الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل5%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185276 / تحميل: 6762
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

والمقصود بالبرهان الوارد في الآية موضوع البحث ـ وكما يقول جمع من المفسّرين وتؤكّد ذلك القرائن ـ هو شخص نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات أخرى بالنور أيضا.

وقد فسّرت الأحاديث المتعددة المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ والتي أوردتها تفاسير «نور الثقلين» و «على بن إبراهيم» و «مجمع البيان» ـ أن «البرهان» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «النّور» هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولا يتنافى هذا التّفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله ، حيث يمكن أن يقصد بعبارة «النور» معان عديدة لتشمل «القرآن» و «أمير المؤمنين عليعليه‌السلام » الذي يعتبر حافظا ومفسّرا للقرآن ومدافعا عنه.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور ، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي ، سيدخلهم الله عاجلا في رحمته الواسعة ، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته ، ويهديهم إلى الطريق المستقيم. تقول الآية :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) (١) .

* * *

__________________

(١) راجع تفسير سورة الحمد في تفسيرنا هذا الجزء الأوّل للاطلاع على تفسير عبارة «الصراط المستقيم».

٥٦١

الآية

( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) )

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسرين عن جابر بن عبد الله الأنصاري قوله بأنّه كان يعاني من مرض شديد ، فعاده النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضأ عنده ورشّ عليه من ماء وضوئهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكر جابر ـ وهو يفكر في الموت ـ للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ ورثته هن أخواته فقط ، واستفسر من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كيفية تقسيم الإرث بينهنّ ، فنزلت هذه الآية والتي تسمّى ـ أيضا ـ بـ «آية الفرائض» وبيّنت طريقة تقسيم الإرث بينهنّ (وقد وردت الرّواية المذكورة أعلاه بفارق طفيف في تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «المنار» و «الدر المنثور» وغيرها من التفاسير ...).

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي آخر آية من آيات الأحكام نزولا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

__________________

(١) تفسير الصافي في هامش الآية.

٥٦٢

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه كمية الإرث للأخوة والأخوات ، وقد بيّنا في أوائل سورة النساء ـ في تفسير الآية الثانية عشر منها ـ إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للأخوة والأخوات وإن إحدى هاتين الآيتين هي الآية الثانية عشرة من سورة النساء،والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

وعلى الرغم ممّا ورد من اختلاف في الآيتين فيما يخص مقدار الإرث ، إلّا أنّ كل آية من هاتين الآيتين تتناول نوعا من الأخوة والأخوات كما أوضحنا في بداية السورة.

فالآية الأولى تخصّ الأخوة والأخوات غير الأشقاء ، أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين.

أمّا الآية الثانية أي الأخيرة ، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء ، أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد ، أو من أمهات متعددات وأب واحد.

والدليل على قولنا هذا ، أن من ينتسب إلى شخص المتوفى بالواسطة يتعين إرثه بمقدار ما يرثه الواسطة من شخص المتوفى.

فالأخوة والأخوات غير الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين ـ يرثون بمقدار حصّة أمّهم من الإرث والتي هي الثلث.

أمّا الأخوة والأخوات الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد ، أو من أب واحد وأمهات متعددات ـ فهم يرثون بمقدار حصّة والدهم من الإرث التي هي الثلثان.

ولمّا كانت الآية الثانية عشرة من سورة النساء تتحدث عن حصّة الثلث من الإرث للأخوة والأخوات ، وتتناول الآية الأخيرة حصّة الثلثين ، لذلك يتّضح أنّ الآية السابقة تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء الذين يرتبطون بشخص

٥٦٣

المتوفى عن طريق أمهم ، وأنّ الآية الأخيرة تخصّ الأخوة والأخوات الأشقاء الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق الأب أو عن طريق الأب والأمّ معا.

والروايات الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام في هذا المجال تؤكّد هذه الحقيقة أيضا.

وعلى أي حال فإن كانت حصّة الأخ أو الأخت هي الثلث أو الثلثان ، فإنّ الباقي من الإرث يوزع بناء على القانون الإسلامي بين الباقين من الورثة ، وهكذا وبعد أن توضح لنا عدم وجود أي تناقض بين الآيتين ، نتطرق الآن إلى تفسير الأحكام الواردة في الآية الأخيرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات(١) فتقول الآية :( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) أي يسألونك فخبرهم بأنّ الله هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام ، وهي :

١ ـ إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة ، فإنّ هذه الأخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة :( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ )

٢ ـ وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد ، وكان لها أخ واحد ـ شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وأمها معا ـ فإنّ أخاها الوحيد يرثها ، تقول الآية :( وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) .

٣ ـ وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط ، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ) .

٤ ـ وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عددا من الأخوة والأخوات أكثر من اثنين ، فإن ميراثه يقسم جميعه بينهم ، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف

__________________

(١) لمعرفة معنى «الكلالة» وسبب إطلاقها على الأخوة والأخوات ، راجع تفسير الآية الثانية عشرة من سورة النساء.

