الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188581 / تحميل: 6852
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ ، بل تمادوا في غيّهم ، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى ، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله ، إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة ، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الأولى من الآيات الأربع الأخيرة:( فَبِما نَقْضِهِمْ (١) مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ ) .

وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقا ، بحيث لا ينفذ إليها أي حقّ،وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم ، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّا القليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتانا عظيما ، هي أمّ لأحد أنبياء الله الكبار ، وذلك لأنّها حملت به بإذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال :( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) .

وقد تباهي هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء ، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ، تقول الآية :( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية ، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح ، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ، بل صلبوا شخصا شبيها بعيسى المسيحعليه‌السلام ، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها :( وَما قَتَلُوهُ وَما

__________________

(١) إن عبارة «فبما نقضهم» من ناحية الإعراب جار ومجرور ، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره «لعناهم» أو جملة «حرمنا عليهم» الواردة في الآية (١٦٠) التالية ، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإطار يكون بمثابة جملة معترضة ، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.

٥٢١

صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) .

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيحعليه‌السلام كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم ، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول ، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن ، تقول الآية :( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ) .

وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية ، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيحعليه‌السلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنا لله،ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبيّا ، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيحعليه‌السلام حيث قال البعض بأنّه قتل ، وقال آخرون بأنّه لم يقتل ، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيحعليه‌السلام ، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح ، أو هو شخص غيره ...؟! ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا ، بل رفعه الله إليه ، والله هو القادر على كل شيء ، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء ، تقول الآية :( وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

اسطورة الصّليب؟

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيحعليه‌السلام لم يقتل ولم يصلب ، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه ، وهم لم يقتلوه أبدا!

أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ

٥٢٢

المسيحعليه‌السلام قد صلب وقتل على هذه الصورة ، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا» وبصورة تفصيلية.

والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة ، ومسألة الصلب أو قتل المسيحعليه‌السلام تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية ، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيحعليه‌السلام مجرّد نبي أرسل لهداية وإرشاد البشرية ، بل يعتقدون بأنّه «ابن الله» من أركان الثالوث المقدس لديهم ، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إلى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.

فيقولون : إنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم ، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر ، ولينقذ البشرية من العقاب ، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإيمان بهذا الموضوع.

ومن هذا المنطلق فهم ـ أحيانا ـ يدعون المسيحية بدين «الإنقاذ» أو دين «الفداء» ويسمّون المسيحعليه‌السلام بـ «المنقذ» أو «المخلص» أو «الفادي».

واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارا لأنفسهم إنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.

كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيحعليه‌السلام .

أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة ، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام ، كان نبيّا كسائر أنبياء الله أوّلا ، ولم يكن هو الله ولا ابن الله ، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

وثانيا : إنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين ، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد ، فكل إنسان يؤاخذ بجريرته وعمله ، وإنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإيمان والعمل الصالح فقط.

٥٢٣

وثالثا : إنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب ، وتؤدي بالبشرية إلى التلوث والهلاك.

وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيحعليه‌السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة ، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة ، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الإعتقاد الفاسد ، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

رابعا : هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإعتقاد بصلب المسيحعليه‌السلام هي :

١ ـ المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر ، والتي تشهد بصلب المسيحعليه‌السلام ـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة ، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصارهعليه‌السلام ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضا أنّ حواري المسيحعليه‌السلام قد هربوا حين هجم الأعداء عليه،والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر(١) وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيحعليه‌السلام من أفواه الناس الآخرين ، ولم يكونوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب ، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إلى تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيحعليه‌السلام ، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

٢ ـ إنّ العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيحعليه‌السلام أمرا محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيحعليه‌السلام والتي ذهبت إلى بستان «جستيماني» هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أمور عسكرية ، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود

__________________

(١) لقد ترك الحواريون المسيحعليه‌السلام في ذلك الوقت وهربوا كلهم (من إنجيل متى، الإصحاح ٢٦ الجملة ٥٧).

٥٢٤

ولغتهم وتقاليدهم ، كما لم يميزوا بين حواري المسيحعليه‌السلام وبين المسيح نفسه.

٣ ـ تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيحعليه‌السلام قد تمّ ليلا ، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب ، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

٤ ـ يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد اختار الصمت أمام «بيلاطيس» الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إلّا بالقليل دفاعا عن نفسه ويستبعد كثيرا أن يقع عيسى المسيحعليه‌السلام في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس ، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.

ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر ـ كـ «يهوذا الأسخربوطي» الذي خان ووشى بعيسى المسيحعليه‌السلام وكان يشبهه كثيرا ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب ، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.

نقرأ في الأناجيل أنّ «يهوذا الأسخربوطي» لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبدا، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر(١) .

٥ ـ لقد بيّنا أنّ حواري المسيحعليه‌السلام ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم ، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون ، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد ، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدا بين الجنود الرومان ، ولم يكن أي من أصحابه قريبا منه ، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريبا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

٦ ـ ونقرأ في الأناجيل ـ أيضا ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه

__________________

(١) إنجيل متى ، الإصحاح ٣٧ ، الجملة ٦.

