الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182338 / تحميل: 6612
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) )

التّفسير

جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين ، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر ، فهؤلاء ـ بالإضافة ـ إلى انحرافهم وضلالهم سعوا إلى تحريف وإضلال الآخرين ، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا وظلموا الآخرين معهم لأنهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين ـ أيضا ـ باتّباع هذا السبيل ، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً ) .

فلما ذا ـ يا ترى ـ استحق هؤلاء الإبعاد عن طريق الحق؟ إنّهم استحقوا ذلك لدعوتهم الآخرين إلى طريق الضلال ، حيث من المستبعد جدّا أن يتخلوا عن طريق هم يدعون الآخرين لاتّباعه ـ فقط خلط هؤلاء كفرهم بالعناد ، ووضعوا

٥٤١

أقدامهم في طريق الضلال والانحراف ، وابتعدوا بذلك كثيرا عن طريق الحق والصواب.

أمّا الآية الأخرى فتشير إلى الذين كفروا وظلموا ، إذ ظلموا الحق أوّلا لعدم التزامهم بالصواب ، كما ظلموا أنفسهم بذلك ـ أيضا ـ إذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوة الضلالة ، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إلى طريق الحق والصواب ، فهؤلاء لن يشملهم أبدا عفو الله ، وإن الله لا يهديهم أبدا إلّا إلى طريق جهنم ، تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) .

فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائما وأبدا ، كما تقول الآية :( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) .

وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد الله حق ، وأن تهديده يتحقق لا محالة ، فليس ذلك على الله بالأمر الصعب تقول الآية :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

ونشاهد في الآيتين المذكورتين تأكيدا من طراز خاص حول هذا النوع من الكفار والعقوبات التي ينالونها ـ فمن جهة يوصف انحرافهم بالضلال البعيد ، ومن جهة ثانية تؤكد الآية باستخدام عبارة( لَمْ يَكُنِ اللهُ ) أنّ العفو عن هؤلاء الكفار لا يليق بمنزلة الله سبحانه وتعالى ، ومن جانب آخر فقد جاء التأكيد على خلود هؤلاء في النار والتشديد على أنّه خلود أبدي ، لأنّ هؤلاء وأمثالهم بالإضافة إلى خروجهم عن جادة الحق وانحرافهم،سعوا إلى إبعاد وحرف الآخرين عن هذا السبيل ، وبذلك تحملوا مسئولية وإثما عظيما.

* * *

٥٤٢

الآية

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) )

التّفسير

لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإيمان،أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبيّن نتيجة هذا الإيمان ، وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والاندفاع نحو الإيمان.

وهذه الآية تشير في البداية إلى أنّ النّبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره ، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة ، وهو يحمل إليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال :( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ (١) بِالْحَقِ ) (٢) .

__________________

(١) يبدو من سياق الآية أنّ حرفي «ال» الداخلة على كلمة «رسول» هما «ال» العهدية ، وفيها إشارة إلى النّبي الذي كانوا ينتظرون قدومه ، ولم يقتصر هذا الانتظار على اليهود والنصارى وحدهم ، بل أنّ المشركين ـ أيضا ـ كانوا يتوقعون ـ لما سمعوه من أهل الكتاب ـ ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) لقد فسّرت بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام كلمة «الحق» الواردة في الآية إشارة إلى ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقد بيّنا سابقا إن مثل هذه التفاسير واضحة في بيان المصاديق ، وهي لا تدل على الحصر.

٥٤٣

ثمّ تردف الآية بأن هذا النّبي قد جاء إلى الناس من الله الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية ، وهي عبارة :( مِنْ رَبِّكُمْ ) .

وبعد ذلك تؤكّد الآية ـ على أنّ إيمان الأفراد إنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم ، أي أن الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم به غيره تقول الآية :( فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) .

كما تؤكّد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلا لنفسه فلن يضرّ الله بعمله هذا أبدا ، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض ، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شيء من الآخرين ، تقول الآية في هذا الصدد :( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلّها لمصلحة البشر ، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس ، ومنافعهم الخيّرة ، فتقول الآية :( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

ومن المنطلق نفسه فإنّ ما أرسله الله من شرائع لتنظيم الحياة الاجتماعية للبشر بواسطة الأنبياءعليهم‌السلام ، لم يكن ـ مطلقا ـ لحاجة الله إلى ذلك ، بل إنّه نابع من علمه وحكمته ، فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإيمان ويتبعوا سبيل الكفر؟

* * *

٥٤٤

الآية

( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) )

التّفسير

اسطورة التثليث الوهمية :

تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية ، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث ، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار.

فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم ، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق ، حيث تقول :( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) .

لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف

٥٤٥

في الأديان السماوية ، فالإنسان بما أنّه يميل إلى ذاته يندفع بهذا الميل إلى إظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه ، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة ، وقد يدفع الإنسان التصور الواهي بأن الإيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة ـ إلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الانحراف الرهيب.

والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين ـ الذي هو عبادة الله وتوحيده ـ ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة ، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفرا من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدّة نقاط ، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلا على بطلان قضية التثليث ، وعدم صحة الوهية المسيحعليه‌السلام ، وهذه النقاط هي :

١ ـ لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيحعليه‌السلام بمريمعليها‌السلام ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، وإشارة البنوة ـ هذه الواردة في ستة عشر مكانا من القرآن الكريم ـ إنّما تؤكّد أنّ المسيحعليه‌السلام هو إنسان كسائر الناس ، خلق في بطن امّه ، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم ، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريمعليها‌السلام كما يولد أفراد البشر من بطون أمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر امّه ، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن ـ وحالة المسيحعليه‌السلام هذه ـ أن يكون إلها أزليا أبديا ، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!

وعبارة الحصر التي هي «إنّما» الواردة في الآية تحصر بنوة المسيحعليه‌السلام بمريمعليها‌السلام وتؤكّد على أنّه وإن لم يكن له والد ، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله ، بل هو فقط ابن مريمعليها‌السلام .

٥٤٦

٢ ـ تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيحعليه‌السلام هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى ، وإن هذه المنزلة ـ أي منزلة النّبوة ـ لا تتناسب ومقام الألوهية.

والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيحعليه‌السلام الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر ، إنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس ، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.

٣ ـ تبيّن الآية أن عيسى المسيحعليه‌السلام هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريمعليها‌السلام حيث تقول :( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ) .

وقد وردت عبارة : «كلمة» في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية ، وهذه إشارة إلى كون المسيح مخلوقا بشريا ، إذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله ، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاتهعزوجل ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا ـ نحن البشر ـ وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا ، فإنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.

وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة «كلمة» في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله ، كما في الآية (١٠٩) من سورة الكهف والآية (٢٩) من سورة لقمان،وبديهي أنّ الكلمات الإلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسىعليه‌السلام يعتبر إحدى كلمات الله البارزة الأهمية ، لكونه ولد من غير أب ، إضافة إلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإلهية.

٤ ـ تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام هو روح مخلوقة من قبل الله ، حيث تقول( وَرُوحٌ مِنْهُ ) وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم ـ أو بعبارة أخرى خلق البشر أجمعين ـ في القرآن الكريم ، إنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة ، وفي المسيحعليه‌السلام وسائر الأنبياء بصورة خاصّة.

٥٤٧

وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الاستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيحعليه‌السلام هو جزء من الله سبحانه وتعالى ، مستندا إلى عبارة «منه» ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة «من» ليست للتبعيض ، بل تدل على مصدر ومنشأ وأصل وجود الشيء.

وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني ، دخل يوما في نقاش مع «علي بن الحسين الواقدي» وهو أحد المفكرين الإسلاميين في ذلك العصر ، فقال له هذا الطبيب : «توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيحعليه‌السلام هو جزء من الله ...» وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث ، فرد عليه «الواقدي» مباشرة تاليا هذه الآية :( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (١) ، وأضاف مبيّنا أنّ كلمة «من» لو كانت تفيد التبعيض ، لاقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض ـ بناء على هذه الآية ـ جزءا من الله ، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال ، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة(٢) .

إنّ ما يثير العجب ـ إضافة إلى ما ذكر ـ هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أمّ دون أب دليلا على ألوهيته ، وهم ينسون في هذا المجال أن آدمعليه‌السلام كان قد ولد من غير أب ، ولا أم ، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلا على ربوبيته.

بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه ، ونبذ عقيدة التثليث ، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيرا لهم حيث قالت الآية :( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) .

__________________

(١) الجاثية ، ١٣.

(٢) تفسير المنار ، الجزء السادس ، ص ٨٤.

٥٤٨

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة :( إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ ) وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون ـ أيضا ـ بوحدانية الله ، فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه ، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.

فكيف ـ إذن ـ يمكن أن يكون لله ولد ، وهو منزّه من نقص الحاجة إلى زوجة أو ولد،كما هو منزّه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية :( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) والله هو مالك كل ما في السموات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعا ، والمسيحعليه‌السلام ـ أيضا ـ واحد من خلق الله ، فكيف يمكن الادعاء بهذا الاستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون ابنا للمالك والخالق؟! حيث تؤكد الآية:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته ، تقول الآية :( وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إلى الأبد لا يحتاج مطلقا إلى ولد ، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد يخلفه من بعد الموت؟

عقيدة التثليث أكبر خرافة مسيحية :

ليس في الانحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة التثليث، لأنّ المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإلهي ، وهم في نفس الوقت يصرحون بأن الله واحد!أي أنّهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن واحد.

وقد خلقت هذه القضية ـ التي لها حدان متناقضان ـ مشكلة كبيرة للمفكرين والباحثين المسيحيين.

فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنّها «مجازية» وقبول

٥٤٩

مسألة التثليث بأنّها مسألة حقيقية أو قبول العكس ، لأمكن تبرير هذا الأمر ، ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين ، فيقولون أن الثلاثة واحد كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.

وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين ، والتي توزع للناس الجهلاء ، من أن التثليث شيء مجازي ، إنّما هو كلام مشوب بالرياء ولا يتلاءم مطلقا مع المصادر الأساسية للمسيحية ، كما لا يتفق مع الآراء والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.

ويواجه المسيحيون ـ هنا ـ قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا فيها أن١= ٣ لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الابتدائية.

ولهذا السبب ادعوا أنّ هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل ، وطلبوا الإذعان بها عبر ما سمّوه بالرؤية التعبدية القلبية.

وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل ، وسببا لجر الدين إلى متاهات خطيرة ، الأمر الذي اضطرهم إلى القول بأن الدين ليس له صلة بالعقل ، أو ليس فيه الطابع العقلاني ، وأنّه ذو طابع تعبدي محض.

وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية ، فالعلم يحكم بأنّ الثلاثة لا تساوي الواحد ، والمسيحية المعاصرة تصر على أنّهما متساويان! ويجب الالتفات ـ هنا ـ إلى عدّة نقاط حول هذا الإعتقاد المسيحي :

١ ـ لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إلى مسألة التثليث لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز ، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس : «إنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة ، (القاموس المقدس ، ص ٣٤٥ ، طبعة بيروت).

٥٥٠

وذكر المؤرّخون أنّ قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب ، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانب آخر.

ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين واردا من عقيدة الثالوث الهندي ، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة(١) .

٢ ـ إنّ قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمرا غير معقول أبدا ، ويرفضها العقل بالبداهة ، والشيء الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون منفصلا عن العقل والعلم ، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان ومتناسقان دائما ـ ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض ـ لأننا لو أزحنا العقل جانبا عند قبول مبادئ الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء ، فلا يبقى لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة.

وفي هذه الحالة ، أي دليل يوجب على الإنسان أن يعبد الله ولا يعبد الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إلى التبشير لدينهم لا للأديان الأخرى؟

ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرّون على دعوة الناس للقبول بها ، هي بحدّ ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف بمنطق العقل ، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها انفصال الدين عن العقل.

وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال : إن الدين لا يمتلك طابعا عقلانيا ومنطقيا ، وأنّه ذو طابع تعبدي محض! ٣ ـ إنّ الأدلة العديدة التي يستشهد بها ـ في مجال إثبات التوحيد ، ووحدانية الذات الإلهية ـ ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث ـ فالله سبحانه وتعالى هو وجود مطلق لا يحد بالجهات ، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته.

__________________

(١) انظر دائرة المعارف للقرن العشرين (لفريد وجدي) في مادة (ثالوث)

٥٥١

وبديهي أنّه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي ، لأنّ فرض وجود لا متناهيين يجعل من هذين الإثنين متناهيين ومحدودين ، لأن وجود الأوّل يفتقر إلى قدرة وقوة ووجود الثّاني كما أن وجود الثّاني يفتقر إلى وجود وخصائص الأوّل ، وعلى هذا الأساس فإن كلا الوجودين محدودان.

وبعبارة أخرى : إنّنا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات ، فلا بدّ حين يصل اللامتناهي الأوّل إلى تخوم اللامتناهي الثّاني ينتهي إلى هذا الحد كما أن اللامتناهي الثّاني حين يصل إلى حد اللامتناهي الأوّل ينتهي هو أيضا ، وعلى هذا الأساس فإن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي منهما ، بل هما متناهيان محدودان،والنتيجة هي أن ذات الله ـ الذي هو وجود لا متناه ـ لا يمكن أن تقبل التعدد أبدا.

وهكذا فإنّنا لو اعتقدنا بأن الذات الإلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة ، لا يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدودا ، ولا تصح فيه صفة اللامحدود واللامتناهي ، وكذلك فإن أي مركب في تكوينه يكون محتاجا إلى أجزائه التي تكونه ، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه.

وإذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجه أو معلولة لعلّة سابقة في حين إنّنا نعرف أنّ الله غير محتاج ، وهو العلّة الأولى لعالم الوجود ، وعلّة العلل كلها منذ الأزل وإلى الأبد.

٤ ـ بالإضافة إلى كل ما ذكر ، كيف يمكن للذات الإلهية أن تتجسد في هيكل إنساني لتصبح محتاجة إلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟

إنّ فرض الحدود لله الأزلي الأبدي ، أو تجسيده في هيكل إنسان ووضعه جنينا في رحم أمّ ، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن كل النقائص ، كما أنّ افتراض وجود الابن لله ـ وهو يستلزم عوارض التجسيم المختلفة ـ إنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعدا مطلقا.

٥٥٢

بدليل أنّ أي إنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يتربّ منذ طفولته على هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عند ما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة الإنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري ، يشعر بالسخط والاشمئزاز ، وإذا كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأسا في كلمات مثل «الله الأب» و «الله الابن» فما ذلك إلّا لأنّهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.

٥ ـ لوحظ في السنين الأخيرة أنّ جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون إلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث.

من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معا يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص ، حيث أنّها ثلاثة أشياء في شيء واحد.

أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إنسان في ثلاث مرايا في آن واحد ، فهذا الإنسان مع كونه واحدا إلّا أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث.

كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج ، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إلى نقطة واحدة؟!

لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبيّن لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا الحاضر،فقرص الشمس شيء ونورها شيء آخر والنور الذي يتكون من الأشعة فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء ، وهذه الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأخرى من حيث النظرة العلمية ، وهي ليست بمجموعها شيئا واحدا من خلال هذه النظرة.

وإذا صح القول بأنّ هذه الأشياء الثلاثة شيء واحد ، إنّما يكون ذلك من باب التسامح أو التعبير المجازي ليس إلّا.

والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث ، فالصورة الموجودة في المرايا عن الجسم ليست إلّا انعكاسا للنور ، وبديهي أنّ انعكاس النّور عن جسم

٥٥٣

معين غير ذات الجسم ، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي اتحاد حقيقي أو ذاتي بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة ، وهذه قضية يدركها حتى الدارس المبتدي لعلم الفيزياء.

أمّا في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين ، حيث أن زوايا المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالامتداد الداخلي الحاصل للزوايا ، والذي يوصلها جميعا إلى نقطة واحدة.

والذي يثير العجب ـ أكثر من ذلك ـ هو محاولة بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضية «التوحيد في التثليث» مع نظرية «وحدة الوجود» التي يقول بها الصوفيون(١) والأمر الواضح من غير دليل ـ في هذا المجال ـ هو إنّما لو قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود ، لاقتضى ذلك منّا أن نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى ، بل الإذعان بأنّها هي عين ذاته.

عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث ، بل تصبح جميع الموجودات ـ صغيرها وكبيرها ـ جزءا أو مظهر الله سبحانه ، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تطابق نظرية التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من الأشكال ، علما بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.

٦ ـ يقول بعض المسيحيين ـ أحيانا ـ إنّها حين يسمّون المسيحعليه‌السلام بـ «ابن الله» إنّما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام بـ «ثار الله وابن ثاره» أو كالتسمية التي وردت في بعض الروايات لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام حيث سمى فيها بـ «يد الله» ، وهؤلاء المسيحيون يفسرون كلمة «ثار» بأنّها تعني الدم ، أي أنّ العبارة الواردة في الحسين الشهيدعليه‌السلام

__________________

(١) المراد بوحدة الوجود عند الصوفية ، هي وحدة الموجود ، ويستدلون بها على أن الوجود ليس أكثر من واحد يظهر في صور مختلفة ، وإن هذا الواحد هو الله.

٥٥٤

تعني «دم الله وابن دمه».

إنّ هذا الأمر هو عين الخطأ :

أوّلا : لأنّ العرب لم تطلق كلمة الثأر أبدا لتعني بها الدم ، بل اعتبرت الثأر دائما ثمنا للدم ، ولذلك فإن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين الشهيد ، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى ، أي أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن ملكا أو تابعا لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه ، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء ويكون تابعا لعالم الوجود وذات الله المقدسة ، ولذلك فإن الله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد ـ كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي استشهد في سبيل الله ، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضا.

وثانيا : حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة «يد الله» فإن هذا التعبير ـ حتما ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إلّا.

فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة «ابن الله» الواردة عندهم في حق المسيحعليه‌السلام أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك ، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيحعليه‌السلام وحده وليس في غيره ، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية ، وما بادر إليه بعض المسيحيين من الادعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز ، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس.

ولإيضاح هذا الأمر نحيل القاري إلى كتاب «القاموس المقدس» في مادة «الله» حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة «ابن الله» هي واحدة من القاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين ، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إلّا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله(١) .

* * *

__________________

(١) القاموس المقدس ، طبعة بيروت ، ص ٣٤٥.

٥٥٥

الآيتان

( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) )

سبب النّزول

روى جمع من المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت بشأن طائفة من مسيحيي نجران ، حين زاروا النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستفسروا منه عن سبب اعتراضه على نبيّهم المسيحعليه‌السلام ، فسألهم النّبيعليه‌السلام عن أي اعتراض هم يتحدثون؟ فقالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّك تقول بأنّ المسيح هو عبد الله ورسوله ...» فنزلت الآيتان جوابا على قولهم هذا.

٥٥٦

التّفسير

المسيح هو عبد الله :

على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما ، إلّا أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الألوهية عن المسيحعليه‌السلام وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.

