الوجوه و بالكلام اسودّت الوجوه(٣) .

« المرء مخبوء تحت لسانه » و قال شاعر :

و النّار في أحجارها مخبوءة

ليست ترى إن لم يثرها الازند

و في ( العيون ) ذكر أعرابي رجلا فقال : رأيت عورات الناس بين أرجلهم و عورة فلان بين فكّيه(٤) .

و عاب آخر رجلا فقال : ذاك من يتامى المجلس ، أبلغ ما يكون في نفسه و أعيى ما يكون عند جلسائه(٥) .

و في ( تاريخ بغداد ) : كان رجل يجلس إلى أبي يوسف فيطيل الصمت ، فقال له : ألا تتكلّم ؟ فقال : بلى متى يفطر الصائم قال : إذا غابت الشمس قال :

فإن لم تغب إلى نصف الليل ، فضحك أبو يوسف و قال : أصبت في صمتك و أخطأت أنا في استدعاء نطقك ، ثم تمثّل :

____________________

( ١ ) البلاذري ، فتوح البلدان : ٥٩٧ ٧٩٨ .

( ٢ ) تحف العقول : ١٤٧ .

( ٣ ) تحف العقول : ١٥٤ ، و بحار الأنوار ٧٨ : ٥٥ .

( ٤ )

( ٥ )

٥٩٤

عجبت لأزراء العييّ بنفسه

و صمت الذي قد كان للقول أعلما

و في الصمت ستر للعييّ و إنّما

صحيفة لب المرء أن يتكلما(١)

و في ( كامل المبرد ) : إنّ الحجّاج بعث برأس ابن الأشعث بعد ظفره به مع عرّار بن عمرو بن شاس الأسدي و كان أسود دميما إلى عبد الملك فلمّا ورد به عليه جعل عبد الملك لا يسأل عن شي‏ء من أمر الوقيعة إلاّ أنبأه به عرّار في أصح لفظ و أشبع قول و أجزأ اختصار و كان عبد الملك اقتحمه عينه حيث رآه فقال متمثلا :

أرادت عرارا بالهوان و من يرد

لعمري عرارا بالهوان فقد ظلم

و إنّ عرارا إن يكن غير واضح

فإنّي احبّ الجون ذا المنكب العمم

فقال له عرّار : أتعرفني أيها الخليفة ؟ قال : لا قال : فأنا و اللَّه عرّار فزاد في سروره و زاد في جائزته(٢) .

و في ( الخلفاء ) : لمّا بنى الحجّاج خضراء واسط قال لجلسائه : كيف ترون هذه القبة ؟ قالوا : ما رأينا مثلها قال : و لها عيب ما هو ؟ قالوا : ما نرى قال :

سأبعث إلى من يخبرني ، فبعث إلى الغضبان الشيباني و كان في سجنه لأنّه كان قال لابن الأشعث تغدّ بالحجّاج قبل أن يتعشاك فأقبل به و هو يرسف في القيود فقال له : كيف قبتي هذه ؟ قال : نعمت حسنة مستوية قال : أخبرني بعيبها قال : بنيتها في غير بلدك لا يسكنها ولدك قال : صدق ردوه إلى السجن .

فقال : قد أكلني الحديد و أوهن ساقي القيود فما اطيق المشي قال : احملوه ، فلمّا حمل على الأيدي قال :( سُبحان الذي سَخّرَ لنا هذا و ما كُنا لهُ مُقرنين ) (٣) قال :

____________________

( ١ )

( ٢ ) كامل المبرد ١ : ١٦٠ .

( ٣ ) الزخرف : ١٣ .

٥٩٥

أنزلوه فقال :( ربّ أَنزلني مُنزلاً مُباركاً و أنتَ خَيرُ المُنزِلينَ ) (١) قال : جرّوه .

فقال و هو يجر( بسم اللَّه مجراها و مُرساها إنّ ربّي لغفورٌ رحيم ) (٢) قال :

اضربوا به الأرض فقال :( منها خلقناكم و فيها نُعيدُكم و منها نُخرجكم تارة اُخرى ) (٣) فضحك الحجّاج حتى استلقى على قفاه ثم قال : و يحكم قد غلبني هذا الخبيث ، أطلقوه إلى صفحي عنه فقال الغضبان :( فاصفح عنهُم و قُل سلام ) (٤) فنجا من شرّه بلسانه(٥) و كان قال له لأقطعن يديك و رجليك و لأضربن بلسانك عينيك(٦) .

