الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 163853
تحميل: 5298


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163853 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

وجعلها في متناول الجميع بوضوح ودون غبش ليقف عليها الناس أجمعون من دون إبهام،ويتذوقونها بأرواحهم وأفئدتهم دون أيّة حجب وسدود.

فالذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق الإلهية وبيانها وتوضيحها للمسلمين لا شك تشملهم هذه الآية ، وينالهم نفس المصير الذي ذكره الله فيها لعلماء اليهود وأحبارهم.

فقد روى عن النّبي الأكرم ـصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : «من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

وعن الحسن بن عمار قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدّثني فقال : أو ما علمت أنّي تركت الحديث ، فقلت : إمّا أن تحدّثني وإمّا أن أحدثك؟ فقال : حدّثني فقلت : حدّثني الحكم بن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا».

قال : فأطرق برأسه مليا بعد أن سمع قولي ثمّ قال : اسمع لأحدثك ، فحدثني أربعين حديثا.(1)

هذا وللتعرف ـ بصورة أكبر ـ على خيانات أحبار اليهود وعلماء النصارى ، راجع الآيات (79 و 174) من سورة البقرة ، والآيات (71 إلى 77) من سورة آل عمران.

* * *

__________________

(1) تفسير أبو الفتوح الرازي ، وتفسير مجمع البيان عند تفسير هذه الآية ، ومتن الحديث العلوي منقول عن نهج البلاغة.

٤١

الآيتان

( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) )

سبب النّزول

ذكر المحدّثون والمفسرون أسبابا عديدة لنزول هذه الآية ، منها أن اليهود كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها ظنا منهم بأنّهم يحصلون من وراء ذلك على نتيجة ، وفي الوقت نفسه كانوا يحبّون أن ينسبهم الناس إلى العلم،ويعتبرونهم من حماة الدين فنزلت هذه الآية ترد على تصورهم الخاطئ هذا.

وقال آخرون أنّها نزلت في شأن المنافقين ، لأنهم كانوا يجمعون ويتفقون على التخلف عن الجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نشبت حرب من الحروب الإسلامية ، متذرّعين لذلك بمختلف المعاذير والحجج ، فإذا عاد المجاهدون من القتال اعتذروا وحلفوا لهم بأنّهم كانوا يودّوا المشاركة لو لا بعض الأعذار ، وأحبوا بالتالي أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان وبما لم يفعلوه من أفعال المجاهدين الصادقين. فنزلت هذه الآية ترد على هذا التوقع غير

٤٢

المبرر وغير الوجيه(1) .

التّفسير

المعجبون بأنفسهم :

المرتكبون لقبائح الفعال على نوعين : طائفة تستحي من أفعالها فور انتباهها إلى قبح ما فعلت ، وهي لم تفعل ما فعلت من القبيح إلّا لطغيان غرائزها ، وهيجان شهواتها ، وهذه الطّائفة سهلة النّجاة جدا ، لأنها تندم بعد كل قبيح ترتكبه ، وتتعرض لوخز ضميرها وعتب وجدانها باستمرار.

بيد أنّ هناك طائفة اخرى ليست فقط لا تشعر بالندم والحياء ممّا ارتكبت من الإثم،بل هي على درجة من الغرور والإعجاب بالنفس بحيث تفرح بما فعلت ، بل تتبجح به وتتفاخر ، بل وفوق ذلك تريد أن يمدحها الناس على ما لم تفعله أبدا من صالح الأعمال وحسن الفعال.

إنّ الآية الحاضرة تقول عن هؤلاء :( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ ) أي لا تحسبن أن هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب ، إنّما النجاة لمن يستحون ـ على الأقل ـ من أعمالهم القبيحة ، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئا من الأعمال الصالحة.

إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحرّموا من الخلاص ، بل( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ينتظرهم.

ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أن ابتهاج الإنسان بما وفق لفعله وإتيانه من صالح الإعمال ليس مذموما (إذا كان ذلك لا يتجاوز حد الاعتدال ، ولم يكن سببا للغرور والعجب) ، وهكذا الحال في رغبة الإنسان في التشجيع والإجلال على

__________________

(1) أسباب النزول للواقدي في تفسير هذه الآية وتفسير المنار وتفسير مجمع البيان.

٤٣

الأفعال الحسنة إذا كان ـ كذلك ـ في حدود الاعتدال ، ولم يكن الإتيان بتلك الأعمال الصالحة بدافع الحصول على ذلك ، لأن كل ذلك من غريزة الإنسان ومقتضى فطرته. ولكن أولياء الله ومن هم في المستويات العليا من الإيمان بعيدون حتى من مثل هذا الابتهاج المباح وحبّ التقدير الغير المذموم.

إنّهم يرون أعمالهم دائما دون المستوى المطلوب ، ويشعرون أبدا بالتقصير تجاه ربّهم العظيم ، وبالتفريط في جنبه سبحانه وتعالى.

على أنّه ينبغي أن لا نتصور أنّ الآية الحاضرة ـ مورد البحث ـ تختص بأهل النفاق في صدر الإسلام أو من شاكلهم ـ في كل عصر وزمان ـ وفي جميع الظروف والمجتمعات المختلفة ، ممن يفرحون ويبتهجون بأعمالهم القبيحة أو يحركون الآخرين ليحمدوهم على ما لم يفعلوه بالقلم أو اللسان.

إنّ مثل هؤلاء مضافا إلى العذاب الأليم في الآخرة ، سيصيبهم ـ في هذه الحياة ـ غضب الناس وسخطهم ، وسيؤول أمرهم إلى الانفصال عن الآخرين وإلى غير ذلك من العواقب السيئة.

ثمّ إنّ الله سبحانه يقول في آية لاحقة :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين ، وتهديدا للكافرين ، فهي تقول:إنّه لا داعي لأن يسلك المؤمنون لإحراز التقدم طرقا وسبلا منحرفة ، وأن يحمدوا على ما لم يفعلوه ، ذلك لأنّهم يقدرون أن يواصلوا تقدمهم ، ويحرزوا النجاحات بالاستفادة من السبل المشروعة والصحيحة وفي ظل قدرة الله خالق السماوات والأرضين ، كما أنّه على المنافقين والعصاة أن لا يتصوروا أنّهم قادرون على إحراز شيء أو على الخلاص والنجاة من عقاب خالق الكون وربّ السماوات والأرضين بسلوك هذه السبل المنحرفة واستخدام هذه الأساليب غير المشروعة!.

* * *

٤٤

الآيات

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) )

التّفسير

أهمية هذه الآيات :

لا شك أنّ جميع الآيات القرآنية تتمتّع بأهمية كبرى لأنّها جميعا كلام الله ، وآياته التي نزلت لتربية الإنسان ونجاته وخلاصه ، وإلّا أنّ هناك من الآيات ما تحظى وتتميز على سواها ببريق خاص ، ومن هذا الصنف ما نقرؤه الآن من الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير ، والتي امتزجت فيها

٤٥

مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء ، فإذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر ، وتثير الشعور ، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.

ولهذا أولتها الأحاديث والأخبار المروية أهمية خاصّة ومكانة سامية بين غيرها من الآيات.

عن «عطاء بن رباح» قال : قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : وأي شأن لم يكن عجبا ، أنّه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثمّ قال:ذريني أتعبد لربّي ، فقام فتوضأ ثمّ قام يصلي ، فبكى حتى سالت دموعه على صدره فركع فبكى ، ثمّ سجد فبكى ، ثمّ رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة ، فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟قال : أفلا أكون عبدا شكورا ، ولم لا أفعل وقد أنزل عليّ هذه الليلة :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ـ إلى قوله ـ( سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ ) ثمّ قال : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»(1) والعبارة الأخيرة التي تأمر الجميع ـ بتأكيد كبير ـ بأن يفكروا في هذه الآيات ، وقد رويت في روايت عديدة بعبارات مختلفة.

