الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173448 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

لها أبدا ، لن يكون عاجزا ـ مطلقا ـ عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكّد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر ، تشير الآية إلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعا كما طلب منكم مراعاة التقوى( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ).

بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين ، فتؤكد لهم أن الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم ، وأن ليس لله بتقواهم حاجة ، كما تؤكد أنّهم إذا عصوا وبغوا ، فإنّ ذلك لا يضرّ الله أبدا ، لأنّ الله هو مالك ما في السّموات وما في الأرض ، فهو غير محتاج إلى أحد أبدا ، ومن حقّه أن يشكره عباده دائما وأبدا ،( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً ) .

الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى ـ حقيقة ـ لأنّهعزوجل غني بالذات ، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إنّما يتمّ بعونه ومدده ، وكل المخلوقات محتاجة إليه احتياجا ذاتيا ، لذلك فهو يستحق ـ لذاته ـ أن يشكره عباده ومخلوقاته ، كما أنّ كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته ، بل هي كلّها في ذاته ، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتا كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.

وفي الآية التالية جرى التأكيد ـ وللمرة الثّالثة ـ على أنّ كل ما في السموات وما في الأرض هو ملك لله ، وإنّ الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

وقد يرد سؤال ـ هنا ـ عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدّا ، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع ، أم هناك سرّ آخر؟

وبالإمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل

٤٨١

مرّة على أمر خاص : ففي المرّة الأولى حيث تحمل الآية وعدا لزوجين بأنّهما إذا انفصلا فإن الله سيغنيهما ولأجل إثبات قدرة الله على ذلك ، يذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض.

أمّا في المرّة الثّانية فإنّ الآية توصي بالتقوى ، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة لله ، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له ، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشيء ، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض.

وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قالعليه‌السلام : «بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم آمنا عن معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه»(١) .

ويذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض للمرّة الثّالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية (١٣٣) ، ثمّ يبيّن ـ عز من قائل ـ أنّه لا يأبه في أن يزيل قوما عن الوجود،ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعدادا وعزما وأكثر دأبا في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً ) .

وفي تفسير «التبيان» وتفسير «مجمع البيان» نقلا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس.

وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون الإيرانيون إلى الإسلام.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣.

٤٨٢

والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية ، ورد الحديث فيها عن أناس يزعمون أنّهم مسلمون ، ويشاركون في ميادين الجهاد ، ويطبقون أحكام الإسلام ، دون أن يكون لهم هدف إلهي ، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا ، لأنّ الله عنده ثواب الدنيا والآخرة معا( مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) .

فلما ذا لا يطلب ـ ولا يرجوا ـ هؤلاء ، الثوابين معا؟! والله يعلم بنوايا الجميع،ويسمع كل صوت ، ويرى كل مشهد ، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم ،( وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أنّ الإسلام لا ينظر فقط إلى الجوانب المعنوية والأخروية ، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معا.

* * *

٤٨٣

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) )

التّفسير

العدالة الاجتماعية :

على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ مبدأ أساسيا وقانونا كليا في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء ، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ).

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة «قوّام» وهي صيغة مبالغة من «قائم» وتعني «كثير القيام» أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور ، لكي يصبح العدل جزءا من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم وروحهم.

٤٨٤

والإتيان بكلمة «القيام» في هذا المكان ، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإنسان حين يريد القيام بأي عمل ، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل،وعلى هذا الأساس فإن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإرادة الرّاسخة والإجراء لإنجاز العمل،حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إلى القيام لدى ممارسة عمله.

ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر ، وهو أنّ كلمة «القائم» تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إلى اليمين أو الشمال ، وعلى هذا فإن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيدا لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة ، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط ، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه( شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ).

وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات ، وبالأخص المجتمعات الجاهلية ، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد ، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.

وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إلى المدينة يتجنبون الإدلاء بالشهادة لاعتبارات القرابة والنسب ، إذا كانت الشهادة تؤدي إلى الإضرار بمصالح اقربائهم ، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء(١) .

ولكن ـ وكما تشير الآية الكريمة ـ فإنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإيمان،

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء الخامس ، ص ٤٥٥.

٤٨٥

لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماما للاعتبارات في مجال الحق والعدل ، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.

وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإدلاء بالشهادة لصالح ـ أو ضد ـ بعضهما البعض ، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إلّا إذا كانت القرائن تشير إلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).

وتشير الآية بعد ذلك عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة ، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة ، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء ، يجب أن تكون سببا في الامتناع عن الأدلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء ، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم ، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله ، ولا الفقير سيبيت جوعانا بسبب تحقيق العدالة ، تقول الآية في هذا المجال:( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ) .