و في ( البيان ) : خرج صعصعة(٧) إلى مكة ، فلقيه رجل فقال : يا عبد اللَّه كيف تركت الأرض قال : عريضة أريضة(٨) قال : إنّما عنيت السماء قال : فوق البشر و مد البصر قال : سبحان اللَّه إنّما أردت السحاب قال : تحت الخضراء و فوق الغبراء قال : إنّما أعني المطر قال : قد عفّي الأثر و ملأ القتر(٩) و بلّ الوبر و مطرنا أحيا المطر قال : إنسيّ أنت أم جني ؟ قال : بل إنسي من امّة رجل مهديّ(١٠) .

و في ( شعراء ابن قتيبة ) : كان الحارث بن حلزة اليشكري ارتجل بين

____________________

( ١ ) المؤمنون : ٢٩ .

( ٢ ) هود : ٤١ .

( ٣ ) طه : ٥٥ .

( ٤ ) الزخرف : ٨٩ .

( ٥ )

( ٦ ) ابن قتيبة ، الامامة و السياسة : ٣٦ و هو المعروف بتاريخ الخلفاء .

( ٧ )

( ٨ )

( ٩ )

( ١٠ )

٥٩٦

يدي عمرو بن هند في شي‏ء كان بين بكر و تغلب بعد الصلح قصيدته « آذنتنا ببنيها اسماء » و كان ينشده من وراء سبع ستور ، فأمر برفع الستور عنه استحسانا لها(١) .

و نظر النعمان بن المنذر إلى ضمرة بن ضمرة ، فلمّا رأى دمامته قال :

تسمع بالمعيدي لا أن تراه فقال ضمرة : إنّ الرجال لا تكال بالقفزان ، و إنّما المرء بأصغريه لسانه و قلبه(٢) .

و في ( المعجم ) قال خلف الأحمر : كنت أسمع ببشار بسرعة جوابه و جودة شعره ، فأنشدوني شيئا من شعره لم أحمده فقلت : لآتينّه و لاطأطأنّ منه ، فأتيته و هو جالس على باب بيته ، فرأيته أعمى قبيح المنظر عظيم الجثّة ، فقلت : لعن اللَّه من يبالي بهذا ، إذ جاء رجل فقال : إنّ فلانا سبّك عند الأمير و جاء قوم فسلّموا عليه فلم يردد عليهم فجعلوا ينظرون إليه و قد ورمت أوداجه فلم يلبث أن أنشدنا بأعلى صوته :

نبّئت نائك امّه يغتابني

عند الأمير و هل عليّ أمير

فارتعدت فرائصي و عظم في عيني فقلت : الحمد للَّه الذي أبعدني من شرّك(٣) .

و همّ الفرزدق بهجاء عبد القيس فأرسل إليه زياد الأعجم :

فما ترك الهاجون لي إن هجوته مصحّا أراه في أديم الفرزدق .

فقال الفرزدق : مالي إلى هجاء هؤلاء سبيل ما عاش هذا العبد(٤) .

و في ( العيون ) : قال عبد الملك بن عمير : قدم علينا الأحنف الكوفة مع

____________________

( ١ ) ابن قتيبة ، الشعر و الشعراء : ٥٣ .

( ٢ ) الأمثال ، الميداني ١ : ٨٦ .

( ٣ )

( ٤ )

٥٩٧

مصعب بن الزبير ، فما رأيت خصلة تذم إلاّ و رأيتها فيه ، كان أصغر(١) الرأس متراكب الأسنان في خدّه ميل(٢) مائل الذّقن ناتى‏ء الوجه ، غائر العين خفيف العارض أحنف الرّجل ، و لكنّه إذا تكلّم جلّى عن نفسه(٣) و قال الشاعر :

و ما حسن الرجال لهم بحسن

إذا لم يسعد الحسن البيان

كفى بالمرء عيبا أن تراه

له وجه و ليس له بيان

و في ( الطبقات ) في وفد عبد القيس قال لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّكم عبد اللَّه الأشجّ ؟ فقال أحدهم : أنا و كان رجلا دميما فنظر إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لا يستسقى في مسوك الرجال ، و إنّما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه و قلبه(٤) و في ( العقد ) :

و ما المرء إلاّ الأصغران لسانه

و معقوله و الجسم خلق مصوّر

فإن تر منه ما يروق فربّما

أمرّ مذاق العود و العود أخضر(٥)

و قال زهير :

و كائن ترى من معجب لك صامت

زيادته أو نقصه في التّكلم

لسان الفتى نصف و نصف فؤاده

فلم يبق الا صورة اللحم و الدم(٦)

هذا ، و في أخبار حكماء القفطي : كان في مصر يهوديّ يرتزق بصناعة مداواة الجراح في غاية الخمول ، فاتفق أن عرض لرجل الحاكم عقر زمن عجز أطباؤه الخواص عنه ، فأحضر له الرجل فطرح عليه دواء يابسا فنشفه و شفاه

____________________

( ١ ) نسخة التحقيق صعل : صغير .

