الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173398 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(١) .

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (٢) .

«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض ، إلّا أنّه يستعمل غالبا في الجدّ والمثابرة ، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواء كان ذلك في الخير أو الشرّ!

والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول : وان ليس للإنسان إلّا ما أدّى من عمل بل يقول : إلّا ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه ، فالعبرة بالنيّة ، فإذا نوى خيرا أعطاه الله ثوابه ، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.

أمّا الآية التالية فتقول :( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فالإنسان لا يرى غدا نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) .

كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (٧) و٨) :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ! أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول :( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) (٣) .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقا للعمل. وبالطبع هذا

__________________

(١) أتت لفظ الوازرة لكونه وصفا للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اخرى.

(٢) كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.

(٣) نائب الفاعل في يجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى يقول الزمخشري في الكشّاف : يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يجزى العبد سعيه إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله ، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانيا أو مفعولا مطلقا.

٢٦١

لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات ، لا يبدو صحيحا ، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة ، بل الكلام فيها أساسا على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!

* * *

بحوث

١ ـ ثلاثة اصول إسلامية مهمّة

أشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الأصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ ـ كلّ إنسان مسئول عن ذنبه ووزره.

ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلّا سعيه.

ج ـ يجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!

والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائدا ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين ، وهو أنّ الله أرسل ابنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.

وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاءون ، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الأمور باطلة.

٢٦٢

ومنطق العقل أيضا يقتضي أنّ كلّا مسئول عن عمله ، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.

وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الالتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله ، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية ، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالاستغفار والعمل الصالح!

وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماما ولا يقبل الإنكار ، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.

وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضا أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الاجتماعية ، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبدا.

ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضا ، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي ، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!

٢ ـ سوء الاستفادة من مفاد الآية :

كما بيّنا آنفا ، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لأمور الآخرة ، إلّا أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لأمور الدنيا ويشمل أيضا الجزاء الدنيوي ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الاشتراكية فيقول : إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب ، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!

٢٦٣

والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضا مع أنّ مسألة الإرث من الأصول الإسلامية القطعية ، وكذلك الخمس والزكاة! علما بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما ، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الأمور.

وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل ، إلّا أنّه غالبا ما يوجد استثناء أمام كلّ أصل ، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي ، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حرم حقّ الإرث.

وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه ، هذا هو الأصل ، إلّا أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقا لقرار الإجارة بين الطرفين ، وهو أصل قرآني(١) كذلك ، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية ، كما صرّح به القرآن الكريم.

٣ ـ الجواب على سؤالين

يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها :

أوّلا : إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه ، فما معنى الشفاعة إذا؟!

والثّاني : إنّنا نقرأ في الآية (٢١) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة :( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار ، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحا فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضا.

والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان

__________________

(١) جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (٢٧).

٢٦٤

ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله ، إلّا أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعما أخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.

فالاستحقاق شيء ، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحيانا.

ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست اعتباطا ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضا ، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين ، فإنّ القرآن يقول أيضا :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) !.

٤ ـ صحف إبراهيم وموسى

«الصحف» جمع صحيفة ، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه ، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.

فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضا.

ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.

يسأل أبو ذرّ النّبي : يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟

فيجيبه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفا.

فيسأله ثانية عن الرسل منهم : كم المرسلون؟

فيجيبه النبي : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوما».

ويسأل أبو ذرّ مرّة اخرى : كان آدم نبيّا؟!

فيجيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده.

فيسأله أبو ذرّ : كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي : مائة وأربعة كتب أنزل الله

٢٦٥

منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(١) .

٥ ـ المسؤولية عن الأعمال في كتب السابقين

الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه :

«الجاني الذي يذنب سيموت ، والابن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب ابنه»(٢) .

وجاء هذا المعنى ذاته أيضا في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.

«لا يقتل الآباء عوضا عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضا عن الآباء ، فكلّ يقتل بذنبه»(٣) .

وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد ، وإلّا لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦ وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضا ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(٢) كتاب حزقيل ، الفصل ١٨ ص ٢٠.

(٣) التوراة ، سفر التثنية ، باب ٢٤ الرقم ١٦.

٢٦٦

الآيات

( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) )

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه :

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضا.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن :( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيرا فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها

٢٦٧

منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(١) .