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى ، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية :( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) (١) .

ويتّضح من هذه الجملة ـ بجلاء ـ أن مصدر الظلم والجور كلّه ، هو اتّباع الهوى،فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة ، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أخرى ، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد ـ فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب

__________________

(١) يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقا إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا : فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل،وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا : فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الانحراف عن الحق.

٤٨٦

الحق عن حقّه ، أو تحريف الحق ، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه ، فتقول الآية :( وَإِنْ تَلْوُوا (١) أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) .

وجملة( إِنْ تَلْوُوا ) تشير ـ في الواقع ـ إلى تحريف الحق وتغييره ، بينما تشير جملة «تعرضوا» إلى الامتناع عن الحكم بالحق ، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإمام الباقرعليه‌السلام (٢) .

والطريف أن الآية اختتمت بكلمة( خَبِيراً ) ولم تختتم بكلمة «عليما» لأنّ كلمة «خبير» تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعا على جزئيات ودقائق موضوع معين،وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان ، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إظهار الباطل حقا،ويجازي على هذا العمل.

وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية ، وإن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية الإنسانية الاجتماعية الحساسة ، وممّا يؤسف له كثيرا أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي ، وإن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

* * *

__________________

(١) إن عبارة «تلووا» مشتقة من المصدر «لي» على وزن «طي» وتعني المنع والإعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللي والبرم.

(٢) تفسير التبيان ، الجزء الخامس ، ص ٣٥٦.

٤٨٧

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) )

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات أهل الكتاب ـ مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر من هؤلاء ـ والسبب هو أنّهم قدموا منذ البداية على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : إنّهم قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزيز ، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء ، فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية(١) .

التّفسير

يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل

__________________

(١) تفسير مجمع البيان والمنار.

٤٨٨

الكتاب الذين قبلوا الإسلام ، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه ، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والاعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية ، لأنّ هؤلاء جميعا يسيرون نحو هدف واحد ، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علما بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به،فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين).

ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل،فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها ، وأنّ العصبيات ليس بإمكانها الوقوف أمام الحقائق ، لذلك تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ).

وبعض النظر عن سبب النّزول المذكور ، فإنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجها فيها لعامّة المؤمنين ، أولئك الذين اعتنقوا الإسلام إلّا أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم ، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم.

كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إجمالية بالله والأنبياء ، إلّا أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإسلامية.

ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله ، لأن عدم الإيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إنكار حكمة الله ، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟! وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي ـ فقط ـ الذين يعد

٤٨٩

الإيمان بهم جزءا لا يتجزأ من الإيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية ، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع ، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإرادة عالم الكون والخليقة ؛ وإن الإيمان بهم في الحقيقة جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية ـ في آخرها ـ مصير الذين يجهلون هذه الحقائق ، حيث قالت :( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ) .

وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجبا وضروريا بخمسة مبادئ ، فبالإضافة إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فإن الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

إنّ عبارة «ضلال بعيد» عبارة دقيقة ، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادئ الخمسة المارة الذكر ، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي ، وأن عودتهم إلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.

* * *

٤٩٠

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) )

التّفسير

مصير المنافقين المعاندين :

تماشيا مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد ، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء ، فهم في يوم إلى جانب المؤمنين ، وفي يوم آخر إلى جانب الكفار ، ثمّ إلى جانب المؤمنين ، وفي النهاية إلى جانب الكفار المعاندين ، حتى يموتوا على هذه الحالة! فالآية الأولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء ، فتؤكد بأنّ الله لن يغفر لهم أبدا ، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ) .

٤٩١

إنّ هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي ، إمّا أن يكون نابعا من الجهل وعدم إدراك الأسس الإسلامية ، وإمّا أن يكون خطّة نفّذها المنافقون والكفار المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إيمان المسلمين الحقيقيين ، وقد سبق شرح هذا الموضوع في الآية (٧٢) من سورة آل عمران.

ولا تدل الآية ـ موضوع البحث ـ على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء ، ولكنها تتناول أفرادا يموتون وهم في كفر شديد ، فإنّ هؤلاء ـ نتيجة لأعمالهم ـ لا يستحقون العفو والهداية إلّا إذا غيروا اسلوبهم ذلك.

ثمّ تؤكّد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول :( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

واستخدام عبارة (بشر) في الآية إنّما جاء من باب التهكم والاستهزاء بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون ، أو أنّ العبارة مشتقة من المصدر «بشر» بمعنى الوجه ، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل خبر يؤثر في سحنة الإنسان ، سواء كان الخبر مفرحا أو محزنا.