( ٢ )

( ٣ ) العيون ، ابن قتيبة ٤ : ٣٥ .

( ٤ ) الطبقات ١ : ٣١٤ .

( ٥ )

( ٦ ) ابن عبد ربه ، العقد الفريد ٤ : ١٧٩ .

٥٩٨

في ثلاثة أيام ، فأطلق له ألف دينار و خلع عليه و لقبه بالحقير النافع و جعله من أطبائه الخواصّ(١) .

٨٩ الحكمة ( ٣٩٤ ) و قالعليه‌السلام :

رُبَّ قَوْلٍ أَنْفَذُ مِنْ صَوْلٍ في ( الأغاني ) : وفد أبو براء ملاعب الأسنة و إخوته طفيل و معاوية و عبيدة بنو مالك بن جعفر بن كلاب و معهم لبيد بن ربيعة بن مالك و هو غلام على النعمان بن المنذر ، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي و كان ينادم النعمان فاذا خلا به يطعن في الجعفريين ، فرأوا من الملك جفاء و قد كان يكرمهم قبل ذلك فخرجوا من عنده غضابا و لبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم فألفاهم الليلة يتذاكرون أمر الربيع فسألهم فكتموه ، فقال : و اللَّه لا أحفظ لكم متاعا أو تخبروني و كانت أم لبيد امرأة من عبس فقالوا : خالك قد غلبنا على الملك فقال لهم : هل تقدرون على أن تجمعوا بيني و بينه فأزجره عنكم بقول ممضّ ثم لا يلتفت النعمان إليه أبدا إلى أن قال : ثم غدوا به معهم على النعمان فوجدوه يتغدّى و معه الربيع و هما يأكلان ليس معه غيره ، فلمّا فرغ أذن لهم فذكروا له حاجتهم ، فاعترض الربيع في كلامهم ، فقام لبيد و قال :

يا ربّ هيجا هي خير من دعه

أكلّ يوم هامتي مقرّعة

يخبرك عن هذا خبير فاسمعه

مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه

إنّ استه من برص ملمّعه

و إنّه يدخل فيها إصبعه

____________________

( ١ ) أخبار الحكماء ، القطفي : ١٢٢ .

٥٩٩

يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنّما يطلب شيئا ضيّعه(١)

فلمّا فرغ التفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه قال : لا و اللَّه لقد كذب عليّ ، و انصرف إلى منزله و كتب إلى النعمان : إنّي قد تخوّفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد ، و لست برائم حتى تبعث من يجرّدني فيعلم من حضرك أنّي لست كما قال ، فأرسل النعمان إليه : إنّك لست بانتفائك ممّا قال لبيد شيئا و لا قادرا على ما زلّت به الألسن و كتب إليه :

شرّد برحلك عنّي حيث شئت و لا

تكثر عليّ و دع عنك الأباطيلا

فقد ذكرت به و الركب حامله

وردا يعلّل أهل الشام و النّيلا

فما انتفاؤك منه بعد ما جزعت

هوج المطيّ به إبراق شمليلا(٢)

قد قيل ذلك إن حقا و إن كذبا

فما اعتذارك من شي‏ء إذا قيلا(٣)

و في ( العيون ) : اسر معاوية يوم صفّين رجلا من أصحاب عليعليه‌السلام ، فلمّا اقيم بين يديه قال : الحمد للَّه الذي أمكن منك قال : لا تقل ذلك ، فإنّها مصيبة .

قال : و أيّة نعمة أعظم من أن يكون اللَّه أظفرني برجل قتل في ساعة واحدة جماعة من أصحابي اضربا عنقه فقال : اللّهم اشهد ان معاوية لم يقتلني فيك و لا لأنّك ترضى قتلي و لكن قتلني في الغلبة على حطام الدّنيا ، فإن فعل فافعل به ما هو أهله و إن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله فقال له معاوية : قاتلك اللَّه لقد سببت فأوجعت في السبّ و دعوت فأبلغت في الدّعاء ، خلّيا سبيله(٤) .

و كان قول الفرزدق و علم قومه أكل الخبيص و قول أبي العتاهية « وضع سيفك خلخالا » في هجو الفزاري و ابن معن أنفذ من صول .

____________________

( ١ )

( ٢ ) شمليل : بلد .

( ٣ ) الاصفهاني ، الأغاني ١٧ : ١٨٧ ، و قد مرّ ذكر هذه الحكاية في الصفحات السابقة .

( ٤ ) العيون ١ : ٩٩ .

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710