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدودا.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوما آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفا ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّنا حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء امور هذا العالم إليه فيقول :( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) ( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) !

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(٣) .

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال :

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما جاء في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٠.

(٢) هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلّا أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضا والدلالة على الدوام (فلاحظوا بدقّة).

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٧٢.

٢٦٨

انّ فصل الربيع فصل جميل

تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان ، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاخر أو نادرتان جدّا.

أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّا ، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال ، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان ، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضا من قبل الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الأمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قبل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول :( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) .

«النشأة» : معناها الإيجاد والتربية ، و «النشأة الاخرى» ليست شيئا سوى القيامة!

والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم ، اقتضت حكمته أن تكون نشأة اخرى للتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة ، فلا بدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع ، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

٢٦٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعدا محتوما على نفسه ، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاده غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

«وأغنى» : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

«وأقنى» : فعل مشتقّ من قنية على وزن جزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(١) .

فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الأمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الأمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يعدّ أكبر «رأس مال» دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى ، وهو أنّه ما يقابل أغنى ، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته ، نظير ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهدا» على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) .

والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعانا ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر

__________________

(١) راجع المفردات للراغب ، مادّة قني.

٢٧٠

تماما هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفة من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضا» إلّا أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.

* * *

بحوث

١ ـ كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة ، بدءا من مسألة الموت والحياة ، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها ، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارة وتبكيه اخرى ، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاخرى بأمره أيضا ، لأنّها حياة جديدة وامتداد لهذه الحياة واستمرارها.

هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة ومن ـ جهة اخرى ـ خطّ المعاد ، لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضا.

٢٧١

وبتعبير آخر ، إنّ جميع هذه الأمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

٢ ـ عجائب نجم الشعرى :

«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفا من أشدّ النجوم في السماء لمعانا وإشراقا وهو معروف بنجم الشعرى اليماني ، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية ، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضا فقد أطلق عليه «باليماني»!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها ، لئلّا يشتبه المخلوق بالخالق ويجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ ـ طبقا للتحقيقات التي أجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ ١٢٠ ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز ٦٥٠٠ درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزنا من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريبا ، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّا على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

٢٧٢

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب ، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطا بهذا المستوى؟!

ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلّا أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفا من كوكب الشمس ، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية ٣٠٠ ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «مترا» في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلّا بعد عشر سنين ، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من اكتشفه عالم يدعى بسل Besell عام ١٨٤٤ م إلّا أنّه رؤي عام ١٨٦٢ بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في ٥٠ عاما(١) .

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير ، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

٣ ـ حديث عميق المحتوى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون فقال : لو تعلمون

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية مادّة ، شعرى.

٢٧٣

ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال : إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال : ائت هؤلاء ، فقل لهم : إنّ الله أضحك وأبكى(١) .

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائما ، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب ، والضحك في محلّه مطلوب أيضا ، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان ، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعند ما نقرأ في الآية ٨٢ من سورة التوبة قوله تعالى :( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فهذا الأمر وارد في المنافقين ، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول :( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله :( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) فإذا جمعنا الآيتين جنبا إلى جنب فهمنا لم لا يصحّ عبادة الشعرى ، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضا ، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

* * *

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٠.

٢٧٤

الآيات

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) )

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظرا إلى مسئولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى انتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الأمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لأولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحد عشر فصلا ، كلّها بدأت بأنّ : فأوّلها جاء

٢٧٥

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث فتقول :( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وصف عاد بـ «الاولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هودعليه‌السلام تدعى بـ «عاد الاولى»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) .

ويقول في شأن قوم نوح :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .

لأنّ نبيّهم نوحا عاش معهم زمانا طويلا ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّا قليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم واستكبار هم وإيذائهم نبيّهم نوحا وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الأمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى :( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد اقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقا لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد اقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميرا( فَغَشَّاها ما غَشَّى ) (٢) .

أجل لقد أمطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط ، إلّا

__________________

في الآية ٣٨ ألا تزر وازرة وزر اخرى وآخرها وأنّه أهلك عادا الاولى.

(١) مجمع البيان وروح المعاني ، وتفسير الرازي.

(٢) «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

٢٧٦

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية ٧٠ من سورة التوبة والآية ٩ من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات ، وقد احتمل بعضهم أنّه هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء ، إلّا أنّ آيات القرآن الاخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (٨٢) من سورة هود :( فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ) !