وفي رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قام الصلاة الليل يسوك ، ثمّ ينظر إلى السماء ثمّ يقول :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) إلى قوله تعالى :( فَقِنا عَذابَ النَّارِ ) (2) .

وورد عن الأئمّة من أهل البيتعليه‌السلام الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة(3) .

وعن نوف البكالي قال : بت ليلة عند أمير المؤمنينعليه‌السلام فكان يصلي الليل

__________________

(1) تفسير الدر المنثور ، ج 2 ، ص 111 ، وتفسير أبي الفتوح الرازي في ذيل هذه الآيات.

(2) تفسير نور الثقلين ومجمع البيان.

(3) المصدر السابق.

٤٦

كلّه ، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن ـ ويردد هذه الآيات ـ فمرّ بي بعد هدوء الليل ، فقال : يا نوف أراقد أنت أم رامق؟.

قلت : بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين.

قال : «يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن دثارا ، والدعاء شعارا ...»(1) .

التّفسير

أوضح السّبل لمعرفة الله :

آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط ، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها ، وما التّلاوة والقراءة إلّا مقدمة لتحقيق هذا الهدف ، أي التفكر والتدبر والفهم ، ولهذا جاء القرآن في الآية الأولى من الآيات الحاضرة يشير إلى عظمة خلق السماوات والأرض ، ويقول :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) (2) .

وبهذا يحثّ الناس على التفكر في هذا الخلق البديع والعظيم ، ليصيب كلّ واحد منهم ـ بقدر استعداده ، وقدرته على الإستيعاب ـ من هذا البحر العظيم الذي لا يدرك له ساحل ولا قعر ، ويرتوي من منهل أسرار الخلق العذب.

حقّا أنّ هذا الكون العظيم بما فيه من نظام متقن وبديع ، ونقوش رائعة ، ولوحات خلابة كتاب بالغ العظمة ، كتاب في كلّ حرف من حروفه ، وكل سطر من أسطره دليل ساطع على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته ، وتفرّده(3) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة نوف ، ج 2 ، ص 622.

(2) التعبير بأولي الألباب ـ في هذه الآية وآيات عديدة اخرى في الكتاب العزيز ـ إشارة لطيفة إلى أرباب العقول ، لأن اللب من كلّ شيء خيره خالصه ، ولا شك أنّ العقل هو خير ما في الإنسان ، وهو عصارة وجوده الإنساني.

(3) لقد بحثنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في معنى اختلاف الليل والنهار وأسرارهما عند تفسير الآية 164 من سورة البقرة فراجع.

٤٧

إنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب ، المبثوث في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إلى نفسه فؤاد كلّ لبيب وعقله شدّا ـ يجعله يتذكر خالقه ، في جميع الحالات،قائما أو قاعدا ، وحين يكون في فراشه نائما على جنبه ، ولهذا يقول سبحانه :( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) أي أنّهم مستغرقون كامل الاستغراق في التفكير الحيوى حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه ، ومبديه.

ولقد أشير ـ في هذه الآية ـ إلى الذكر أوّلا ، ثمّ إلى الفكر ثانيا ، ويعني ذلك أن ذكر الله وحده لا يكفي ، إنّ الذكر إنّما يعطي ثماره القيّمة إذا كان مقترنا بالفكر ، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يجدي ولا يوصل إلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر ، وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر.

فما أكثر العلماء الذين يقفون ـ في تحقيقاتهم الفلكية والفضائية ـ على مظاهر رائعة من النظام الكوني البديع ، ولكنّهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص ، بل ينظرون إليها من الزاوية العلمية المجردة البحتة ، فإنّهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج التربوية والآثار الإنسانية ، ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاما ليقوى به جسمه فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه.