٥٦٤

حصّة الأخت الواحدة منه. تقول الآية الكريمة :( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

وفي الختام تؤكد الآية أنّ الله يبيّن للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة ، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم العارف بكل شيء ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة :( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١) .

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية ـ موضوع البحث ـ إنّما تبيّن إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى ، ولم تتطرق الآية إلى وجود الأب والأم للشخص المتوفى ، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية سورة النساء ـ فإن الأب والأمّ يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الأولى من الوارثين ، ولذلك يتوضح أن المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

انتهى تفسير سورة النساء

* * *

__________________

(١) وجملة «أن تضلوا» بمعنى «أن لا تضلوا» حيث تكون كلمة «لا» مقدرة ، والقرآن وكلام العرب الفصحاء مليئان بمثل هذه التعابير البليغة.

٥٦٥
٥٦٦

سورة المائدة

مدنيّة

وعدد آياتها مائة وعشرون آية

٥٦٧
٥٦٨

محتويات سورة المائدة

إنّ هذه السورة من السور المدنية ، وتشتمل على مائة وعشرين آية ، وقيل أنّها نزلت بعد سورة الفتح ، وتدل روايات على أنّها نزلت كلّها في فترة حجّة الوداع بين مكة والمدينة(١) .

وتشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأوّل منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقضايا أخرى مثل : عقيدة التثليث المسيحية ، ومواضيع خاصّة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول أممهم.

أمّا القسم الثّاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق ، وقضايا العدالة الاجتماعية ، والشهادة العادلة ، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية ابني آدم ، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة ، وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة بـ «سورة المائدة» فهو لورود قصّة نزول المائدة السماوية على حواري المسيحعليه‌السلام في الآية (١١٤) منها.

* * *

__________________

(١) تفسير المنار ـ الجزء السادس ، ص ١١٦ ، ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود بالسورة المدنية ، هو نزولها بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة ، حتى لو لم تكن السورة قد نزلت في المدينة نفسها.

٥٦٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) )

التّفسير

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق :

تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ورد في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرين أو ثلاثة»(١) .

وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إشارة إلى المعنى المذكورأعلاه.

ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا ـ

__________________

(١) تفسير البرهان ـ الجزء الأوّل ، ص ٤٣٠ ، يجب الانتباه إلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه السورة ، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن ، لأنّ أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري ، أي أنّها وردت بصورة مكررة للتأكيد عليها ، لذلك ترى بعضا من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضا.

٥٧٠

في هامش الآية (٢٨١) من سورة البقرة ـ حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلامنا السابق كان عن آية واحدة.

لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الأمّة وخلافة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق ، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة.

ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة ، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه ، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.

ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة «عقود» هي صيغة جمع من «عقد» التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شدا محكما ، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما «عقدا».

بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقدا ، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة «عقد» مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاما كافيا ، ولا تطلق على كل العهود ، وإذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه ، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.

ونظرا لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة

٥٧١

على الاستغراق ، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضا إطلاقا تاما ، لذلك فإن الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر ، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقدا محكما.

وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإلهية والإنسانية والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والتجارية ، وعقود الزواج ، وأمثال ذلك ، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإنسان العقائدية والعملية ، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.

وجاء في تفسير «روح المعاني» عن «الراغب الأصفهاني» أنّ العقد ـ نظرا لطرفيه ينقسم إلى ثلاثة أنواع ، فأحيانا يكون عقدا بين العبد وربّه ، وطورا بين الفرد ونفسه ، وحينا بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر(١) .

وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين ، وغاية الأمر أنّ الإنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني ، أو الطرف الآخر من العقد.

وعلى أي حال ، فإنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وهناك عدّة أمور في هذه الآية يجب الانتباه إليها وهي :

١ ـ تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه ، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي «أصالة اللزوم في العقود» أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ.

__________________

(١) تفسير «روح المعاني» الآية موضوع البحث.

٥٧٢

ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر ، والتي لم يكن لها وجود في السابق ، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة ـ تدخل ضمن هذه القاعدة ، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعا (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال).

والاستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى ، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإسلامية التي أخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العهد والميثاق فيها من الأمّة ، بل إنّ للآية مفهوما واسعا يشمل جميع هذه الأمور.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين ، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى ساريا ما دام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد ، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزما بالوفاء بالعهد إذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.

٢ ـ إنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر واحدا من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية ، إذ بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الاجتماعي ، وإذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضا.

ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له ـ على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية ، لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة،وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث.

وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام لمالك

٥٧٣

الأشتر رضى الله عنه ما يلي :

«فإنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعا ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا من عواقب الغدر»(١) .

وجملة «لما استوبلوا من عواقب الغدر»معناها : لما نالهم من وبال من عواقب الغدر.