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين عليا خاطب أهلها بالقول : يا أهل البصرة ويا أهل المؤتفكة ويا جند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام عليعليه‌السلام هو من باب التطبيق والمصداق ، لا التّفسير ، لاحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية وما ابتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلا :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) ؟

فهل تشّك وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحدا بوزر أحد ، وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكّ بهذه النعمة ، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الأمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

٢٧٧

«تتمارى»(١) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع : ألأ ، أو إلي ـ على وزن فعل ـ والألئ معناها النعمة وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الأمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقا للنعمة إلّا أنّه من جهة كونه درسا للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن اعتبار ذلك نعمة عظيمة.

* * *

__________________

(١) بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على اشتراك طرفين في الفعل ، إلّا أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد ، وهو أمّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد «فلاحظوا بدقّة».

٢٧٨

الآيات

( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) )

التّفسير

اسجدوا له جميعا

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الأمم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين ، والكفّار ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتخاطبهم بالقول :( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعا لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله أمما بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من( هذا نَذِيرٌ ) هو الإشارة إلى الإخبار

٢٧٩

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الأمم السالفة ، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضا ، إلّا أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا :( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) .

أجل ، فقد اقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب ، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لاقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نجف. ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الاقتراب أيضا

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث ، واردة في الآية ١٨ من سورة غافر أيضا وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاولى)( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، وعلى كلّ حال فإنّ اقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد :( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) (١) .

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلّا أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة ، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهرا.

وعلى كلّ حال ، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه ، فإذا أردت النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) .

__________________

(١) الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة ، لأنّها صفة للنفس المحذوفة ، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

والمقصود بالبرهان الوارد في الآية موضوع البحث ـ وكما يقول جمع من المفسّرين وتؤكّد ذلك القرائن ـ هو شخص نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات أخرى بالنور أيضا.

وقد فسّرت الأحاديث المتعددة المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ والتي أوردتها تفاسير «نور الثقلين» و «على بن إبراهيم» و «مجمع البيان» ـ أن «البرهان» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «النّور» هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولا يتنافى هذا التّفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله ، حيث يمكن أن يقصد بعبارة «النور» معان عديدة لتشمل «القرآن» و «أمير المؤمنين عليعليه‌السلام » الذي يعتبر حافظا ومفسّرا للقرآن ومدافعا عنه.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور ، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي ، سيدخلهم الله عاجلا في رحمته الواسعة ، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته ، ويهديهم إلى الطريق المستقيم. تقول الآية :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) (١) .

* * *

__________________

(١) راجع تفسير سورة الحمد في تفسيرنا هذا الجزء الأوّل للاطلاع على تفسير عبارة «الصراط المستقيم».

٥٦١

الآية

( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسرين عن جابر بن عبد الله الأنصاري قوله بأنّه كان يعاني من مرض شديد ، فعاده النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ عنده ورشّ عليه من ماء وضوئهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكر جابر ـ وهو يفكر في الموت ـ للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ ورثته هن أخواته فقط ، واستفسر من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كيفية تقسيم الإرث بينهنّ ، فنزلت هذه الآية والتي تسمّى ـ أيضا ـ بـ «آية الفرائض» وبيّنت طريقة تقسيم الإرث بينهنّ (وقد وردت الرّواية المذكورة أعلاه بفارق طفيف في تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «المنار» و «الدر المنثور» وغيرها من التفاسير ...).

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي آخر آية من آيات الأحكام نزولا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

__________________

(١) تفسير الصافي في هامش الآية.

٥٦٢

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه كمية الإرث للأخوة والأخوات ، وقد بيّنا في أوائل سورة النساء ـ في تفسير الآية الثانية عشر منها ـ إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للأخوة والأخوات وإن إحدى هاتين الآيتين هي الآية الثانية عشرة من سورة النساء،والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

وعلى الرغم ممّا ورد من اختلاف في الآيتين فيما يخص مقدار الإرث ، إلّا أنّ كل آية من هاتين الآيتين تتناول نوعا من الأخوة والأخوات كما أوضحنا في بداية السورة.

فالآية الأولى تخصّ الأخوة والأخوات غير الأشقاء ، أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين.

أمّا الآية الثانية أي الأخيرة ، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء ، أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد ، أو من أمهات متعددات وأب واحد.

