الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182394 / تحميل: 6616
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

لها أبدا ، لن يكون عاجزا ـ مطلقا ـ عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكّد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر ، تشير الآية إلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعا كما طلب منكم مراعاة التقوى( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ).

بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين ، فتؤكد لهم أن الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم ، وأن ليس لله بتقواهم حاجة ، كما تؤكد أنّهم إذا عصوا وبغوا ، فإنّ ذلك لا يضرّ الله أبدا ، لأنّ الله هو مالك ما في السّموات وما في الأرض ، فهو غير محتاج إلى أحد أبدا ، ومن حقّه أن يشكره عباده دائما وأبدا ،( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً ) .

الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى ـ حقيقة ـ لأنّهعزوجل غني بالذات ، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إنّما يتمّ بعونه ومدده ، وكل المخلوقات محتاجة إليه احتياجا ذاتيا ، لذلك فهو يستحق ـ لذاته ـ أن يشكره عباده ومخلوقاته ، كما أنّ كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته ، بل هي كلّها في ذاته ، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتا كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.

وفي الآية التالية جرى التأكيد ـ وللمرة الثّالثة ـ على أنّ كل ما في السموات وما في الأرض هو ملك لله ، وإنّ الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

وقد يرد سؤال ـ هنا ـ عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدّا ، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع ، أم هناك سرّ آخر؟

وبالإمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل

٤٨١

مرّة على أمر خاص : ففي المرّة الأولى حيث تحمل الآية وعدا لزوجين بأنّهما إذا انفصلا فإن الله سيغنيهما ولأجل إثبات قدرة الله على ذلك ، يذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض.

أمّا في المرّة الثّانية فإنّ الآية توصي بالتقوى ، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة لله ، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له ، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشيء ، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض.

وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قالعليه‌السلام : «بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم آمنا عن معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه»(١) .

ويذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض للمرّة الثّالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية (١٣٣) ، ثمّ يبيّن ـ عز من قائل ـ أنّه لا يأبه في أن يزيل قوما عن الوجود،ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعدادا وعزما وأكثر دأبا في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً ) .

وفي تفسير «التبيان» وتفسير «مجمع البيان» نقلا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس.

وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون الإيرانيون إلى الإسلام.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣.

٤٨٢

والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية ، ورد الحديث فيها عن أناس يزعمون أنّهم مسلمون ، ويشاركون في ميادين الجهاد ، ويطبقون أحكام الإسلام ، دون أن يكون لهم هدف إلهي ، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا ، لأنّ الله عنده ثواب الدنيا والآخرة معا( مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) .

فلما ذا لا يطلب ـ ولا يرجوا ـ هؤلاء ، الثوابين معا؟! والله يعلم بنوايا الجميع،ويسمع كل صوت ، ويرى كل مشهد ، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم ،( وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أنّ الإسلام لا ينظر فقط إلى الجوانب المعنوية والأخروية ، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معا.

* * *

٤٨٣

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) )

التّفسير

العدالة الاجتماعية :

على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ مبدأ أساسيا وقانونا كليا في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء ، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ).

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة «قوّام» وهي صيغة مبالغة من «قائم» وتعني «كثير القيام» أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور ، لكي يصبح العدل جزءا من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم وروحهم.

٤٨٤

والإتيان بكلمة «القيام» في هذا المكان ، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإنسان حين يريد القيام بأي عمل ، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل،وعلى هذا الأساس فإن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإرادة الرّاسخة والإجراء لإنجاز العمل،حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إلى القيام لدى ممارسة عمله.

ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر ، وهو أنّ كلمة «القائم» تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إلى اليمين أو الشمال ، وعلى هذا فإن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيدا لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة ، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط ، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه( شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ).

وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات ، وبالأخص المجتمعات الجاهلية ، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد ، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.

وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إلى المدينة يتجنبون الإدلاء بالشهادة لاعتبارات القرابة والنسب ، إذا كانت الشهادة تؤدي إلى الإضرار بمصالح اقربائهم ، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء(١) .

ولكن ـ وكما تشير الآية الكريمة ـ فإنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإيمان،

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء الخامس ، ص ٤٥٥.

٤٨٥

لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماما للاعتبارات في مجال الحق والعدل ، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.

وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإدلاء بالشهادة لصالح ـ أو ضد ـ بعضهما البعض ، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إلّا إذا كانت القرائن تشير إلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).

وتشير الآية بعد ذلك عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة ، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة ، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء ، يجب أن تكون سببا في الامتناع عن الأدلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء ، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم ، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله ، ولا الفقير سيبيت جوعانا بسبب تحقيق العدالة ، تقول الآية في هذا المجال:( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ) .