في البداية تشير الآية الأولى إلى دليل آخر لدحض دعوى ألوهية المسيح ، فتقول مخاطبة المسيحيين : كيف تعتقدون بألوهية عيسىعليه‌السلام في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة الله والخضوع بالعبودية له سبحانه ، كما لم يستنكف الملائكة المقرّبون من هذه العبادة؟ حيث قالت الآية :( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

وبديهي أنّ من يكون عبدا لا يمكن أن يصبح معبودا في آن واحد ، فهل يمكن أن يعبد فرد نفسه؟ أو هل يكون العابد والمعبود والرّب فردا واحدا؟

وفي هذا المجال ينقل بعض المفسّرين حادثة طريفة تحكي أن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لكي يدين ويفند عقيدة التثليث المنحرفة قال لكبير المسيحيين في ذلك الحين ـ وكان يلقب بـ «الجاثليق» ـ بأنّ المسيحعليه‌السلام كان حسنا في كل شيء لو لا وجود عيب واحد فيه ، وهو قلة عبادته لله ، فغضب الجاثليق وقال للإمام الرضاعليه‌السلام : ما أعظم هذا الخطأ الذي وقعت فيه ، إنّ عيسى المسيح كان من أكثر أهل زمانه عبادة ، فسأله الإمامعليه‌السلام على الفور : ومن كان يعبده المسيح؟! فها أنت قد أقررت بنفسك أنّ المسيح كان عبدا ومخلوقا لله وأنّه كان يعبد الله ولم يكن معبودا ولا ربّا؟ فسكت الجاثليق ولم يحر جوابا.(١) بعد ذلك تشير الآية إلى أن الذين يمتنعون عن عبادة الله والخضوع له بالعبودية،يكون امتناعهم هذا ناشئا عن التكبر والأنانية وإنّ الله سيحضر هؤلاء

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٤ ، ص ٣٥٢.

٥٥٧

الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) .

وإنّ الله العزيز القدير سيكافئ في يوم القيامة أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقاموا بالأعمال الخيرة ، ويعطيهم ثوابهم كاملا غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم ، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة الله ، فإنهم سينالون منه عذابا أليما شديدا ، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليا أو حاميا من دون الله ، حيث تقول الآية :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

في هذه الآية نقطتان يجب الانتباه إليهما ، وهما :

١ ـ إنّ كلمة «استنكاف» تأتي بمعنى الامتناع أو الاستياء الشديد من شيء ، ولها معان واسعة ، وتحدد معناها ـ هنا ـ بما أتى بعدها من قرينة في عبارة( اسْتَكْبَرُوا ) لإنّ الامتناع عن عبادة الله ورفض الخضوع له بالعبودية إمّا ناشئ عن الجهل أو الغفلة. وأحيانا أخرى ينشأ هذا الامتناع عن التكبر والأنانية والغرور ، ومع أن الامتناعين يعتبران ذنبا ، إلّا أن الامتناع الأخير يفوق الأوّل قبحا بمراتب كبيرة.

٢ ـ إنّ الآية جاءت بعبارة توضح عدم استنكاف الملائكة المقرّبين عن عبادة الله،وذلك ردّا على المسيحيين الذين يثلثون الآلهة (الأب ولابن وروح القدس) ولتدحض عن هذا الطريق فرضية وجود المعبود الثّالث الذي ادعاه المسيحيون ومثلوه في أحد الملائكة المسمى بـ «روح القدس» ولتثبت التوحيد ووحدانية ذات الله سبحانه وتعالى.

وقد تكون هذه الآية إشارة إلى الشرك الذي وقع فيه الوثنيون العرب ، والشرك الذي تورط به المسيحيون حيث أنّ مشركي الجاهلية كانوا يعتبرون

٥٥٨

الملائكة أبناء الله سبحانه ، أو يعدونهم جزءا منه ، فجاءت هذه الآية لترد عليهم وتدخص أقوالهم هذه.

وعند التعمق في هذين الأمرين يتبيّن لنا ـ بجلاء ـ أنّ الآية لم تأت لبيان التفاضل بين الملائكة والأنبياء ، بل جاءت فقط لدحض عقيدة «الأقنوم الثّالث» أو دحض عقيدة المشركين العرب في الملائكة ، وليس فيها أي دلالة على مسألة التفاضل بين المسيحعليه‌السلام وبين الملائكة.

٥٥٩

الآيتان

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) )

التّفسير

النّور المبين :

بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضا من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادئ وتعاليم الأنبياء ، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النّجاة والخلاص من تلك الانحرافات.

لقد توجه الخطاب أوّلا إلى عامّة الناس ، مبينا أنّ الله قد بعث من جانبه نبيّا يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة ، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية ، حيث تقول الآية الأولى :( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) .

ويعتقد بعض العلماء أنّ كلمة «برهان» المشتقة من المصدر «بره» على وزن «فرح» تعني الابيضاض ـ ولمّا كانت الأدلة الواضحة تجلى للمسامع وجه الحق وتجعله واضحا مشرقا أبيض لذلك سميت بـ «البرهان».

٥٦٠

والمقصود بالبرهان الوارد في الآية موضوع البحث ـ وكما يقول جمع من المفسّرين وتؤكّد ذلك القرائن ـ هو شخص نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات أخرى بالنور أيضا.

وقد فسّرت الأحاديث المتعددة المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ والتي أوردتها تفاسير «نور الثقلين» و «على بن إبراهيم» و «مجمع البيان» ـ أن «البرهان» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «النّور» هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولا يتنافى هذا التّفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله ، حيث يمكن أن يقصد بعبارة «النور» معان عديدة لتشمل «القرآن» و «أمير المؤمنين عليعليه‌السلام » الذي يعتبر حافظا ومفسّرا للقرآن ومدافعا عنه.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور ، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي ، سيدخلهم الله عاجلا في رحمته الواسعة ، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته ، ويهديهم إلى الطريق المستقيم. تقول الآية :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) (1) .