٥٢٥

(وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه(١) !

فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم ، فلا يليق لمن يحمل هدفا ساميا كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام،وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه ، بل كان إنسانا ضعيفا وجبانا ، وعاجزا ، ومثل هذا الإنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق ، لا يمكن أن يكون هذا الإنسان هو المسيحعليه‌السلام (٢) .

٧ ـ لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل «برنابا» قضية صلب المسيحعليه‌السلام (وهذا الإنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب(٣) وقد ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من هذا ، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسمائة عام(٤) .

كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيحعليه‌السلام .

* * *

__________________

(١) إنجيل متى ـ الإصحاح ٢٧ ، الجملتان ٤٦ و ٤٧.

(٢) لقد اقتبسنا عددا من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب «بطل الصليب».

(٣) تفسير المنار ، الجزء السابع ، ص ٣٤.

(٤) الميزان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٤٥.

٥٢٦

الآية

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(١٥٩) )

التّفسير

هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية ، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة :

١ ـ إنّ الآية تؤكّد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيحعليه‌السلام حيث تقول :( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) . وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا ، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت ، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها ، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به ، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به ، والذين وصفوه بالألوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وانحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه ، كما أنّ فرعون والأقوام الأخرى وأقوام استولى عليهم العذاب ، فقالوا : آمنا فلم ينفعهم إيمانهم أبدا ، فالأجدر بالإنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت ، حين لا ينفع الإيمان صاحبه.

٥٢٧

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ الضمير في عبارة «قبل موته» يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.

٢ ـ قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته ، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإعتقاد بربوبية المسيحعليه‌السلام ، ويحدث هذا ـ طبقا للروايات الإسلامية ـ حين ينزل المسيحعليه‌السلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه ، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام ، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام ، ولذلك فهي منسوخة به.

وبناء على هذا التّفسير فإن الضمير في عبارة «قبل موته» يعود إلى عيسى المسيحعليه‌السلام .

وقد نقل عن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(١) وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ونزول عيسى المسيحعليه‌السلام من السماء.

وجاء في تفسير «علي بن إبراهيم» نقلا عن «شهر بن حوشب» إنّ الحجاج ذكر يوما أن هناك آية في القرآن قد أتبعته كثيرا وهو حائر في معناها ، فسأله «شهر» عن الآية ، فقال الحجاج : إنّها آية( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثرا لمثل هذا الإيمان.

فأجابه «شهر» بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيرا صحيحا ، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية.

فأجاب «شهر» بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم،فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إلّا ويؤمن بالمسيح قبل موته ، وأن المسيح

__________________

(١) مسند أحمد ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن البيهقي ، كما جاء في تفسير الميزان.

٥٢٨

سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ «شهر» ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟فأجابه «شهر» بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

وعند ذلك قال الحجاج : «والله جئت بها من عين صافية»(١) .

وتقول الآية في الختام :( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) أي شهادة المسيحعليه‌السلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لاتّخاذه إلها من دون الله ، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية الله الواحد القهار.

سؤال :

وقد يعترض البعض بأنّ المسيحعليه‌السلام ـ كما جاء في الآية (١١٧) من سورة المائدة ـ إنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجودا فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده ، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول:( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) لكن الآية التي هي موضوع بحثنا الآن تدل على أنّ المسيحعليه‌السلام يشهد على الجميع يوم القيامة ، سواء أولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.

الجواب :

والجواب على هذا الاعتراض هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين،لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث ـ تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيحعليه‌السلام بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تشهد على أعمال أولئك القوم.

فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام سيشهد على جميع الذين نسبوا

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٢٦.

٥٢٩

له الألوهية ، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان ، وأن المسيحعليه‌السلام يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إلى مثل هذا الأمر أبدا ، بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تذكر على لسان المسيحعليه‌السلام أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأسلوب الصحيح ، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون انحرافهم ، إلّا أنّهم انحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجودا بينهم ، ليشهد على أعمالهم وليحول دون انحرافهم.

* * *

٥٣٠

الآيات

( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) )

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين من اليهود :

لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود ، أما الآيات الأخيرة فإنما ذكرت نماذج أخرى من تلك الانتهاكات ، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم ، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.

فالآية الأولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ الله قد حرم بعضا من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور ، وتصديهم للسائرين في

٥٣١

طريق الله ، حيث تقول الآية :( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً ) كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولاستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة ، فتقول الآية في هذا المجال :( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي ، بل سيذيقهم الله ـ أيضا ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود،تقول الآية الكريمة :( وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

وتجدر الإشارة ـ هنا إلى عدة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود ، ولم يكن هذا التحريم تحريما تكوينيا ، بل كان تحريما تشريعيا قانونيا ، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم.

وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حاليا ، في «سفر الآويين» في الفصل الحادي عشر ، ولكن لم تشر التوراة الحالية إلى الطابع العقابي لهذا التحريم(١) .