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى ، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية :( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) (١) .

ويتّضح من هذه الجملة ـ بجلاء ـ أن مصدر الظلم والجور كلّه ، هو اتّباع الهوى،فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة ، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أخرى ، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد ـ فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب

__________________

(١) يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقا إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا : فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل،وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا : فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الانحراف عن الحق.

٤٨٦

الحق عن حقّه ، أو تحريف الحق ، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه ، فتقول الآية :( وَإِنْ تَلْوُوا (١) أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) .

وجملة( إِنْ تَلْوُوا ) تشير ـ في الواقع ـ إلى تحريف الحق وتغييره ، بينما تشير جملة «تعرضوا» إلى الامتناع عن الحكم بالحق ، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإمام الباقرعليه‌السلام (٢) .

والطريف أن الآية اختتمت بكلمة( خَبِيراً ) ولم تختتم بكلمة «عليما» لأنّ كلمة «خبير» تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعا على جزئيات ودقائق موضوع معين،وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان ، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إظهار الباطل حقا،ويجازي على هذا العمل.

وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية ، وإن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية الإنسانية الاجتماعية الحساسة ، وممّا يؤسف له كثيرا أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي ، وإن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

* * *

__________________

(١) إن عبارة «تلووا» مشتقة من المصدر «لي» على وزن «طي» وتعني المنع والإعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللي والبرم.

(٢) تفسير التبيان ، الجزء الخامس ، ص ٣٥٦.

٤٨٧

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) )

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات أهل الكتاب ـ مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر من هؤلاء ـ والسبب هو أنّهم قدموا منذ البداية على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : إنّهم قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزيز ، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء ، فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية(١) .

التّفسير

يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل

__________________

(١) تفسير مجمع البيان والمنار.

٤٨٨

الكتاب الذين قبلوا الإسلام ، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه ، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والاعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية ، لأنّ هؤلاء جميعا يسيرون نحو هدف واحد ، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علما بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به،فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين).

ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل،فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها ، وأنّ العصبيات ليس بإمكانها الوقوف أمام الحقائق ، لذلك تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ).

وبعض النظر عن سبب النّزول المذكور ، فإنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجها فيها لعامّة المؤمنين ، أولئك الذين اعتنقوا الإسلام إلّا أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم ، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم.

كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إجمالية بالله والأنبياء ، إلّا أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإسلامية.

ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله ، لأن عدم الإيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إنكار حكمة الله ، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟! وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي ـ فقط ـ الذين يعد

٤٨٩

الإيمان بهم جزءا لا يتجزأ من الإيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية ، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع ، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإرادة عالم الكون والخليقة ؛ وإن الإيمان بهم في الحقيقة جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية ـ في آخرها ـ مصير الذين يجهلون هذه الحقائق ، حيث قالت :( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ) .

وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجبا وضروريا بخمسة مبادئ ، فبالإضافة إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فإن الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

إنّ عبارة «ضلال بعيد» عبارة دقيقة ، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادئ الخمسة المارة الذكر ، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي ، وأن عودتهم إلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.

* * *

٤٩٠

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) )

التّفسير

مصير المنافقين المعاندين :

تماشيا مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد ، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء ، فهم في يوم إلى جانب المؤمنين ، وفي يوم آخر إلى جانب الكفار ، ثمّ إلى جانب المؤمنين ، وفي النهاية إلى جانب الكفار المعاندين ، حتى يموتوا على هذه الحالة! فالآية الأولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء ، فتؤكد بأنّ الله لن يغفر لهم أبدا ، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ) .

٤٩١

إنّ هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي ، إمّا أن يكون نابعا من الجهل وعدم إدراك الأسس الإسلامية ، وإمّا أن يكون خطّة نفّذها المنافقون والكفار المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إيمان المسلمين الحقيقيين ، وقد سبق شرح هذا الموضوع في الآية (٧٢) من سورة آل عمران.

ولا تدل الآية ـ موضوع البحث ـ على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء ، ولكنها تتناول أفرادا يموتون وهم في كفر شديد ، فإنّ هؤلاء ـ نتيجة لأعمالهم ـ لا يستحقون العفو والهداية إلّا إذا غيروا اسلوبهم ذلك.

ثمّ تؤكّد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول :( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

واستخدام عبارة (بشر) في الآية إنّما جاء من باب التهكم والاستهزاء بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون ، أو أنّ العبارة مشتقة من المصدر «بشر» بمعنى الوجه ، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل خبر يؤثر في سحنة الإنسان ، سواء كان الخبر مفرحا أو محزنا.