والدليل على قولنا هذا ، أن من ينتسب إلى شخص المتوفى بالواسطة يتعين إرثه بمقدار ما يرثه الواسطة من شخص المتوفى.

فالأخوة والأخوات غير الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين ـ يرثون بمقدار حصّة أمّهم من الإرث والتي هي الثلث.

أمّا الأخوة والأخوات الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد ، أو من أب واحد وأمهات متعددات ـ فهم يرثون بمقدار حصّة والدهم من الإرث التي هي الثلثان.

ولمّا كانت الآية الثانية عشرة من سورة النساء تتحدث عن حصّة الثلث من الإرث للأخوة والأخوات ، وتتناول الآية الأخيرة حصّة الثلثين ، لذلك يتّضح أنّ الآية السابقة تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء الذين يرتبطون بشخص

٥٦٣

المتوفى عن طريق أمهم ، وأنّ الآية الأخيرة تخصّ الأخوة والأخوات الأشقاء الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق الأب أو عن طريق الأب والأمّ معا.

والروايات الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام في هذا المجال تؤكّد هذه الحقيقة أيضا.

وعلى أي حال فإن كانت حصّة الأخ أو الأخت هي الثلث أو الثلثان ، فإنّ الباقي من الإرث يوزع بناء على القانون الإسلامي بين الباقين من الورثة ، وهكذا وبعد أن توضح لنا عدم وجود أي تناقض بين الآيتين ، نتطرق الآن إلى تفسير الأحكام الواردة في الآية الأخيرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات(١) فتقول الآية :( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) أي يسألونك فخبرهم بأنّ الله هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام ، وهي :

١ ـ إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة ، فإنّ هذه الأخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة :( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ )

٢ ـ وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد ، وكان لها أخ واحد ـ شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وأمها معا ـ فإنّ أخاها الوحيد يرثها ، تقول الآية :( وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) .

٣ ـ وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط ، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ) .

٤ ـ وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عددا من الأخوة والأخوات أكثر من اثنين ، فإن ميراثه يقسم جميعه بينهم ، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف

__________________

(١) لمعرفة معنى «الكلالة» وسبب إطلاقها على الأخوة والأخوات ، راجع تفسير الآية الثانية عشرة من سورة النساء.

٥٦٤

حصّة الأخت الواحدة منه. تقول الآية الكريمة :( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

وفي الختام تؤكد الآية أنّ الله يبيّن للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة ، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم العارف بكل شيء ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١) .

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية ـ موضوع البحث ـ إنّما تبيّن إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى ، ولم تتطرق الآية إلى وجود الأب والأم للشخص المتوفى ، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية سورة النساء ـ فإن الأب والأمّ يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الأولى من الوارثين ، ولذلك يتوضح أن المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

انتهى تفسير سورة النساء

* * *

__________________

(١) وجملة «أن تضلوا» بمعنى «أن لا تضلوا» حيث تكون كلمة «لا» مقدرة ، والقرآن وكلام العرب الفصحاء مليئان بمثل هذه التعابير البليغة.

٥٦٥
٥٦٦

سورة المائدة

مدنيّة

وعدد آياتها مائة وعشرون آية

٥٦٧
٥٦٨

محتويات سورة المائدة

إنّ هذه السورة من السور المدنية ، وتشتمل على مائة وعشرين آية ، وقيل أنّها نزلت بعد سورة الفتح ، وتدل روايات على أنّها نزلت كلّها في فترة حجّة الوداع بين مكة والمدينة(١) .

وتشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأوّل منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقضايا أخرى مثل : عقيدة التثليث المسيحية ، ومواضيع خاصّة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول أممهم.

أمّا القسم الثّاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق ، وقضايا العدالة الاجتماعية ، والشهادة العادلة ، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية ابني آدم ، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة ، وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة بـ «سورة المائدة» فهو لورود قصّة نزول المائدة السماوية على حواري المسيحعليه‌السلام في الآية (١١٤) منها.

* * *

__________________

(١) تفسير المنار ـ الجزء السادس ، ص ١١٦ ، ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود بالسورة المدنية ، هو نزولها بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة ، حتى لو لم تكن السورة قد نزلت في المدينة نفسها.

٥٦٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) )

التّفسير

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق :

تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ورد في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرين أو ثلاثة»(١) .

وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إشارة إلى المعنى المذكورأعلاه.

ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا ـ

__________________

(١) تفسير البرهان ـ الجزء الأوّل ، ص ٤٣٠ ، يجب الانتباه إلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه السورة ، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن ، لأنّ أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري ، أي أنّها وردت بصورة مكررة للتأكيد عليها ، لذلك ترى بعضا من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضا.

٥٧٠

في هامش الآية (٢٨١) من سورة البقرة ـ حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلامنا السابق كان عن آية واحدة.

لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الأمّة وخلافة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق ، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة.

ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة ، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه ، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.

ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة «عقود» هي صيغة جمع من «عقد» التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شدا محكما ، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما «عقدا».

بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقدا ، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة «عقد» مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاما كافيا ، ولا تطلق على كل العهود ، وإذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه ، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.

ونظرا لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة

٥٧١

على الاستغراق ، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضا إطلاقا تاما ، لذلك فإن الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر ، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقدا محكما.

وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإلهية والإنسانية والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والتجارية ، وعقود الزواج ، وأمثال ذلك ، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإنسان العقائدية والعملية ، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.

وجاء في تفسير «روح المعاني» عن «الراغب الأصفهاني» أنّ العقد ـ نظرا لطرفيه ينقسم إلى ثلاثة أنواع ، فأحيانا يكون عقدا بين العبد وربّه ، وطورا بين الفرد ونفسه ، وحينا بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر(١) .

وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين ، وغاية الأمر أنّ الإنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني ، أو الطرف الآخر من العقد.

وعلى أي حال ، فإنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وهناك عدّة أمور في هذه الآية يجب الانتباه إليها وهي :

١ ـ تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه ، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي «أصالة اللزوم في العقود» أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ.

__________________

(١) تفسير «روح المعاني» الآية موضوع البحث.

٥٧٢

ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر ، والتي لم يكن لها وجود في السابق ، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة ـ تدخل ضمن هذه القاعدة ، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعا (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال).

والاستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى ، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإسلامية التي أخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العهد والميثاق فيها من الأمّة ، بل إنّ للآية مفهوما واسعا يشمل جميع هذه الأمور.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين ، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى ساريا ما دام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد ، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزما بالوفاء بالعهد إذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.

٢ ـ إنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر واحدا من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية ، إذ بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الاجتماعي ، وإذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضا.

ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له ـ على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية ، لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة،وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث.

وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام لمالك

٥٧٣

الأشتر رضى الله عنه ما يلي :

«فإنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعا ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا من عواقب الغدر»(١) .

وجملة «لما استوبلوا من عواقب الغدر»معناها : لما نالهم من وبال من عواقب الغدر.

وينقل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله لا يقبل إلّا العمل الصالح ، ولا يقبل الله إلّا الوفاء بالشروط والعهود»(٢) .

ونقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا دين لمن لا عهد له»(٣) .

والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الالتزام به بين إنسان وإنسان آخر ـ سواء كان مسلما أو غير مسلم ـ وهو ـ كما يصطلح عليه ـ يعتبر من حقوق الإنسان بصورة عامّة ، وليس ـ فقط ـ من حقوق أنصار الدين الواحد.

وفي حديث عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «ثلاث لم يجعل اللهعزوجل لأحد فيهنّ رخصة : أداء الأمانة إلى البر والفاجر ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!»(٤) .

نقل عن الإمام عليعليه‌السلام بأن العهد حتى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به ، وذلك في قوله : «إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين ، فنزل على ذلك فهو في أمان»(٥) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، رسائل الإمام عليعليه‌السلام ، الرسالة ٥٣.

(٢) سفينة البحار ، الجزء الثّاني ، ص ٢٩٤.

(٣) البحار ، الجزء السادس عشر ، ص ١٤٤.

(٤) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٦٢.

(٥) مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٢٥٠.

٥٧٤

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إلهيا أو إنسانيا محضا ـ أردفت ببيان مجموعة أخرى من الأحكام الإسلامية ، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات ، فبيّنت أن المواشي وأجنتها تحل لحومهما على المسلمين ، حيث تقول الآية:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) وكلمة «الأنعام» صيغة جمع من «نعم» وتعني الإيل والبقر والأغنام(١) .

أمّا كلمة «بهيمة» فهي مشتقة من المصدر «بهمة» على وزن «تهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب ، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهما» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر ، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط ، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

ومن جانب آخر فإن جنين المواشي يطلق عليه اسم «بهيمة» لأنّه يكون مبهما نوعا ما.