* * *

__________________

(1) راجع تفسير سورة الحمد في تفسيرنا هذا الجزء الأوّل للاطلاع على تفسير عبارة «الصراط المستقيم».

٥٦١

الآية

( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسرين عن جابر بن عبد الله الأنصاري قوله بأنّه كان يعاني من مرض شديد ، فعاده النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ عنده ورشّ عليه من ماء وضوئهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكر جابر ـ وهو يفكر في الموت ـ للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ ورثته هن أخواته فقط ، واستفسر من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كيفية تقسيم الإرث بينهنّ ، فنزلت هذه الآية والتي تسمّى ـ أيضا ـ بـ «آية الفرائض» وبيّنت طريقة تقسيم الإرث بينهنّ (وقد وردت الرّواية المذكورة أعلاه بفارق طفيف في تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «المنار» و «الدر المنثور» وغيرها من التفاسير ...).

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي آخر آية من آيات الأحكام نزولا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

__________________

(1) تفسير الصافي في هامش الآية.

٥٦٢

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه كمية الإرث للأخوة والأخوات ، وقد بيّنا في أوائل سورة النساء ـ في تفسير الآية الثانية عشر منها ـ إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للأخوة والأخوات وإن إحدى هاتين الآيتين هي الآية الثانية عشرة من سورة النساء،والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

وعلى الرغم ممّا ورد من اختلاف في الآيتين فيما يخص مقدار الإرث ، إلّا أنّ كل آية من هاتين الآيتين تتناول نوعا من الأخوة والأخوات كما أوضحنا في بداية السورة.

فالآية الأولى تخصّ الأخوة والأخوات غير الأشقاء ، أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين.

أمّا الآية الثانية أي الأخيرة ، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء ، أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد ، أو من أمهات متعددات وأب واحد.

والدليل على قولنا هذا ، أن من ينتسب إلى شخص المتوفى بالواسطة يتعين إرثه بمقدار ما يرثه الواسطة من شخص المتوفى.

فالأخوة والأخوات غير الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين ـ يرثون بمقدار حصّة أمّهم من الإرث والتي هي الثلث.

أمّا الأخوة والأخوات الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد ، أو من أب واحد وأمهات متعددات ـ فهم يرثون بمقدار حصّة والدهم من الإرث التي هي الثلثان.

ولمّا كانت الآية الثانية عشرة من سورة النساء تتحدث عن حصّة الثلث من الإرث للأخوة والأخوات ، وتتناول الآية الأخيرة حصّة الثلثين ، لذلك يتّضح أنّ الآية السابقة تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء الذين يرتبطون بشخص

٥٦٣

المتوفى عن طريق أمهم ، وأنّ الآية الأخيرة تخصّ الأخوة والأخوات الأشقاء الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق الأب أو عن طريق الأب والأمّ معا.

والروايات الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام في هذا المجال تؤكّد هذه الحقيقة أيضا.

وعلى أي حال فإن كانت حصّة الأخ أو الأخت هي الثلث أو الثلثان ، فإنّ الباقي من الإرث يوزع بناء على القانون الإسلامي بين الباقين من الورثة ، وهكذا وبعد أن توضح لنا عدم وجود أي تناقض بين الآيتين ، نتطرق الآن إلى تفسير الأحكام الواردة في الآية الأخيرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات(1) فتقول الآية :( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) أي يسألونك فخبرهم بأنّ الله هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام ، وهي :

1 ـ إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة ، فإنّ هذه الأخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة :( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ )

2 ـ وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد ، وكان لها أخ واحد ـ شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وأمها معا ـ فإنّ أخاها الوحيد يرثها ، تقول الآية :( وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) .

3 ـ وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط ، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ) .

4 ـ وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عددا من الأخوة والأخوات أكثر من اثنين ، فإن ميراثه يقسم جميعه بينهم ، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف

__________________

(1) لمعرفة معنى «الكلالة» وسبب إطلاقها على الأخوة والأخوات ، راجع تفسير الآية الثانية عشرة من سورة النساء.

٥٦٤

حصّة الأخت الواحدة منه. تقول الآية الكريمة :( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

وفي الختام تؤكد الآية أنّ الله يبيّن للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة ، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم العارف بكل شيء ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1) .

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية ـ موضوع البحث ـ إنّما تبيّن إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى ، ولم تتطرق الآية إلى وجود الأب والأم للشخص المتوفى ، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية سورة النساء ـ فإن الأب والأمّ يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الأولى من الوارثين ، ولذلك يتوضح أن المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

انتهى تفسير سورة النساء

* * *

__________________

(1) وجملة «أن تضلوا» بمعنى «أن لا تضلوا» حيث تكون كلمة «لا» مقدرة ، والقرآن وكلام العرب الفصحاء مليئان بمثل هذه التعابير البليغة.