٢ ـ أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي ، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود ، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإنّ ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة «لهم» على عكس العقاب الأخروي الذي تخصصه الآية( لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ ) وعلى هذا الأساس فإن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود ، كما يحمل

__________________

(١) راجع الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٥٣٢

طابع الاختبار والامتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط ، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضا ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، نقلا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «إنّ زعماء بني إسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات ، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقابا لهم على ظلمهم وجورهم(١) ».

٣ ـ وتدل هذه الآية ـ أيضا ـ على أنّ تشريع تحريم «الربا» لم يقتصر على الإسلام وحده ، بل كان محرما لدى الأقوام والديانات السابقة ، والتوراة المتداولة حاليا والمحرفة إنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من أبناء عقيدتهم فقط ، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراما عليهم(٢) .

وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مرارا في آيات متعددة ، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق ، لأنّ الإسلام لم يذم أبناء أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي ، بل وجه الذم والانتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط ، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم ، حيث تقول الآية الكريمة :( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) (٣) .

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥٩.

(٢) التوراة ، سفر التثنية ، الفصل ٢٣ ، الجملتان ١٩ و ٢٠.

(٣) لقد شرحنا بنوع من التفصيل ، معنى عبارة «الراسخون في العلم» وذلك في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٥٣٣

وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّيّة الإسلام ، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام ، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المسلمين.

٥٣٤

الآيات

( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) )

التّفسير

لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء ، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم.

أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود ، وتؤكّد أنّ الله أوحى إلى نبيّه محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح ، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام وأنزل الوحي على

٥٣٥

الأنبياء من أبناء يعقوب ، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمانعليهم‌السلام ، وكما أنزل الله على داودعليه‌السلام كتاب الزّبور ، حيث تقول الآية :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) .

وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإلهي ، وإنّهم جميعا يسيرون في طريق واحد ، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.

وقد تكون هذه الآية خطابا للمشركين والكفار من عرب الجاهلية ، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء ، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وأنبياء لم يحك الله قصصهم ، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إلى خلقه ، وأنزل عليهم الوحي من عنده ، تقول الآية :( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) .

وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّا ، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي ، فتقول :( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ صلة الوحي ظلت باقية بين البشر ، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد ، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم ، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين ، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه،وينذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة ، تقول الآية :( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا

٥٣٦

يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .

فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة ، وبهذا تؤكد الآية( وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) فحكمته توجب تحقيق هذا العمل ، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه ، وعلى عكس ذلك فإن إهمال هذا الأمر المهم ، إمّا أن يدل على الافتقار إلى الحكمة والمعرفة ، أو أنّه دلالة على العجز ، والله منزّه عن كل هذه العيوب.

أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب ، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ) .

ولم يكن اختيار الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمنصب النّبوة أمرا عبثا ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الإختيار نابعا من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم،ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية :( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) .

ويمكن ـ أيضا ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر ، وهو أن ما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آيات إنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي ، وإن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحا على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإن الشاهد على صدق ادعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الآيات القرآنية ، ولا يحتاج إلى دليل آخر لإثبات دعوته ، فلو لم يكن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبدا ـ وهو المعروف بالأمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج الاجتماعية.

والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة ، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة :( وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ) .

٥٣٧

ويجب ـ هنا ـ الانتباه إلى عدّة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ بعض المفسّرين فهموا من عبارة( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إنّها تهدف إلى بيان حقيقة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله ، جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه ، وإنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى هذا الموضوع أيضا فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعا أو مستندا على تلك الروايات(١) .

٢ ـ نقرأ في الآيات الأخيرة أنّ الزّبور من الكتب السماوية أنزله الله على داود ـ ولا يتنافى هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط ، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين ، هما :

النّوع الأوّل : الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية ، حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة ، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة أنبياء هم «اولوا العزم».

النّوع الثّاني : الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة ، بل كان فيها الحكم والنصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدعاء ، وكتاب «الزّبور» الذي نزل على داودعليه‌السلام من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماوية ـ و «مزامير داود» أو «زبور داود» الذي ورد اسمه في «العهد القديم» دليل على هذا الأمر الذي أثبتناه ، مع العلم أنّ كتاب «العهد القديم» لم يسلم من التحريف ، كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأخرى من التحريف أيضا،إلّا أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه

__________________

(١) راجع تفاسير الصافي ، ص ٣٩ ، والبرهان الجزء الأوّل ، ص ٤٢٧ ، ونور الثقلين ، الجزء الأوّل، ص ٥٧٣.

٥٣٨

الكتب قد احتفظت نوعا ما بشكلها القديم.

وكتاب «مزامير داود» يشتمل على مائة وخمسين فصلا ، يسمى كل فصل منه «مزمورا» وهو من أوّله إلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإرشاد والدعاء والمناجاة.

ونقل عن أبي ذر رضى الله عنه أنّه سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي:بأن عددهم يبلغ مائة وأربعا وعشرين ألفا ، فسأل أبو ذر رضى الله عنه عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياء ـ فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء فسأل أبو ذر مرة أخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على أولئك الأنبياء والرسل ، فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأنّها مائة وأربع كتب ، نزل عشرة منها على آدم ، ونزل خمسون منها على شيث ، وثلاثون على إدريس ، وعشرة كتب على إبراهيم،حيث يصبح مجموع هذه الكتب مائة كتاب ، والأربعة الأخرى هي التوراة ، والإنجيل والزبور والقرآن(١) .