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفار أصدقاء وأحباء لهم بدلا من المؤمنين ، بقولها :( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ثمّ يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين ، وهل أنّهم يريدون حقّا أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية :( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) بينما العزة والشرف كلها لله( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) لأنّها تنبع من العلم والقدرة،وأن الكفار لا يمتلكون من القوّة والعلم شيئا ، ولذلك فإنّ علمهم لا شيء أيضا،ولا يستطيعون إنجاز شيء لكي يصبحوا مصدرا للعزّة والشرف.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة

٤٩٢

في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام ، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله ، وأعداء الإسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد عليهم ، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم ، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا ، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي.

* * *

٤٩٣

الآية

( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) )

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ نفرا من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء اليهود ، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الاجتماعات ، فنزلت هذه الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.

التّفسير

النّهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها :

لقد ورد في الآية (٦٨) من سورة الانعام أمر صريح إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يعرض عن أناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق ، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحده بل يعتبر حكما وأمرا عاما يجب على جميع المسلمين اتّباعه ، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٤٩٤

وفلسفته جلية واضحة ، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.

والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أخرى ، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم ، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر ، تقول الآية :( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) .

بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل ، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير أولئك المستهزئين ، تقول الآية:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) .

ثمّ تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون ، وإن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم،تقول الآية :( إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) .

إنّ الآية تخبرنا عن عدة أمور :

١ ـ إنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية ، حتى لو بقي المشارك ساكتا أو ساكنا ولم يشارك في الاستهزاء بنفسه ، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.

٢ ـ لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإيجابي له ، فلا بدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية ، مثل أن يبتعد الإنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.

٣ ـ إنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية ، إنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.

٤٩٥

٤ ـ لا ضير من مجالسة الكفار إن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطرا آخر ، ويدل على إباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية :( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) .

٥ ـ إنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين ، إنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل ، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية ، دون أن يبدي اعتراضا على هذه المعاصي،أو ـ على الأقل ـ أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.

* * *

٤٩٦

الآية

( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) )

التّفسير

صفات المنافقين :

تبيّن هذه الآية ـ وآيات أخرى تالية ـ قسما آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة ، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائما لاستغلال أي حدث لصالحهم ، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين ، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعما مؤثرا للمؤمنين في هذا المجال ، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم :( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ).

وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء ، ويعلنون لهم الرضى والموافقة

٤٩٧

بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الاستسلام لهم ، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية :( وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ) .(١)

وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى انتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم ، ولإظهار المنّة على المسلمين ، وفي حالة انكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار ، وتدفعهم إلى الإصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم ، وتهيئ لهم أسباب الفوز المادي ، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار ، وتارة شركاؤهم في الجريمة ، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء ، ويبيّن أنّهم ـ لا محالة ـ سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة ، وعند ذلك ـ أي في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة ـ سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين ، فتقول الآية في هذا المجال :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء ، تؤكد هذه الآية ـ في آخرها ـ بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للانتصار أو التسلط على المسلمين ، وذلك حيث تقول الآية :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) .

وهنا يرد هذا السؤال ، وهو : هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم انتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق ، أو أنّها تشمل عدم انتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضا؟

ولما كانت كلمة «سبيل» نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاما ،

__________________

(١) إن عبارة «استحوذ» مشتقة من «حوذ» وهي تعني هنا دفع أو ساق إلى القيام بأمر معين.

٤٩٨

لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإضافة إلى عدم انتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية ، بل ولا في أي مجال آخر.

وما نشاهده من انتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة ، إنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا ـ في الحقيقة ـ المسلمين ، المؤمنين الحقيقيين ، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإيمانية ، وتخلوا عن مسئولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة ، فلا كلام عن الاتحاد والتضامن والأخوة الإسلامية بينهم ، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي ، كما لم يبادروا إلى اكتساب العلم الذي أوجبه الإسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة،حيث قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أطلب العلم من المهد إلى اللّحد».

ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.

وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية ، ونظرا للعمومية الملحوظة في الآية ، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضا.

وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة «الفتح» بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة «النصيب» وهو إشارة إلى أن انتصار الكفار إنّما هو نصيب محدود وزائل ، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.

* * *

٤٩٩

الآيتان

( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) )

التّفسير

لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين ، في عبارة قصيرة ، وهي : ـ

١ ـ إنّ هؤلاء ـ لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة ـ يتوسلون بالخدعة والحيلة ، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضا ، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم ، إذ هم ـ لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة ـ يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم ، تقول الآية في هذا المجال :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) .

ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة :( وَهُوَ خادِعُهُمْ ) .

هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من

٥٠٠

مواطنيه ، بأن ينتبهوا لكي لا يخدعهم المسافرون الغرباء ، فقال أحدهم : كيف يمكن للغرباء البسطاء الذين لا يعرفون شيئا عن وضع المدينة وأهلها ، أن يخدعوا أهل الحرف فيها نحن بمقدورنا خداع أولئك الغرباء ، فأجابهم بأن قصده من الانخداع بالغرباء هو هذا المعنى ، أي أن تنالوا من هؤلاء ثروة تافهة بالخداع ، وتفقدوا بذلك ثروة الإيمان العظيمة!

2 ـ إنّ المنافقين بعيدون عن رحمة الله ، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة الله والتقرب إليه،ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إليها وهم كسالى خائر والقوى،تقول الآية في هذا الأمر :( وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ) .

3 ـ ولما كان المنافقون لا يؤمنون بالله وبوعوده ، فهم حين يقومون بأداء عبادة معينة، إنّما يفعلون ذلك رياء ونفاقا وليس من أجل مرضاة الله ، تقول الآية :( يُراؤُنَ النَّاسَ ) .

4 ـ ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشيء من ذكر الله ، فإنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن ، لأنّه ليس من قلوبهم ، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم ، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادر وقليل ، تقول الآية :( وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً ) .

5 ـ إنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة لطريقة الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب ، فلا هم مع المؤمنين حقّا ولا هم يقفون إلى جانب الكفار ظاهرا ، وفي هذا تقول الآية الكريمة :( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ) .

ويحسن هنا الالتفات إلى أنّ كلمة «مذبذب» اسم مفعول من الأصل «ذبذب» وهي تعني في الأصل صوتا خاصا يسمع لدى تحريك شيء معلق إثر تصادمه بأمواج الهواء،وقد أطلقت كلمة «مذبذب» على الإنسان الحائر الذي يفتقر إلى

٥٠١

الهدف أو إلى أي خطّة وطريقة للحياة.

هذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين ، كما هي إشارة إلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم ونطقهم ، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشيء معلق يتحرك بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين ، بل يحركه الهواء من أي صوب كان اتجاهه ويأخذه معه إلى الجهة التي يتحرك فيها.

وتبين الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين ، وتوضح أنّهم أناس قد سلب الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم ، فهم لن يهتدوا أبدا إلى طريق النجاة ، لأنّ الله كتب عليهم التيه والضلالة عقابا لهم على أعمالهم.

تقول الآية الكريمة في ذلك :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ، (وقد شرحنا معنى الإضلال ، وبيّنا كيف أنّه لا يتنافى مع حرية الإرادة والانتخاب ، وذلك في الجزء الأوّل من هذا التّفسير في هامش الآية (26) من سورة البقرة).

* * *

٥٠٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) )

التّفسير

لقد أشارت الآيات السابقة إلى قسم من صفات المنافقين ، والآيات التالية ـ هذه ـ تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل الاعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وتبيّن أنّ الاعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقا صارخا للقانون الإلهي وشركا بالله،ونظرا لقانون العدل الإلهي فإن هذه الجريمة تستحق عقابا شديدا ، حيث تؤكد الآية :( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) (1) .

__________________

(1) إنّ كلمة «سلطان» مشتقة من مادة أو مصدر «سلاطة» على وزن «مقالة» وهي تعني القوة والقدرة على التغلب

٥٠٣

وفي الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين ، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين أصدقاء لأنفسهم ، حيث توضح الآية أنّ المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم ، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبدا ، تقول الآية :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ) .(1)

ويتبيّن من هذه الآية أن النفاق في نظر الإسلام أشد أنواع الكفر ، وإن المنافقين أبعد الخلق من الله ، ولهذا السبب فإن مستقرهم ومكانهم النهائي في أحط نقطة من نقاط جهنم ، وهم يستحقون هذا العقاب ، لأنّ ما يلحق البشرية من ويلات من جانب هؤلاء هو أشد خطرا من كل الأخطار ، فإنّ هؤلاء بسبب احتمائهم بظاهر الإيمان يحملون بصورة غادرة وبمطلق الحرية على المؤمنين العزل ويطعنونهم من الخلف بخناجرهم المسمومة ، وبديهي أن يكون حال اعداء ـ كهؤلاء ـ يظهرون بلباس الأصدقاء ، أشدّ خطرا من الأعداء المعروفين الذين يعلنون عداوتهم صراحة ، وفي الواقع فإنّ النّفاق هو أسلوب وسلوك كل فرد ابتر ومنحط ومشبوه وجبان وملوث بكل الخبائث ومن لا شخصية له.

وقد أوضحت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة ، أنّ المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثا للتوبة من أعمالهم وإصلاح شأنهم ، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين،والعودة إلى رحمة الله والتمسك بحبله والإخلاص لله بالإيمان به تقول الآية :( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) .