إنّ التفكير في أسرار الخليقة ، وفي نظام السماء والأرض يعطي للإنسان وعيا خاصّا ويترك في عقله آثارا عظيمة ، وأوّل تلك الآثار هو الانتباه إلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه،فالإنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا الكون كيف يمكنه أن يصدق بأنّ الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف ، ومصنوع من دون غاية؟

لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافا واضحة فيها ، وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر ، وصمامات ، وأبواب

٤٨

وبطون ، فكلّ شيء فيه مخلوق لغاية ، ومجعول لهدف ، وكذا الحال في طبقات العين ، بل وحتى الأجفان ، والأظافر ، كل واحد منها يؤدي دورا ، ويحقق غاية ، فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جدا بالنسبة للكون العظيم أهداف واضحة وغايات ملحوظة ، ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية الهائلة العظيمة أي هدف مطلقا؟( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) .

إنّ العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلّا أن يقولوا بخشوع هذه الجملة :( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ ) أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم،وهذا الكون الذي لا يعرف له حدّ ، وهذا النظام المتقن البديع الّا على أساس الحكمة والمصلحة ، ولهدف صحيح ، فكل هذا آية وحدانيتك ، وكل هذا ينزّهك عن اللغو والعبث.

إن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فورا ، وكيف يعقل أن يكونوا ـ وهم ثمرة هذا الموجود نفسه وهذا الكون بالذات ـ قد خلقوا سدى ، أو جاؤوا إلى هذه الحياة عبثا ، وأنّه ليس هناك من هدف سوى تربيتهم وتكاملهم!!

إنّهم لم يأتوا إلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أيّاما سرعان ما تفنى وتنقضي،فذلك أمر لا يستحق كلّ هذا العناء والتعب كما لا يليق بمكانة الإنسان ولا يتناسب مع حكمة الله العليا ، بل هناك دار اخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها جزاء أعمالهم، أن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر ، وفي هذه اللحظة ينتبهون إلى مسئولياتهم، ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنبوا عقابه ، ولهذا يقول :( فَقِنا عَذابَ النَّارِ ) ثمّ يقول :( رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) . ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم،وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية ، فإنّه مستعد لأن يتحمل كلّ شيء من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيته ، ولهذا فإن أشدّ

٤٩

عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.

على أن النقطة الجديرة بالاهتمام التي تنطوي عليها جملة( وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) هي أن العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الإنسان ونجاته هي أعماله وممارساته ، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار ، لأنّهم فقدوا النصير الأصلي وهو العمل الصالح، والتزكير على لفظة «الظلم» إمّا لأجل خطورة هذه المعصية من بين المعاصي الاخرى ، وإمّا لأن جميع الذنوب ترجع إلى ظلم الإنسان لنفسه.

على أنّه ليست ثمّة أيّة منافاة بين هذه الآية ومسألة الشفاعة (بمعناها الصحيح) لأنّ الشفاعة (كما قلنا سابقا في بحث الشفاعة) تحتاج إلى قابلية وأهلية خاصّة في المشفوع له ، وهذه الأهلية والصلاحية لشمول الشفاعة تحصل في ضوء بعض الأعمال الصالحة الخيرة.

ثمّ إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إلى هذه النقطة ، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإلهيين ، ولهذا فهم يترصّدون نداء من يدعوهم إلى الإيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه ، ويعتنقونها بعد أن يحققوا فيها،ويتأكدوا من صدقها وصحّتها ويؤمنون بها بكلّ وجودهم ، ولهذا يقولون في محضر ربّهم :( رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ ) .