وينقل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله لا يقبل إلّا العمل الصالح ، ولا يقبل الله إلّا الوفاء بالشروط والعهود»(٢) .

ونقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا دين لمن لا عهد له»(٣) .

والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الالتزام به بين إنسان وإنسان آخر ـ سواء كان مسلما أو غير مسلم ـ وهو ـ كما يصطلح عليه ـ يعتبر من حقوق الإنسان بصورة عامّة ، وليس ـ فقط ـ من حقوق أنصار الدين الواحد.

وفي حديث عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «ثلاث لم يجعل اللهعزوجل لأحد فيهنّ رخصة : أداء الأمانة إلى البر والفاجر ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!»(٤) .

نقل عن الإمام عليعليه‌السلام بأن العهد حتى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به ، وذلك في قوله : «إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين ، فنزل على ذلك فهو في أمان»(٥) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، رسائل الإمام عليعليه‌السلام ، الرسالة ٥٣.

(٢) سفينة البحار ، الجزء الثّاني ، ص ٢٩٤.

(٣) البحار ، الجزء السادس عشر ، ص ١٤٤.

(٤) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٦٢.

(٥) مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٢٥٠.

٥٧٤

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إلهيا أو إنسانيا محضا ـ أردفت ببيان مجموعة أخرى من الأحكام الإسلامية ، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات ، فبيّنت أن المواشي وأجنتها تحل لحومهما على المسلمين ، حيث تقول الآية:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) وكلمة «الأنعام» صيغة جمع من «نعم» وتعني الإيل والبقر والأغنام(١) .

أمّا كلمة «بهيمة» فهي مشتقة من المصدر «بهمة» على وزن «تهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب ، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهما» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر ، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط ، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

ومن جانب آخر فإن جنين المواشي يطلق عليه اسم «بهيمة» لأنّه يكون مبهما نوعا ما.

وعلى الإساس المذكور فإنّ حكم حلية( بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) يشمل إمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد ، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أمّها ، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)(٢) .

ولما كان حكم حلية حيوانات كالإبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية،لذلك من المحتمل أن تكون الآية ـ موضوع البحث ـ إشارة إلى حلية أجنة هذه الحيوانات.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعا ، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات

__________________

(١) إذا جاءت كلمة «نعم» مفردة فهي تعني الإبل ، وإذا جاءت جمعا فتعني الأنواع الثلاثة ، مفردات الراغب مادة (نعم).

(٢) لو قلنا : إنّ كلمة «بهيمة» تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة ، لكانت إضافة كلمة «بهيمة» إلى كلمة «أنعام» إضافة بيانية ، أمّا إذا قلنا : إنها تعني الأجنة أيضا ، تكون هذه الإضافة «لامية».

٥٧٥

بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضا ، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إلّا أنّه جاء مكررا في هذه الآية كمقدمة للاستثناءات الواردة فيها.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعا من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسما من تلك الأحكام.

وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي ، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد ، حيث تقول الآية :( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) والمورد الثّاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة ، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة ، فتقول الآية :( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (١) .

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إذا أراد شيئا أو حكما انجزه أو أصدره ، لأنه عالم بكل شيء ، وهو مالك الأشياء كلها ، وإذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره ، أصدر هذا الحكم وشرعه ، حيث تقول الآية في هذا المجال:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) .

* * *

__________________

(١) طبيعي أن جملة «إلا ما يتلى عليكم» هي جملة استثنائية ، وإن جملة «غير محلي الصيد» هي حال من ضمير «كم» وتكون نتيجة للاستثناء بحسب المعنى.

٥٧٦

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) )

التّفسير

ثمانية احكام في آية واحدة :

لقد بيّنت هذه الآية عددا من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة ، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله ، وهي على الوجه التالي :

١ ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله ، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة ، كما تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله ) واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر» الواردة هنا ، وبالنظر إلى الأجزاء الأخرى من هذه الآية ، وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة

٥٧٧

العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر حجّة إلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها ، ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة «الشّعائر» في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائما(١) .

٢ ـ دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية ، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور ، حيث قالت :( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) .

٣ ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج ، سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى بـ «الهدي»(٢) أو تلك الخالية من العلامات والتي تسمّى بـ «القلائد»(٣) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه ، فقالت الآية :( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) .

٤ ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج ، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية ، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته ، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافا أخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم ، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله ، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة :( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) .

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين ، أي المشركين أيضا إن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٥٨ وسورة الحج ، الآيتان ٣٢ و ٣٦.

(٢) الهدى جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت الله الحرام.

(٣) القلائد جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان ، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

٥٧٨

ولكن نظرا لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة ، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحا ، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.

٥ ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط ، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة :( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) .

٦ ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج ، وكان هذا في واقعة الحديبية ، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم دينا ، تقول الآية الكريمة :( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (١) .

ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام ، لكنه ـ في الحقيقة ـ يعد حكما عاما ، وقانونا كليا يدعو المسلمين إلى نبذ «الحقد» وعدم إحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها.