وعلى الإساس المذكور فإنّ حكم حلية( بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) يشمل إمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد ، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أمّها ، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)(٢) .

ولما كان حكم حلية حيوانات كالإبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية،لذلك من المحتمل أن تكون الآية ـ موضوع البحث ـ إشارة إلى حلية أجنة هذه الحيوانات.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعا ، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات

__________________

(١) إذا جاءت كلمة «نعم» مفردة فهي تعني الإبل ، وإذا جاءت جمعا فتعني الأنواع الثلاثة ، مفردات الراغب مادة (نعم).

(٢) لو قلنا : إنّ كلمة «بهيمة» تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة ، لكانت إضافة كلمة «بهيمة» إلى كلمة «أنعام» إضافة بيانية ، أمّا إذا قلنا : إنها تعني الأجنة أيضا ، تكون هذه الإضافة «لامية».

٥٧٥

بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضا ، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إلّا أنّه جاء مكررا في هذه الآية كمقدمة للاستثناءات الواردة فيها.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعا من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسما من تلك الأحكام.

وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي ، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد ، حيث تقول الآية :( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) والمورد الثّاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة ، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة ، فتقول الآية :( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (١) .

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إذا أراد شيئا أو حكما انجزه أو أصدره ، لأنه عالم بكل شيء ، وهو مالك الأشياء كلها ، وإذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره ، أصدر هذا الحكم وشرعه ، حيث تقول الآية في هذا المجال:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) .

* * *

__________________

(١) طبيعي أن جملة «إلا ما يتلى عليكم» هي جملة استثنائية ، وإن جملة «غير محلي الصيد» هي حال من ضمير «كم» وتكون نتيجة للاستثناء بحسب المعنى.

٥٧٦

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) )

التّفسير

ثمانية احكام في آية واحدة :

لقد بيّنت هذه الآية عددا من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة ، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله ، وهي على الوجه التالي :

١ ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله ، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة ، كما تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله ) واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر» الواردة هنا ، وبالنظر إلى الأجزاء الأخرى من هذه الآية ، وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة

٥٧٧

العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر حجّة إلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها ، ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة «الشّعائر» في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائما(١) .

٢ ـ دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية ، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور ، حيث قالت :( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) .

٣ ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج ، سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى بـ «الهدي»(٢) أو تلك الخالية من العلامات والتي تسمّى بـ «القلائد»(٣) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه ، فقالت الآية :( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) .

٤ ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج ، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية ، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته ، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافا أخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم ، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله ، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة :( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) .

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين ، أي المشركين أيضا إن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٥٨ وسورة الحج ، الآيتان ٣٢ و ٣٦.

(٢) الهدى جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت الله الحرام.

(٣) القلائد جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان ، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

٥٧٨

ولكن نظرا لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة ، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحا ، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.

٥ ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط ، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة :( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) .

٦ ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج ، وكان هذا في واقعة الحديبية ، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم دينا ، تقول الآية الكريمة :( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (١) .

ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام ، لكنه ـ في الحقيقة ـ يعد حكما عاما ، وقانونا كليا يدعو المسلمين إلى نبذ «الحقد» وعدم إحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها.

ولمّا كانت خصلة الحقد إحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جليا أهمية هذا الحكم الإسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي

__________________

(١) تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة «جرم» تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان ، وتطلق ـ أيضا على كل عمل مكروه ، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب ـ وهنا فإن عبارة «لا يجر منكم» تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.

٥٧٩

الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.

٧ ـ تؤكّد الآية ـ جريا على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعا أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

٨ ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله ، محذره من عذاب الله الشديد ، فتقول :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

التعاون في أعمال الخير :

إنّ الدعوة إلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إسلاميا عاما ، تدخل في إطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير ، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإثم اللّذين يدخل إطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها.

ويأتي هذا المبدأ الإسلامي تماما على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي ، وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر ، وهو المبدأ القائل : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وكان في العصر الجاهلي إذا غزت جماعة من إحدى القبائل جماعة من قبيلة أخرى ، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم ، ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضا ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية ، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض ، والتضامن والتعاون معا حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم : لقد ألغى الإسلام هذا المبدأ

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710