__________________

على الآخرين ، وفي كلمة «سلطان» معنى لاسم المصدر حيث تطلق على كل أنواع التسلط ، ولهذا السبب تطلق كلمة «سلطان» أيضا على «السبب» الذي يسلط الإنسان على الآخرين من أمثاله ، كما تطلق على أصحاب القدرة والنفوذ ، ولكنها في الآية المذكورة أعلاه إنما تعني الحجة والدليل.

(1) إنّ كلمة «درك» تعني أحط نقطة في أعماق البحر ، ويسمى آخر حبل متصل بالحبال التي توصل الإنسان إلى قعر البحر ، بـ «الدرك» أيضا ، ويظهر أن هذه المعاني مأخوذة من معنى «درك الشيء» أي الوصول إليه ـ كما تسمّى السلالم التي توصل الإنسان إلى موضع سفلى كالسرداب والبئر بـ «الدرك» وهذه العبارة تقابل السلالم التي يتسلق بها الإنسان إلى أعلى حيث تسمّى بالدرجات.

٥٠٤

فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة المؤمنين،تقول الآية :( فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ).

وإنّ الله سيهب ثوابا وأجرا عظيما لكل المؤمنين( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ) .

وممّا يلفت النظر أنّ الآية تبيّن أن هؤلاء التائبين مع المؤمنين ، وذلك للتدليل على أن منزلة المؤمنين الثابتين أكبر وأعظم من منزلة هؤلاء ، فالمؤمنون الراسخون في إيمانهم هم الأصل، وهؤلاء هم الفروع ، وما يظهر عليهم من نور وصفاء إنّما هو بسبب وجودهم في ظل المؤمنين الراسخين.

وهناك أمر ثان يجب الانتباه إليه في هذه الآية ، وهو أنّها بيّنت مسير المنافقين بصورة واضحة وصريحة ، إذ عينت لهم أحط نقطة من الجحيم مكانا ومستقرا ، بينما شخصت للمؤمنين الأجر والثواب العظيم الذي لا حدّ له ولا حصر ، بل هو منوط بعظمة الله ولطفه جلت عظمته.

* * *

٥٠٥

الآية

( ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (147) )

التّفسير

العقاب الإلهي ليس دافعه الانتقام :

لقد أظهرت وبيّنت الآيات السابقة صورا من عقاب الكافرين والمنافقين ، والآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ تشير إلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الانتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوّة ، كما أنّه ليس تعويضا عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي ، فهذه الأمور إنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة،والله سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبدا إلى شيء.

إذن فالعقاب الذي يلحق الإنسان لما يرتكبه من معاص ، إنما هو انعكاس للنتائج السيئة التي ترتبت على تلك المعاصي ـ سواء كانت فعلية أو فكرية ـ ولذلك يقول الله تعالى عزّ من قائل في هذه الآية :( ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ) .

وبالنظر إلى أنّ حقيقة الشكر هي أن يستغل الإنسان النعم التي وهبها الله له

٥٠٦

في الجهات المخصصة لها في الطبيعة والخلق ، يتّضح لنا أنّ القصد من الآية إنّما هو : إنّ من يؤمن ويعمل الخير ويستغل الهبات الإلهية في المجالات التي خصصت لها من حيث الخلق ـ دون إساءة هذا الاستغلال ـ فلا شك أنّ هذا الإنسان المؤمن لا يصيبه أي عقاب من الله ، ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبيّنة أنّ الله عالم بأعمال ونوايا عباده ، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد لوجه الله. فتقول الآية :( وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً ) .

وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإيمان لأجل بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ الإنسان ما لم يدرك نعم الله وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن يستطيع التوصل إلى معرفة الله والايمان به ، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إنّما هي وسائل لمعرفته.

وقد ورد في كتب العقيدة الإسلامية في بحث «وجوب معرفة الله» عن جمع من الباحثين أنّهم استدلوا على معرفة الله بوجوب شكر النعم وجعلوا من الوجوب الفطري لشكر المنعم دليلا على لزوم معرفته (فدقق).

* * *

٥٠٧

الآيتان

( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) )

التّفسير

في هذه الآية إشارتان إلى التكاليف الأخلاقية الإسلامية :

الأولى : تبيّن أنّ الله لا يحبّ التجاهر بالكلام البذيء ، ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم ، فتقول الآية :( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ) .

إن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس ، نابع من حقيقة أنّ الله هو ستار العيوب ، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإساءة إلى سمعتهم ، وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ لكل إنسان نقاط ضعف خفية ، ولو انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده ، فيصعب عندئذ قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد ، لذلك منع الإسلام وحرّم التحدث عن نقائص أو فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم ، لتبقى الأواصر الاجتماعية قوية مستحكمة ، ورعاية للجوانب الإنسانية الأخرى في هذا المجال.