ولمّا كانت خصلة الحقد إحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جليا أهمية هذا الحكم الإسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي

__________________

(١) تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة «جرم» تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان ، وتطلق ـ أيضا على كل عمل مكروه ، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب ـ وهنا فإن عبارة «لا يجر منكم» تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.

٥٧٩

الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.

٧ ـ تؤكّد الآية ـ جريا على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعا أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

٨ ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله ، محذره من عذاب الله الشديد ، فتقول :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

التعاون في أعمال الخير :

إنّ الدعوة إلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إسلاميا عاما ، تدخل في إطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير ، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإثم اللّذين يدخل إطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها.

ويأتي هذا المبدأ الإسلامي تماما على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي ، وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر ، وهو المبدأ القائل : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وكان في العصر الجاهلي إذا غزت جماعة من إحدى القبائل جماعة من قبيلة أخرى ، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم ، ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضا ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية ، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض ، والتضامن والتعاون معا حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم : لقد ألغى الإسلام هذا المبدأ

٥٨٠

الجاهلي ، ودعى المسلمين إلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة والبناءة فقط ، ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان.

والطريق في هذا المجال هو مجيء كلمتي «البر» و «التقوى» معا وعلى التوالي في الآية،حيث أنّ الكلمة الأولى تحمل طابعا إيجابيا وتشير الى الأعمال النافعة ، والثانية لها طابع النهي والمنع وتشير إلى الامتناع عن الأعمال المنكرة ـ وعلى هذا الأساس ـ أيضا ـ فإن التعاون والتآزر يجب أن يتمّ سواء في الدّعوة إلى عمل الخير ، أو في مكافحة الأعمال المنكرة.

وقد استخدم الفقه الإسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية ، حيث حرّم قسما من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإعانة على المعاصي أو المنكرات ، كبيع الأعناب إلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إلى أعداء الإسلام وأعداء الحق والعدالة ، أو تأجير محل للاكتساب لتمارس فيه المعاملات غير الشرعية والأعمال المنكرة (وبديهي أن لهذه الأحكام شروطا تناولتها كتب الفقه الإسلامي بالتوضيح).

إنّ إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإسلامية ، وتعاون المسلمين في أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الاهتمام بالعلاقات الشخصية والعرقية والنسبية ، والامتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إلى الأفراد الذين يمارسون الظلم والعدوان ، بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة ، كل ذلك من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الاجتماعية.

أمّا في العلاقات الدولية ، فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة معتدية ـ أيّا كانت ـ لقضي بذلك على جذور العدوان والاستعمار والاستغلال في العالم ، ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجّة أنّ مصالحهم الدولية تقتضي ذلك ، فلا يمكن توقع الخير أبدا من وضع كالذي يسود العالم اليوم.

لقد تناولت الأحاديث والروايات الإسلامية هذه القضية بتأكيد كبير،

٥٨١

ونورد ـ هنا ـ بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر.

1 ـ نقل عن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال قوله : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برىء لهم قلما ولاق لهم دواة؟قال:فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(1) .

2 ـ نقل عن صفوان الجمال ، وهو أحد أنصار الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام ، بأنّه تشرف بلقاء الإمامعليه‌السلام فقال له الكاظمعليه‌السلام : يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا.

قلت : جعلت فداك ، أي شيء؟

قال : اكراؤك جمالك من هذا الرجل ، يعني هارون.

قال : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني.

فقال لي : يا صفوان ، أيقع كراؤك عليهم؟

قلت : نعم.

قال : من أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النار إلى آخر الحديث(2) .

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب به عليّاعليه‌السلام قائلا : «يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأمّة عشرة وبائع السلاح لأهل الحرب»(3) .

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 131.

(2) الوسائل ، ج 12 ، ص 131 ـ 132.

(3) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 71.

٥٨٢

الآية

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) )

التّفسير

لقد تمّت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي ، وورد ـ أيضا ـ أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي ، حيث ذكرتها الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ في أحد عشر موردا تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية أخرى على سبيل التأكيد.

والمحرمات التي وردت في هذه الآية ، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي :

أوّلا : الميتة.

٥٨٣

ثانيا : الدم.

ثالثا : لحم الخنزير.

رابعا : الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام ، أو باسم غير اسم الله ، كما كان يفعل الجاهليّون ، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

خامسا : الحيوانات المخنوقة ، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها ، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحيانا للانتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم «المنخنقة».

وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها ، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضا(1) .

سادسا : الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب ، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ «الموقوذة»(2) .

ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إكراما لأصنامهم وتقربا لها.

سابعا : الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع ، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ «المتردية».

ثامنا : الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر ، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ «النطيحة».

تاسعا : الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه ، وسمي هذا النوع في الآية بـ «ما أكل السبع».

وقد يكون جزءا من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات ، هو عدم

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 173.