أي ربّنا الآن وقد أمنا بكل وجودنا وإرادتنا ، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كلّ جانب ، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية ، ربّنا فاغفر لنا زلتنا ، واستر عثرتنا،وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

٥٠

لقد اتصل هؤلاء بالمجتمع الإنساني اتصالا عجيبا ، وتركوا التفرد والأنانية إلى درجة أنّهم يطلبون من الله في دعواتهم أن لا يجعلهم مع الأبرار والصالحين في حياتهم فحسب ، بل يجعل مماتهم ـ سواء أكان مماتا طبيعيا أو بالشهادة في سبيل الله ـ كممات الأبرار الصالحين أيضا ، أو يحشرهم معهم ، لأن الموت مع الأشرار موتة مضاعفة ، وعناء مضاعف.

وهنا يطرح سؤال وهو : ما ذا يعني الستر على السيئات بعد طلب غفرانها؟

والجواب هو : مع ملاحظة بقية الآيات القرآنية تتضح حقيقة الإجابة على هذا السؤال ، فإن الآية 31 من سورة النساء تقول :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) فيستفاد من ذلك أنّ السيئات تطلق على المعاصي الصغيرة ، ولهذا فإنّ العقلاء ذوي الألباب يطلبون من الله في أدعيتهم وضراعاتهم أن يغفر لهم ذنوبهم الكبيرة،ويستر ـ عقب ذلك ـ على ذنوبهم الصغيرة ، ويمحو آثارها من الوجود.

ثمّ أن هؤلاء العقلاء يطلبون من ربّهم في نهاية المطاف ، وبعد أن يسلكوا طريق الإيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إليهم ، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون :( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ) أي ربّنا لقد وفينا بالتزاماتنا،فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة :( وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ) .

إنّ التركيز على «الخزي» يؤكّد مرّة أخرى هذه الحقيقة الهامّة ، وهي أن هؤلاء بسبب ما يرون لشخصيتهم من أهمية واحترام يعتبرون «الخزي» من أشد ما يلحق بالإنسان من الأذى ، ولهذا يركزون عليه دون سواه من ألوان العقوبات.

وفي مستدرك الوسائل نقلا عن أبي الفتوح الرّازي في تفسيره ، أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من كان له إلى الله حاجة فليقل خمس مرات ربّنا يعطى حاجته ، ومصداق

٥١

ذلك في كلام الله في قوله تعالى :( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) إلى آخر الآيات فيها ربّنا خمس مرّات ثمّ قال تعالى :( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ) (1) .

ومن الواضح الذي لا يخفى أن التأثير الواقعي والعميق لهذه الآيات ، إنما يتحقق إذا وافق اللسان في ما يقوله القلب والعمل ، وأن يحل مضمون هذه الآيات الذي يكشف عن طريقة تفكير اولي الألباب وشدّة حبّهم لله ، وإحساسهم بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم،والقيام بواجباتهم ، في فؤاد قارئها وقلبه ، فيحصل له نفس ذلك الخضوع والخشوع الحاصل لأولي الألباب عند مناجاتهم لله ، وتضرعهم إليه.

* * *

__________________

(1) مستدرك الوسائل ، ج 1 ، ص 369.

٥٢

الآية

( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) )

سبب النّزول

هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول أولي الألباب والعقول النّيرة ونتيجة أعمالهم ، والشروع بفاء التفريع ـ في هذه الآية ـ أوضح دليل على هذا الارتباط ، ومع ذلك ذكرت أسباب نزول متعددة لها في الأحاديث وأقوال المفسرين ، لكنها لا تنافي ـ في حقيقتها ـ الارتباط الذي ذكرناه لهذه الآية مع الآيات السابقة.

ومن جملة ذلك ما نقل عن أمّ سلمة (وهي إحدى زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أنّها قالت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟فأنزل الله هذه الآية.

كما نقل أيضا أنّ عليّاعليه‌السلام لما هاجر بالفواطم (وهن فاطمة بنت أسد ، وفاطمة

٥٣

بنت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة بنت الزبير) من مكّة إلى المدينة ، ولحقت به أم أيمن ـ وهي إحدى زوجات النّبي المؤمنات ـ في أثناء الطريق نزلت الآية الحاضرة(1) .