٥٠٨

وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة «سوء» تشمل كل أنواع القبح والفضيحة ، والمقصود من عبارة «الجهر من القول» هو كل حالة من الكشف والفضح اللفظي ، سواء كان بصورة شكوى ، أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة.

وقد استدل بهذه الآية ـ أيضا على تحريم الغيبة ، إلّا أن مفهومها لا ينحصر بهذه الصفة الأخيرة ، بل يشمل كل أنواع الكلام البذيء والمذموم.

إلّا أنّ الآية الكريمة لم تحرم القول بالسوء تحريما مطلقا ، فقد استثنت حالة يمكن فيهاأن يصار إلى الكشف والفضح ، وهذه الحالة هي إذا وقع الإنسان مظلوما حين قالت الآية :( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) وبهذا الدليل يستطيع المظلوم ـ في مقام الدفاع عن نفسه ـ أن يكشف فضائح الظالم ، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوئ الظالم أو توجيه النقد له،أو استغابته ، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.

وحقيقة هذا الاستثناء هي أنّ الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إساءة استغلال حكم المنع والتحريم ، ولكي لا يكون هذا الحكم سببا في سكوت المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم.

واضح من الآية بأنّ عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إطار بيان مساوئ الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه.

ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إساءة استغلال هذا الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكّدت على أنّ الله يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية :( وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً ) .

وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى النقطة المواجهة لهذا الحكم ، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوئ التي يجب أن تكتم إلّا في حالة استثنائية) كما تبيح ـ أو بالأحرى تحثّ ـ الفرد على إصدار العفو على من ارتكب السوء بحقّه ، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز

٥٠٩

القدير الذي يعفو عن عباده مع امتلاكه القدرة على الانتقام بأي صورة شاء ، فتقول الآية في هذا المجال :( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً ) .

العفو عن المعتدي وأثره على نزعة العدوان :

سؤال يطرأ هنا على الذهن وهو : ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييدا لظلمه وتشجيعا لنزعة العدوان لديه؟ ألا يؤدي العفو إلى ظهور حالة سلبية من اللامبالاة لدى المظلومين.

والجواب هو : أنّ العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم ، والدليل على ذلك ما نقرؤه في الأحكام الإسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم وأمر بعدم الخضوع له، كما في الآية( لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (1) وقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام «كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا»(2) وقوله تعالى :( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ (3) .

كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى :( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) (4) وقوله :( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) .(5)

من الممكن أن يتبادر إلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضا بين هذين الحكمين،ولدى الإمعان فيما ورد في المصادر الإسلامية في هذا المجال ، يتّضح أنّ العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله ، وإنّ الدعوة إلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر.

__________________

(1) البقرة ، 279.

(2) نهج البلاغة ، الوصية رقم 48.

(3) الحجرات ، 9.

(4) البقرة ، 237.

(5) النور ، 22.

٥١٠

ويجدر توضيح أنّ العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الإنتصار على العدو وهزيمته النهائية ، أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد من جانب العدو،ويكون العفو والصفح عنه سببا لإصلاحه واستقامته ودفعه إلى إعادة النظر في سلوكه،والتاريخ الإسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال ، والحديث المشهور القائل «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه»(1) خير دليل على هذا القول.

أمّا في حالة وجود خطر من جانب العدو ، واحتمال أن يؤدي العفو عنه إلى تجريه وتماديه أكثر في عدوانه ، أو إذا اعتبر العفو استسلاما للظلم وخضوعا أمامه ورضي به ، فإنّ الإسلام لا يجيز مطلقا مثل هذا العفو ، وكما أنّ أئمّة الإسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات.

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة العاشرة.

٥١١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) )

التّفسير

لا تمييز بين الأنبياء :

تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين ، ومواقف أخرى لطائفة من المؤمنين ، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين ، وهي بهذا تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.

وتشير الآية الأولى إلى طائفة فرقوا بين الأنبياء ، فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل ، فتؤكد أنّ هذا النفر من الناس كفار حقيقيون.

والواقع أنّ هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى ، فاليهود كانوا يرفضون الإيمان بالنّبي عيسى نبي النصارى ، واليهود والنصارى معا كانوا يرفضون

٥١٢

الإذعان لنبوة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين أنّ كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبياء.

وهذا التمييز بين الحقائق الثابتة وقبول بعضها ورفض البعض الآخر ، سببه أنّ هؤلاء كانوا يتبعون أهواءهم ونزواتهم ويسيرون وراء عصبياتهم الجاهلية ، وينبع أحيانا من حسد هؤلاء ونظرتهم الضيقة.