(2) الموقوذة المضروبة بعنف حتى الموت.

٥٨٤

نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل ، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف ، ولما كان الدم محيطا مناسبا جدا لنمو مختلف أنواع الجراثيم ، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الأخرى من الجسد ، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة ، وغالبا ما يحصل هذا التسمم عند ما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.

من جانب آخر فإنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات،أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.

لقد ذكرت الآية شرطا واحدا لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا،وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية ، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه ، ولذلك جاءت عبارة( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) بعد موارد التحريم مباشرة.

ويرى بعض المفسّرين أن هذا الاستثناء يخص القسم الأخير فقط ، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان :( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الاستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة ، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.

وهنا قد يسأل البعض : لما ذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار «الميتة» التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية ، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟

والجواب هو : إنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي ، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إطار مفهوم الميتة ، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل ـ فقط ـ الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإن الأنواع المذكورة في الآية ـ غير الميتة ـ لا تدخل من الناحية اللغوية

٥٨٥

ضمن مفهوم الميتة ، وهي محتاجة إلى البيان والتوضيح.

عاشرا : كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخورا حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة ، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.

والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام ، وقد حرم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب ، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى :( وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) .

وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعا معنويا وليس ماديا. وفي الحقيقة فإن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية :( وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) وقد ذكر تشخيصا في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.

أحد عشر : وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة ، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار ، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيوانا ويذبحونه ، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز» ، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة «خاسر» ، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الاقتراع ، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسما من اللحم دون أن يدفعوا ثمنا لما أخذوه من اللحم ، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي ، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.

وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم ، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم ، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار ، ويجب القول هنا أن تحريم

٥٨٦

القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط ، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.

ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام :( ذلِكُمْ فِسْقٌ ) .(1)

الاعتدال في تناول اللحوم :

إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الأخرى ، هو أنّ الإسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أسلوبا معتدلا تمام الاعتدال جريا على طريقته الخاصّة في أحكامه الأخرى.

ويختلف أسلوبه هذا اختلافا كبيرا مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك ، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.

ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.

فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية ، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط.

وقد عيّن الإسلام شروطا أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الاستفادة منها ، وهي : ـ

1 ـ لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب ، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالبا ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة ، وبذلك قد تكون سببا في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها ، بينما الحيوانات التي تأكل

__________________

(1) بالرغم من أنّ «ذلكم» ، اشارة لمفرد ، إلّا أنّه لمّا كان يحتوي على ضمير الجمع ، وقد فرض المجموع بمثابة الشيء الواحد ، فلا اشكال في هذا الاستعمال.

٥٨٧

العشب يكون غذاؤها سليما وخاليا من الأمراض.

وقد تقدم أيضا في تفسير الآية (72) من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضا ، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف ، وبناء على هذا الدليل ـ أيضا ـ حرمت لحوم الحيوانات الجلّالة ، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.

2 ـ أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإنسانية.

3 ـ أن لا يترك لحم الحيوان أثرا سيئا أو ضارا على جسم أو نفس الإنسان.

4 ـ لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام ، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.

5 ـ لقد بيّن الإسلام أحكاما خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منها ـ بدوره ـ الأثر الصحي والأخلاقي على الإنسان.

* * *

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقا :الأولى منهما تقول :( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) .

والثّانية هي :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .

متى أكمل الله الدين للمسلمين :

إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.

فأيّ يوم يا ترى هو ذلك «اليوم» الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة

٥٨٨

المصيرية ، وهي يأس الكفار ، وإكمال الدين ، وإتمام النعمة ، وقبول الله لدين الإسلام دينا ختاميا لكل البشرية؟

لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال ، وممّا لا شك فيه ولا ريب أن يوما عظيما في تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كهذا اليوم ـ لا يمكن أن يكون يوما عاديا كسائر الأيّام ، ولو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية.

وقيل أنّ بعضا من اليهود والنصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لاتّخذوه عيدا لأنفسهم ولاهتموا به اهتماما عظيما(1) .

ولنبحث الآن في القرائن والدلائل وفي تاريخ نزول هذه الآية وتاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والروايات المختلفة المستفادة من مصادر إسلامية عديدة ، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟

ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه الله الأحكام المذكورة في نفس الآية والخاصّة بالحلال والحرام من اللحوم؟

بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إعطاء تلك الأهمية العظيمة،ولا يمكن أن يكون سببا لإكمال الدين ، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها ، كما لا يمكن القول بأن الأحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار ، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإسلام ، وبعبارة أخرى فإنّ نزول أحكام الحلال والحرام من اللحوم لا يترك أثرا في نفوس الكفار ، فما ذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا وبعضها الآخر حراما؟!

فهل المراد من ذلك «اليوم» هو يوم عرفة من حجّة الوداع ، آخر حجّة قام بها

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 6 ، ص 155.