والمسألة كما قلناه ، فإن الأسباب المذكورة لنزول الآية لا تنافي الارتباط الذي أشرنا إليه بين هذه الآية. والآيات السابقة ، كما أنه لا تنافي أيضا بين هذين السببين المذكورين للآية أيضا.

التّفسير

النّتيجة الطّيبة لموقف أولي الألباب :

في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزا من إيمان أولي الألباب والعقول النّيرة ، وبرامجهم العملية ، وطلباتهم وأدعيتهم ، وفي هذه الآية يقول سبحانه :( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ) ، والتعبير بلفظة «ربّهم» حكاية عن غاية اللّطف ، ومنتهى الرحمة الإلهية بالنسبة إليهم : ثمّ يضيف قائلا :( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ) دفعا للاشتباه والتوهم الذي قد يسبق إلى الذهن بأنه لا ارتباط بين الفوز والنجاة ، وبين أعمال الإنسان ومواقفه،ففي هذه العبارة إشارة واضحة إلى أصل «العمل» وإشارة أيضا إلى عامله ، حتى يتبيّن أن الملاك والمحور الأصلي لقبول الدعاء واستجابته هو الأعمال الصالحة الناشئة من الإيمان ، وأنّ الأدعية التي تستجاب فورا هي تلك التي يدعمها العمل الصالح.

ثمّ أنّه سبحانه يقول :( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ، وهذا لأجل أن لا يتصور أحد أنّ هذا الوعد الإلهي يختص بطائفة معينة كالذكور دون الإناث مثلا ، فلا فرق في هذا الأمر بين أن يكون العامل ذكرا أو يكون أنثى ، لأنّ الجميع يعودون في أصل الخلقة إلى مصدر واحد( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) أي تولد بعضكم من بعض ، النساء من الرجال ، والرجال من النساء ، فلا تفاوت في هذه المسألة

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 2 ، ص 559 ، والميزان ، ج 4 ، ص 95 ـ 96.

٥٤

إذن بين الذكر أو الأنثى ، فلما ذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟

ويمكن أن تكون عبارة( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) إشارة إلى أنّكم جميعا أتباع دين واحد ، ورواد منهج واحد وأنصار حقيقة واحدة ، فلا معنى لأن يفرق الله سبحانه بين جماعة واخرى ويميز بين طائفة وطائفة ، وجنس وآخر.

ثمّ أنّه سبحانه يستنتج من ذلك إذ يقول :( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) ، أي أنّ الله سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم ، جاعلا من هذه المشاق والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم ، ليطهروا من أدرانها تطهيرا.

ثمّ يقول تعالى :( وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) مضافا إلى غفران ذنوبهم والتكفير عنهم.

وهذا هو الثواب الإلهي لهم على ما قاموا به من تضحية وفداء( ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) إنّ لهم أفضل الأجر عند الله وأحسنه ، وقوله :( وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) إشارة إلى أنّ الأجر الإلهي والمثوبات الإلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة ، بل يكفي أن يعلموا بأنّه أفضل وأعلى من أي ثواب.

هذا ويستفاد ـ جيدا ـ من هذه الآية أن الإنسان لا بدّ أن يتطهّر من أدران الذنوب في ظل العمل الصالح أوّلا ، ثمّ يدخل في رحاب القرب الرّباني والنعيم الإلهي ، لأنّه سبحانه قال أوّلا :( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) ثمّ قال :( لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ) .

وبعبارة اخرى : أنّ الجنّة مقام المتطهرين ، ولا طريق لمن لم يتطهر إليها.