٣ ـ إنّ عبارة «أسباط» هي صيغة للجمع ومفردها «سبط» ومعناها طوائف بني إسرائيل ، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف(٢) .

٤ ـ لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة ، فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحيانا يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإلهام القلبي ، وأخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي ، أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها أنبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمرانعليه‌السلام ، فكان

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٧٦.

(٢) لقد ورد ذكر الأسباط بالتفصيل في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

٥٣٩

يسمع الصوت ، أحيانا من شجرة وادي الأيمن ، وأحيانا في جبل طور ، ولذلك لقب هذا النّبي بلقب «كليم الله» ، ولعل مجيء اسم النّبي موسىعليه‌السلام في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسىعليه‌السلام على غيره من أنبياء اللهعليهم‌السلام .

* * *

٥٤٠

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (169) )

التّفسير

جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين ، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر ، فهؤلاء ـ بالإضافة ـ إلى انحرافهم وضلالهم سعوا إلى تحريف وإضلال الآخرين ، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا وظلموا الآخرين معهم لأنهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين ـ أيضا ـ باتّباع هذا السبيل ، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً ) .

فلما ذا ـ يا ترى ـ استحق هؤلاء الإبعاد عن طريق الحق؟ إنّهم استحقوا ذلك لدعوتهم الآخرين إلى طريق الضلال ، حيث من المستبعد جدّا أن يتخلوا عن طريق هم يدعون الآخرين لاتّباعه ـ فقط خلط هؤلاء كفرهم بالعناد ، ووضعوا

٥٤١

أقدامهم في طريق الضلال والانحراف ، وابتعدوا بذلك كثيرا عن طريق الحق والصواب.

أمّا الآية الأخرى فتشير إلى الذين كفروا وظلموا ، إذ ظلموا الحق أوّلا لعدم التزامهم بالصواب ، كما ظلموا أنفسهم بذلك ـ أيضا ـ إذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوة الضلالة ، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إلى طريق الحق والصواب ، فهؤلاء لن يشملهم أبدا عفو الله ، وإن الله لا يهديهم أبدا إلّا إلى طريق جهنم ، تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) .

فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائما وأبدا ، كما تقول الآية :( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) .

وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد الله حق ، وأن تهديده يتحقق لا محالة ، فليس ذلك على الله بالأمر الصعب تقول الآية :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

ونشاهد في الآيتين المذكورتين تأكيدا من طراز خاص حول هذا النوع من الكفار والعقوبات التي ينالونها ـ فمن جهة يوصف انحرافهم بالضلال البعيد ، ومن جهة ثانية تؤكد الآية باستخدام عبارة( لَمْ يَكُنِ اللهُ ) أنّ العفو عن هؤلاء الكفار لا يليق بمنزلة الله سبحانه وتعالى ، ومن جانب آخر فقد جاء التأكيد على خلود هؤلاء في النار والتشديد على أنّه خلود أبدي ، لأنّ هؤلاء وأمثالهم بالإضافة إلى خروجهم عن جادة الحق وانحرافهم،سعوا إلى إبعاد وحرف الآخرين عن هذا السبيل ، وبذلك تحملوا مسئولية وإثما عظيما.

* * *

٥٤٢

الآية

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) )

التّفسير

لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإيمان،أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبيّن نتيجة هذا الإيمان ، وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والاندفاع نحو الإيمان.

وهذه الآية تشير في البداية إلى أنّ النّبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره ، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة ، وهو يحمل إليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال :( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ (1) بِالْحَقِ ) (2) .

__________________

(1) يبدو من سياق الآية أنّ حرفي «ال» الداخلة على كلمة «رسول» هما «ال» العهدية ، وفيها إشارة إلى النّبي الذي كانوا ينتظرون قدومه ، ولم يقتصر هذا الانتظار على اليهود والنصارى وحدهم ، بل أنّ المشركين ـ أيضا ـ كانوا يتوقعون ـ لما سمعوه من أهل الكتاب ـ ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(2) لقد فسّرت بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام كلمة «الحق» الواردة في الآية إشارة إلى ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقد بيّنا سابقا إن مثل هذه التفاسير واضحة في بيان المصاديق ، وهي لا تدل على الحصر.

٥٤٣

ثمّ تردف الآية بأن هذا النّبي قد جاء إلى الناس من الله الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية ، وهي عبارة :( مِنْ رَبِّكُمْ ) .

وبعد ذلك تؤكّد الآية ـ على أنّ إيمان الأفراد إنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم ، أي أن الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم به غيره تقول الآية :( فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) .