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفار أصدقاء وأحباء لهم بدلا من المؤمنين ، بقولها :( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ثمّ يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين ، وهل أنّهم يريدون حقّا أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية :( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) بينما العزة والشرف كلها لله( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) لأنّها تنبع من العلم والقدرة،وأن الكفار لا يمتلكون من القوّة والعلم شيئا ، ولذلك فإنّ علمهم لا شيء أيضا،ولا يستطيعون إنجاز شيء لكي يصبحوا مصدرا للعزّة والشرف.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة

٤٩٢

في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام ، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله ، وأعداء الإسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد عليهم ، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم ، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا ، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي.

* * *

٤٩٣

الآية

( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) )

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ نفرا من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء اليهود ، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الاجتماعات ، فنزلت هذه الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.

التّفسير

النّهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها :

لقد ورد في الآية (٦٨) من سورة الانعام أمر صريح إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يعرض عن أناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق ، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحده بل يعتبر حكما وأمرا عاما يجب على جميع المسلمين اتّباعه ، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٤٩٤

وفلسفته جلية واضحة ، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.

والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أخرى ، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم ، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر ، تقول الآية :( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) .

بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل ، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير أولئك المستهزئين ، تقول الآية:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) .

ثمّ تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون ، وإن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم،تقول الآية :( إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) .

إنّ الآية تخبرنا عن عدة أمور :

١ ـ إنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية ، حتى لو بقي المشارك ساكتا أو ساكنا ولم يشارك في الاستهزاء بنفسه ، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.

٢ ـ لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإيجابي له ، فلا بدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية ، مثل أن يبتعد الإنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.

٣ ـ إنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية ، إنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.

٤٩٥

٤ ـ لا ضير من مجالسة الكفار إن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطرا آخر ، ويدل على إباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية :( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) .

٥ ـ إنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين ، إنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل ، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية ، دون أن يبدي اعتراضا على هذه المعاصي،أو ـ على الأقل ـ أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.

* * *

٤٩٦

الآية

( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) )

التّفسير

صفات المنافقين :

تبيّن هذه الآية ـ وآيات أخرى تالية ـ قسما آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة ، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائما لاستغلال أي حدث لصالحهم ، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين ، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعما مؤثرا للمؤمنين في هذا المجال ، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم :( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ).

وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء ، ويعلنون لهم الرضى والموافقة

٤٩٧

بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الاستسلام لهم ، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية :( وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ) .(١)

وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى انتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم ، ولإظهار المنّة على المسلمين ، وفي حالة انكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار ، وتدفعهم إلى الإصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم ، وتهيئ لهم أسباب الفوز المادي ، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار ، وتارة شركاؤهم في الجريمة ، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء ، ويبيّن أنّهم ـ لا محالة ـ سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة ، وعند ذلك ـ أي في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة ـ سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين ، فتقول الآية في هذا المجال :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء ، تؤكد هذه الآية ـ في آخرها ـ بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للانتصار أو التسلط على المسلمين ، وذلك حيث تقول الآية :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) .

وهنا يرد هذا السؤال ، وهو : هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم انتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق ، أو أنّها تشمل عدم انتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضا؟

ولما كانت كلمة «سبيل» نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاما ،

__________________

(١) إن عبارة «استحوذ» مشتقة من «حوذ» وهي تعني هنا دفع أو ساق إلى القيام بأمر معين.

٤٩٨

لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإضافة إلى عدم انتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية ، بل ولا في أي مجال آخر.

وما نشاهده من انتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة ، إنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا ـ في الحقيقة ـ المسلمين ، المؤمنين الحقيقيين ، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإيمانية ، وتخلوا عن مسئولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة ، فلا كلام عن الاتحاد والتضامن والأخوة الإسلامية بينهم ، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي ، كما لم يبادروا إلى اكتساب العلم الذي أوجبه الإسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة،حيث قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أطلب العلم من المهد إلى اللّحد».

ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.

وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية ، ونظرا للعمومية الملحوظة في الآية ، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضا.

وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة «الفتح» بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة «النصيب» وهو إشارة إلى أن انتصار الكفار إنّما هو نصيب محدود وزائل ، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.

* * *

٤٩٩

الآيتان

( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) )

التّفسير

لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين ، في عبارة قصيرة ، وهي : ـ

١ ـ إنّ هؤلاء ـ لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة ـ يتوسلون بالخدعة والحيلة ، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضا ، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم ، إذ هم ـ لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة ـ يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم ، تقول الآية في هذا المجال :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) .

ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة :( وَهُوَ خادِعُهُمْ ) .

هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710