القيّمة المعنويّة للرّجل والمرأة :

إن الآية الحاضرة ـ كبقية الآيات القرآنية الاخرى ـ تساوي بين الرجل

٥٥

والمرأة عند الله ، وفي مسألة الوصول إلى الدرجات المعنوية ، ولا تفرق بينهما بسبب اختلافهما في الجنس ، ولا تعتبر الفروق العضوية وما يلحقها من الفروق في المسؤوليات الاجتماعية دليلا على اختلافهما في إمكانية الحصول على درجات التكامل الإنساني وبلوغهما للمقامات المعنوية الرفيعة ، بل تعتبرهما في مستوى واحد ـ من هذه الجهة ـ ولذلك ذكرتهما معا.

إن اختلافهما في التكاليف وتوزيع المسؤوليات يشبه إلى حد كبير الاختلاف الذي تقتضيه مسألة النظام والانضباط حيث يختار شخص كرئيس ، وآخر كمعاون ومساعد، فإنّه ينبغي أن يكون الرئيس أكثر حنكة وأوسع علما ، وأكثر تجربة في مجال عمله ، ولكن هذا التفاوت والاختلاف في مراتب المسؤولية وسلم الوظائف لا يكون دليلا مطلقا على أن شخصية الرئيس وقيمته الوجودية أكثر من شخصية معاونيه ومساعديه ، وقيمتهم الوجودية.

إنّ القرآن الكريم يقول بصراحة :( وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) (1) .

ويقول في آية اخرى :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (2) .

هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية الاخرى نزلت في عصر كان المجتمع البشري فيه يشك في إنسانية جنس المرأة أساسا ، بل ويعتقد أنها كائن ملعون ، وأنها منبع كل إثم وانحراف وموت وفساد.

لقد كان الكثير من الشعوب الماضية تذهب في نظرتها السلبية تجاه المرأة إلى درجة أنها تعتقد أحيانا إنّ عبادة المرأة وما تقدمه في سبيل الله لا تقبل ، وكان الكثير من اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة كائن نجس وشرير وأنّها من عمل

__________________

(1) غافر ، 40.

(2) النحل ، 97.

٥٦

الشّيطان ، وكان الرّوم وبعض اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة ليست ذات روح إنسانية أساسا،وأن الرجل وحده هو الذي يحمل بين جنبيه مثل هذه الروح دون غيره.

والملفت للنظر أن العلماء المسيحيين في أسبانيا كانوا يبحثون ـ حتى إلى الآونة الأخيرة ـ في أن المرأة هل تملك ـ مثل الرجل ـ روحا إنسانية أم لا؟ وأن روحها هل تخلد بعد الموت أم لا؟

وقد توصلوا ـ بعد مداولات طويلة ـ إلى أن للمرأة روحا برزخية ، وهي نوع متوسط بين الروح الإنسانية والروح الحيوانية ، وأنه ليس هناك روح خالدة ـ بين أرواح النساء ـ إلّا روح مريم(1) .

من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتهمون الإسلام أنّه دين الرجال دون النساء.

إنّ بعض الاختلاف في نوع المسؤوليات الاجتماعية الذي يقتضيه اختلافات في التركيب العضوي والعاطفي لدى الرجل والمرأة لا يضرّ بالمرأة وقيمتها المعنوية أساسا ، ولهذا لا يختلف الرجل والمرأة من هذه الجهة ، فأبواب السعادة والتكامل الإنساني مفتوحة في وجهيهما كليهما على السواء كما ذكرنا ذلك عند البحث في قوله تعالى :( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) .

* * *

__________________

(1) راجع كتاب وستر مارك ، وكتاب «حقوق المرأة في الإسلام» والكتب الباحثة في مذاهب البشر وعقائدهم.

٥٧

الآيات

( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) )

سبب النّزول

كان أكثر مشركي مكّة أهل تجارة ، وقد كانوا يحصلون من هذا الطريق على ثروة ضخمة ، يتنعمون بها ، وهكذا كان يهود المدينة أهل تجارة ، وكانوا يعودون من رحلاتهم التّجارية على الأغلب موفورين ، في حين كان المسلمون بسبب أوضاعهم الخاصّة ، لا سيما بسبب الهجرة ، والحصار الذي كان مشركو مكّة قد فرضوه عليهم ، يعانون من وضع اقتصادي صعب جدا ، وبكلمة واحدة كانوا يعيشون في عسرة شديدة.