كما تؤكّد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلا لنفسه فلن يضرّ الله بعمله هذا أبدا ، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض ، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شيء من الآخرين ، تقول الآية في هذا الصدد :( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلّها لمصلحة البشر ، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس ، ومنافعهم الخيّرة ، فتقول الآية :( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

ومن المنطلق نفسه فإنّ ما أرسله الله من شرائع لتنظيم الحياة الاجتماعية للبشر بواسطة الأنبياءعليهم‌السلام ، لم يكن ـ مطلقا ـ لحاجة الله إلى ذلك ، بل إنّه نابع من علمه وحكمته ، فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإيمان ويتبعوا سبيل الكفر؟

* * *

٥٤٤

الآية

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (171) )

التّفسير

اسطورة التثليث الوهمية :

تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية ، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث ، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار.

فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم ، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق ، حيث تقول :( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) .

لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف

٥٤٥

في الأديان السماوية ، فالإنسان بما أنّه يميل إلى ذاته يندفع بهذا الميل إلى إظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه ، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة ، وقد يدفع الإنسان التصور الواهي بأن الإيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة ـ إلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الانحراف الرهيب.

والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين ـ الذي هو عبادة الله وتوحيده ـ ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة ، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفرا من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدّة نقاط ، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلا على بطلان قضية التثليث ، وعدم صحة الوهية المسيحعليه‌السلام ، وهذه النقاط هي :

1 ـ لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيحعليه‌السلام بمريمعليها‌السلام ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، وإشارة البنوة ـ هذه الواردة في ستة عشر مكانا من القرآن الكريم ـ إنّما تؤكّد أنّ المسيحعليه‌السلام هو إنسان كسائر الناس ، خلق في بطن امّه ، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم ، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريمعليها‌السلام كما يولد أفراد البشر من بطون أمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر امّه ، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن ـ وحالة المسيحعليه‌السلام هذه ـ أن يكون إلها أزليا أبديا ، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!

وعبارة الحصر التي هي «إنّما» الواردة في الآية تحصر بنوة المسيحعليه‌السلام بمريمعليها‌السلام وتؤكّد على أنّه وإن لم يكن له والد ، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله ، بل هو فقط ابن مريمعليها‌السلام .

٥٤٦

2 ـ تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيحعليه‌السلام هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى ، وإن هذه المنزلة ـ أي منزلة النّبوة ـ لا تتناسب ومقام الألوهية.

والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيحعليه‌السلام الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر ، إنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس ، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.

3 ـ تبيّن الآية أن عيسى المسيحعليه‌السلام هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريمعليها‌السلام حيث تقول :( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ) .

وقد وردت عبارة : «كلمة» في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية ، وهذه إشارة إلى كون المسيح مخلوقا بشريا ، إذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله ، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاتهعزوجل ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا ـ نحن البشر ـ وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا ، فإنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.

وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة «كلمة» في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله ، كما في الآية (109) من سورة الكهف والآية (29) من سورة لقمان،وبديهي أنّ الكلمات الإلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسىعليه‌السلام يعتبر إحدى كلمات الله البارزة الأهمية ، لكونه ولد من غير أب ، إضافة إلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإلهية.

4 ـ تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام هو روح مخلوقة من قبل الله ، حيث تقول( وَرُوحٌ مِنْهُ ) وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم ـ أو بعبارة أخرى خلق البشر أجمعين ـ في القرآن الكريم ، إنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة ، وفي المسيحعليه‌السلام وسائر الأنبياء بصورة خاصّة.

٥٤٧

وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الاستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيحعليه‌السلام هو جزء من الله سبحانه وتعالى ، مستندا إلى عبارة «منه» ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة «من» ليست للتبعيض ، بل تدل على مصدر ومنشأ وأصل وجود الشيء.

وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني ، دخل يوما في نقاش مع «علي بن الحسين الواقدي» وهو أحد المفكرين الإسلاميين في ذلك العصر ، فقال له هذا الطبيب : «توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيحعليه‌السلام هو جزء من الله ...» وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث ، فرد عليه «الواقدي» مباشرة تاليا هذه الآية :( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (1) ، وأضاف مبيّنا أنّ كلمة «من» لو كانت تفيد التبعيض ، لاقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض ـ بناء على هذه الآية ـ جزءا من الله ، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال ، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة(2) .

إنّ ما يثير العجب ـ إضافة إلى ما ذكر ـ هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أمّ دون أب دليلا على ألوهيته ، وهم ينسون في هذا المجال أن آدمعليه‌السلام كان قد ولد من غير أب ، ولا أم ، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلا على ربوبيته.

بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه ، ونبذ عقيدة التثليث ، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيرا لهم حيث قالت الآية :( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) .

__________________

(1) الجاثية ، 13.

(2) تفسير المنار ، الجزء السادس ، ص 84.

٥٤٨

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة :( إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ ) وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون ـ أيضا ـ بوحدانية الله ، فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه ، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.

فكيف ـ إذن ـ يمكن أن يكون لله ولد ، وهو منزّه من نقص الحاجة إلى زوجة أو ولد،كما هو منزّه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية :( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) والله هو مالك كل ما في السموات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعا ، والمسيحعليه‌السلام ـ أيضا ـ واحد من خلق الله ، فكيف يمكن الادعاء بهذا الاستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون ابنا للمالك والخالق؟! حيث تؤكد الآية:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته ، تقول الآية :( وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إلى الأبد لا يحتاج مطلقا إلى ولد ، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد يخلفه من بعد الموت؟

عقيدة التثليث أكبر خرافة مسيحية :

ليس في الانحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة التثليث، لأنّ المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإلهي ، وهم في نفس الوقت يصرحون بأن الله واحد!أي أنّهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن واحد.