٥٨٩

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما احتمله بعض المفسّرين)؟

وجواب هذا السؤال هو النفي أيضا ، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سببا ليأس الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم عرفة ، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة قبل هذا اليوم أيضا ، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم ، فلم تكن الأحكام تلك شيئا مهمّا مخيفا بالنسبة للكفار.

ثمّ هل المقصود بذلك «اليوم» هو يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ ومن المعلوم أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة!

أو أنّ المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة ، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة.

والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإسلام وبعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقا وبينهما فارق زمني بعيد جدّا.

وهكذا يتّضح لنا أنّ أيّا من الاحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث.

ويبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة ، وهذا الاحتمال يتناسب تماما مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم غدير خم» أي اليوم الذي نصب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا أمير المؤمنينعليه‌السلام بصورة رسمية وعلنية خليفة له،حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس ، وقد كانوا يتوهمون أن دين الإسلام سينتهي بوفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الأوضاع ستعود إلى سابق عهد الجاهلية ، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريدا بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته ، وهو علي

٥٩٠

بن أبي طالبعليه‌السلام ، ورأوا النّبي وهو يأخذ البيعة لعليعليه‌السلام أحاط بهم اليأس من كل جانب ، وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإسلام وأدركوا أن هذا الدين باق راسخ.

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا ، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأمّة الإسلامية ، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.

نعم في يوم غدير خم أكمل الله وأتمّ نعمته بتعيين عليعليه‌السلام ، هذا الشخصية اللائقة الكفؤ ، قائدا وزعيما للأمة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي هذا اليوم ـ أيضا ـ رضي الله بالإسلام دينا ، بل خاتما للأديان ، بعد أن اكتملت مشاريع هذا الدين ، واجتمعت فيه الجهات الأربع.

وفيما يلي قرائن أخرى إضافة إلى ما ذكر في دعم وتأييد هذا التّفسير :

أ ـ لقد ذكرت تفاسير «الرازي» و «روح المعاني» و «المنار» في تفسير هذه الآية أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعش أكثر من واحد وثمانين يوما بعد نزول هذه الآية ، وهذا أمر يثير الانتباه في حد ذاته ، إذ حين نرى أنّ وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة ، وحتى في بعض روايات الشيعة ، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام ، وهو يوم غدير خم(1) .

ب ـ ذكرت روايات كثيرة ـ نقلتها مصادر السنّة والشيعة ـ أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم ، وبعد أن أبلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بولاية علي

__________________

(1) إنّ هذا الحساب يكون صحيحا إذا لم ندخل يوم وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوم غدير خم في الحساب ، وأن يكون في ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيّام كل منهما (29) يوما ، ونظرا لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل وبعد يوم غدير خم ، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم.

٥٩١

بن أبي طالبعليه‌السلام ، ومن هذه الروايات :

1 ـ ما نقله العالم السنّي المشهور «ابن جرير الطبري» في كتاب «الولاية» عن «زيد بن أرقم» الصحابي المعروف ، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

2 ـ ونقل الحافظ «أبو نعيم الأصفهاني» في كتاب «ما نزل من القرآن بحق عليعليه‌السلام » عن «أبي سعيد الخدري» وهو صحابي معروف ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى في «يوم غدير خم» عليا منصب الولاية وإنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُ ) فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي تلك اللحظة «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعليعليه‌السلام من بعدي» ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».

3 ـ وروى «الخطيب البغدادي» في «تاريخه» عن «أبي هريرة» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ آية( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) نزلت عقيب حادثة «غدير خم» والعهد بالولاية لعليعليه‌السلام وقول عمر بن الخطاب : «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب،أصبحت مولاي ومولى كل مسلم»(1) .

وجاء في كتاب «الغدير» إضافة إلى الروايات الثلاث المذكورة ، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال.

ورود في كتاب «إحقاق الحق» نقلا عن الجزء الثّاني من تفسير «ابن كثير» من الصفحة 14 وعن كتاب «مقتل الخوارزمي» في الصفحة 47عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غدير خم.

__________________

(1) لقد أورد العلّامة الأمينيرحمه‌الله هذه الروايات الثلاثة بتفاصيلها في الجزء الأوّل من كتابه «الغدير» في الصفحات 230 و 231 و 232 كما ورد في كتاب «إحقاق الحق» في الجزء السادس والصفحة 353 أن نزول الآية كان في حادثة غدير خم نقلا عن أبي هريرة من طريقين ، كما نقلها عن أبي سعيد الخدري من عدة طرق.

٥٩٢

ونرى في تفسير «البرهان» وتفسير «نور الثقلين» عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق عليعليه‌السلام أو في يوم غدير خم ، ونقل كل هذه الروايات يحتاج إلى رسالة منفردة(1) .

وقد ذكر العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه «المراجعات» أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإمامين الباقر والصّادقعليهما‌السلام تقول بنزول هذه الآية في «يوم غدير خم» وإنّ جمهور السنّة أيضا قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم(2) .

يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات والأخبار التي أكّدت نزول الآية ـ موضوع البحث ـ في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الآحاد لكي يمكن تجاهلها ، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها ، بل هي أخبار إن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإسلامية المشهورة.

ومع ذلك فإنّنا نرى بعضا من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير «روح المعاني» الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها،وقد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة ، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية ، وقد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام ولم يلمح إليها بشيء ، كما في تفسير المنار ، ولعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل والإنصاف ، وإن قبلها عمل شيئا خلافا لميله وذوقه.

وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالانتباه ـ فالآية تقول:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

__________________

(1) راجع تفسير الآية في الجزء الأول من تفسير البرهان والجزء الأول من تفسير «نور الثقلين».

(2) راجع كتاب «المراجعات» الطبعة الرابعة ، ص 38.

٥٩٣

الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعدا على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين ، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة ، ونظرا إلى جملة( رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) الواردة في الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ والتي نزلت في حق علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية ، لأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه ، وبعبارة أوضح أن الإسلام إذا أريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيتعليهم‌السلام .

أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن ، فهو أن الآية الأولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة :

أوّلها : الخلافة على الأرض.

والثّاني : تحقق الأمن والاستقرار لكي تكون العبادة لله وحده.

والثّالث : استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض.

ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو عليعليه‌السلام الذي نصب وصيّا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلت عبارة( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين ، كما بيّنت عبارة :( وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) إنّ الله قد اختار الدين الذي يرتضيه ، وأقرّه بين عباده المسلمين.

وهذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، وذلك لأنّ عبارة( آمَنُوا مِنْكُمْ ) لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في «يوم غدير خم» وسيتحقق

٥٩٤

على مدى أوسع وأعم في زمن ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية ، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها).

ويدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة «الأرض» في القرآن الكريم،حيث وردت أحيانا لتعني جزءا من الأرض ، وأخرى لتعني الأرض كلها ، (فأمعنوا النظر ودققوا في هذا الأمر).

سؤال يفرض نفسه :

وأخيرا بقي سؤال ملح وهو :

أوّلا : إن الأدلة المذكورة في الآية ـ موضوع البحث ـ والأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (67) من سورة المائدة والتي تقول :( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) لو كانت كلها تخص واقعة واحدة ، فلما ذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين ولم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟

وثانيا : لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة «غدير خم» وبين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال والحرام من اللحوم ، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟(1)

الجواب :

أوّلا : نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية ـ وكذلك سور القرآن الكريم ـ لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني ، بل نشاهد كثيرا من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة ، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضا.

وبناء على هذه الحقيقة ، فلا عجب ـ إذن ـ من وجود هذا الفاصل في القرآن

__________________

(1) لقد أورد هذا الاعتراض تلميحا صاحب تفسير «المنار» لدى الحديث عن هذه الآية ، ج 6 ، ص 266.

٥٩٥

بين الآيتين المذكورتين (ويجب الاعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الاعتراض واردا في هذا المجال.

ثانيا : هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة «غدير خم» في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقا ، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام من اللحوم،إنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.

إنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكتابة وصيته ، إلى حدّ وصفوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (والعياذ بالله) وقد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإسلامية المعروفة ، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة ، وهي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يتركوا وسيلة إلّا استخدموها لإنكار هذا الأمر(1) .

فلا يستبعد ـ والحالة هذه ـ أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة والوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف ، ومن هذه الإجراءات حشر موضوع الخلافة ـ المهم جدّا ـ في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإبعاد عيون وأيدي المعارضين والعابثين عنها.

إضافة إلى ذلك ـ وكما أسلفنا في حديثنا ـ فإنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية :

__________________

(1) نقل هذه الواقعة واحد من أشهر كتب السنّة وهو كتاب «صحيح البخاري» وفي عدّة أبواب منها باب «كتاب المرضى» في الجزء الرابع ، وباب «كتاب العلم» في الجزء الأوّل ، ص 22 وفي باب «جوائز وفد» من كتاب الجهاد ، ص 118 ، ج 2 كما وردت في كتاب «صحيح مسلم» في آخر الوصايا بالإضافة إلى كتب أخرى ذكرها المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدينرحمه‌الله في كتابه «المراجعات» تحت عنوان «رزية يوم الخميس».

٥٩٦

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) الواردة في واقعة «غدير خم» حول قضية الخلافة بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها ، بل تناقلها ـ أيضا ـ الكثير من كتب السنّة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين.

لقد أعادت الآية ـ في نهايتها ـ الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك ، مشيرة إلى غفران الله ورحمته في عدم إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة والمشقة ، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة :( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدي إلى انخماص البطن ، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة ، أو كان ناتجا عن الحرمان الخاص.