وهذا دليل عدم إيمان هؤلاء بالأنبياء وبالله ، لأنّ الإيمان ليس هو قبول ما طابق هوى النفس أو رفض ما يخالف الأهواء والميول ، فهذه الحالة ما هي إلّا نوع من عبادة الهوى ولا صلة لها بالإيمان ، فالإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفع الإنسان إلى قبول الحقيقة ـ سواء طابقت هواه وميوله أو خالفتهما ـ ولذلك فإنّ القرآن الكريم اعتبر الذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله وببعض الأنبياء كفارا حقيقيين ، وعلى هذا الأساس فإن ما يتظاهرون به من إيمان لا حقيقة ولا قيمة له مطلقا ، لأنّه لا ينبع من روح طلب الحقيقة.

والقرآن الكريم يهدد هؤلاء ـ وأمثالهم ـ بأنّهم يلقون الذل والهوان ، حيث تقول الآية:( وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية بـ «المهين» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإيمان بالبعض الآخر منهم ، إنّما يوجّهون الإهانة بحق عدد من الأنبياء ، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذابا مهينا يتناسب واهانتهم تلك.

التّناسب بين الذّنب والعقاب :

ويجدر هنا توضيح أنّ العذاب قد يكون أليما أحيانا ، مثل : الجلد والتعذيب الجسدي ، وقد يكون مهينا كرش الشخص بالقاذورات ، أو يكون العذاب عظيما كأن يكون العقاب أمام أعين الناس ، وقد يكون أثره عميقا في نفس الإنسان يستمر معه لمدّة طويلة ويسمى هذا بالعذاب الشديد ، وما إلى ذلك من أنواع العذاب.

٥١٣

وواضح أنّ وصف العذاب بواحد من الصفات يتناسب مع نوع الذنب ، ولذلك فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أنّ عقاب الظالمين هو العذاب الأليم ، لأنّه يتناسب وألم الظلم الذي يمارسه الظالم على المظلوم ، وهكذا بالنسبة للأنواع الأخرى من العذاب ، وقد قصدنا بهذا الشرح تقريب مسألة العذاب إلى الأذهان ، علما بأنّ العذاب الأخروي شيء لا يمكن مقارنته بما هو موجود من عذاب في حياتنا الدنيوية هذه.

وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى موقف المؤمنين الذين آمنوا بالله وبجميع أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل وأخلصوا للحق ، وكافحوا كل أنواع العصبيات الباطلة ، وبيّنت أنّ الله سيوفّي هؤلاء المؤمنين أجرهم وثوابهم في القريب العاجل ، فتقول الآية :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) .

وبديهي أنّ الإيمان بجميع الأنبياء والرسل لا يتنافى ومسألة تفضيل بعضهم على البعض الآخر ، لأنّ مسألة التفاضل هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بأهمية وعظم المسؤولية التي تحمّلها كل منهم ، وطبيعي أنّ المسؤوليات المناطة بالأنبياءعليهم‌السلام تتفاوت من حيث الأهمية والخطورة بالنسبة لكل منهم ، وقد ثبت هذا الأمر بالدليل القطعي والمهم هنا أن لا يحصل تمايز أو تفريق في الإيمان بالأنبياء والإقرار بنبوّتهم.

وقد أكدت الآية في الختام أنّ الله سيغفر للمؤمنين الذين ارتكبوا اخطاء بالانجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إن أخلص هؤلاء المؤمنون في إيمانهم وعادوا إلى الله،أي تابوا إليه من اخطائهم السابقة ، حيث تقول الآية :( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

ويجب الانتباه هنا إلى أنّ الآيات الأخيرة ذكرت الذين يعمدون إلى التفرقة بين الأنبياء بأنّهم كفار حقيقيون ، بينما لم تذكر الذين يؤمنون بجميع الأنبياء بأنّهم

٥١٤

مؤمنون حقا وحقيقة ، بل وصفتهم بالمؤمنين فقط ، وقد يكون هذا التفاوت في الوصف هو لبيان أنّ المؤمنين حقّا هم أولئك الذين استقرّ الإيمان في قلوبهم وظهرت آثاره على أعمالهم،وكما يقول الخبر المأثور بأنّ «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».

ويدلّ على هذا الأمر آيات وردت في بداية سورة الأنفال التي ذكرت المؤمنين بأوصاف عديدة : أوّلها الإيمان بالله ، ويلي ذلك إقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة والتوكل على الله والاعتماد عليه ، ثمّ يأتي التأكيد بعد سرد هذه الصفات في قول الله تعالى في الآية المذكورة:( أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) .