وقد خلقت هذه القضية ـ التي لها حدان متناقضان ـ مشكلة كبيرة للمفكرين والباحثين المسيحيين.

فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنّها «مجازية» وقبول

٥٤٩

مسألة التثليث بأنّها مسألة حقيقية أو قبول العكس ، لأمكن تبرير هذا الأمر ، ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين ، فيقولون أن الثلاثة واحد كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.

وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين ، والتي توزع للناس الجهلاء ، من أن التثليث شيء مجازي ، إنّما هو كلام مشوب بالرياء ولا يتلاءم مطلقا مع المصادر الأساسية للمسيحية ، كما لا يتفق مع الآراء والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.

ويواجه المسيحيون ـ هنا ـ قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا فيها أن1= 3 لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الابتدائية.

ولهذا السبب ادعوا أنّ هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل ، وطلبوا الإذعان بها عبر ما سمّوه بالرؤية التعبدية القلبية.

وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل ، وسببا لجر الدين إلى متاهات خطيرة ، الأمر الذي اضطرهم إلى القول بأن الدين ليس له صلة بالعقل ، أو ليس فيه الطابع العقلاني ، وأنّه ذو طابع تعبدي محض.

وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية ، فالعلم يحكم بأنّ الثلاثة لا تساوي الواحد ، والمسيحية المعاصرة تصر على أنّهما متساويان! ويجب الالتفات ـ هنا ـ إلى عدّة نقاط حول هذا الإعتقاد المسيحي :

1 ـ لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إلى مسألة التثليث لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز ، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس : «إنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة ، (القاموس المقدس ، ص 345 ، طبعة بيروت).

٥٥٠

وذكر المؤرّخون أنّ قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب ، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانب آخر.

ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين واردا من عقيدة الثالوث الهندي ، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة(1) .

2 ـ إنّ قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمرا غير معقول أبدا ، ويرفضها العقل بالبداهة ، والشيء الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون منفصلا عن العقل والعلم ، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان ومتناسقان دائما ـ ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض ـ لأننا لو أزحنا العقل جانبا عند قبول مبادئ الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء ، فلا يبقى لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة.

وفي هذه الحالة ، أي دليل يوجب على الإنسان أن يعبد الله ولا يعبد الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إلى التبشير لدينهم لا للأديان الأخرى؟

ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرّون على دعوة الناس للقبول بها ، هي بحدّ ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف بمنطق العقل ، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها انفصال الدين عن العقل.

وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال : إن الدين لا يمتلك طابعا عقلانيا ومنطقيا ، وأنّه ذو طابع تعبدي محض! 3 ـ إنّ الأدلة العديدة التي يستشهد بها ـ في مجال إثبات التوحيد ، ووحدانية الذات الإلهية ـ ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث ـ فالله سبحانه وتعالى هو وجود مطلق لا يحد بالجهات ، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته.

__________________

(1) انظر دائرة المعارف للقرن العشرين (لفريد وجدي) في مادة (ثالوث)

٥٥١

وبديهي أنّه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي ، لأنّ فرض وجود لا متناهيين يجعل من هذين الإثنين متناهيين ومحدودين ، لأن وجود الأوّل يفتقر إلى قدرة وقوة ووجود الثّاني كما أن وجود الثّاني يفتقر إلى وجود وخصائص الأوّل ، وعلى هذا الأساس فإن كلا الوجودين محدودان.

وبعبارة أخرى : إنّنا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات ، فلا بدّ حين يصل اللامتناهي الأوّل إلى تخوم اللامتناهي الثّاني ينتهي إلى هذا الحد كما أن اللامتناهي الثّاني حين يصل إلى حد اللامتناهي الأوّل ينتهي هو أيضا ، وعلى هذا الأساس فإن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي منهما ، بل هما متناهيان محدودان،والنتيجة هي أن ذات الله ـ الذي هو وجود لا متناه ـ لا يمكن أن تقبل التعدد أبدا.

وهكذا فإنّنا لو اعتقدنا بأن الذات الإلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة ، لا يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدودا ، ولا تصح فيه صفة اللامحدود واللامتناهي ، وكذلك فإن أي مركب في تكوينه يكون محتاجا إلى أجزائه التي تكونه ، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه.

وإذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجه أو معلولة لعلّة سابقة في حين إنّنا نعرف أنّ الله غير محتاج ، وهو العلّة الأولى لعالم الوجود ، وعلّة العلل كلها منذ الأزل وإلى الأبد.

4 ـ بالإضافة إلى كل ما ذكر ، كيف يمكن للذات الإلهية أن تتجسد في هيكل إنساني لتصبح محتاجة إلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟

إنّ فرض الحدود لله الأزلي الأبدي ، أو تجسيده في هيكل إنسان ووضعه جنينا في رحم أمّ ، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن كل النقائص ، كما أنّ افتراض وجود الابن لله ـ وهو يستلزم عوارض التجسيم المختلفة ـ إنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعدا مطلقا.