فكانت مقارنة هاتين الحالتين تطرح على البعض السّؤال التالي : كيف يتنعّم أعداء الله في العيش الرخي ، بينما يقاسي المؤمنون ألم الجوع والفقر المدقع؟

٥٨

فنزلت الآيات الحاضرة تجيب على هذا التساؤل(1) .

التّفسير

سؤال مزعج :

السّؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النّبي يعتبر سؤالا عاما يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان.

فإنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطّغاة ، والفراعنة والفسّاق ، ويرفلون في النعيم،ويعيشون الحياة الرفاهية ، والرخاء العريض ، ويقيسونه ـ غالبا ـ بحياة الشدّة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين ، ويقولون متسائلين : كيف ينعم أولئك العصاة ـ مع ما هم عليه من الإثم والفساد والجريمة ـ بمثل تلك الحياة الرخية ، بينما يعيش هؤلاء ـ مع ما هم عليه من الإيمان والتقوى والصلاح ـ في مثل هذه الشدّة والعسرة ، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإيمان إلى الشك والتّردد.

ولو أنّنا درسنا هذا السؤال بصورة دقيقة وجيدة ، وحللنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين ، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل ، وقد أشارت هذه الآيات إلى بعضها ، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشيء من التأمل والفحص.

تقول الآية الأولى من هذه الآيات :( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) والمخاطب في هذه الآية وإن كان شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أنه من الواضح البيّن أن المراد هو عموم المسلمين.

ثمّ تقول :( مَتاعٌ قَلِيلٌ ) أي أنّ هذه النّجاحات المادية التي يحرزها

__________________

(1) تفسير مجمع البيان والمنار والميزان.

٥٩

المشركون ، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل ، ولذّة عابرة.

( ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة ، فإنّ مسئولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إلى مصير مشؤوم ، ذلك هو الجحيم الذي ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إنّ هذه الآية تشير ـ في الحقيقة ـ إلى نقطتين :

الأولى : إنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد ، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة ، ومحدودة أيضا.

وأفضل شاهد على هذا الموضوع هو ما نلاحظه في حياة المسلمين وحياة أعدائهم ومناوئيهم في صدر الإسلام.

فحيث أنّ الحكومة الإسلامية كانت آنذاك في بداية أمرها كنبتة شابّة لا تمتلك كل عناصر القوّة والمنعة لم تكن تملك القدرة الكاملة على الدفاع عن حوزتها وكيانها أمام هجوم أعدائها الألداء الذين كانوا يهاجمونها بشراسة ودونما رحمة ، وخاصّة أنّ هجرة المسلمين الذين كانوا جماعة قليلة في مكّة جعلتهم في وضع حرج جدّا إلى درجة أنّهم فقدوا كل شيء في الهجرة ، ولا يختص مثل هذا الوضع بهم ، بل يتعرض لمثل هذه المعاناة ومثل هذا الوضع كل من يناصر ثورة تغييرية ، ونهضة معنوية وروحية جذرية في مجتمع فاسد يراد تغييره بها.

ولكننا نعلم أنّ هذا الوضع لم يدم طويلا ، فما لثبت الحكومة الإسلامية إلّا أن ترسخت جذورها وقويت دعائمها ، واشتدّ أمرها ، وقويت شوكتها ، وانحدرت الأموال إلى مركز الإسلام من كل صوب وحدب ، فانعكس الوضع تماما ، إذ عاد المترفون الكافرون والأعداء المتنعمون الذين كانوا يرفلون في النعيم والخير مساكين وفقدوا كل ذلك النعيم، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه :( مَتاعٌ قَلِيلٌ ) .

٦٠