أمّا عبارة( غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) فمعناها غير مائل إلى ارتكاب الذنب ، وقد يكون الإتيان بها تأكيدا لمفهوم الاضطرار ، أو أنّ الهدف منها هو المنع من الإفراط في أكل اللحم الحرام أثناء الضرورة ، توهما من الشخص بأن ذلك حلال في مثل هذه الحالة ، ومنعا من أن يحاول الشخص بنفسه إعداد مقدمات الاضطرار أو أن يحصل الاضطرار أثناء قيام الشخص بسفر من أجل ارتكاب الحرام فيه.

هذه المعاني كلها يحتمل ورودها ضمن العبارة الأخيرة الماضية «ولأجل الاطلاع على توضيحات أكثر في هذا المجال ، راجع الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا».

* * *

٥٩٧

الآية

( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) )

سبب النّزول

ذكر المفسرون أسبابا عديدة لنزول هذه الآية ، وأكثر هذه الأسباب ملاءمة مع فحوى الآية هو : أنّ «زيد الخير» و «عدي بن حاتم» اللذين كانا من الصحابة المقرّبين،قدما على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبراه بأنّ قومهما يصيدون بواسطة كلاب وصقور الصيد ، وإنّ هذه الكلاب تصيد لهم الحيوانات الوحشية من ذوات اللحم الحلال ، وتأتي بالحيوان المصيد حيا في بعض الأحيان فيذبح ، وأحيانا أخرى تأتي به وقد قتلته قبل وصولها إلى أصحابها دون أن يتاح لهم ذبحه ، وسألا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الصيد والمقتول بواسطة كلاب الصيد وهل يعتبر ميتة وحراما أم لا؟ فنزلت الآية هذه وأجابت على سؤالهما.(1)

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ج 3 ، تفسر الآية موضوع البحث.

٥٩٨

التّفسير

الحلال من الصيد :

أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاما عن الحلال والحرام عن اللحوم،وقد بيّنت هذه الآية نوعا آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإنسان تناولها، وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها :( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) .

فتأمر الآية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أوّلا ـ بأن يخبرهم إنّ كل ما كان طيبا وطاهرا فهو حلال لهم، حيث تقول :( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) دالة على أنّ كل ما حرمه الإسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة ، وإن القوانين الإلهية لا تحرم ـ مطلقا ـ الموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر ، وإن الجهاز التشريعي يعمل دائما بتنسيق تام مع الجهاز التكويني وفي كل مكان.

ثمّ تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال ، فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد ، فتؤكد بأنّه حلال ، بقولها :( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ) (1) .

وعبارة جوارح مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحيانا «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن ، ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد،سواء كانت من الطيور أو من غيرها ، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده ، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه ، وأمّا إطلاق لفظة «الجوارح» على أعضاء الجسم فلأن الإنسان يستطيع بواسطتها إنجاز الأعمال أو الاكتساب.

وجملة( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ) تشمل كل الحيوانات المدرّبة على

__________________

(1) هناك محذوف مقدر في بداية هذه الجملة القرآنية ، حيث إن الأصل يفترض أن يكون «وصيد ما علمتم» وذلك استدلالا بالقرينة الواردة في جملة( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (فليلاحظ ذلك).

٥٩٩

الصيد ، ولكن كلمة «مكلبين» التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد ، والمشتقة من مادة «كلب» أي الكلب ، تقيد هذه الجملة وتخصصها بكلاب الصيد ، ولذلك فإنّها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور المدرّبة على الصيد.

ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إلى تخصيص الصيد الحلال بما يصاد من قبل كلاب الصيد ، لكن جمعا من علماء السنّة ومفسّريهم ذهبوا إلى جواز الكل وأعطوا تفسيرا واسعا لعبارة «مكلبين» ولم يخصصوا ذلك بكلاب الصيد فقط.

إلّا أنّنا نرى أنّ المصدر الأساس لهذه الكلمة المشتقة إنما يدل على أنّها مخصصة بكلاب الصيد فقط ، وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة أخرى ، يعتبر حلالا في حالة جلبه حيّا وذبحه وفق الطريقة الشرعية.

أمّا عبارة( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ) فإنّها تشير إلى عدّة أمور هي

1 ـ إنّ تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر ، فلو نسيت ما تعلمته وقتلت حيوانا كما تفعله بعض الكلاب السائبة ، فلا يعتبر عند ذلك ما قتلته صيدا ، ولا يحل لحم هذا الحيوان المقتول في مثل هذه الحالة ، والدليل على هذا القول هو كون فعل «تعلمونهن» فعلا مضارعا ، والفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال.

2 ـ يجب أن يتمّ تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع مفهوم العبارة القرآنية( مِمَّا عَلَّمَكُمُ ) .

إنّ العلوم كلها ـ سواء كانت بسيطة أم معقدة ـ مصدرها هو الله ، وإنّ الإنسان لا يملك بنفسه شيئا ما لم يعلمه الله.

إضافة إلى ما ذكر فإنّ كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث تأتمر بأمر صاحبها ، أي تتحرك بأمره وتعود إليه بأمره أيضا.

وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد ، يجب أن يذبح وفق الطريقة

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710