٥٦٥
٥٦٦

سورة المائدة

مدنيّة

وعدد آياتها مائة وعشرون آية

٥٦٧
٥٦٨

محتويات سورة المائدة

إنّ هذه السورة من السور المدنية ، وتشتمل على مائة وعشرين آية ، وقيل أنّها نزلت بعد سورة الفتح ، وتدل روايات على أنّها نزلت كلّها في فترة حجّة الوداع بين مكة والمدينة(1) .

وتشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأوّل منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقضايا أخرى مثل : عقيدة التثليث المسيحية ، ومواضيع خاصّة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول أممهم.

أمّا القسم الثّاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق ، وقضايا العدالة الاجتماعية ، والشهادة العادلة ، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية ابني آدم ، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة ، وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة بـ «سورة المائدة» فهو لورود قصّة نزول المائدة السماوية على حواري المسيحعليه‌السلام في الآية (114) منها.

* * *

__________________

(1) تفسير المنار ـ الجزء السادس ، ص 116 ، ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود بالسورة المدنية ، هو نزولها بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة ، حتى لو لم تكن السورة قد نزلت في المدينة نفسها.

٥٦٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) )

التّفسير

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق :

تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ورد في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرين أو ثلاثة»(1) .

وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إشارة إلى المعنى المذكورأعلاه.

ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا ـ

__________________

(1) تفسير البرهان ـ الجزء الأوّل ، ص 430 ، يجب الانتباه إلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه السورة ، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن ، لأنّ أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري ، أي أنّها وردت بصورة مكررة للتأكيد عليها ، لذلك ترى بعضا من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضا.

٥٧٠

في هامش الآية (281) من سورة البقرة ـ حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلامنا السابق كان عن آية واحدة.

لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الأمّة وخلافة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق ، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة.

ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة ، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه ، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.

ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة «عقود» هي صيغة جمع من «عقد» التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شدا محكما ، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما «عقدا».

بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقدا ، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة «عقد» مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاما كافيا ، ولا تطلق على كل العهود ، وإذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه ، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.

ونظرا لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة

٥٧١

على الاستغراق ، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضا إطلاقا تاما ، لذلك فإن الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر ، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقدا محكما.

وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإلهية والإنسانية والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والتجارية ، وعقود الزواج ، وأمثال ذلك ، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإنسان العقائدية والعملية ، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.

وجاء في تفسير «روح المعاني» عن «الراغب الأصفهاني» أنّ العقد ـ نظرا لطرفيه ينقسم إلى ثلاثة أنواع ، فأحيانا يكون عقدا بين العبد وربّه ، وطورا بين الفرد ونفسه ، وحينا بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر(1) .

وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين ، وغاية الأمر أنّ الإنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني ، أو الطرف الآخر من العقد.

وعلى أي حال ، فإنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وهناك عدّة أمور في هذه الآية يجب الانتباه إليها وهي :

1 ـ تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه ، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي «أصالة اللزوم في العقود» أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ.

__________________

(1) تفسير «روح المعاني» الآية موضوع البحث.

٥٧٢

ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر ، والتي لم يكن لها وجود في السابق ، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة ـ تدخل ضمن هذه القاعدة ، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعا (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال).

والاستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى ، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإسلامية التي أخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العهد والميثاق فيها من الأمّة ، بل إنّ للآية مفهوما واسعا يشمل جميع هذه الأمور.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين ، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى ساريا ما دام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد ، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزما بالوفاء بالعهد إذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.

2 ـ إنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر واحدا من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية ، إذ بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الاجتماعي ، وإذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضا.

ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له ـ على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية ، لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة،وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث.

وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام لمالك

٥٧٣

الأشتر رضى الله عنه ما يلي :

«فإنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعا ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا من عواقب الغدر»(1) .

وجملة «لما استوبلوا من عواقب الغدر»معناها : لما نالهم من وبال من عواقب الغدر.

وينقل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله لا يقبل إلّا العمل الصالح ، ولا يقبل الله إلّا الوفاء بالشروط والعهود»(2) .

ونقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا دين لمن لا عهد له»(3) .

والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الالتزام به بين إنسان وإنسان آخر ـ سواء كان مسلما أو غير مسلم ـ وهو ـ كما يصطلح عليه ـ يعتبر من حقوق الإنسان بصورة عامّة ، وليس ـ فقط ـ من حقوق أنصار الدين الواحد.

وفي حديث عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «ثلاث لم يجعل اللهعزوجل لأحد فيهنّ رخصة : أداء الأمانة إلى البر والفاجر ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!»(4) .

نقل عن الإمام عليعليه‌السلام بأن العهد حتى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به ، وذلك في قوله : «إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين ، فنزل على ذلك فهو في أمان»(5) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، رسائل الإمام عليعليه‌السلام ، الرسالة 53.

(2) سفينة البحار ، الجزء الثّاني ، ص 294.