* * *

٥١٥

الآيتان

( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً(154) )

سبب النّزول

جاء في تفاسير «التبيان» و «مجمع البيان» و «روح المعاني» حول سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ عددا من اليهود جاءوا إلى النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : لو كنت حقّا نبيّا مرسلا من قبل الله فأرنا كتابك السماوي كلّه دفعة واحدة ، كما جاء موسى بالتوراة كلّها دفعة واحدة ، فنزلت الآيتان جوابا لهؤلاء اليهود.

التّفسير

هدف اليهود من اختلاق الأعذار :

تشير الآية الأولى إلى طلب أهل الكتاب «اليهود» من النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء كاملا وفي دفعة واحدة ، فتقول :( يَسْئَلُكَ أَهْلُ

٥١٦

الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ) .

ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإرشاد والهداية والتربية ، وقد يتحقق هذا الهدف أحيانا عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة ، وأحيانا أخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.

وبناء على هذا فقد كان الأجدر باليهود أن يطالبوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدليل ويسألوه عن تعاليم سامية قيمة ، لا أن يحددوا له طريقة لنزول الكتب السماوية ويطالبوه بأن ينزل عليهم كتابا الطريقة التي عينوها.

ولهذا السبب فضح الله نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا ، وأوضح للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود ، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلافهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمرانعليه‌السلام ، فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم الله جهارا وعلنا! تقول الآية :( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ).

وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد ، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد الله وتحديده ، وقد أدى عنادهم هذا إلى نزول عذاب الله عليهم ، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما ارتكبوه من ظلم كبير، تقول الآية :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) .

ثمّ تشير الآية إلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود ، وذلك حين لجئوا إلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة ، فتقول :( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ) .

ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك ، يريهم الله لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم ، ويهب لنبيّهم موسىعليه‌السلام ملكا بارزا وسلطانا مبينا ، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية :( فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً ) .

٥١٧

لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ ـ لم يستيقظوا من غفلتهم ، ولم يخرجوا من ضلالتهم ، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم ، فرفع الله جبل الطور لينزله على رؤوسهم ، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن يدخلوا خاضعين خاشعين ـ من باب بيت المقدس ـ دليلا على توبتهم وندمهم ، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيّام السبت ، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان ، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم ، وفوق كل ذلك أخذ الله منهم ميثاقا غليظا مؤكّدا ، ولكنّهم لم يثبتوا ـ مطلقا ـ وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود(1) يقول القرآن الكريم في هذا المجال :( وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) .

فهل يصح أن تكون هذه المجموعة مع ما تمتلكه من سوابق سيئة وتاريخ أسود صادقة مع النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما طلبته منه وإن كان هؤلاء صادقين ، لما ذا إذن لم يلتزموا بما نزل عليهم صريحا في كتابهم السماوي وحول العلامات الخاصّة بخاتم النّبيين؟ ولما ذا أصروا على تجاهل كل ما أتى به النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من براهين وأدلة واضحة بيّنة؟وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين ، وهما :

أوّلا : لو اعترض معترض فقال : إن تلك الأعمال كانت خاصّة باليهود السابقين،فما صلتها باليهود في زمن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فنقول : إنّ اليهود في زمن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبدوا اعتراضا واستنكارا ـ أبدا ـ لأعمال أسلافهم السابقين ، بل كانوا يظهرون الرضى عن تلك الأعمال.

__________________

(1) للاطلاع أكثر على قضية جبل الطّور ، وهل أنّ رفعه فوق رؤوس اليهود كان نتيجة زلزلة ، أم هناك عامل آخر وكذلك فيما يتعلق بعجل السامري ، ومساوئ اليهود ، راجع الجزء الأوّل من هذا التّفسير في البحث الخاص بهذه المواضيع.

٥١٨

أمّا الأمر الثّاني : فيخصّ مسألة نزول التوراة دفعة واحدة ، حيث قلنا في سبب نزول الآيتين الأخيرتين : «إنّ اليهود كانوا يزعمون نزول هذا الكتاب السماوي دفعة واحدة ، في حين أنّ هذا الأمر لا يعتبر من الأمور المؤكّدة ، ولعل الشيء الذي أدى إلى حصول هذا الوهم هو الوصايا العشرة» التي نزلت في ألواح دفعة واحدة على النّبي موسىعليه‌السلام ، بينما لا يوجد لدينا دليل على نزول بقية أحكام التوراة دفعة واحدة.

٥١٩

الآيات

( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) )

التّفسير

نماذج أخرى من ممارسات اليهود العدوانية :

تشير هذه الآيات إلى نماذج أخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.

فالآية الأولى تشير إلى قيام اليهود بنقض العهود ، وإلى ارتداد بعضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء ، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة.

فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710