٥٥٢

بدليل أنّ أي إنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يتربّ منذ طفولته على هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عند ما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة الإنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري ، يشعر بالسخط والاشمئزاز ، وإذا كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأسا في كلمات مثل «الله الأب» و «الله الابن» فما ذلك إلّا لأنّهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.

5 ـ لوحظ في السنين الأخيرة أنّ جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون إلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث.

من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معا يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص ، حيث أنّها ثلاثة أشياء في شيء واحد.

أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إنسان في ثلاث مرايا في آن واحد ، فهذا الإنسان مع كونه واحدا إلّا أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث.

كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج ، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إلى نقطة واحدة؟!

لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبيّن لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا الحاضر،فقرص الشمس شيء ونورها شيء آخر والنور الذي يتكون من الأشعة فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء ، وهذه الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأخرى من حيث النظرة العلمية ، وهي ليست بمجموعها شيئا واحدا من خلال هذه النظرة.

وإذا صح القول بأنّ هذه الأشياء الثلاثة شيء واحد ، إنّما يكون ذلك من باب التسامح أو التعبير المجازي ليس إلّا.

والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث ، فالصورة الموجودة في المرايا عن الجسم ليست إلّا انعكاسا للنور ، وبديهي أنّ انعكاس النّور عن جسم

٥٥٣

معين غير ذات الجسم ، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي اتحاد حقيقي أو ذاتي بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة ، وهذه قضية يدركها حتى الدارس المبتدي لعلم الفيزياء.

أمّا في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين ، حيث أن زوايا المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالامتداد الداخلي الحاصل للزوايا ، والذي يوصلها جميعا إلى نقطة واحدة.

والذي يثير العجب ـ أكثر من ذلك ـ هو محاولة بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضية «التوحيد في التثليث» مع نظرية «وحدة الوجود» التي يقول بها الصوفيون(1) والأمر الواضح من غير دليل ـ في هذا المجال ـ هو إنّما لو قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود ، لاقتضى ذلك منّا أن نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى ، بل الإذعان بأنّها هي عين ذاته.

عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث ، بل تصبح جميع الموجودات ـ صغيرها وكبيرها ـ جزءا أو مظهر الله سبحانه ، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تطابق نظرية التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من الأشكال ، علما بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.

6 ـ يقول بعض المسيحيين ـ أحيانا ـ إنّها حين يسمّون المسيحعليه‌السلام بـ «ابن الله» إنّما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام بـ «ثار الله وابن ثاره» أو كالتسمية التي وردت في بعض الروايات لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام حيث سمى فيها بـ «يد الله» ، وهؤلاء المسيحيون يفسرون كلمة «ثار» بأنّها تعني الدم ، أي أنّ العبارة الواردة في الحسين الشهيدعليه‌السلام

__________________

(1) المراد بوحدة الوجود عند الصوفية ، هي وحدة الموجود ، ويستدلون بها على أن الوجود ليس أكثر من واحد يظهر في صور مختلفة ، وإن هذا الواحد هو الله.

٥٥٤

تعني «دم الله وابن دمه».

إنّ هذا الأمر هو عين الخطأ :

أوّلا : لأنّ العرب لم تطلق كلمة الثأر أبدا لتعني بها الدم ، بل اعتبرت الثأر دائما ثمنا للدم ، ولذلك فإن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين الشهيد ، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى ، أي أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن ملكا أو تابعا لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه ، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء ويكون تابعا لعالم الوجود وذات الله المقدسة ، ولذلك فإن الله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد ـ كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي استشهد في سبيل الله ، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضا.

وثانيا : حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة «يد الله» فإن هذا التعبير ـ حتما ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إلّا.

فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة «ابن الله» الواردة عندهم في حق المسيحعليه‌السلام أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك ، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيحعليه‌السلام وحده وليس في غيره ، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية ، وما بادر إليه بعض المسيحيين من الادعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز ، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس.

ولإيضاح هذا الأمر نحيل القاري إلى كتاب «القاموس المقدس» في مادة «الله» حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة «ابن الله» هي واحدة من القاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين ، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إلّا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله(1) .

* * *

__________________

(1) القاموس المقدس ، طبعة بيروت ، ص 345.

٥٥٥

الآيتان

( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) )

سبب النّزول

روى جمع من المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت بشأن طائفة من مسيحيي نجران ، حين زاروا النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستفسروا منه عن سبب اعتراضه على نبيّهم المسيحعليه‌السلام ، فسألهم النّبيعليه‌السلام عن أي اعتراض هم يتحدثون؟ فقالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّك تقول بأنّ المسيح هو عبد الله ورسوله ...» فنزلت الآيتان جوابا على قولهم هذا.

٥٥٦

التّفسير

المسيح هو عبد الله :

على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما ، إلّا أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الألوهية عن المسيحعليه‌السلام وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.