(3) البحار ، الجزء السادس عشر ، ص 144.

(4) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 162.

(5) مستدرك الوسائل ، ج 2 ، ص 250.

٥٧٤

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إلهيا أو إنسانيا محضا ـ أردفت ببيان مجموعة أخرى من الأحكام الإسلامية ، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات ، فبيّنت أن المواشي وأجنتها تحل لحومهما على المسلمين ، حيث تقول الآية:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) وكلمة «الأنعام» صيغة جمع من «نعم» وتعني الإيل والبقر والأغنام(1) .

أمّا كلمة «بهيمة» فهي مشتقة من المصدر «بهمة» على وزن «تهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب ، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهما» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر ، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط ، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

ومن جانب آخر فإن جنين المواشي يطلق عليه اسم «بهيمة» لأنّه يكون مبهما نوعا ما.

وعلى الإساس المذكور فإنّ حكم حلية( بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) يشمل إمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد ، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أمّها ، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)(2) .

ولما كان حكم حلية حيوانات كالإبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية،لذلك من المحتمل أن تكون الآية ـ موضوع البحث ـ إشارة إلى حلية أجنة هذه الحيوانات.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعا ، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات

__________________

(1) إذا جاءت كلمة «نعم» مفردة فهي تعني الإبل ، وإذا جاءت جمعا فتعني الأنواع الثلاثة ، مفردات الراغب مادة (نعم).

(2) لو قلنا : إنّ كلمة «بهيمة» تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة ، لكانت إضافة كلمة «بهيمة» إلى كلمة «أنعام» إضافة بيانية ، أمّا إذا قلنا : إنها تعني الأجنة أيضا ، تكون هذه الإضافة «لامية».

٥٧٥

بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضا ، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إلّا أنّه جاء مكررا في هذه الآية كمقدمة للاستثناءات الواردة فيها.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعا من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسما من تلك الأحكام.

وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي ، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد ، حيث تقول الآية :( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) والمورد الثّاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة ، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة ، فتقول الآية :( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (1) .

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إذا أراد شيئا أو حكما انجزه أو أصدره ، لأنه عالم بكل شيء ، وهو مالك الأشياء كلها ، وإذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره ، أصدر هذا الحكم وشرعه ، حيث تقول الآية في هذا المجال:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) .

* * *

__________________

(1) طبيعي أن جملة «إلا ما يتلى عليكم» هي جملة استثنائية ، وإن جملة «غير محلي الصيد» هي حال من ضمير «كم» وتكون نتيجة للاستثناء بحسب المعنى.

٥٧٦

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) )

التّفسير

ثمانية احكام في آية واحدة :

لقد بيّنت هذه الآية عددا من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة ، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله ، وهي على الوجه التالي :

1 ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله ، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة ، كما تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله ) واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر» الواردة هنا ، وبالنظر إلى الأجزاء الأخرى من هذه الآية ، وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة

٥٧٧

العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر حجّة إلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها ، ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة «الشّعائر» في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائما(1) .

2 ـ دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية ، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور ، حيث قالت :( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) .

3 ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج ، سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى بـ «الهدي»(2) أو تلك الخالية من العلامات والتي تسمّى بـ «القلائد»(3) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه ، فقالت الآية :( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) .

4 ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج ، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية ، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته ، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافا أخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم ، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله ، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة :( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) .

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين ، أي المشركين أيضا إن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين.

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 158 وسورة الحج ، الآيتان 32 و 36.

(2) الهدى جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت الله الحرام.

(3) القلائد جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان ، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

٥٧٨

ولكن نظرا لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة ، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحا ، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.

5 ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط ، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة :( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) .

6 ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج ، وكان هذا في واقعة الحديبية ، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم دينا ، تقول الآية الكريمة :( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (1) .

ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام ، لكنه ـ في الحقيقة ـ يعد حكما عاما ، وقانونا كليا يدعو المسلمين إلى نبذ «الحقد» وعدم إحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها.

ولمّا كانت خصلة الحقد إحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جليا أهمية هذا الحكم الإسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي

__________________

(1) تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة «جرم» تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان ، وتطلق ـ أيضا على كل عمل مكروه ، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب ـ وهنا فإن عبارة «لا يجر منكم» تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.

٥٧٩

الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.

7 ـ تؤكّد الآية ـ جريا على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعا أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

8 ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله ، محذره من عذاب الله الشديد ، فتقول :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

التعاون في أعمال الخير :

إنّ الدعوة إلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إسلاميا عاما ، تدخل في إطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير ، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإثم اللّذين يدخل إطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها.

ويأتي هذا المبدأ الإسلامي تماما على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي ، وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر ، وهو المبدأ القائل : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وكان في العصر الجاهلي إذا غزت جماعة من إحدى القبائل جماعة من قبيلة أخرى ، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم ، ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضا ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية ، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض ، والتضامن والتعاون معا حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم : لقد ألغى الإسلام هذا المبدأ

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710