في البداية تشير الآية الأولى إلى دليل آخر لدحض دعوى ألوهية المسيح ، فتقول مخاطبة المسيحيين : كيف تعتقدون بألوهية عيسىعليه‌السلام في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة الله والخضوع بالعبودية له سبحانه ، كما لم يستنكف الملائكة المقرّبون من هذه العبادة؟ حيث قالت الآية :( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

وبديهي أنّ من يكون عبدا لا يمكن أن يصبح معبودا في آن واحد ، فهل يمكن أن يعبد فرد نفسه؟ أو هل يكون العابد والمعبود والرّب فردا واحدا؟

وفي هذا المجال ينقل بعض المفسّرين حادثة طريفة تحكي أن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لكي يدين ويفند عقيدة التثليث المنحرفة قال لكبير المسيحيين في ذلك الحين ـ وكان يلقب بـ «الجاثليق» ـ بأنّ المسيحعليه‌السلام كان حسنا في كل شيء لو لا وجود عيب واحد فيه ، وهو قلة عبادته لله ، فغضب الجاثليق وقال للإمام الرضاعليه‌السلام : ما أعظم هذا الخطأ الذي وقعت فيه ، إنّ عيسى المسيح كان من أكثر أهل زمانه عبادة ، فسأله الإمامعليه‌السلام على الفور : ومن كان يعبده المسيح؟! فها أنت قد أقررت بنفسك أنّ المسيح كان عبدا ومخلوقا لله وأنّه كان يعبد الله ولم يكن معبودا ولا ربّا؟ فسكت الجاثليق ولم يحر جوابا.(1) بعد ذلك تشير الآية إلى أن الذين يمتنعون عن عبادة الله والخضوع له بالعبودية،يكون امتناعهم هذا ناشئا عن التكبر والأنانية وإنّ الله سيحضر هؤلاء

__________________

(1) مناقب ابن شهر آشوب ، ج 4 ، ص 352.

٥٥٧

الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) .

وإنّ الله العزيز القدير سيكافئ في يوم القيامة أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقاموا بالأعمال الخيرة ، ويعطيهم ثوابهم كاملا غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم ، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة الله ، فإنهم سينالون منه عذابا أليما شديدا ، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليا أو حاميا من دون الله ، حيث تقول الآية :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

في هذه الآية نقطتان يجب الانتباه إليهما ، وهما :

1 ـ إنّ كلمة «استنكاف» تأتي بمعنى الامتناع أو الاستياء الشديد من شيء ، ولها معان واسعة ، وتحدد معناها ـ هنا ـ بما أتى بعدها من قرينة في عبارة( اسْتَكْبَرُوا ) لإنّ الامتناع عن عبادة الله ورفض الخضوع له بالعبودية إمّا ناشئ عن الجهل أو الغفلة. وأحيانا أخرى ينشأ هذا الامتناع عن التكبر والأنانية والغرور ، ومع أن الامتناعين يعتبران ذنبا ، إلّا أن الامتناع الأخير يفوق الأوّل قبحا بمراتب كبيرة.

2 ـ إنّ الآية جاءت بعبارة توضح عدم استنكاف الملائكة المقرّبين عن عبادة الله،وذلك ردّا على المسيحيين الذين يثلثون الآلهة (الأب ولابن وروح القدس) ولتدحض عن هذا الطريق فرضية وجود المعبود الثّالث الذي ادعاه المسيحيون ومثلوه في أحد الملائكة المسمى بـ «روح القدس» ولتثبت التوحيد ووحدانية ذات الله سبحانه وتعالى.

وقد تكون هذه الآية إشارة إلى الشرك الذي وقع فيه الوثنيون العرب ، والشرك الذي تورط به المسيحيون حيث أنّ مشركي الجاهلية كانوا يعتبرون

٥٥٨

الملائكة أبناء الله سبحانه ، أو يعدونهم جزءا منه ، فجاءت هذه الآية لترد عليهم وتدخص أقوالهم هذه.

وعند التعمق في هذين الأمرين يتبيّن لنا ـ بجلاء ـ أنّ الآية لم تأت لبيان التفاضل بين الملائكة والأنبياء ، بل جاءت فقط لدحض عقيدة «الأقنوم الثّالث» أو دحض عقيدة المشركين العرب في الملائكة ، وليس فيها أي دلالة على مسألة التفاضل بين المسيحعليه‌السلام وبين الملائكة.

٥٥٩

الآيتان

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) )

التّفسير

النّور المبين :

بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضا من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادئ وتعاليم الأنبياء ، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النّجاة والخلاص من تلك الانحرافات.

لقد توجه الخطاب أوّلا إلى عامّة الناس ، مبينا أنّ الله قد بعث من جانبه نبيّا يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة ، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية ، حيث تقول الآية الأولى :( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) .

ويعتقد بعض العلماء أنّ كلمة «برهان» المشتقة من المصدر «بره» على وزن «فرح» تعني الابيضاض ـ ولمّا كانت الأدلة الواضحة تجلى للمسامع وجه الحق وتجعله واضحا مشرقا أبيض لذلك سميت بـ «البرهان».

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710